الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
مملكة العذارى
مملكة العذارى
تأليف
أحمد زكي أبو شادي
الفصل الأول
- «لا فائدة يا أمين من نقاشي، فهكذا خلقت ... هكذا تكويني وميولي ... هكذا أنظر إلى الحياة، ولست شاكية ... وما أنا يا ابن عمي بالتي تجهل مواهبك وشمائلك ... ولو كنت من تستسيغ الحياة الزوجية لما وددت سواك زوجا لي، ولكني أنفر منها ولا أهرب من مسئولياتها كما تدعي.» - «بل أنت تهربين من هذه المسئوليات يا بثينة، ومن أجل ذلك تكبتين عواطفك كبتا وتتذرعين بالمنطق المعكوس لإيهام نفسك وإيهامي!»
دار هذا الحوار ختاما لنقاش طويل في منزل بثينة ... كانت الفتاة في العقد الثاني من العمر، ولكنها في تفكيرها وحوارها تبدو كأنها في العقد الرابع. كانت رشيقة هيفاء صبيحة الوجه ذات نضارة وجاذبية هما التعريف الناطق بالصبا والحياة، وعلى جدها كانت كثيرة الدعابة إذا ما تهيأت الفرصة لها أو طاب لها أن تخلقها. لا يستطيع الناظر إليها أن يصرف نظره عنها في سهولة دون أن يدري سرا لذلك يستطيع تحديده وإن عمم الواصفون في نعته «بالسكس أبيل». لم تكن رائعة الجمال ولكنها في مجموعها بشخصيتها وتكوينها كانت نموذجا خلابا لأنوثة مهذبة، وهي هي التي تتبرأ من أنوثتها. كانت بعينيها النجلاوين وتقاطيع وجهها السمح وبألفاظها الموسيقية الناعمة وبحركاتها الرشيقة وبدماثتها الحلوة وبأحاديثها الفاتنة وبثقافتها العصرية التي اكتسبتها من كلية الأمريكان وبمسحتها السكندرية الخاصة وبرقتها - على الرغم من تصنعها الرجولة أحيانا - كانت بكل هذه الصفات وبتحاشيها التزين النسوي المألوف، صورة من صور الطبيعة الجميلة التي تعبث بها يد الإنسان ... ولا يراها الفنان الشاعر إلا استساغها قصيدة وهاجة لشاعر عبقري مفطور حبس الشعر في نفسه أمدا ثم أطلقه مجلجلا رائعا خلابا دون تصنع ودون بهرج كأنما الطبيعة سكنت طويلا قبل أن تجيش بخلق هذا النموذج الفذ ... ولا يراها الفيلسوف إلا عرف معنى جديدا للحياة، وحقد على الموت كيف يمكن أن يمتد يوما ما إلى مثل هذا الهيكل المقدس، وعجب من الإنسانية التي لا تعرف معنى السعادة في ذاتها، وأمامه المثال الذي يرضي العقلين الواعي والباطن معا، وفي إرضائهما معا استكمال السعادة ... ولكن هذه الربة المثالية تتنازل راضية مختارة عن أنوثتها الفذة، وتتسم بالرجولة، وتتعلق بالمثاليات المجردة وبالأخيلة الشعرية الجامحة، وتنهمك انهماكا في المطالعة وفي الموسيقى والتصوير وفي الفنون الجميلة عامة وقد اقترنت حياتها بها ووهبتها ميولها وغرائزها وهواجسها، واستمدت منها كل صفوها وأبت دونها بديلا.
وكان أمين يكبرها بسنوات قليلة، وقد عاد حديثا من الولايات المتحدة الأمريكية بعد تخرجه في جامعة كاليفورنيا متخصصا في الصناعات الزراعية. كان دمث الأخلاق وافر الشهامة والمروءة مشغوفا بالعمل المنتج ذا روح اجتماعية سامية. فكان لا يشغل بنفسه وحدها، وكان يدأب على الكتابة إلى الصحف بمشوراته الفنية وبمقترحاته لما فيه الخير العام، وكان لا يتردد في معاونة غيره من القصاد ولو نافسوه في عمله آجلا، وكان من أسرة ميسرة، شأنه شأن بثينة التي أحبها حبا عميقا، فما رآهما أحد على ألفة إلا تخيلهما زوجين - فما كان يصلح لأحدهما إلا الآخر.
كانت لأمين فرص صالحة للزواج في أمريكا حيث للفتاة الأمريكية من الثقافة والوسامة والجاذبية ما لها، ولكنه عاش تلك السنوات يحلم بفتاة طفولته وفيا لها، وإن لم يفاتحها برغبته في الزواج منها إلا بعد عودته بعامين بعد أن انتظمت أعماله الزراعية ووفق إلى نجاح مناحله ... وها هي ذي بثينة في صراحة قاسية تخيب آماله وتحيل قصائد غزله إلى مراث باكية! •••
وهكذا مرت الأعوام على أمين وبثينة وهما أقرب الأحباء وأبعد المتناجين، وفتاتنا سادرة في أحلامها الفنية وصاحبنا مكب على أعماله، ولكن دون أن ينعم بالحياة الزوجية، وقد حاول أهلها أن يقنعوها بالتزوج من ابن عمها دون جدوى؛ لأنها لم تستطع أن تقنع نفسها بقيمة الزواج ولا باستساغته، وأشفق أهله عليه فحاولوا أن يحببوا إليه الزواج من قريبة أخرى مثقفة، ولكنه لم يعرهم إلا أذنا صماء ، ووقف حبه العذري ووفاؤه على رفيقة صباه.
ناهز أمين الثلاثين، وتعود أن يجد من اليأس راحة ومن التشاؤم تفاؤلا، وجاء الربيع متمهلا إلى الإسكندرية وجيرتها وحل شهر مايو، وكان أمين في زيارة بثينة في إحدى الأمسيات يستمع إلى عزفها الجميل على الكمنجة لإحدى المختارات الحبيبة إليه وهي «أمابولا» فقال لها معجبا: عشرات المرات يا بثينة سمعت هذه القطعة الجميلة ينثرها معزفك وتجود بها أناملك وفي كل مرة أستوعب منك سحرا جديدا، فالنغم هو أنت وليس لحنا لموسيقى ولا عزفا لمؤلف! - تماد يا شاعري تماد، أو اسخر، إن شئت! - وأي تماد يا عزيزتي في الصراحة الساذجة؟ ألم نتعاهد دائما عليها؟ - لقد سمعت هذه الأمداح كثيرا حتى أصبحت أخشى التقريظ! - إذن فاسمعي تقريظا آخر من نوع جديد، وربما لم تعتبريه تقريظا لك ... إنني لن أستطيع التنزه معك غدا خلافا لوعدي السابق؛ إذ طرأ ما يدعوني إلى زيارة منحلي الرئيسي لأني أخشى من انثيال النحل، فإذا وافقت يا بثينة على صحبتي وتمضية اليوم في المنحل، فإني أعدك بنزهة أجمل من نزهتنا في المكس التي كنا على وعد بها، كما أنك ستسمعين من أناشيد النحل ما ينافس ألحانك! - ألم أقل لك يا أمين إني أخاف لسعات النحل، وهذه ليست أولى دعواتك، فما الذي جد يا عزيزي حتى تريد مني تغيير رأيي؟ - الذي جد يا حبيبتي هو موكب الربيع، فقد جاء هذا العام متأخرا، ولكن في بهاء يفوق بهاءه في سابق الأعوام، وسترين يا بثينة نحلي في فرحة كفرحة الأطفال بالحلوى واللعب، وفي غناء متواصل، وهن يجمعن الرحيق من الأزهار، وكأنه صلوات للطبيعة تفيض بالحنان وبالشكر لها ... وإني أعدك بأن النحل لن يمسك بسوء، وعلى كل حال فنحلي مؤدبات يعرفن حرمة الجمال ... أنت تمضين أيامك وأعوامك في عوالمك الخيالية الجميلة، فتنازلي بصحبتي إلى عالمي الصغير الجميل ... إلى «مملكة العذارى».
فتضاحكت بثينة وسمحت له بقبلة على جبينها، وافترقا متواعدين على تمضية الغد في «مملكة العذارى».
الفصل الثاني
وقفت سيارة أمين أمام منزل بثينة مبكرة في صباح ذلك اليوم الباسم البهج الذي تجمعت فيه مناقب الربيع، وبدت السيارة ذاتها كأنها متهللة تهلل صاحبها. أسرع أمين إلى بثينة يستعجل خروجها كأنما هما والطبيعة على موعد في وليمة روحية - وليمة الحب الطليق، وغادرا المنزل فرحين قريرين، وقد أخذا معمها ما طاب من زاد أعدته بثينة بيدها، ولكنه أبى عليها أن تأخذ أي كتاب محتجا بأنها لن تجد الوقت لاستيعاب حتى صفحة واحدة من سفر الحياة التي ستتهافت عليها ... فاستسلمت لإرادته كأنما تتحدى قدرته على إسعادها الكامل في ذلك وهي تقول: سنرى!
ومضت السيارة في طريقها حتى تجاوزت مدينة الإسكندرية، وسارت في الطريق الريفي محاذية ترعة المحمودية إلى أن بلغت المنحل المقصود، وهو يبعد زهاء العشرين من الكيلومترات عن قلب المدينة.
وكانت الساعة حول التاسعة صباحا، وقد كان اليوم في صباحة الفتى الرياضي الرشيق الذي استحق بتفوقه أن تنثر حوله الرياحين، أو هكذا تخيلته بثينة ... أما أمين فرآه مولود الطبيعة الجميل وقد عبق الجو بأنفاسها، ولطفت الأشعة رعاية لهذا الوليد الحبيب، وتبرجت الأزهار وتراقصت مع النسيم الرقيق، وسقسقت العصافير ما بين طائرة ومتخطرة في أثواب جديدة احتفاء بميلاد الحب الجديد بين أحضان الربيع. ولم يفت الفراشات أن تساهم في هذا العيد البهيج مجاملة لأخواتهن النحل التي ملأت الفضاء بغنائها، كما انتعشت شتى الحشرات وشعرت بكيانها وبنصيبها في نظام الطبيعة البديع ... وقد ملأت الجو روح لا تكيف من التعاطف بين النبات والحيوان، وكاد الجماد ذاته يستجيب إليها فوقف الإنسان بينها مشدوها حائرا مأخوذا بسحر هذا الجمال!
فتح أمين الباب الخشبي للمنحل، ووقف وبثينة في خشوع وصمت كأنهما في صلاة قدسية، وما أكثر الصلوات في محراب الطبيعة لمن يؤمن بها! وبقيا على هذه الحالة دقائق حتى أفاقا ... ثم أخذ وبثينة يفتحان حجرات المنحل الثلاث، ويتهيآن لإعداد ما فيه متعة يومهما. كان المنحل يتألف من سبعين خلية خشبية موزعة بنظام على صفوف عشرة، وبين كل خلية وأخرى مسافة متر من الجهات الأربع تيسيرا للعمل فيها ولتنقل النحال فيما بينها، وقد غرس بعض أشجار الفاكهة كالمشمش والموالح والرمان وبعض الأشجار المزهرة العسلية هنا وهناك توفيرا للظل ولتعلق النحل بفروعها إذا ما انثال في أوان تكاثره، وكان يحيط بالمنحل سوق من القوائم الخشبية والأسلاك الشائكة، وجرت حوله قناة ماء، كما أحاطت به أشجار البقم والسسبان فأكسبته سياجا ناضرا وظلا وارفا، واتصلت القناة بساقية في جوار المنحل كانت تتعهده أحيانا بمائها كما كانت تتعهد أحلام صاحبه بدورانها وبأنينها الشجي وبصوت الصبي الحادي للسائمتين إذا ما غافلتاه وتوقفتا عن العمل مجاراة لسنة الناس أنفسهم ... وكانت في إحدى جوانب المنحل مضخة ماء مركبة على حوض من الأسمنت يصب في القناة الحافة بسور المنحل، وقد احتاط أمين فصانها في صندوق خشبي متين مقفل لا يفتح إلا عند استعمالها، وذلك منعا للإغراء على سرقة أجزائها التي باتت نادرة في زمن الحرب ندرة الأمانة في المعاملة، وفي الجوانب الثلاثة الأخرى أقام أمين ثلاث حجرات خشبية ممتازة متينة الأقفال خصص إحداها لاستراحته ومكتبه، وفيها كان يبدل ملابسه تأهبا للعمل في المنحل وبعد الفراغ من العمل، وأودع فيها من أدوية الطوارئ وحاجاتها ما أراح باله، وخصص الثانية بقسمتها مخزنا لأدوات المنحل ولأدوات الطهي ومكانا يعد فيه الطعام والشراب له ولنحله ولضيوفه، وقد أودع فيها بعض الكراسي والمناضد والحصير وتوابعها وبعض الزاد والماء مما قدر فيه الكفاية للراحة والمتعة إذا ما أمضى وصحبه يومهم في المنحل، وخصص الثالثة لفرز العسل من الأقراص وهو حادث لا يتكرر إلا مرات معدودة في العام، ولكنه حادث خطير يستحق أن يفرد له مكانا خاصا يتسم بالنظافة التامة التي من أجلها عني أمين بتركيب مضخة الماء لتزوده دائما بحاجته منه في وفرة وسخاء، وقد وضع في هذه الحجرة أحدث أدوات الفرز على الأساليب العلمية الحديثة التي تسمح باستخلاص العسل من الأقراص دون تلف لها، حتى إذا ما أعيدت إلى النحل جدد مخزونه من العسل فيها ما دام للأزهار جودها بالرحيق، وجدد النحال فرز هذا العسل متى نضج ومتى كانت الظروف سامحة بهذا التكرار.
