وكان الفيلسوف يزرع الأرض بنفسه، ويحصد القمح ويخيط ملابسه وأحذيته بيده، ولا يكتفي بذلك بل إنه يساعد الفلاحين الفقراء بالحراثة وغرس الأشجار؛ لأنه يرى أن مساعدة الفقير بالعمل أفضل له كثيرا من المساعدة المالية. وقد قال عن ذلك في رواية البعث ما يأتي: ساعد المحتاج بالعمل تعلمه الجد والكد والابتعاد عن الكسل الوخيم، وتكن له خير أنموذج حسن، فيضطر أن يقتدي بك ويرى أن العمل أمر شريف وواجب على كل إنسان مهما كان رفيع المقام وافر الثروة. وبهذه الواسطة يقنع كل فقير بما يحصله بتعبه ونشاطه، ولا تعود نفسه تطمح إلى التقاعد والكسل، بخلاف إذا تصدقت عليه بالمال، فإنه تدب فيه روح الكسل ويميت فيه عاطفة الشهامة فيجنح إلى التواني وقلة الشغل، فتسوء حالته تدريجا ويصبح عضوا غير نافع في المجتمع الإنساني، ويجر على عائلته الويل والمصائب.
وقال في بعض كتبه عن فساد المجتمع الإنساني: إن تاريخ الإنسان من حين وجوده لغاية الآن تاريخ ظلم وجور وحرب وخصام. والناس مختلفون في تحديد الظلم والجور، فإذا أتيح لكل واحد أن يقاوم ما يحسبه ظلما وجورا لامتلأت الدنيا بالحروب والخصومات، وأفضل شيء لملافاة هذه الشرور الكثيرة أن يفعل كل واحد الخير مع غيره بدلا عن الشر، فتصلح أحوال الناس عما هي عليه من الظلم والجور.
أما سبب زيادة الشقاء ووقوع الجرائم فهي لأن كل إنسان في هذا العالم يهتم بنفسه ويسعى لصالحه الخاص، بدون أن ينظر إلى أخيه في الإنسانية مهما كانت حالته. فلو اهتم الأغنياء وكبار السن وألفوا الجمعيات وأنشئوا المعامل وجمعوا للعمل فيها المتشردين وذوي الفاقة؛ لانقطعت اللصوصية واللصوص عن وجه الأرض؛ لأنهم يخلدون إلى السكينة والانصباب على العمل. وإذا بحثنا عن أحوال اللصوص وقطاع الطرق نرى أن سبب اندفاعهم إلى إقلاق راحة الناس وسلبهم هو العوز والاحتياج، فعدم اهتمام الأغنياء والحكومة بالفقراء وذوي البأساء وتركهم وشأنهم يدخلون الحانات وبيوت الفساد والرذيلة؛ لقلة العمل بسبب وجود الفساد والشر. والحكومة إذا تسنى لها وقوع أحد المجرمين في قبضة يدها تقوده إلى المحاكمة وتستدعي الأغنياء المنتخبين أعضاء لديها، فتحكم عليه وتزجه في السجن مع أولئك المنكودي الحظ الذين حرمتهم الحرية وعلمتهم البطالة والفساد وقادتهم إلى الرذيلة والشر، وهي - أي الحكومة - تظن أنها بزجها المجرمين في السجن تقوم بواجباتها نحو الهيئة الاجتماعية، غير عالمة بأنها تقترف جريمة لا تغتفر مع أخيها في الإنسانية الذي قادته إلى السقوط، وكان في وسعها أن تخلصه من الحالة التي آل إليها أمره؛ لأن السجون لا تؤثر في حالة الناس بل تزيد في تعاستهم، والهيئة الاجتماعية ليست قائمة الآن بسطوة القضاء وقوة المحاكم، بل لأن الناس لا يزالون يحبون بعضهم بعضا ويشفقون على بعضهم.
وقال يصف الشرور: إن الفلاح الذي يفلح أرض غيره ويبتاع ضروريات الحياة بالثمن الذي يطلب منه لا يستطيع أبدا أن يصير غنيا مهما كان مجتهدا مقتصدا. وأما الرجل المسرف المبذر الذي يتسرب في مناصب الحكومة أو ينال الحظوة لدى أربابها، أو يصير مرابيا أو صاحب معمل أو بنك أو تاجر خمر، أو ينشئ بيتا للمومسات؛ فهذا ينال الغنى من أقرب طريق، وأمثلة ذلك كثيرة حولنا.
