كل هذا الحديث وغريب ومن معه سكوت، يصغون إلى أحمد، ثم راحوا يتجولون في القلعة، وهم يتحادثون في حكاية المماليك ومذبحتهم، حتى أتموا مشاهدة ما فيها من المشاهد، كدار الضرب (الضربخانة)، ومخازن الأسلحة والبئر المسماة بئر يوسف نسبة إلى السلطان صلاح الدين يوسف الأيوبي باني تلك القلعة، ثم سار بهم أحمد إلى مرتفع، فأشرفوا على القاهرة، وإذا هي متسعة كثيرة المباني تحيط بها البساتين المغروسة بالنخل، ويتخلل منازلها الحدائق، ولكنهم لم يروا في جوها الصفاء المعهود في جو سوريا، لما يتخلل هواء القاهرة من الغبار المتصاعد من الطرق. وشاهدوا وراء كل ذلك نهر النيل المبارك، وقد تكسرت على سطحه أشعة الشمس فأكسبته رونقا بديعا، وقد دهشوا بوجه خاص لكثرة المآذن التي تعد بالمئات.
ثم نزلوا من القلعة، وقد مالت الشمس نحو المغيب، فاستحضر لهم أحمد حميرا ليركبوها قائلا: «إن ركوب الحمير هنا رياضة لطيفة لسرعة جريها وإراحة راكبيها.» فركبوا عائدين حتى بلغوا مصر القديمة فنزلوا في المعدية إلى جزيرة الروضة، فلما وصلوا إلى القصر أسرع غريب مستفسرا عن مجيء الأمير، فقيل له إنه جاء، فدخل عليه وقبل يديه، فسأله عما رآه فقص عليه القصة، وطلب إليه أن ينقذ تلك المسكينة، فقال له: «ما لنا ولها يا بني، إننا في بلاد غريبة.» فألح عليه واستحلفه، فاستدعى أحمد فحكى القصة فأمره أن يذكره بها في الغد. أما غريب فسار بعد العشاء إلى حجرته، وكتب إلى والدته عما شاهده من أول الأمر إلى آخره.
صعيد مصر
وفي صباح اليوم التالي، جلس الأمير لتناول القهوة مقطب الوجه، وولداه وغريب بجانبه، فاستولى السكوت على من حضر، ولم يجسر واحد منهم أن يسأله عن سبب ذلك، ولا عن موضوع المرأة ونجاتها من مخالب ذلك الشرير. وبينما هم على هذه الحال، إذ جاء أحد حراس القصر ينبئه أن حنا البحري بالباب، فنهض الأمير لاستقباله مرحبا به وأجلسه بالقرب منه، وبعد أن تبادلا التحيات أبلغه البحري أن العزيز بعث إلى نائبه بالقاهرة يأمره بإرسال سيادتكم إلى بني سويف في الصعيد حيث تمكثون في طمأنينة ريثما يعود أفندينا من الإسكندرية فتنالون بغيتكم، ثم أفهمه أن العزيز أمر له بعشرة آلاف قرش شهريا والتموين الكافي.
فسر الأمير وأمر بالتأهب للرحيل وأحضرت معدات السفر من «ذهبيات» وقوارب لنقل الرجال والأمتعة والزاد فركبوا النيل، ومعهم الخبراء والبحارة، فكانوا يقلعون نهارا، ويرسون ليلا عند الشاطئ، ومعهم كل ما يحتاجون إليه من معدات الطعام والنوم.
أما غريب، فلم يكن همه إلا الاستفهام عما يشاهده على ضفاف النيل من الآثار، مر بالجيزة فرأى من ورائها الأهرام العظيمة فسأل عنها، فقال له أحدهم: «إنها مبان هائلة من صنع الجان.» فلم يعبأ بقوله وما زال يسأل، حتى علم أنها قبور لجثث الملوك اعتقادا منهم أن أجسادهم المحنطة ستعود فتحيا بعد أجيال، فبنوا لها هذه الأهرام لحفظها من طوارئ الحدثان حتى يأتي زمن بعثها.
فلما كان المساء، رست بهم «الذهبيات» ونزلوا إلى البر فلاحظوا أن النيل يجري من الجنوب إلى الشمال في أرض خصبة، يحدها من الشرق والغرب جبلان يمتدان طولا موازيين للنيل مسافة أيام؛ ولذلك سمي الصعيد وادي النيل. وفيما كان غريب يتأمل الفارق بين تربة أرض لبنان وتربة أرض مصر، طرق ذهنه أمر المرأة التي وعدها بإنقاذها، فأسرع إلى الأمير فرآه جالسا أمام خيمته على ضفة النيل فذكره بالمرأة، فأجابه قائلا: «إني قد أخبرت حنا البحري بالقصة، وكلفت أحمد أن يساعده في الوصول إلى نتيجة، والغالب أنها سوف تطلق من زوجها، وتخير في السكنى حيثما تشاء، أما نحن فلا يمكننا يا ولدي أن نحملها معنا حيثما توجهنا؛ إذ ليس معنا في الحريم سواها، وأنت تعرف عادات هذه البلاد وتحجب أهلها.» فقبل غريب يد الأمير، وأثنى عليه.
قضوا طوال الليل ثم نهضوا في الصباح وعادوا إلى سفنهم، وأقلعوا إلى المساء، وكانت الريح هادئة ومسيرهم معاكسا لمجرى النيل، فكانت مراكبهم تسير ببطء. وفي المساء يبيتون على الشاطئ الغربي غالبا؛ لأنه أكثر عمرانا وخصبا.
وما زالوا على ذلك حتى وصلوا إلى مدينة بني سويف، فتلقاهم كاشفها بالترحاب، وأنزلهم في دار معدة لهم في الفشن على ضفة النيل، ولكنه ارتعد عند مشاهدة الأمير بشيرا لما كان يبدو في وجهه من الهيبة.
ضياع «غريب»
صفحه نامشخص