قال أمين: هذه يا بثينة مملكتي الرئيسية وإن تحدتني النحل في هذا الادعاء، وسأحاول يا عزيزتي أن أجعلك شريكتي في حكمها وفي التآلف معها، ولن أثقل عليك الآن بشرح مسهب لتكوينها حتى ولا لتقسيم النحل، فحسبك أولا هذه النظرة الإجمالية المستوعبة لصورته العامة ولروحه الفنية ... ألا توافقيني يا حبيبتي على أن فيه شيئا من السحر الذي تحتفظ بأغلبه هؤلاء العذارى المجنحات وإن تلقنت منها الكثير من أسراره وطقوسه؟!
فضحكت بثينة، وقالت: يا لك من شاعر، لقد مضى علي الآن نصف ساعة أو يزيد وأنت مستغرق في تأملاتك إلا أن تجري هنا وهناك كالطفل الغرير فرحا بحشراتك هذه بينما لا أزال وجلة، ولم تفكر في أن تعرض علي كرسيا لأقعد وأستريح! - عفوا يا محبوبتي.
وهرع أمين فجلب كرسيين بوسادتين ووضعهما إلى جوار الحجرة المقاربة لباب المنحل وهي المخصصة للأدوات والمطعم، ودعاها إلى الجلوس، ملاحظا أنه اختار هذا الموضع؛ ليكونا بمنأى عن مسارب النحل في طيرانها إلى الحقول وإلى غدير الماء المجاور حتى لا تصطدم بهما في أثناء طيرانها فتضطر إلى لسعهما.
كانت الخضرة الزبرجدية من الأرض والصفرة الذهبية من الشمس متحالفتين على غمر الخلائق بكل ما يوحيه اللون من حاسة الغبطة والاطمئنان، وكانت لحظة شعر أمين وبثينة فيها بسعادة تصوفية غالية حينما لبثا صامتين ذاهلين يتأملان في كل ما حولهما من نضرة وشباب ولون واعيين وغير واعيين، وبدا كل شيء كأنه حالم مسحور، حتى أشرعة القوارب المنخفضة الماضية في ترعة المحمودية كانت تبدو في مظهر عجيب لاحتجاب قواربها عن الناظرين، وكأنما تسير بمفردها شارات لحوريات الماء المتدللات، فلم تفق بثينة من هذا الاستهواء الذي دبرته الطبيعة لأبنائها البررة إلا على القبلات الحارة يطبعها أمين على وجهها الحلو وهي تدفعه عنها في دلال العطف والشكران.
قال أمين: والآن يا حبيبتي، هلمي إلى العمل. - أي عمل يا أمين، وأنا لا أزال خائفة من النحل ... كل شيء هنا جميل فاتن، وقد يستملح حتى منظر الأشواك ولا يستطاب تناولها ... فلماذا لا تحدثني حديثك المشوق عن نحلك العزيزات فحسب، وكفى الله المؤمنين شر القتال؟! - إني أتعهد لك يا بثينة أضعاف ما تعهدت لك من قبل بأن النحل لن تمسك بسوء ما دمنا لا نضرها ولا نسيء إليها، فهلمي إلى إبدال ملابسك بملابس العمل، والبسي احتياطا القناع الواقي للرأس وسأفعل ذلك بعدك، ولا تنسي لبس السروال، وسأعد المدخن زيادة في الاحتياط لتهدئة النحل.
وهكذا تحايل عليها فلبت رغبته. •••
ليست ملابس النحال وأدواته الرئيسية للعمل سوى أشياء بسيطة ميسرة؛ فأولها: القناع، وأفضل أنواعه ما كان يحتفظ به أمين لنفسه ولزائريه، وهو عبارة عن سياج من السلك الرقيق الخفيف المسود كاف لإحاطة الرأس، وقد جزئ وربطت أجزاؤه بشرائط من الجلد بحيث يمكن ثنيه وتطبيقه كما يطبق الكتاب، وخيط في كل من أعلاه وأسفله نسيج متين شبكي، وهيئ لهما من الخيط المتين ما يسمح بربط الجزء الأعلى حول قبعة النحال، وما يسمح بربط الجزء الأسفل حول وسطه، وهكذا يستطيع النحال أن يحمي رأسه وصدره حماية تامة من لسع النحل دون أن تضايقه حرارة الجو إذا ما اشتدت؛ لأن القبعة تقيه من أشعة الشمس، ولأن النسيج الشبكي يسمح للهواء بملاطفته فيستمر في عمله مطمئنا مرتاحا، وهذا الطراز من القناع أمريكي الأصل كسائر أدوات النحالة العصرية الممتازة التي جلبها أمين معه من أمريكا، وإن عمل على محاكاتها في مصر خلقا لصناعة جديدة في بلاده بدافع من وطنيته. كان أمين يحتفظ في كل منحل من مناحله بأدواته الخاصة، ولو أن هذه الأدوات الأمريكية العملية المتينة مصنوعة في أشكال وأحجام تسمح للنحال المتنقل المقتصد أن يكتفي بمجموعة واحدة منها يضعها في حقيبته الصغيرة ويحملها معه حيثما ذهب، ولكن أمين مع تنويهه بالروح العملية عند الأمريكيين وبمتانة مصنوعاتهم كان يؤثر استقلال كل من مناحله - وكان يغالي في الاحتياط؛ فيعدد أدواته حتى لا يتعطل عمله إذا ما تلف بعضها.
أما ثاني هذه الأدوات الرئيسية: فمدخن من النحاس مرتبط بمنفاخ من الجلد والخشب، يصعد الدخان البارد الهادئ من فوهته إذا ما أوقدت داخل أسطوانته النحاسية لفيفة من الورق الأصفر المقوى الملائم لذلك، والغرض من التدخين عند باب الخلية قبل فتحها ثم في أثناء العمل: إيهام النحل بأن خليتها في خطر من الاحتراق، فتهرع إلى أقراص العسل لتتزود منها استعدادا لهجرة الخلية إذا ما اضطرت إلى ذلك فيشغلها هذا عن لسع النحال، كما أن امتلاء كيسها العسلي في بطنها بالعسل لا يجعلها تواقة إلى اللسع، وربما لا يجعلها متمكنة منه بإبرتها الجاثمة في طرف بطنها.
وأما ثالث هذه الأدوات الرئيسية: فالعتلة، وهي غالبا صغيرة الحجم يبلغ طولها نحو العشرين سنتيمترا وعرضها نحو خمسة سنتيمترات، وقد ثني أحد طرفيها؛ لينتفع به النحال في تنظيف جدران الخلية وإطاراتها ونحو ذلك، وترك الطرف الآخر حادا نسبيا؛ ليستعمله مفكا، وليستعين به على فصل إطارات الخلية بعضها عن بعض وعلى تنظيفها أيضا، وثمة أشكال منوعة للعتلة ولكنها أساسيا لا تخرج عن هذه الصورة وعن هذه الغاية وإن اختلفت الأحجام، ولكنها جميعها تصنع من الصلب المنكل اتقاء لكسرها وحرصا على نظافتها مع تجنب الثقل في وزنها.
ولا بد للمنحل من أدوات أخرى هي أساسيا أدوات النجارة؛ لإصلاح ما يصيب الخلايا وأثاثات المنحل من تلف، ولكن النحال في عمله المباشر بين النحل لا يحتاج إلى أكثر من قبعته المصنوعة من القش الخفيف وقناعه ومدخنه وعتلته.
أما الأدوات الأخرى الخاصة بمنتجات النحل من فراز للعسل ومنضج له وفراز للشمع ... وما إلى ذلك، فاستعمالها محدود معين، ولا تصحبه في تنقلاته بين الخلايا حينما يفحصها. •••
لبس أمين قبعته وقناعه، وأعد المدخن حتى إذا ما أقبلت بثينة عليه شعر كأنه صاحب مملكتين بل من رعايا كليهما ... فبادرها قائلا: ما أجملك يا بثينة في ملابس الرجال، وما أشهى قبلة منك في سمتك هذا، ولكني عاقبت نفسي بهذا القناع، وها أنذا أسير لك وله!
فتضاحكت بثينة ملء مرحها، وقالت: أيشتهي نحال من زميله النحال مثل هذه القبلة؟! - لقد علمتني يا بثينة أن يكون حبي أفلاطونيا. - الحقيقة يا أمين، أنكم معشر الرجال إذا ما تعلقتم بالأنوثة عادة فإنكم تعشقونها أكثر إذا امتزجت ببعض الرجولة، فإذا لم تجدوها في النفس تلمستموها في الملبس.
لم يشأ أمين أن يثقل على بثينة في درسه الأول بالكثير من المعرفة، فاكتفى بفتح خلية فحسب بعد أن دخن على بابها قليلا، وقد اختار طائفة هادئة، وأراها كيفية ترتيب الأقراص داخلها، وتجمع النحل فيما بينها عاملة دون جلبة، فاستأنست لما رأت وطالبته بالمزيد فتمنع في مكر، واستدرجها إلى التعاهد على مزاملته والدراسة عليه دراسة منتظمة، واتفقا على أن تصحبه أسبوعيا إلى هذا المنحل وإن لم تعفها هذه المصاحبة من التردد معه على المناحل الأخرى إذا ما دعت الحاجة التعليمية إلى ذلك.
قالت بثينة: لقد جرى الوقت أضعاف سرعته، وها هي ذي الشمس تؤذن بانتصاف النهار، فلأذهب لأعد الطعام، وكان يحسن بي أن لا أتعبك اليوم وأن نقضيه في مرح شامل. - وأي مرح ألطف من هذا يا بثينة، يا أنشودتي الحلوة ويا نعيمي؟!
فمرقت بثينة إلى حجرة المكتب، واستبدلت ملابسها وكلها بشر واطمئنان، ثم عادت إليه بهديتها ملفوفة في ورق فني وهاج، وناولته إياها وهي تقول: هذه صورة من تحبها أكثر مني. - محال ذلك يا بثينة.
وفض أمين الورقة فوجد بطاقة تهنئتها، وقد رسمت عليها بريشتها صورة خيالية جميلة ملونة لمنحل عصري وأمين يعمل فيه، ومع البطاقة كتابان نفيسان باللغة الإنجليزية؛ أحدهما كتاب الدكتور مالكولم فريزر عن النحالة في العاديات “Becheeping in Antiquity by H. Malcolm Fraser, Ph. D.” ، وقد سرد فيه بأسلوبه الشائق سيرة النحل والنحالة في أقدم عصور التاريخ، وأما الكتاب الثاني: فالطبعة الإنجليزية من كتاب ذهن النحل لجوليين فرانسون “The Mind of the Bees by Julien Françon”
وقد ترجمه عن الأصل الفرنسي أحد علماء الإنجليز المعدودين وهو ه. إلترنجهام من أعضاء الجمعية الملكية البريطانية. ففرح أمين بهذه الهدية - بل الهدايا - فرحا عظيما.
قالت بثينة: لقد تعمدت أن أنظر في مكتبتك منذ شهرين في إحدى زياراتي لك فلم أجد هذين الكتابين، وكنت قرأت إعلانا عنهما فطلبتهما لك من إنجلترا وجاءا في الوقت المناسب، ويسرني أنهما أرضياك. - لا أدري كيف أشكرك، وكيف أحييك يا بثينة، فهل أكتفي بقول الشاعر: «أحلى التحيات أخلاها من الكلم»؟! - هيا نسأل أمنا الطبيعة - كما ننعتها - عن رأيها . - ولكنك نسيت الغداء، وإن تشربت منك أهنأه. •••
ولما أعاد أمين بثينة إلى منزلها قبيل الغروب كما يعيد الجوهري نفائسه إلى حرزه، كان وجهها الجميل الذي صانته عن الأصباغ والذرور قد اكتسب من كئوس الشمس ومن دعابات النسيم في جولاتها مع أمين بين الحقول وفي وثباتها فوق القنوات والغدران ومن حنانه وقبلاته لونا خمريا لم ينم عن الصحة وحدها، وكانت في عينيها أحلام جديدة لم تجرؤ على الإفصاح عنها له ولا لنفسها، وكان كل ما تردده ساهمة: يا له من يوم!
الفصل الثالث
لم يحتج أمين إلى أي استهواء لاجتذاب بثينة إلى المنحل الرئيسي، وقد تعاهدا على أن يخصصا يوم الجمعة لزيارته، وحان موعد الزيارة الثانية فوجد بثينة على استعداد تام قبل حضوره لمبارحة المنزل، فغادراه وهي مرحة متهللة.