ثم قال: علام نرى الرجال الأقوياء الماهرين المعتادين التعب، وهم الفريق الأكبر من بني البشر، يخضعون لأناس ضعفاء الأبدان، لرجال أخناث أو شيوخ عجزة؟ لماذا نرى الأقوياء يتبعون لهؤلاء الضعفاء؟ لأن الضعفاء قد امتلكوا الأرض وخيراتها والمعامل وما فيها. والحق الذي يمتلك به الغني الأرض ويجني ثمار ما يتعب به غيره، لا ينطبق على مبدأ من مبادئ العدل والإنصاف، وما هو إلا اغتصاب تؤيده القوة الحربية.
وقد صار العمال آلات لقهر إخوانهم بصيرورتهم جنودا للحكومة وآلات في يدها للقتل والفتك. وما دام الناس يحللون قتل غيرهم تبقى الجنود في يد الحكومة؛ أي في يد فريق ضعيف من الناس، ويبقى هذا الفريق مستعينا بهم على ابتزاز الأموال من الذين يكسبونها بعرق جبينهم. وشر من ذلك أن رجال الحكومة يفسدون جمهور الناس، ولولا ذلك ما استطاعوا التسلط عليهم وابتزاز أموالهم. وأصل كل الشرور ما رسخ في الأذهان من أن تجنيد الجنود لقتل الناس ليس إثما، بل هو شرف كبير وعمل نبيل، لذلك لا تزول الشرور من الدنيا بتحرير الفلاحين ورفع الضرائب وتكثير الآلات والأدوات، ولا بإبطال الحكومات الحاضرة، بل بإبطال كل تعليم ديني يجيز للناس أن يحملوا السلاح لقتل غيرهم.
وقال عن السعادة في زمن صباه: ورد على فكري ذات يوم فجأة أن الموت ينتظرني كل ساعة وكل دقيقة، وقد حتمت دون أن أدرك تلك الحقيقة التي لم يدركها الناس السالفون أن خير واسطة لسعادة الإنسان هي أن يتمتع وينتفع بالحاضر ولا يفتكر بالمستقبل، فأثر في نفسي هذا الفكر تأثيرا شديدا حتى إني خضعت له وتركت الدرس ثلاثة أيام متوالية، واضطجعت على سريري وتفكهت بمطالعة الروايات وتلذذت بأكل الحلوى وألذ المأكولات.
والفيلسوف لم يدع وسيلة من وسائل الدفاع عن الأمة الروسية لم يستعملها؛ فقد كتب الكتب العديدة وصف بها الشعب وما هو عليه من الجهل المطبق والفقر المدقع، ووصف سجون ومنافي سيبيريا وما يقاسي بها ألوف المجرمين السياسيين من صنوف العذاب والهوان، وأظهر في كثير من كتبه فساد الحكومة الروسية وعمالها، وكتب للقيصر مرارا عديدة .
وإنني إتماما للفائدة أذكر بعض فقرات من كتاب رفعه للقيصر يدل على جرأته وعدم مبالاته بما ينجم عن ذلك من النتائج الوخيمة التي تصدر كل يوم عن حكومة اشتهرت بالحجر على المطبوعات والمنشورات والضغط على الأفكار الحرة ومصادرة أصحابها وإلقاء القبض عليهم وزجهم في غياهب السجون أو نفيهم إلى مجاهل سيبيريا الكثيرة الجليد والصقيع. وهاك بعض ما جاء في الخطاب الموجه إلى القيصر ورجال حكومته:
إليكم نرفع خطابنا يا ولاة الأمور من القيصر وأعضاء مجلس الحكومة الأعلى والوزراء وأقارب القيصر من أعمامه وإخوته، وكل الذين يستطيعون أن يكلموه. إليكم نرفع خطابنا لا كأعداء بل كإخوة مرتبطين معنا ارتباطا متينا أردتم ذلك أو لم تريدوه، حتى إذا حلت بنا البلايا أصابكم شيء منها؛ ليس اللوم على الذين يثورون، بل اللوم كله عليكم لأنكم لا تفتشون إلا عن راحتكم ورفاهيتكم. وقد كان الواجب عليكم أن تفتشوا عن سبب الثورة والشكوى وتزيلوه. والناس مسالمون بالطبع لا يطلبون الخصام والعداء، بل يفضلون الوفاق والمسالمة. فإن كانوا قد ثاروا عليكم الآن وطلبوا الإيقاع بكم، فلا يكون ذلك إلا لأنهم وجدوكم مانعا يمنع عنهم وعن الملايين من إخوانهم أعظم نفع يطلبه الإنسان في هذه الدنيا وهو الحرية والعلم. وغاية ما يطلب منكم لكي لا يبقى سبيل لثورة العامة عليكم وهو نافع لكم أيضا لأجل راحتكم وسلامتكم؛ هذه الأمور الطفيفة، وهي:
صفحه نامشخص