ولما أنهى هذا الشيطان كلامه حنى رأسه وصمت منتظرا تأثير كلامه في نفس رئيسه الأعظم، فحنى بعلزبول رأسه إشارة الرضاء والارتياح، وابتسم ابتسامة تشف عما خامر فؤاده من السرور، وقد دعت تلك الابتسامة شيطان النساء أن يستطرد كلامه ويقول:
وإننا لا نكف عن استعمال تلك الوسيلة الشيطانية التي استعملتها أيها الرئيس الأعظم في الفردوس، وهي استمالة الرجل والمرأة إلى الأكل من الثمرة الممنوع أكلها، وبإضافتنا عليها الوسائل التي أشرت إليها توصلنا إلى أحسن النتائج وأنجعها فائدة. أجل، إن الناس يتزوجون زواجا كنائسيا شريفا، وبعد اتحاد الواحد منهم بزوجته نقوده إلى خيانتها ونزين له اختيار غيرها، وسرعان ما ينقاد إلينا ويضرب في طول الفساد وعرضه، ويتزوج مئات من النساء زواجا سريا، وقد تنسج المرأة على منواله، وبذلك يتدرجون في الفساد ويقعون في الضلال ، وقد انتشر الفجور بينهم انتشارا يصعب تصديقه، والأدهى من كل ذلك أن كثيرين منهم أخذوا يطلقون نساءهم ويتزوجون ثانية، ويقيمون الاحتفالات التي ذكرناها آنفا، ويؤيدون أعمالهم هذه بقولهم إن الزواج الأول فاسد وهذا الزواج الثاني هو الصحيح.
ثم صمت بعد هذا شيطان النساء، ومسح بمؤخر ذنبه اللعاب الذي ملأ فمه وسال على ذقنه، ثم حنى رأسه ووجه بصره نحو بعلزبول.
7
فقال له بعلزبول: إني موافق كل الموافقة على هذه الطرق الناجعة التي استعملتها فأثني عليك مزيد الثناء، وواظب على السير الذي سرت فيه. ثم قال سائلا: من يقود النهابين المغتصبين فليدن مني ويخبرني عن الطرق التي استعملها لذلك.
فقال واحد من بين الشياطين: ها أنا ذا، وتقدم من بعلزبول، وكان شيطانا مريدا وجبارا عنيدا، له قرنان طويلان معقوفان، وشاربان مفتولان مرفوعان إلى فوق، وأرجل طويلة قبيحة. دنا هذا من بعلزبول، وأصلح شاربيه، ووجه إليه بصره منتظرا الإذن بالكلام.
فقال بعلزبول: إن ذاك الذي هدم جهنم علم الناس أن يعيشوا كطيور السماء، وأمر تابعيه أن يعطوا السائل ويؤووا الغريب، وقال: من طلب منك ثوبك فأعطه الرداء أيضا، وقال أيضا: من أراد أن يخلص نفسه فليوزع كل أمواله على الفقراء. فكيف أنتم الآن تفعلون حتى جعلتم سامعي ذلك الكلام ينهبون بعضهم بعضا، ويبذل كل واحد وسعه لاغتصاب ما في يد الآخر؟
فقال الشيطان ذو الشاربين المفتولين: لقد توصلنا إلى ذلك باستعمال تلك الطريقة التي استعملها رئيسنا الأكبر لدى انتخاب شاول ملكا على الإسرائيليين، وما حدث في ذلك العهد القديم صار يحدث الآن في هذا العهد الجديد، والتاريخ الديني يعيد نفسه حرفا بحرف، وهي طريقة حميدة المسعى ذات تأثير شديد تدعو الناس إلى النهب وابتزاز الأموال وتسخير العمال. والعجيب المدهش في ذلك أنهم يعتقدون فيما يفعلونه من طرق النهب والسلب أنها طرق قانونية مشروعة، ولا إثم ولا حرج عليهم من استعمالها.
وإننا توطيدا لهذا الاعتقاد في النفوس، أو بعبارة أوضح لكي نجعل لشخص ما حقا واضحا في استباحة أموال الناس وابتزازها ابتزازا علنيا مشروعا غير قابل للاعتراض والانتقاد؛ نقود ذلك الرجل للكنيسة، ونتوج رأسه بتاج فخم، ونجلسه على عرش مجيد عالي الأركان مصفح بالذهب، مرصع بالحجارة الكريمة، وندفع إليه صولجانا وكرة، وندهن رأسه بزيت الزيتون، وباسم الله وابنه ننادي به ملكا، ويصبح هذا الرجل المدهون رأسه بالزيت شخصا مقدسا بل ورأسا للكنيسة، وندعو الناس إلى الاعتقاد بقداسة شخصه وعلو مكانته، وسرعان ما يصدقوننا ولا يقفون عند حد الاعتقاد البسيط الذي قدناهم إليه، بل نراهم يتوغلون في التلفيقات والاختراعات واختلاق الألقاب الغريبة لهذا الشخص المقدس، فيلقبونه بالقابض على السلطة الفعلية، وظل الله في أرضه، ومدير شئون الرعاية الدينية والمدنية، والحاكم على رقاب العباد و... و... و... إلخ، مما هو من هذه الصفات التي دونها صفات الآلهة. وسار النهب على هذه الطريقة المقدسة سيرا تدريجيا حتى بلغ أقصى درجات الزيادة، وجعل الأشخاص المقدسون وأعوانهم وأتباعهم ومساعدوهم ومساعدو مساعديهم ينهبون الشعب نهبا علنيا ليس فيه شيء من الخطر والعواقب الوخيمة، وأخذوا يسنون قوانين وشرائع تجيز لهم هذا النهب.
وإذا أمعنا النظر وجدنا أن تلك الشرائع والقوانين أضحت ضربة قاضية على الناس، وسوغت لأفراد أخناث من أهل البطالة والفساد نهب الشعب العامل الذي يحصل الدريهمات بعرق جبينه، وما زال هذا النهب المشروع مرعي الإجراء إلى يومنا هذا في أكثر الممالك، حتى في تلك التي لا يصبون الزيت على رأس ملوكها، وكما يرى أبونا ورئيسنا الأعظم أن هذه الطريقة التي نستعملها ليست من أوضاعنا في الحال، بل هي قديمة العهد من مبتكرات أفكار رئيسنا، غير أننا الآن عممناها في جميع الممالك والإمارات، ونشرناها في جميع الأصقاع، ووطدنا دعائمها على قواعد متينة لا تتزعزع، وبنيناها على شرائع لا تنقض، ومن ذلك أن الناس كانوا يخضعون في العهد القديم إلى الأشخاص الذين ينتخبونهم ليكونوا عليهم ملوكا ورؤساء، ولكننا اليوم عكسنا الأمر فجعلناهم يخضعون لأي شخص كان ولو كانوا لا يريدونه أو يميلون إليه.
صفحه نامشخص