قال أمين في الطريق، وهو حريص على ألا يسرع بسيارته إرضاء لها: لقد أمتعتني يا بثينة بهداياك متعة عظيمة، وقد طالعت الكتابين خلال الأسبوع فاستفدت فوائد جمة، وزاد تقديري للنحلة؛ بل للإنسانية ذاتها التي مجدت النحلة من قديم العصور، واعترفت بذهنيتها التي ارتفعت فوق مستوى الغريزة، وحيرت علماء الحشرات. - إني لسعيدة بإسعادك يا أمين ... وقد نظرت قبلك في هذين الكتابين فأعجبت بهما، ولم يدهشني - وأنت من أنت بروحك الشاعرة - أنك أحببت النحل كل هذا الحب؛ فحياة النحل وصحبته من صميم الشعر، وقد ترنم بحياته شعرا منظوما ومنثورا كل من خبر النحل من فرجيل إلى ماترلنك، ولم يفت شكسبير إلى جانب التغني بالنحل أن ينوه بنظام مملكتها الرائع. - سأغار منك يا بثينة وأنا أراك تنافسيني في محبة النحل. - حسبتك تقول إننا شخص واحد، وأنت على أي حال المذنب؛ لأنك تؤثر النحل علي. - أنت المنتصرة دائما.
وبلغا المنحل، وكأنما كل زهرة وعشب فيه وكل نبت حوله قد استعد لاستقبالها في بسمة مرحبة، وتهيآ للعمل مبكرين، فقال أمين: حظنا عظيم مع الجو يا بثينة، ففي مثل هذا الجو المعتدل تكون النحل وديعة لطيفة، فلا نسيء إلى النحل ولا نسيء إلى أنفسنا بالكشف عنها، وإن من الخطأ أن يحاول النحال - إلا لضرورة قصوى مما سأبينها لك فيما بعد - فتح الخلايا إبان الجو البارد أو الجو الحار، وسأبدأ أولا بفتح خلية نموذجية خالية من النحل لدراسة تركيبها وأجزائها، ثم بعد ذلك نفتح إحدى الخلايا المأهولة.
وتوجها إلى الخلية النموذجية فشرح لها أمين كيف تطورت تربية النحل من حالتها الآبدة في جذوع الأشجار المجوفة وفي تجاويف الصخور وما إليها مما أشار إليه (القرآن الكريم) في سورة النحل، إلى استعمال الإنسان الأنابيب من خزفية وفخارية وطينية خلايا لها، ثم إلى استعمال الصناديق المقفلة ما عدا أبوابها، ثم إلى استعمال المراجين المصنوعة من القش المضفور، ثم إلى استعمال الخلية الخشبية ذات الغرف والإطارات المتحركة، ثم إلى اهتمامه بصناعة خلية قياسية دولية للاستعمال الموحد في شتى الممالك.
قال أمين: هذه هي (خلية لانجستروث) الدولية يا بثينة، وقد دعا إليها العلامة لانجستروث “Langstroth”
وما أحسبني مخالفا أي قانون لحماية الألقاب في زمن سيطرت عليه الفوضى إذا لقبته «بالعلامة».
كان لانجستروث قسيسا فهوي النحالة - شأن كثيرين من رجال الدين، وابتدع في منتصف القرن الماضي (سنة 1851م) الخلية الموسومة باسمه، وقد أصبحت الخلية القياسية المنتشرة في المناحل العصرية بمصر كما انتشرت في جميع الممالك الراقية التي تعرف استغلال النحالة الاستغلال الاقتصادي الواجب، وأكبر ميزة لهذه الخلية كما ترين نظام الإطارات المتحركة - وإن سبق إليه في صورة ما العالم السويسري هيوبر “Huber”
في أوائل القرن الماضي - وتنسيقها مجاورا بعضها بعضا على مسافة معينة هي ما نسميه «مسافة النحلية» وهي ربع بوصة ما بين كل إطار وآخر مما يسمح للنحل بالتحول بينها، وقد كشف الأب لانجستروث هذه الحقيقة واستغلها في تنظيم أثاث الخلية العصرية، فهو أولا: زودنا بالإطارات المتحركة التي يمكن بناء أقراص النحل داخلها، وهكذا يمكن رفعها من الخلية وفحصها وإعادتها أو نقلها من خلية إلى أخرى أو إلى جهة نائية، إلى غير ذلك من التصرفات العملية. وهو ثانيا: عرف مقياس الفراغ الواجب بين الأقراص لتتحرك فيه النحل دون أن تلجأ إلى لصق هذه الأقراص بعضها ببعض أو إلى سد هذا الفراغ، فاتخذه قاعدة للمسافات ما بين الإطارات والأقراص في هذه الخلية العصرية، وخلية لانجستروث بسيطة التركيب، يسيرة الأجزاء: فهي مصنوعة في جملتها من الخشب الجيد الذي يحتمل تقلبات الجو، ومدهونة بدهان زيتي ذي لون واق من حرارة الشمس كالأزرق السماوي أو الأبيض، ومغطى سقفها بلوح من الزنك المتين أو من الألومنيوم؛ ليحول دون تسرب المطر إلى داخلها، وهي مؤلفة من حامل لرفعها عن مستوى الأرض تجنبا للضفادع والسحالي والنمل وما إليها من أعداء النحل، وقد توضع أرجل هذا الحامل (في المناطق التي يكثر فيها النمل وتشتد هجماته) في أطباق ذات ماء لوقايتها من النمل المتسلق، ولكن لا حاجة بنا إلى مثل هذه الحيطة في المناطق الزراعية، ويوضع فوق الحامل ما يسمى باللوح الأرضي، ثم غرفة تسمى غرفة التربية وأخرى تسمى العاسلة، ثم لوح حابس يسمى بالغطاء الداخلي، وأخيرا الغطاء الخارجي المكسو باللوح المعدني للوقاية من المطر، ولا تفوتنا قطعة الخشب المثقوبة التي توضع فوق اللوح الأرضي أمام غرفة التربية؛ ليتألف منها باب الخلية، ولتكمل لنا حائطها الأمامي ... هذه هي خلية لانجستروث على بساطتها كما تستعمل في مصر، وهي خفيفة الوزن نسبيا، سهلة التركيب، عملية إلى أقصى حد.
فقالت بثينة: ولماذا تصنع من الخشب؟ - لأنه واق من التقلبات الجوية. بيد أنه من الجائز أن تصنع الخلية مستقبلا من المواد العجينية المقاربة للخشب بل المتفوقة عليه في وقاية النحل من الحرارة والبرودة والرطوبة معا، ويمكن بيع أجزائها ألواحا أو قطعا؛ ليسهل شحنها ثم تركيبها في المنحل، والمقدر أن مثل هذه الخلية قد تكون أصلح للنحال وللنحل وأطول عمرا من الخلية الخشبية. - ولكن العجيب ألا ترتفع إلى أكثر من طابقين أو غرفتين كما تسميهما؟ - ومن قال لك ذلك يا عزيزتي؟ ... إن خلية لانجستروث قابلة للارتفاع أدوارا إبان موسم العسل حسب قوة الطائفة التي تشغلها، وحسب قوة الفيض الذي تجلبه النحل من رحيق الأزهار، وفي المناطق الغنية بالرحيق قد يضطر النحال إلى إضافة الأدوار على خليته حتى لترتفع وترتفع حتى لتستحق أن تنعت حينئذ بالقياس إلى غيرها من الخلايا «بناطحة السماء» “Skysraper”
فلا يبلغ أعلاها إلا بسلم. - وما هي قوة الطائفة التي يمكن أن تنتهي إلى هذه الغاية؟ - سأشرح لك هذا يا عزيزتي في أوانه، فصبرا قليلا، ولنبدأ الآن بفتح إحدى الخلايا العامرة. - لا يا أمين! هذا الدرس يكفيني ولو إلى حين. - حسبتك متشوقة يا عزيزتي ومتسائلة. - ولكنك تريد أن تطرق موضوعا جديدا وستطيل حتما، فلنسترح قليلا. - لن أطيل في شرحي يا صغيرتي المدللة التي تتحدى جلد الرجال، فلماذا إذن كان استعدادنا للعمل، ولبسنا القناع وإشعالنا المدخن؟ - الحق يا أمين أني أغار من معشوقاتك، وهذا ما يثبط همتي وربما أدى إلى هجراني لك.
فاستثارت بثينة ضحكه وذهبا يدا بيد إلى مقعديهما للاستراحة بعد أن خلعا قناعيهما، وهناك تابعت بثينة حديثها: لك أن تضحك يا عزيزي ضحكة الواثق من نفسه ... فأنت تعلم أنك ولدت معلما كما ولدت شاعرا ... - والشعراء يتبعهم الغاوون. - لا أرمي إلى هذا، ولكنك يا شاعري العزيز الذي تترنم بالحب لا تتورع عن المحاضرة الجامعية فتصدمني بها صدما ولا تنثر خلالها شيئا من أزهاره وألحانه. - حسبتك تتململين يا معبودتي. - لو كان عندي مسجل لحوارنا لألزمتك الحجة. - وأخشى أيضا أن أعتاد ذلك في أثناء الدرس فيزل لساني أمام تلميذاتي وتلاميذي في مواقف أخرى. - لا يا أمين، هذه مغالطة شاعر غاو ... إن الحب غذاء روحي، ولكنه الحب الذي عده جورج ساند “George Sand”
تشوق الجانب الأثيري من الروح إلى «المجهول». - وأي نصيب لي في هذا «المجهول»؟ ... لا شيء يا ناقدتي العزيزة، ... إن الحب الذي أومن به هو الذي قال فيه ليبنتز “Leibnitz”
الفيلسوف الألماني الكبير «إنه الشعور بالسرور لسعادة الغير، وإلا فجعل سعادة الغير سعادتك الذاتية» ... وأنا لا آلو جهدا يا بثينة في محاولة إسعادك، فما هو ذنبي بعد ذلك؟ - أراك يا أمين تحمل دعابتي على محل الجد ... ومهما يكن من شيء فسأسامحك هذه المرة، وإياك أن تدع حديثك العلمي مجردا عن روح الفن وإلا أنكرت صدوره عنك ... - سمعا وطاعة يا مولاتي.
وجلسا يتأملان الخضرة الناضرة المنبثة فيها الأزاهير، وينصتان إلى أناشيد النحل أحدهما بأذن صديقة عارفة والأخرى بأذن متوددة مستطلعة.
فقال أمين: إذا كان مايو قد هيأ فيه العمال عيدا لهم، فإن عاملات النحل قد وجدت فيه عيدها. - ونحن أيضا يا أمين قد أحببنا فيه عيدا جديدا هو عيد حبنا المستنير في رعاية أمنا الطبيعة. - تسعدني ملاحظاتك هذه يا بثينة، ولعل هذه الأم الكريمة توحي إليك بعواطف جديدة أكرم وأسخى إلي. - أحسب أني بلغت الغاية يا ناكر الحب. - إن من يتذوق الحب كما تذوقته لا يقنع بما يشرب من خمره ولا يثمل منها ولا يتوقف عن طلب المزيد، ومعلماتي النحل في دأبهن شعارهن مثل شعاري وطموحهن عين طموحي ومثاليتهن رائد مثاليتي ... لولا تأخر الموسم يا بثينة لامتلأت الخلايا الآن بالرحيق، ولكن استمرار المطر والبرد طويلا أخر الربيع فتأخر زهر البرسيم، وأزهاره تمثل المصدر الرئيسي للرحيق في منطقة الإسكندرية، ولولا تأخره لكانت جميع الطوائف مهيأة خلاياها لاستقبال الرحيق الجديد، وعلي الآن أن أقوم بالاستعداد لذلك في حين أني كنت في أعوام سابقة أقوم به في شهر أبريل، وأما في هذا العام فقد اضطررت إلى تغذية النحل بالشراب السكري في الشهرين الماضيين تعويضا عن إمحال المصادر الطبيعية حتى تستعين النحل بهذا الشراب، وبما تجمعه من دقيق الأزهار على تغذية يرقاتها النامية وتغذية أنفسها معا ... - ولكن ألا يوجد الآن في الحقول ما يكفي من الأزهار لإفراز الرحيق وتغذية النحل وإسعاد النحال مع أني أرى اليوم أزهار البرسيم وافرة. - ملاحظاتك سديدة يا بثينة، وأعتقد أننا بعد أسبوع أو عشرة أيام سنشهد بداية فيض العسل، وعلى الأخص بعد أن توقف ري البرسيم بأمر الحكومة في سبيل المقاومة لدودة القطن؛ إذ إن نتيجة ذلك أن أزهار البرسيم التي حرمت أشجارها الري ستتهافت على الفرز الرحيقي لتجتذب الحشرات وفي طليعتها النحل كي تقوم بوظيفة تلقيحها فتنجم عن ذلك البذور التي هي وسيلة التكاثر لهذه النباتات، وهذا من آيات الطبيعة. - ولكن ألا توجد أزهار أخرى مغنية للنحل في هذا الأوان عن أزهار البرسيم ؟ - نعم، توجد أزهار أخرى متعددة كانت أيضا متحلية في الشهر الماضي، ولكنها غير كافية ولا تغني، فلا تمنحنا فيضا رحيقيا، وها هي اللبا والعليق والخلة من الأزهار الريفية البرية الماثلة أمامنا ولكن في قلة نسبية، وبين ما تزهر من الفواكه في هذا الشهر الفراولة وعنب الديب والجوافة والتين الشوكي والعجور والبطيخ والشمام، وبين ما تزهر من الخضر الكوسة والقرع والخيار والرجلة والباميا والخس والبصل والمقدونس والاسبرجس إلى جانب أشجار الزينة ونباتاتها المزهرة كعباد الشمس والزينيا والبرتولاكا أو أرجلة الزهور، وإلى جانب أشجار الظل كاللبخ والكافور والبونسيانا والاستركوليا والحكوراندا ... وما هذه إلا أمثلة من كثير، وما دام الجو مشجعا للنحل على السرح ودافئا منبها للإفراز الرحيقي فلن تجوع النحل في هذا الشهر؛ بل ستستطيع التكاثر بتنبيه ملكتها إلى البيض الوافر وبحسن تغذية يرقاتها وصغارها، وقد تجمع وتخزن الرحيق في اعتدال ما لم تكن الخلايا وسط منطقة غنية غنى ظاهرا بمثل تلك الأزهار. أما الفيض الحقيقي فيعتمد على سخاء البرسيم وعلى تجاوبه مع النحل وإلى جانب الاستعداد بالأقراص الخالية لهذا الفيض لا بد من منع انثيال النحل نتيجة تكاثره البالغ عادة، ولا بد لي إذن يا عزيزتي من الكشف عن جميع الطوائف مرة كل أسبوع، ومن حيث إني لا أملك من الوقت والهمة - رغم مساعدتك المرتقبة يا تلميذتي الغيور - ما يكفي للكشف عن هذه الطوائف في يوم واحد، فلا بد لي من التردد على هذا المنحل ثلاث مرات أسبوعيا إلى أن يزول خطر الانثيال ... وقد عهدت إلى مساعدي بالكشف عن المناحل الأخرى وإن كان لا غنى لنا عن التردد عليها أيضا للإشراف على ما يجري فيها. فهل لنا الآن أن نستأنف العمل؟ - ما رأيك إذا اعتصبت عن العمل؟ لقد أشبعتني يا أستاذي غذاء حلوا بهذا الحديث الشهي، ومثل هذا الغذاء الفكري كالغذاء البدني يورث شيئا من البلادة نتيجة التخمة. - هذه تحية لطيفة منك يا عزيزتي، وإيذان بصمتي. - وهذه تحية أخرى مني مؤذنة لك بالكلام ...
