ولبث حائرا بعد انصرافه تتلاطم هذه الخواطر في ذهنه، وكله لوم لنفسه على تهيئة الفرص لفريد للظفر ببثينة، بينما أطار حظه من يديه غباء وإهمالا ... وبقى زمنا في غم وكرب لا يدري ماذا يصنع، أيواجه فريدا ويستوضحه حقيقة ما بينهما، أم يذهب إلى بثينة التي حسبها محبوبته الخالدة؛ ليشكو ويؤنب دون مواربة؟!
وأخيرا انتهى عزمه على مقابلة فريد في اليوم التالي، فتوجه إليه في الصباح الباكر فإذا به على وشك الخروج من المنزل. - خيرا يا أمين؟ صباح الخير! - جئت لأراك في مسألة هامة وعاجلة يا فريد. - أهي مسألة تتعلق بأعمالنا؟ - كلا، بل هي مسألة شخصية تعنيك وتعني بثينة أيضا. - إني فاهم ما تريد أن تقول، ولكني مضطر إلى سرعة التوجه إلى الكلية، وقد كنت مع بثينة ونادية نتحدث عنك أمس، فإن شئت فقابلنا اليوم في منزلها الساعة الخامسة بعد الظهر وستسمع منا الكلمة الحاسمة عما يجول في خاطرك.
وقبل أن يستوعب أمين هذه العبارات الجافة التي كانت تقرع سمعه كالحصى، وقبل أن يفيق من صدقها، كان فريد قد مرق وأسرع إلى الترام فركبه ...
عاد أمين إلى منزله منكس الرأس حزينا، وكان قد علق إلى جوار مكتبه قصيدة إذا “IF”
للشاعر كبلنج ، وكان مغرما بتلاوتها من وقت إلى آخر، ولا يغادر مكتبه دون أن يلقي نظرة عليها كأنما يستمد منها العزم، ولكنه في هذه المرة أراد أن يستمد منها العزاء والسلوى إذا عجز عن استثارة جلده وتدعيم رجولته، فقرأ قول كبلنج: «إذا استطعت حلما دون أن تجعل الذي تراه من الأحلام فوقك سيدا
إذا استطعت فكرا دون أن تجعل الذي تراه من الأفكار غايتك القصوى
إذا استطعت أن تلقى (انتصارا) و(نكبة) وعاملت ذين الخادعين سواء» ...
ولكن لا فائدة من استمرار القراءة أو من محاولة فهم ما يقرأ، وفي هذا المأزق ذهبت تربيته الأمريكية مع الريح، وما الفائدة من مخادعة نفسه وإيهامها أن حلمه ببثينة ليس متسلطا عليه، وأنه ليس غايته القصوى؟ وما معنى التظاهر بأن يضع «نكبته» الحاضرة التي لا ريب فيها موضع المساواة مع «انتصاره» الذي كان يحلم به؟ ... لا، لا، هذا رياء في رياء، وهذه حكم زائفة تنشد للعبث واللهو، وليس لها الآن أي طعم أو معنى أو وقع في نفسه ... وانتزع الورقة من الحائط ومزقها ... •••
وحانت الساعة الخامسة بعد الظهر فكان أمين يطرق منزل بثينة وإذا بها شخصيا تستقبله، وكأنه لم يحدث منها أي حادث عكر صفوه وكاد يقضي على نفسيته، ولاحظ أنها تلبس رداء جميلا ولم يذكر أنه رآها أبهى رونقا مما رآها في تلك اللحظة. كذلك لاحظ أن شقيقتها نادية في مثل حلتها وقد توافقا، فللأختين مسحة واحدة من الجاذبية، وتمالك أمين نفسه وأخذ يحدثها على انفراد وهو يظهر الثبات والاطمئنان: يا بثينة يا حبيبتي، لقد جئت إليك عاتبا وغير عاتب، فأنت جميلة متوجة، ولك أن تختاري من تشائين من رعاياك، ولكن وعدك القديم ما يزال مصونا في قلبي يرن في أنحائه. - وماذا حدث يا أمين حتى تستفز إلى العتاب والشكوى؟ وهل قطعت عهدا بالزواج منك، أليس من صفات الحياة التغير والتجدد؟ أتنكر أنك أنت ذاتك تغيرت؟ - ماذا حدث يا مهجتي؟ وهل بعد ما جرى حدوث؟ أهذه عقبى تأميلي فيك يا بثينة؟ إني أدع لضميرك أن يعترف بعهدك المقطوع لي وهو عهد الحب والوفاء الصريح، فأين ذهب؟ أما أنا فلن أحول دونك أبدا، وأنا أعبدك الآن كما كنت في كل وقت، فلا تذلي رجولتي يا بثينة. - اسمع يا أمين، إن بيني وبين فريد كلمة صريحة ستسمعها الآن، وسأرى كيف تحتملها، ويجب أن يكون معنا بعد لحظة.
فلم تزد كلماتها خاطر أمين إلا بلبلة وهما، وكاد يهم بمغادرة المنزل لولا أن طرق الباب ثم دخل فريد، فإذا به يستقبل أمين هاشا باشا، ويحتضنه مداعبا خلافا لما عهده منه في الصباح، وقبل أن يفيق أمين من ذهوله المجدد فاجأه فريد بقوله: إني أعدك في منزلة الأخ يا أمين، وأومن بأني لم أر صديقا أنبل منك أو أطيب قلبا وأكرم نفسا، وقد اعتبرت نفسي وكيلك وتآمرت مع بثينة عليك، فاتفقنا أن يكون زفافك لها في يوم زفافي بنادية، وأن يتم العقد في الساعة السابعة هذا المساء، وبالفعل أرسلنا الدعوات لهذه الحفلة العائلية السعيدة، وها هي ذي السيدة والدتك قد حضرت فعلا ...
صفحه نامشخص