وطبعت بثينة قبلة لطيفة على فمه أشرقت لها أساريره وشجعته فعاد يطالبها باستئناف العمل. - إذن هلمي بنا يا معبودتي لتحية النحل ومحادثتها وتلقي أسرارها ... - أعدك بهذا، ولكن من الغد يا أمين، ولنحضر يوميا إذا شئت حتى تنجز جميع أعمالنا كما نود، أما اليوم فعلينا أن نشغل بمناجاتنا العاطفية، وسأطالع في المساء بعض كتاباتك عن أوليات النحالة حتى أتابع من الغد أحاديثك في يقظة ترضيك. - رضيت أمرك ومعاهدتك، فهل هي مبرمة؟ أم هي من قبيل المعاهدات التي قد تثير الحروب فيما بيننا؟ - هي معاهدة سلام، ولكن أتكره أن تثار الحرب بيننا؟ - الحرب بيننا لم تنته بعد، وإنما نحن في هدنة.
وفي ظلال هذه الهدنة غنما يوما لا تجود به الحياة إلا في رعاية الحب.
الفصل الرابع
كانت بثينة تحاور أمينا ذلك الحوار بدافع من أنوثتها دون وعي لتزيده تعلقا بصحبتها، حينما هي في الوقت ذاته تأبى بعقلها الواعي الحياة الزوجية؛ لأن شخصيتها القوية أو أنانيتها تجانب المسئوليات الزوجية والخضوع لأي رجل، وهي لو أنصفت نشأته وخلقه وثقافته لقدرت أنه لا يمكن أن ينظر إلى شريكة حياته إلا نظرة سمحة مكرمة، وأن معاملته إياها وهي زوجة لا يمكن أن تقل إعزازا لها عن معاملته إياها وهي صديقة حبيبة. فليس الزواج في نظر أمثاله إلا ارتباطا معينا. لكن الأساس العاطفي واحد - ألا وهو الحب الصادق، ولكنها كانت طوع عواملها الوجدانية الدفينة قبل تأملها وتفكيرها؛ بل دون تأملها وتفكيرها ... وكان أمين - وهو لا يعاشرها - يعدها في قرارة نفسه زوجته الوحيدة الدائمة ويهبها كل أحلامه وعواطفه، ويعلق عليها آماله المستقبلة وإن لم يجرؤ على التعبير عنها أمامها من جديد. •••
دفع بثينة إعجابها بأمين وإخلاصها له وتقديرها لرسالته النافعة إلى تنظيم مطالعتها عن النحل فقرأت في تلك الليلة طرفا صالحا من أوليات النحالة استعدادا لزيارتها التالية، وقد أحست في نفسها بأن من الواجب عليها أن تجاري أمينا في جهوده الطيبة - وإن لاحت شاقة عليها ما دام يريد لها الأنس والخير، وما دام يريد لأبناء وطنه الإصلاح والسعادة، وساهم في التأثير عليها تشيعها للحركة النسائية التي تأبى الاعتراف بعجز المرأة عن مجاراة الرجل في جميع الميادين.
فلما صحبته إلى المنحل هذه المرة لم تكن تلبس كبنات جنسها بل صحبته مترجلة، وقد عقدت العزم على العمل في جلد يرضي كبرياءها ويرضي نشاطه الذي لا يكل، وما كادا يدخلان من باب المنحل حتى حام حولهما عدد من النحل ولكن دون أن تمسهما بسوء ... وكادت بثينة تبدي تخوفها ولكنها ضبطت نفسها فلم تخنها شجاعتها، واكتفت بالسؤال: ما بال النحل يا أمين قلقة حولنا؟ - لا قلق يساورها يا عزيزتي، وإنما هي فرحة مرحبة بك. - ولكن النحل معروفة بكدها وتعرف قيمة العمل والوقت، فكيف ترتضي ترك الحقول وإضاعة وقتها سدى؟ - وكيف تتهم بتضييع وقتها سدى وهي تتهافت على رؤيتك يا نور عيني؟! - إذا أنت تشاركها في إضاعة وقتك ووقتي أيضا بمثل هذا الكلام. - هذا الكلام؟ ألم تطالبي يا مهجتي بأزاهير الحب وألحانه على الدوام؟ - لا يا أمين، سأكتفي بتموينك إياي دون محاباة. - كأنما أنا جاحد حق الجمال. - لقد نجحت ونجحت نحلك في إشعاري بقيمة الوقت.
وبقيت هذه النحلات الشاردة تطوف بهما فقال أمين: أرأيت كيف تلحف في دعوتنا إلى فتح خلاياها؟ ... لا تضحكي فأنا لم أفهم لغتها. - لم أقرأ أن للنحل لغة تخاطب بينها وبين الآدميين. - لو كنت قرأت يا بثينتي مؤلفات النحالة في القرن الماضي لكنت وجدت فيها بعض العجب من هذا القبيل! ... فلقد كان يدعي بعض النحالين الخياليين القدرة والسلطان على النحل إلى درجة تنظيمها في عرض عسكري على المنضدة أمام الناظرين المشدوهين، أما العلم الحديث فليست له هذه السيطرة التهريجية على النحل، ولكن له السلطان المنظم النافع الذي يزيد من رفاهية النحل وقوتها ويكسب النحال ثروة من جهده وجهدها. - ومع ذلك فهذه نحلاتك لا تريد أن تتركنا نستريح أو نتكاسل فهلم بنا إلى العمل. - يسرني أن تكوني الآن الحافزة لي. - والمديرة للمنحل؟ - ولم لا؟ لن يمر الموسم إلا وأنت صاحبة السلطان عليه فوق سلطانك علي.
كانت بثينة في البداية تحتاط ضد لسع النحل بلبس قفاز من الجلد ، فأخذ أمين يوضح لها أن لبس القفاز غير جدير بأي نحال فنان فضلا عن نحالة رشيقة مثلها؛ لأنه يعطل المرء عن العمليات الدقيقة، كما أنه غالبا يستثير النحل نظرا لكراهيتها رائحة الجلد، وفوق هذا فلا موجب له ما دامت النحل الشائعة في المنحل غير شرسة، وما دام النحال رفيقا في معاملته لها، وأخيرا ليس لسع النحل في اعتدال ضارا بالإنسان بل هو مفيد في الوقاية من بعض الإصابات الروماتزمية وفي علاجها، حتى إن تحاضير منوعة من سمه أصبحت في متناول الأطباء للحقن تحت الجلد وللدهان في هيئة مراهم فوق المفاصل المريضة، ومهما يكن من شيء فمتى اعتاد المرء لسع النحل اكتسب مناعة ولم يصبه ورم محسوس، وإن كان الورم على أي حال وقتيا وسليم العاقبة.
قالت بثينة: ولكني قرأت عن حالة وفاة نتيجة للسع النحل. - لا يا أستاذتي! هذا نتيجة لفرط الحساسية قبل لسع النحل، وهذه حالة شاذة نادرة جدا، ومن ثمة وجبت معرفة استعداد المرء للعمل في النحالة وتأثره بلسع النحل قبل إقدامه على اقتناء الخلايا والنحل لنفسه، ويجب في كل منحل يرتاده الزوار أن توجد حقن الأدرنالين والكلسيوم لمواجهة الطوارئ. - إني لا أعني هذا يا أمين، وأحسب أني أخطأت في التعبير. حالة الوفاة التي أشرت إليها نشأت على ما أذكر نتيجة لسع عدد كبير من النحل، وقد أصابت فلاحا فمات في يومه اختناقا كما نفقت بقرته. - توجد ضروب من النحل شرسة بفطرتها كالنحل التونسي والنحل القبرصي وبعض سلالات النحل المصري متى كانت طوائفها قوية، وكلا الضربين الأولين لا وجود لهما الآن في مصر، فأغلب ظني أن ما وقع هو أن فلاحا تعرض لثول من النحل متجمع أو عبث بإحدى الخلايا المعمورة فأصابه وأصاب بقرته القريبة منه شر الجزاء ... وعلى كل حال أرجو يا عزيزتي ألا تتصوري أني أتعمد أن أهون عليك لسع النحل دون تدبر لأعرضك للسوء فأنت أعز علي من نفسي.
وقد استجابت بثينة لمشورته فتخلت عن قفازها، وهكذا اكتسبت الثقة بالنفس ورشاقة الحركة في عملها ، وما أشد كراهية النحل لخشونة المعاملة وللجفوة في حركات النحال حينما يفتح الخلية ويتناول الأقراص.
راحت تطوف بانتظام مع أمين بطوائف المنحل، وقد قسما فحصها على ثلاثة أيام، وساعدته بثينة بمطالعتها المنزلية وبروحها الجدية المتوثبة للعمل على الفحص المجدي السريع، فكان يشرح لها ما يستحق الشرح في أثناء العمل ولكن دون إسراف، وقد عودها على كيفية الفتح المنظم، ولقنها كيف أنه لا يجوز للنحال أن يفتح أية خلية مأهولة بالنحل إلا إذا كان له سلفا غرض معين من هذا الفتح. أما الكشف عن النحل لشهوة الكشف فإضاعة للوقت وإساءة للنحل.
وما كان أبهج من منظر بثينة وقد تشجعت على العمل؛ إذ جاء الجو مسعفا وهدوء النحل معينا ودخول الرحيق في الخلايا مطمئنا، وصارت هي الأستاذة النحالة وأمين يساعدها. عرفت كيف تدخن في اعتدال عند باب الخلية، وبعد انتظار برهة (ثلاث دقائق أو نحو ذلك) ترفع الغطاء الخارجي وتضعه على الأرض مقلوبا ومجاورا للخلية، ثم الغطاء الداخلي وتقيمه إلى جانب الخلية، ثم ترفع العاسلة إن كانت موجودة بأقراصها وتضعها فوق الغطاء الخارجي، ثم تأخذ في فحص الأقراص في غرفة التربية.
كانت تبدأ - كما علمها أمين - بفحص الأقراص في أحد جانبي الخلية، وهي الأقراص التي اعتادت النحل أن تختزن فيها العسل ودقيق الأزهار، مخصصة الأقراص التي في الوسط لوضع البيض، ومن هذه الأقراص يتألف العش كما ينعتها النحالون، وكانت تخرج هذه الأقراص واحدا واحدا، وبعد تدبر وإمعان وتأكد من خلوها من الحضنة - أي خلفة النحل - كانت تضعها قائمة خارج الخلية مستندة إلى حائطها الجانبي أو الخلفي بعيدة عن طيران النحل وغير معترضة لعمل أمين أو لعملها، ولما كان فيض العسل قد بدأ والجو الدافئ مستمرا فقد علمها أن تنقل الأقراص العسلية التي في غرفة التربية إلى العاسلة، أي غرفة الغسل، لتشجع النحل على الصعود إليها، وتنقل محلها الأقراص الفارغة التي في العاسلة، وبذلك تشجع الملكة على البيض وتوسع العش، وكان للملكة هذه ولرعاياها حديث طويل بينهما قبل أن تنهمك بثينة هذا الانهماك في الإجراءات العملية لإنتاج العسل.
كان حديثا خلابا ساحرا سحرها أي سحر، فإن كل وصف قرأته لم يكن ليقارن بما شاهدته بعينيها ولمسته بيديها وأحسته بنفسها من مظاهر هذه الحشرة الجميلة وتكوينها وتصرفاتها حتى كانت بثينة تقف الوقفات الطويلة مع أمين دون كلال أو ملل، وكادت تنسى أو تهمل طعامها وشرابها وقد أصيبت بما يسميه الهواة «حمى النحل»، وليس هذا فحسب، فقد اكتشفت نفسها - كما يقال - وأحست بشخصية جديدة وبعالم جديد، وشعرت بأنها أضاعت أعواما من حياتها في قشور حسبتها لب الجمال وروح الطبيعة، في حين أنها كانت في الواقع غير ممتزجة بها وبعيدة عن صميمها ... وها هي ذي الآن مندمجة فيها أي اندماج حتى لتكاد تحس في تحمسها أنها من أسرة النحل، وأنها عاملة من العاملات ... - لا، بل أنت أغلى ملكاتي يا بثينة.
الفصل الخامس
فيم إذن كانت تلك الدروس الأولى، وما هي عجائبها وطرائفها التي أثرت في نفسها ذلك التأثير البالغ؟
قال أمين، معرفا بسكان الخلية أو بالشعب المكدود كما نعت بنات هذه المملكة: انظري يا بثينة إلى باب هذه الخلية وحدثيني عما تلاحظينه على النحل. - وددت لو حدثتني أنت أولا. - سمعا وطاعة ولو إلى حين. - إذن دعني أسألك: لماذا يقف بعض النحل هكذا متجها إلى باب الخلية برءوسه ومثبتا أرجله حيث يقف ومروحا بأجنحته في قوة هكذا؟ وما هي هذه النحل الغادية الرائحة فيما بين صفي النحل المروحة؟ - أحسنت يا عزيزتي، لقد سألت وأجبت في آن واحد، إن هذه النحل المروحة يا بثينة تؤدي وظيفة هامة ألا وهي تهوية الخلية لضبط درجة الحرارة والرطوبة فيها، وعلى الأخص درجة الحرارة، وذلك بتشجيع التبخر وتلطيف الهواء داخل الخلية، وهكذا قلما تزيد درجة الحرارة في الخلية، وعلى الأخص وسط «العش» حيث تكون الخلية على درجة 37 بمقياس سنتجراد، أو ما يقارب درجة حرارة الإنسان، بل إن استمرار هذه الحرارة العالية نسبيا قد يقتل الحضنة، فإذا زادت درجة حرارة الجو على ذلك استعانت النحل بالتهوية على تخفيضها وإلا تعرضت الأقراص الشمعية للذوبان فيموت النحل غرقا في العسل السائل منها كما تموت الحضنة، وإن النحل بتهويتها هذه لتحدث تيارا شديدا من الهواء - إذا ما كثر عدد النحل المهوية - كفيلا بإطفاء شمعة موقدة أمام باب الخلية، بل لقد عرف أن حريقا أصاب حائطا جانبيا من خلية دون أن يذيب أقراصها وذلك بفضل سيطرة النحل على درجة حرارة الخلية، وتلاحظين يا بثينة أن هذه النحل المروحة تقف خلف بعضها البعض في نظام تاركة مجالا ما بين صفوفها الطويلة لتمر منها النحل السارحة رائحة غادية. - ولكنك لم تحدثني يا أمين عن درجة حرارة النحلة ذاتها، وعن العوامل التي تؤلف حرارة الخلية. هل النحلة مثلا باردة الدم كحضرتي أو دافئة الدم مثلك؟ وإذا كانت مثلي فما الذي يدفئها؟ هل تباح في الخلية أمثال مغازلاتك لتدفئة النحل أم هي تحت رحمة الجو؟ - الحقيقة يا بثينة أنك أصبحت مطلعة ماكرة، وإني أمامك أجتاز امتحانا عسيرا، ولعلك تعتمدين هنا على حماية بنات جنسك أو على رعاياك ... اسمعي يا سكرتي: النحلة في الواقع لا تملك وسيلة أو جهازا لتكوين حرارة منتظمة لجسمها، كما أنها من ضروب الكائنات الباردة الدم، ولكنها إذا هبطت حرارتها إلى درجة 7 س. باتت حياتها في خطر، ولكي تحقق النحل تلك الحرارة العالية نسبيا داخل الخلية، تعتمد على حيلتين: فإذا ارتفعت حرارة الجو عمدت إلى التهوية كما رأيت، أما إذا هبطت درجتها فإن النحل تعتمد على الحركات العضلية - وعلى الأخص بتحريك عضلات أجنحتها تحريكا هادئا - وعلى تفاعل أجسامها الحيوي من التغذية؛ لتوكيد الحرارة الإضافية اللازمة، وإذا ما هبطت درجة حرارة النحل إلى 14 س كونت النحل لمة ليدفئ بعضها بعضا بهذا التجمع الشديد على الأقراص الوسطى في المعتاد دفعا لبرودة الجو، حتى إذا ما عادت حرارة الجو إلى الارتفاع انحلت اللمة وبدأت النحل تطير وتسرح لجلب حاجتها من الماء والرحيق والعكبر - أي دقيق الأزهار أو حبوب اللقاح كما تسمى - ولا بد لهذا النشاط من حرارة عامة في الخلية لا تقل درجتها في المعتاد عن 21 س، ولكن الملكة لا تبيض في حرارة تقل درجتها عن 34 س في عيون الأقراص، وسأريك النحل في خلية الرصد الزجاجية وهي مشغولة بفرز الشمع من غدد خاصة في بطنها لبناء الأقراص، وهي في هذه الحالة تحتاج إلى درجة حرارة في محيطها لا تقل عن 37 س، ولكن استمرار هذه الحرارة، أو ما هي أعلى منها، قد يؤدي بالحضنة كما أخبرتك من قبل، وعندما يتكاثر النحل وينثال من الخلية تكون درجة الحرارة فيها عامة زهاء 35 س، وقد ترتفع الحرارة إلى درجة 40 س إذا ما حدث اضطراب داخل الخلية يزيد من حيوية النحل وحركاتها، ولذلك أوصي تلاميذي بتحاشي كل الأسباب التي ينتج عنها اضطراب النحل، ويجب أن يكون ديدنهم دائما الهدوء واللطف في معاملة النحل على اعتبار أنها شخصيات صديقة لها حياة تصان وكرامة تراعى ووفاء يؤدى. أما الطامة الكبرى التي تصيب الخلية، أو على الأصح سكانها ومتاعهم نتيجة الحراة العالية، فمن التعرض لأشعة الشمس المباشرة في جو حار إذا ما ترك النحال باب الخلية ضيقا وعاق النحل عن أداء واجب التهوية وكانت قوة النحل المروحة غير وافية، ولذلك يجب على النحال أن يحتاط ضد هذا الخطر بتظليل المنحل ورشه بالماء إذا تيسر ذلك، وبتمكين النحل من حسن تهوية الخلية وإلا ارتفعت درجة الحرارة إلى نحو 60 س، وحينئذ تسقط الأقراص ويسيح العسل ويغرق النحل وتتلف الحضنة فيصيب الطائفة البوار. - يظهر يا أمين أنك تعمل سرا في مصلحة الطبيعيات وتحسبني مرشحة للتوظف فيها حتى صرت تهاجمني بدرجات الحرارة هذه ما بين هبوط وصعود وهكذا. - لا صعوبة يا مولاتي في بياني المجمل، وأنت التي شجعتني على التسلسل في هذا الموضوع، وعلى كل حال أعتذر إليك إذا كنت ضايقتك. - وهل هكذا يكون الحزم مع تلميذتك؟ ألم تقرأ كتاب “Good Bye Mr Chipps”
أو لعلك شاهدت هذا الفيلم البديع ورأيت كيف ينبغي أن يكون المعلم الناجح مع تلاميذه؟ - ألم أقل إنك أصبحت ماكرة يا بثينتي، وقد أصبحت في حيرة ما بين جدك ودعابتك وسخطك ورضاك؟ - وكيف أسخط عليك يا أستاذي العزيز المحبوب؟ وهل يمكن أن تصدق أني أسأم من حوارك أو حديثك؟ أو لعلك تريد أن تتهرب من السؤال الذي أود أن أطرحه عليك في نفس هذا الموضوع؟ - وما هو يا فاتنتي؟ - قرأت أن النحل قد تطير حتى ولو كانت درجة حرارة الجو 7 س إذا استثارها الضوء في الخارج إبان الشتاء، في حين أنك تقول: إن حياة النحل في خطر إذا هبطت درجة الحرارة الجوية إلى هذا الحد. فكيف تفسر هذا التناقض؟ - المسألة بسيطة: عند ما تكون درجة حرارة الجو 7 س، أو حتى أقل من ذلك، لن تكون درجة الحرارة وسط لمة النحل أقل من 14 س. فإذا طار بعض النحل من الخلية بتأثير استهواء الأشعة في الخارج فإنه يتعرض للخطر ما لم يكن طيرانه في أشعة الشمس ولبرهة قصيرة، ولذلك يوصى في الممالك الباردة الجو بتظليل أبواب الخلايا في الشتاء حتى لا تشجع النحل على الخروج بتأثير أشعة الشمس إذا كان الجو غير مأمون. - وكيف تكون التشتية في المناطق الشديدة البرودة والمغمورة بالثلج؟ - إذا سمحت يا تلميذتي النجيبة بل يا أستاذتي المتبحرة فلنترك هذا البحث إلى حينه، ولنأخذ بما هو معجل بحثه اليوم بيننا ... - نصحتك الحزم في معاملتي، فما علي إلا أن أقول: سمعا وطاعة.
وراح أمين بمعاونتها يفتح الخلايا الواحدة تلو الأخرى، ويقيد المذكرات عن كل منها في بطاقة أثبتها من الداخل في غطاء الخلية الخارجي، وقد ذكر على البطاقة رقم الخلية وصنف النحل وقوة الطائفة وحالتها من جميع الوجوه في عبارات مقتضبة أو في حروف أو إشارات رمزية، ولم يكتف بهذا بل كان يكتب بالطباشير - (وقد انتهى موسم المطر) - بحروف رمزية على واجهة الخلايا ما يعتبره هاما من ملاحظات توجيهية، حتى إنه كان يباهي بأنه في نظرة جائلة يستطيع أن يقدر ما عليه أن يعمله في المنحل وحالة المنحل إجمالا.
قال في أحد دروسه الأولى مستكملا تعريفه بسكان الخلية: هذه الملكة صبية يا بثينة، فهل تعرفين لماذا أحكم هذا الحكم؟ - لأنك سرقت نظرة إلى بطاقة الخلية؟ - كلا يا جاسوستي الحسناء، هذا متروك لك. - ربما لأن وجهها ليست عليه تجاعيد الشيخوخة التي على وجهي. - مع اعترافي بذلك، فليس هذا هو السبب الرئيسي، وإذن فلأخبرك قبل أن تغلبيني، انظري أولا إلى نشاط الملكة في وضع البيض، فإنه والحضنة الناشئة عنه قد ملأت جميع أقراص غرفة التربية اللهم إلا مساحات قليلة في شكل الأهلة وفي أعلى الأقراص اختصها النحل بخزن العسل فيها، وفي المعتاد لن تستطيع ملكة أن تبيض بهذه القدرة إلا في عنفوان شبابها، وزيادة على ذلك انظري إلى تكوين جسمها في صحة وامتلاء وعلى الأخص بطنها الذي يحتوي المبايض، وانظري إلى نضرتها وإلى زغبها الذي لم تنل منه الأيام، وتأملي ألوانها الطبيعية التي لم تغبر ولم تقتم خلافا لحال الملكات العجائز ... إن الملكة يا بثينة هي مركز الحياة في الخلية، هي الأنثى الكاملة، هي الأم، وجميع النحل التي في الخلية خلفتها المتطورة من البيض إلى الحشرة الكاملة، ولا توجد للطائفة الواحدة في المعتاد وفي حالتها الطبيعية سوى ملكة واحدة، فيهمنا جدا أن تكون معرفتنا بها وافية. الملكة يا عزيزتي ليست حاكمة بالمعنى المفهوم وليست زوجة ملك ولا بنت ملك، وأليق ما تنعت به هو أنها «الأم» وحسبها ذلك تعظيما ... انظري كيف تتخطر على القرص والنحل تحف بها في مثل الهالة حول القمر متجهة برءوسها نحو تغذيها إذا ما طلبت الغذاء، وتلمسها في رفق وحنان بمشاعرها، ولو كان هذا اللمس حثا على العمل فهو حث رشيق جميل قد يحرمه كثيرون من الآدميين، من الجنس اللطيف ... - أهذا تعريض بي؟ - معاذ الله، ونحن في هدنة يا بثينتي ... بل لماذا لا أعترف أنه بفضل صحبتك صار المنحل أبهج في عيني في هذا الموسم وطاب لي العمل فيه ...؟ ولكن لنعد إلى ملكتنا فليس من اللائق في حضرتها أن ننصرف عن جلالتها إلى التحدث عن عواطفنا ... لاحظي كيف أني أحمل الإطار أفقيا تقريبا حتى لا يتأثر القرص من ثقل محتوياته إذا ما حملته عرضيا فيتشقق أو يسقط بعضه، وهذا جائز في الجو الحار وعلى الأخص إذا لم يكن القرص مثبتا جيدا في سلك الإطار لوقايته، ولاحظي كيف أني حريص على حمل القرص فوق غرفة التربية بحيث لو سقطت الملكة عفوا نزلت إلى داخل الغرفة ولم تقع على العشب أو على الثرى خارج الخلية فتتعرض للضياع. - وكيف تتعرض للضياع ولها أجنحتها؟ - ربما استطاعت أن تطير وتعود إلى خليتها، وربما تعلقت بإحدى أرجل الخلية أو بأحد الأعشاب، وقد يتعرف إليها بعض النحل بفضل رائحتها المتميزة فيلتف حولها وينبه النحال إليها، ولكن الغالب أنها تنزوي وتعجز عن الطيران بسبب ثقل جسمها نتيجة نشاط مبايضها وازدحامها بالبيض مما يدل عليه كبر بطنها، وهكذا يخسرها النحال وتخسرها الطائفة التي تحار في البحث عنها زمنا قبل أن تبدأ في تربية غيرها وهي كسيرة النفس مبلبلة الخاطر، ودفعا لهذه النكبة أحتاط في الفحص كما أعلم الملكة. - وما هي الدروس التي تعلمها الملكة؟ أهي من نوع دروسي؟ وبأية لغة تتخاطبان؟ وما هي مراسيم التخاطب مع جلالتها؟ - لا يا حبيبتي، إن ما أعنيه هو أن أجعل لها أمارة ألصقها خلف صدرها لتعرف بها، وإني أستعمل لذلك جهازا خاصا سأمرنك على استعماله، وها أنت ترينها مميزة بدائرة حمراء صغيرة من الورق الزاهي المتألق فلا يشق علي اكتشافها من بين آلاف العاملات، ومع هذا الجهاز ألوان شتى من الورق أخصص كل لون لسنة معينة، وهكذا أعرف أيضا عمر الملكة عند مشاهدتها، وسأعمم استعماله إذا فاتني تعليم بعض الملكات، فليس من الحكمة الإغضاء عن ذلك فإن التعب اليسير في تعليم الملكة يوفر تعبا كبيرا في البحث عنها، ولو أن النحال الخبير اليقظ لا يشق عليه الاهتداء إليها وسط الأقراص التي تكون العش إذا ما كانت هذه الأقراص في غرفة واحدة، أما إذا اتسع العش وشمل غرفتين واضطربت الطائفة لأمر ما في أثناء الفحص فمعنى ذلك البحث عن الملكة وسط آلاف من النحل الأخرى، وقد تكون على اللوح الأرضي للخلية أو على أحد جوانبها، وقد لا تسمح حالة الجو أو المراعي أو ظروف المنحل بإطالة الفتح فتتعرض الملكة للأذى من جراء ذلك وفي غير موجب ، في حين أن تعليمها بذلك الورق الملون أو بصقال ملون سريع الجفاف حماية لها وعون للنحال على الاهتداء إليها وصيانتها. - ولكن ألا يسيء إلى صحتها لصق ذلك الورق أو ذلك الدهان الملون؟ - كلا؛ لأن ذلك الموضع السطحي من ظهرها خال من أي جهاز حيوي، وما دمت قد سألت هذا السؤال فيجب ألا يفوتني تنبيهك إلى أن النحل تكره الروائح الحادة في العطور والطلاء وما إلى ذلك؛ لأنها تهيج شعبها النفسية، ولذلك ينبغي عند تعليم الملكة بالصقال أن يجري ذلك باحتراس، وأن تراقب حتى يجف الصقال وتمنع النحل من التعرض لها بالأذى؛ إذ قد يختلط عليها الأمر تحت تأثير حاسة الشم فتحسب هذه الملكة المعلمة غريبة عنها لتغلب رائحة الصقال على الرائحة الطبيعية للملكة، ولكن هذه مسألة لحظات فحسب ... ولنعد الآن إلى موضوعنا الأصلي: إذا كانت الملكة غير متوجة وغير مملكة بالمعنى العرفي فهي مع ذلك معززة مدللة مكرمة حتى ولو أرهقتها النحل بالعمل. إنها بمثابة آلة للبيض، ومع ذلك فالنحل بغريزتها تقدر أنها روح الطائفة وسر مناعتها وعزها، ولذلك تحرص عليها أشد الحرص، ويهمها أن تكون دائما على أتم صحة وأوفى مقدرة لخير المجموع. فإذا ما تخلت عنها في يوم ما واستبدلتها طواعية بسواها فذلك تحت تأثير هذا الدافع، وهو وضع مصلحة المجموع فوق مصلحة الفرد مهما كانت منزلته، وتضحية الفرد عند الحاجة لرفاهية المجموع. فالنظام الأساسي لمملكة النحل لا يقوم على رعاية الفرد وإنما يقوم على رعاية المجموع، وليست الملكة بمستثناة من أحكام هذا النظام الصارم! ... انظري يا بثينة إلى قوامها المنسجم أبدع انسجام، وإلى مشيتها التي كأنما تنم عن اعتزازها بذاتها، وإلى شخصيتها التي تتعلق بها آمال أمة بأسرها كل فرد من أفرادها مدين لها بالوجود، وإلى رونقها الذي تنفرد به فوق جلالتها. إنها في شكلها وحجمها ولونها متميزة متفردة لأي عين. ليس يغطيها الزغب كما يغطي العاملة أو الذكر ولكن ذلك لا ينقصها، ولها من اللون الخاص الضارب إلى الحمرة الذهبية أو السمرة الحبشية أو الصبغة البرونزية ما يكسبها جاذبية خاصة إلى جانب طولها وقصر أجنحتها نسبيا، وليس للملكة من رسالة في حياتها إلا الإكثار من النوع وهي رسالة مقدسة في قانون الطبيعة تهب حياتها لها هبة كاملة إلى أن يدركها الإعياء أو الفناء، وهذا شأن النحل جميعا حتى الذكور التي يضرب بها المثل في الكسل فإنها على العكس تدأب دائما باحثة عن الملكات العذارى، وليس ذنب الذكور أن الطبيعة أسرفت في خلقها احتياطا وضمانا حتى لا تبقى ملكات عذارى في حاجة إلى تلقيح وحتى لا تتعطل رسالة التكاثر ... إن الحديث عن الملكة وعن سحرها للنحل والنحال حديث طويل محبب، فلنقفل هذه الخلية وقد فرغنا من فحصها - حتى لا نطيل عطلة النحل، ولنفحص غيرها، وسأكمل لك حديثي عندها عن صاحبة الجلالة.
ويفتح أمين خلية أخرى، وتساعده بثينة على رفع الأقراص العسلية - ولم تكن كثيرة - إلى الطابق الأعلى، أي إلى العاسلة وإنزال أقراص خالية من العاسلة إلى غرفة التربية محلها موزعة بين أقراص الحضنة؛ لتنتفع بها الملكة في وضع بيضها الجديد، وفي هذه المرة اكتشفت بثينة الملكة ولم تكن معلمة، ولكنها لاحظت أن لونها برتقالي ذهبي فاتح، فقال لها أمين: إن لون الملكات يختلف حسب ضروب النحل، فمثلا الملكات المصرية برونزية اللون مع شيء من الحمرة، والملكات الإيطالية تختلف من اللون الذهبي البرتقالي الذي ترينه إلى لون الجلد الأصفر البني، والملكات الكرينولية والقوقاسية سمراء حبشية اللون، والملكات التونسية زنجية أبنوسية ... وهكذا تتعدد الظلال والألوان حسب ضروب النحل، وربما اختلف اللون في سلالات الضرب الواحد، وسندرس كل هذا معا في فرصة أخرى. - هذه اعتبارات لذيذة؛ إذ يخيل إلي أنها تساعد على معرفة صنوف النحل والتمييز بينها تمييزا عاما. - هذا صحيح، ولن يفوتني بحثه معك، وأما الآن فيهمني أن أبث في ذهنك الحقائق الإضافية الهامة التي تخص الملكة ... يهمني أن تعلمي أن قدرة الملكة على وضع البيض تترتب بعد ميراثها الحيوي - وأعني به صنفها وسلالتها - وبعد سنها وصحتها وقوة الطائفة وحالتها الاقتصادية، تترتب على مقدار التغذية الذي تناله من وصيفاتها ، أي من النحل العاملات الملتفة حولها والملتفتة إلى رعايتها، وقد تضع الملكة بانتظام مدة غير قصيرة إبان الموسم (في ثلاثة أو أربعة أسابيع) ثلاثة آلاف بيضعة في اليوم، وقد يصعد هذا الرقم لدى الملكات الممتازة إلى خمسة آلاف بيضة يوميا، وقد شوهدت ملكات تبيض ست بيضات في الدقيقة أي حوالي 7200 بيضة يوميا، ولكن هذا الإسراف في البيض لا يطول، ويكفينا أن تبيض الملكة يوميا ألفي بيضة في عز الموسم؛ إذ معنى ذلك في النهاية تكوين طائفة لا تقل في قوتها عن 84000 نحلة على اعتبار أن متوسط حياة النحلة في موسم العمل ستة أسابيع، وهذه القوة تكفي لملء طابقين من الخلية بالنحل، فإن عدد النحل الذي يغطي القرص يتراوح ما بين أربعة آلاف وخمسة آلاف نحلة. والواقع أن الملكة إذا كانت منتظمة الوضع لألفي بيضة في اليوم تحتاج إلى جمع أقراص في غرفة التربية مخصصة لها، وهكذا يجب على النحال ألا يترك أقراصا من الغذاء في غرفة التربية، والملكة بعد خروجها من بيتها الشمعي تبقى في الخلية بضعة أيام في المعتاد، ولا تغادرها طائرة للتلقيح إلا وسنها من خمسة إلى ثمانية أيام، بشرط أن يكون الجو صالحا مشجعا على طيرانها (درجة الحرارة في الظل 16 س)، لأنها وهي أثمن عامل في طائفة النحل تأبى عليها الطبيعة أية مجازفة. - ولماذا لا يكون التلقيح داخل الخلية؟ - الظاهر أن هذا احتياط أرادت به الطبيعة ألا يظفر بالملكة سوى القوي الجريء من الذكور، وهذا ما يؤدي إلى تحسين النوع؛ إذ يطاردها الذكور في أثناء طيرانها إلى أن يظفر بها أحدهم، ثم يموت بعد تلقيحها! - ولكن ألا يجوز أن يقع هذا مصادفة؟ - نعم، هذا جائز، ولكنه نادر، والنادر لا يقاس عليه. - وماذا يحدث لو أن الجو كان غير مسعف - كما يحدث في الخريف أو في الربيع المبكر - وبقيت الملكة حبيسة في خليتها أسابيع؟ - في المعتاد لا تتلقح الملكة تلقيحا كاملا منتجا إذا مرت عليها ثلاثة أسابيع دون أن تخرج للتلقيح، ولو أني أعرف حالات شاذة ناجحة تخالف هذه القاعدة. هذا، ومتى تلقحت الملكة استراحت يومين في الخلية ثم تبدأ بعد ذلك في البيض، وربما بدأت تبيض بعد مرور 36 ساعة من وقت تلقيحها، كما أنه من الجائز أن تؤجل بيضها إذا كان الجو باردا بضعة أيام بل وأسابيع كما يحدث للملكة التي تلقح في أواخر الخريف ثم يقبل الجو البارد قبل أن تبدأ البيض فهي تبقى معطلة حتى اعتدال الجو، ويصح أن نقول إجمالا إنه في الظروف الجوية المعتدلة تبيض الملكة بعد مرور 7-10 أيام من حين ولادتها أي من وقت خروجها من بيتها الشمعي، والبيض الذي تضعه الملكة صنفان: ملقح وغير ملقح، وهي تعتمد على سائل التلقيح الذي تختزنه في بطنها للانتفاع به في تلقيح البيض الذي تضعه إذا شاءت أن يكون ملقحا ... وقد يبدو لك هذا التعبير غريبا، ولكنه يصور الحقيقة: فالملكة قبل أن تبيض تتطلع إلى العين السداسية الخالية أمامها في القرص فإذا كانت كبيرة الحجم خاصة بتربية الذكور وضعت فيها بيضة غير ملقحة، وأما إذا كانت العين صغيرة الحجم فإنها تضع فيها بيضة ملقحة تنشأ عنها في النهاية نحلة عاملة، وتتلقح البيضة في أثناء خروجها من جهاز الملكة التناسلي طوع إرادة الملكة؛ إذ تعرض البيضة لتأثير أحد الحيوانات المنوية من سائل التلقيح المختزن في جسمها، وهكذا ترين أن ذكر النحل لا أب له، ويسمي علماء الحياة هذا النوع من التناسل «التناسل العذري»، وهناك ظاهرة عجيبة أخرى وهي أن النحلة العاملة (أو الخنثى) والملكة (أو الأنثى الكاملة) كلتاهما أصلها بيضة ملقحة دون تمييز، وإنما التمييز يحدث فيما بعد بتغذية اليرقة أي الدودة التي تفقس من البيضة تغذية سخية بواسطة تراضع النحل إذا شاءت النحل أن تربي منها ملكة، ولن يفوتني أن أشرح لك كل هذا عمليا شرحا وافيا في حينه. - لا أدري ما هو الأعجب فيما ذكرته يا أمين: أهو خصوبة الملكة إلى هذه الدرجة المدهشة حتى إني لأحار في وزن البيض الذي تضعه يوميا بالنسبة إلى وزن جسمها؟ أم هو قدرتها على التمييز بين عيون الأقراص وتكييف صنف البيض الذي تريد وضعه؟ أم هو نشوء الذكور بطريقة التوالد العذري؟ أم هو هذه الطريقة الفذة في التلقيح؟ أم هو كيفية تحويل اليرقة الناشئة من البيضة الملحقة إلى ملكة أو إلى عاملة حسب رغبة العاملات اعتمادا على التغذية وحدها؟ سبحان ربي المبدع الحكيم، لقد طالعت شيئا عن كل هذا اتباعا لمشورتك، ولكن شرحك زادني متعة وجسم لي ما قرأت. - هذا وسام جديد أضمه إلى أوسمتك اللامعة. - ثق يا أمين بأني أصدقك الشكر، وكنت أتمنى اجتذاب بعض صديقاتي لحضور هذه الدروس العملية؛ إذ أرجو ألا يستمر الاهتمام بالنحالة مقصورا في مصر على الرجال. - إن العناية بالنحالة بل وبكثير من الصناعات الزراعية الأخرى مشاعة بين النساء والرجال في الولايات المتحدة، وفي مصر فسحة عظيمة لهذه الشركة بين الشطرين لو أنصف الرواد المصلحون، وفي الحركة التعاونية وسيلة قويمة لتحقيق هذه الأمنية لو خلصت الحركة التعاونية ... ولكن لنعد إلى تكملة حديثنا عن صاحبة الجلالة: لقد تساءلت حائرة عن وزن البيض الذي تضعه الملكة يوميا بالنسبة إلى جسمها، فاعلمي يا مهجتي أن وزن ما تبيضه الملكة يوميا كثيرا ما يتجاوز وزن جسمها نفسه، وهذه حالة تدعو حقا إلى العجب؛ لأنها تدل على سرعة غريبة في الاستحالة الغذائية، وهي تفسر لك حاجة الملكة إلى التغذية السخية المتتابعة بألسنة الوصيفات المحيطات بها. - لي سؤال علمي يا أمين وقد يبدو شاذا: لقد قرأت عن التلقيح الاصطناعي بين الفصائل المختارة من الحيوانات بل وبين الآدميين، فما الذي يحول دون ذلك بين النحل؟ - لا حائل يا عزيزتي، وهذه عملية تجرى في حالات معينة لخلق ضرب معين أو سلالة خاصة من النحل وقد تجرى ميكروسكوبيا كما فعل الدكتور وطسن بالولايات المتحدة منذ سنة 1927، ولكنها عملية غير ميسرة لجمهرة النحالين ونتائجها غير مضمونة في المعتاد ضمان التلقيح الطبيعي. - هذا تقدم مدهش في تربية النحل. - ستنسيني أسئلتك الذكية تكملة حديثي عن الملكة، ولو أنه لن يكون ختام ما يقال عنها فإن دراستها متعددة الجوانب وستتاح لنا مناسبات شتى لهذه الدراسة المنوعة. فلنقفل هذه الخلية، ولننتقل إلى «خلية الرصد» القائمة على المنضدة هناك؛ لنراقب الملكة وعاملاتها وما فيها من ذكور في هدوء واطمئنان. •••
وعلى تلك المنضدة في جانب من المنحل قامت خلية مصنوعة من الخشب والزجاج تحتوي قرصين أحدهما فوق الآخر ومفصولا عنه مسافة حركة النحلة، وعلى جانبي كل منهما حائط زجاجي يغطيه لوح من الخشب المبطن بالجوخ قابل للتثبيت والرفع، ولها باب يمكن قفله وفتحه، ولها فتحة عليا في الغطاء الأعلى ذات ثقوب صغيرة صالحة لتغذية النحل، كما أنها تساعد على تهوية هذه الخلية وإن كان قد أقام فوقها مظلة دفعا لحرارة الشمس، وبالإجمال كانت هذه الخلية الصغيرة الجميلة المصنوعة من خشب التيك المتين ومن الزجاج البلوري الصافي أصلح ما تكون للرصد، أي للمشاهدة الطويلة لتصرفات الملكة ونحلها في كل شيء دون أي حجاب، وهي مما يستعان به على الدراسة عند استقرار الجو وتعميرها بالنحل كما أنها من أصلح الوسائل لتعليم النحلة في المدارس، فاتخذها أمين وسيلة محببة لبثينة للمشاهدة المبدئية وللدرس الأولي، وثمة وضعا كرسيين إلى جانب المنضدة وجلسا يرقبان ما يجري داخل الخلية، وقد سمح الجو المعتدل البديع برفع الأغطية الجانبية، فقال أمين مشيرا إلى الملكة وقد تجلت بعلامتها وسط القرص الأسفل: ها هي ذي الملكة يا بثينة فلننظر إلى تكوينها الجسماني نظرة أدق، وها هي ذي معي نماذج من ملكات ميتة محفوظة يمكننا أن نتأملها أيضا مستعينين بعدستي المكبرة.
قال ذلك وأخرج من جيبه علبة خشبية صغيرة ذات غطاء زجاجي حفظت فيها بضع ملكات مرشوقة على دبابيس ... فتأملتها بثينة معجبة بألوانها المختلفة وبأشكالها التي لا تباين الوصف العام الذي ذكره أمين، إلا واحدة بينها كانت صغيرة الجسم نسبيا فسألته عنها. - هذه يا بثينة ملكة عذراء وهذا سبب ضآلتها النسبية، فكبر حجم الملكة الملقحة يرجع إلى كبر بطنها بسبب نشاط مبايضها وازدحامها بالبيض، ولو أن بعض الملكات العذارى قد تكون أكبر حجما ... فلنتأمل الآن تكوين هذه الملكة البديعة التي تطالعنا في «خلية الرصد» ولنقارن بين تكوينها وتكوين العاملة ثم بينهما وبين الذكر، وهذه فرصة أيضا لمشاهدة بناء القرص على الأساس الشمعي داخل الإطار كما ترين في الدور الأعلى من هذه الخلية. تأملي في هذه الملكة الحية، وتأملي كذلك في هذه النماذج المحفوظة للملكات، وطبقي ملاحظاتي ووصفي عليها، وعندما ندرس العاملة وذكر النحل - أو اليمخور كما يسمى أحيانا - فأمامنا نماذج حية وميتة كثيرة في المنحل فلن تشق علينا المقابلة بينها ... إن الملكة من الوجهة التشريحية الظاهرة تتميز - كما ترين وكما لاحظنا من قبل - بكبر حجمها وطول بطنها الذي ينبغي في الملكة الجيدة أن يكون إلى جانب طوله عميق المظهر، لا عريضا ومسطحا، أو قصيرا غير منساب إلى طرف، وصورة الملكة إجمالا أنها أطول جسما وأرفع شكلا من كل من العاملة والذكر، ومعظم هيكلها خارجي لا داخلي - شأنها في ذلك شأن بقية الحشرات - خلافا لحال المخلوقات ذوات الأثداء فهيكلها داخلي، وهو في النحلة مؤلف من درعة أو خيتين وهي مادة قابلة للتشكل في صور شتى، فمنها مادة القرنية الشفافة التي تغطي عيون الحشرات، كما أن منها المادة الواقية التي تغطي أجسام الحشرات وتقيها، وتختلف ما بين الصلابة والليونة وما بين الكثافة والرقة حسب موضعها ووظيفة العضو الذي تغطيه، ويغطي هذا الهيكل الخارجي شعر دقيق أو زغب مزود بأعصاب تنقل الإحساس؛ لأن الهيكل ذاته غير حساس، كما أنه بمثابة كساء واق من التقلبات الجوية إلى حد ما، وبعض هذا الزغب يساعد على تنظيف جسم النحلة، أي أنه بمثابة فرشاة. كما أن بعض هذا الزغب يكون مستقيما وصلبا متينا كما هو الحال فوق العيون لوقايتها، وغيره شبكي الوضع - وسنرى ذلك في النحلة العاملة - ليساعد على حمل الطلع أو دقيق الأزهار في السلة المخصصة له في الأرجل الخلفية، وبعضه يعاون في قبض الأشياء أو في منع الحركة السريعة إلى غير ذلك من الفوائد، ولجسم الملكة كما لجسم أية نحلة أخرى ثلاثة أقسام مستقلة: الرأس والصدر والبطن، وها نحن نرى في الرأس في كل جانب عينا مركبة، كما أننا نشاهد بالعدسة المكبرة بل حتى بالعين المجردة - إذا دققنا النظر - مثلثا بينهما فيما يصح أن نسميه الجبهة وقاعدته إلى أعلى، وفي زوايا هذا المثلث الصغير ثلاث عيون بسيطة، وكذلك نرى المشعرين أو القرنين (وهما من الزوائد المفصلية الحساسة) ناشئين من الجبهة فيما بين العينين المركبتين، كما نرى أعضاء الفم تحت هذين القرنين.
وفائدة العينين المركبتين المشاهدة البعيدة، فبهما تستعين الملكة (كما تستعين العاملة والذكر) على الطيران، وتقدير المعالم التي في المنحل وخارجه؛ لتجول جولتها ولتعود إلى خليتها سالمة. وأما فائدة العيون البسيطة: فالمشاهدة عن كثب كما يقع داخل الخلية مثلا وفي تأملات النحل القريبة. - ولكن إذا كانت الملكة لا تطير في حياتها إلا للتلقيح أو للهجرة مع جانب من طائفتها أي مرة أو مرتين في المعتاد، فما حاجتها إلى كل هذه العيون؟ - يسرني يا عزيزتي، ألا تدعيني أسترسل في الحديث، وأن تحلي الكلام من آن إلى آخر بمثل هذا السؤال المنبه؟ - أتعني أنه سؤال تافه؟! - كلا، كلا يا أستاذتي إنه سؤال وجيه، ولكن لا تنسي أن أهمية الملكة الفائقة تجعل طيرانها ذا أهمية سواء أكان مرة أم مرات؛ إذ إن فقدها يكون وبالا على طائفتها أو على الثول المصاحب لها أعني جماعتها المهاجرة في وقت التكاثر، ومع ذلك فعدد العدسات في العين المركبة للملكة يبلغ 4920 عدسة، في حين أنه يصل إلى نحو 6300 عدسة في عين النحل العاملة أو الشغالة، ويرتفع عدد هذه العدسات إلى 13090 في العين المركبة للذكر، وسر ذلك: أن النحل العاملة في سرحها اليومي أحوج إلى عيون مركبة أقوى من نظيرتها للملكة، حينما الذكر يحتاج إلى عيون مركبة أقوى من عيونهما؛ لأن عليه مهمة شاقة وهي البحث عن الملكات العذارى الطائرة، وقد يستعين على الكشف عنها بحاسة الشم من ثقوب خاصة متعددة في جسمه، وهذه الحاسة حادة جدا في النحل عامة (حتى ليلاحظ عليها نفورها من رائحة العرق لبعض النحالين) ولكن لا غنى للذكر عن العين المركبة القوية التي تكشف له المرئي في جهات شتى. - هذا مدهش حقا! - إن دراسة تشريح النحلة ووظائف أعضائها، فضلا عن كيفية نشوئها كلها مثيرة للإعجاب أحيانا وللدهشة. فهذان المشعران أو القرنان اللذان ينبتان في الرأس واللذان يتألف كل منهما من اثنتي عشرة عقلة في كل من الملكة والعاملة ومن ثلاث عشرة عقلة في الذكر هما أحد أدوات التخاطب بين النحل بحركاتها المنوعة، فهما قادران على الحركة في كل جهة، كما أنهما من أعضاء الاستشعار باللمس بواسطة ما عليهما من الزغب الوفير. بحيث تستطيع الملكة حينما تدخل رأسها في بيت من بيوت القرص، أو الشغالة حينما تطل داخل كأس من الزهر أن تتبين دقائقه الداخلية تفصيليا كأنما تراها في الضوء الساطع. - ولكن الذكر من النحل لا يفتش داخل عيون الأقراص أو بيوتها، فما فائدة هذا الزغب له؟ - أصبت بملاحظتك الدقيقة يا بثينتي النابغة، فالواقع أنه لا يوجد زغب على قرني ذكر النحل إلا سطوحهما الخارجية والأمامية، وهي السطوح التي تستعملها النحل جميعا في لمس التخاطب مع قرون النحل الأخرى، وأما باقي الزغب على السطوح الأخرى للقرنين فلا وجود له على قرني الذكر؛ لأنه لا يستعملها - كما لاحظت - في الاستشعار الدقيق في الظلام، وها هي العدسة المكبرة شاهد على صحة ذلك؛ فتأملي بها في قرون الملكة والعاملة والذكر وقارني بينها جيدا. - مدهش! مدهش! ... وماذا يحدث لو أصيب القرنان بضرر أو لو قطعناهما مثلا؟ - ستزدادين دهشة عندما تعلمين عن نتائج التجارب العلمية التي أجريت، وكيف ساهم فيها ذلك العالم الطبيعي الضرير هيوبر “Huber” . عاش هيوبر في القرن الماضي، وهو أول من استعمل الإطارات المتحركة في خليته المسماة «الخلية الورقية»
Leaf Hive
كأنما هي كتاب ذو أوراق تفتح وتقفل على نحوه، وعلى أساس ذلك أبدع العلامة لانجستروث خليته الوافية التي ننعم بها الآن ونعم بها النحالون أجيالا من قبل.
فقد هيوبر بصره وهو شاب، وكان قد تزوج قبلا، فوجد من خادمه الأمين برننز “Burnens” (الذي وصل بعصاميته إلى وظيفة مأمور قضائي في قريته) ومن زوجته الوفية خير معينين له في بحوثه عن أسرار الطبيعة في حشرتنا الجميلة، وهؤلاء الثلاثة جديرون بقصة سينمائية لن تقل في قيمتها الإنسانية عن قصة مدام كيوري. فهذا فرانسوا هيوبر الضرير يمثل لنا الذكاء المفرط والملاحظة النفاذة والجلد التأملي الفائق، وهي صفات تجلت في ثلاثة أدباء عالميين؛ أحدهما معاصر وهو منافسي في ولوعك الأدبي، والآخران المعري وملتون، كأنما هذا الحجاب الذي قام بينهم وبين عالمنا المشهود قد أعفاهم من شائهه ومن تبعية حواسهم لعجزه وقبحه، وفتح لهم عوالم أخرى وليدة أخيلتهم ومثالياتهم السمحة اللطيفة.
ولا مشاحة في أن عمى هيوبر جعله يفكر في نقط دقيقة عدة ما كان يأبه لها أو يعني بها لو أنه اعتمد على نظره فحسب، فأدى ذلك إلى أبحاث عظيمة في موضوعها وفي نتائجها، وقد حاول خصومه انتقاصه؛ لأنه ضرير، ولأن خادمه المعين «جاهل»، ولم يكتفوا بذلك بل حاولوا إغراء زوجته الشابة الجميلة على تركه. فأما خادمه فقد أثبت بأخلاقه الوفية الكريمة وبأمانته العلمية وطاقته في الدرس والبحث وتحقيق ما كان يكلفه به سيده ما أنزله منزلة الاحترام في مواطنيه الذين اختاروه أخيرا مأمورا قضائيا وفاخروا بسيرته، وأما هيوبر نفسه فغفر لهم تطاولهم عليه كما يغفر الرجل الحليم الرحيم ذنوب الصغار الذين لا يقدرون ولا يفقهون. فإذا كان العمى نقصا في ناحية فقط يكون مزايا في نواح أخرى، وقد يعوض عن الإبصار أي تعويض؛ كما أثبت ذلك هيوبر بتجاريبه الدقيقة المستقصية التي لم يفكر فيها المبصرون، وأما زوجته الشابة الجميلة فقد عرفت روحها النبيلة كيف تساهم وزوجها في خلق السعادة لكليهما، فكانت تندمج في تفكيره وميوله وتروض نفسها على الغبطة بالاشتراك في أعماله، وهكذا أبدعت لنفسها مثالية من الرضا والطمأنينة والمحبة المتبادلة، وأحست بسعادة خاصة في إسعاده، وقتلت بيديها الأنانية التي حاول خصومه إثارتها في نفسها، وكأنما أحست بعد ذلك في طهرها الروحي أنها أصبحت المرأة النبيلة الكاملة، وقد عاشا معا في سعادة سنين طويلة.
وشأنهما في ذلك يذكرني بالأديب البلجيكي الجهير ميترلنك وزوجته الصبية التي لم تتجاوز منزلة ابنته، فقد عجبت الصحف الأمريكية - بعد نزوحهما إلى العالم الجديد - من أمرهما، وهل يشعران حقا بسعادة على ما بينهما من تفاوت السن. فهداها البحث إلى أنهما حقا من أسعد الناس؛ لأن سعادتهما قائمة على الانسجام التام في ميولهما وتفكيرهما ونوازعهما، وعلى التقدير المتبادل بينهما، وعلى المحبة السليمة التي يدعمها صفاء الروح وتساميها، واعتزاز كل منهما بعواطف الآخر وفهمه له فهما صحيحا، ولو لم تكن خلقت له وخلق لها وكأنهما توأمان لكانت تأثرت بالعرف الغبي وباعدته لعلو سنه، فكانت هي الخاسرة لطافة روحه وشاعريته الجياشة بحب الجمال وإعزازه لها الذي يبعد بل يستحيل أن تلقاه من سواه، وتفانيه في إرضائها وتدليلها وخلق ضروب السرور والمتعة لها، وهي مغانم أعظم بكثير مما تناله من فرد دونه سنا وأكبر مما يستأهله شبابها أو نضرتها، وما أكثر الشباب الضائع والنضرة الذابلة عند أقدام الفتيان اللاهين ... وهكذا كانت مدام هيوبر في مثل عقلية مدام ميترلنك، كل منهما تعرف قيمة الجوهر الذي ساقه الحظ إليها فحرصت على ألا تفرط فيه من أجل بريق سواه الذي لا يساميه منزلة ولا يدانيه صفاء ولا يقاربه فائدة ولا نافسه أو جاوزه رونقا، وهكذا كانت زوجة هيوبر بحصانتها ووفائها عونا عظيما له، كما كانت ابنة ملتون التي تفانت في حب والدها العزيز وخدمته فخورة بذلك، وكما كان شأن مدام ميترلنك إزاء زوجها العبقري ... - مهلا يا أمين مهلا، أراك تسترسل في خطبة أدبية أولى بها معاهد الأدب، وحديثك شائق شائق، ولو تركت دون مقاطعة لأخذت عنك سيرا وفصولا ودروسا أجمل بلا ريب مما دونه فيزتيلي “Vizeteily”
في كتابه «غراميات الشعراء
Loves of the Poets”
وأراك تحدثني هذا الحديث العاطفي بحماسة، وفي توجيه خاص فأين مبلغ انطباقه عليك أو علي؟ وما هي علاقة كل هذا بقرني النحلة؟! - لا يا ظالمتي وحاكمتي، لا انطباق لما قلت في شيء علينا، ولكن الحديث ذو شجون، ولا يملك من يعجب بالطبيعة والنحل وبالروح العلمية الصادقة إلا أن ينوه بهيوبر ومعاونيه، وبأمثال هيوبر ومعاوينهم، كما حاولت أن أنوه ... ولنعد إلى تجاريب هيوبر الذي نعت عن جدارة «أمير النحالين»، بل إلى بعض تجاريبه: فقد عمد إلى قطع أحد قرني الملكة قرب جبهتها فلم يحدث أي تبدل في طباعها وسلوكها. ثم قطع كليهما فإذا بالملكة التي كان النحل يكرمها ويرعاها تفقد منزلتها لدى النحل، وحتى غريزة الأم زالت عنها، فبعد أن كانت تعني بفحص عيون القرص فحصا دقيقا قبل أن تضع بيضها في هذه العيون صارت لا تعبأ بها، وصارت تبيض كيفما اتفق خارج هذه العيون. وكذلك شأن تجاريبه على قرون العاملات والذكور، فإن العاملات التي تفقد قرونها تعود إلى الخلية فاقدة النشاط وسرعان ما تغادرها إلى غير عودة لا يجذبها شيء سوى الضوء الخارجي، وكذلك الحال في الذكور، فكان من المستنتج أن للقرنين أثرا حاسما في توجيه النحل داخل الخلية حيث يتضاءل النور أو يسود الظلام - إذ لا تكفي العيون البسيطة وحدها، كما أن لها أثرا في «معنوية» النحل، ويدلنا الفحص الميكروسكوبي على وجود آلاف الثقوب الحساسة الدقيقة على قرن النحلة، وقد تضاربت الآراء فيها، وهل هي مشاركة في حاسة الشم أو حاسة السمع أو في كليهما، ولكنها إجمالا صورة مدهشة محيرة لعلماء الحياة، فلا عجب إذا لم تستطع النحلة أن تحيا بدون قرنيها، فليس في الإمكان نموها ثانية كما ينمو مخ الحمامة بعد استئصاله إذا أبقيت عليها حية بالتغذية الصناعية إلى أن يتم هذا النمو وتعود إليها بتمامه جميع حواسها وغرائزها كما أوضح لنا كلود برنارد
Claude Bernard
في تجاريبه العلمية. كذلك أرجل سرطانات البحر وذيول السحالي قابلة للنمو ثانية إذا ما قطعت، ولكن هيهات حدوث ذلك لقرون النحل. وفي الرأس أعضاء أخرى هامة داخليا وخارجيا. فمن الخارج لا يفوتنا التأمل في أجزاء الفم، وهي كما ترين من فحص النماذج الميتة بالعدسة المكبرة تتألف من شفة عليا تحت سطحها الأسفل يوجد فص صغير أملس تستقر فيه أعضاء حاسة الذوق، ومن فكين خارجيين ومن فم فتحته عند قاعدتي الفكين، ومن خرطوم عبارة عن امتداد عضو مركب واقع خلف الفكين، ومن فكين داخليين يكونان بالاشتراك مع لامسي الشفة أنبوبة يعمل داخلها اللسان، ومن فكين ثالثين تتألف باتصالهما الشفة السفلى وموقعها تحت فتحة الفم ، وأخيرا من اللسان أو المذرب وهو يتصل عند جذوره بالذقن، ويمكن إخراجه وإرجاعه بواسطة عضلات خاصة، ويغطي اللسان غمد مكسو بشعيرات بعضها حساس، وفي نهاية اللسان توجد شبه ملعقة عليها شعيرات دقيقة، وعندما تجمع النحلة الرحيق أو تمتص العسل أو عندما تتناول النحلة أي شراب نجد اللسان يتحرك سريعا إلى الخلف وإلى الأمام بواسطة قضيب مطاط ممتد في وسطه، فيجمع بهذه الحركة السائل على شعيراته ويمتصه، وعندما لا تستعمل النحلة لسانها تسحبه طي فمها قليلا ثم تطوي الجزء الخارجي تحت الذقن، وبعض ضروب النحل أطول لسانا من غيرها مثل النحل القبرصي والنحل القوقازي، ومع ذلك لا يكفي طول اللسان لأن يكون النحل جماعا للعسل، بل هذه غريزة في بعض الضروب. مثال ذلك أن النحل الإيطالي أكثر نجاحا في جمع العسل من النحل القبرصي مع أن الأخير أطول لسانا منه، والنحل الكرنيولي أكثر توفيقا في ذلك من النحل القوقازي مع أن النحل الكرنيولي أقصر لسانا من الأخير. - صدقت في ملاحظتك، فقد وصفتني إحدى زميلاتي المؤدبات بطول اللسان، ولا أعرف أني نجحت يوما في جمع العسل.
الفصل السادس
الناس صنفان رئيسيان في نظرتهم بعضهم إلى بعض وبعضهم إلى المجتمع، وبين هذين الصنفين صنوف عدة متدرجة في الصفات ما بين رأس القائمة وقاعدتها: فأما الصنف الأسمى فطراز من الناس جبلتهم الطبيعة على الإيثار، وكيانهم الحيوي قائم على التفكير في المجموع يشغلون به أيما إشغال، وقد يساء إليهم من جراء ذلك مرارا، وقد يتألمون ويعانون وقد يردد حالهم:
سيعيش في هم ويشقى دائما
من عاش مشغولا بهم الناس
ولكن تكييفهم البيولوجي يبقيهم أسرى هذه النزعة الإنسانية مع عرفانهم أن جزاءهم المحقق قد يكون الجحود والطعن والاضطهاد وقلما يكون الوفاء والإنصاف، ومن بين هؤلاء ينشأ القادة والرواد، وأما الصنف الأدنى فيمثل الوصوليين الطفيليين الذين يتقنون التمسكن للتمكن، ولا هم لهم إلا الانتفاع بمواهب غيرهم دون جزاء، ولا معنى للأريحية ولا للشهامة عندهم، وغايتهم أن يغنموا دائما على حساب غيرهم دون مبالاة بأي قانون أدبي، وأن يبطشوا إذا ما تمكنوا بمن تضعهم الأقدار تحت رحمتهم، ومن بين هؤلاء الآلاف من الأفراد الذين يقلون أو يكثرون حسب دماء الشعوب، ولا يجدي فيهم علم ولا منصب، وهم أكثر المادة التي ابتعثت بالسخط العلائي وتشاؤم كثير من الفلاسفة الاجتماعيين وكفرهم بالنفس الإنسانية وسيبقون كثرة ما دام النسل البشري لا ينهض على أساس علمي حكيم.
وأمامنا بلا ريب في أمين وبثينة نموذجان من ذلك الصنف الأول الرفيع من الناس؛ ليس لأنه مقدر لهما أن يكونا بين الرواد، فقد يتحقق ذلك أو لا يتحقق حسب الظروف والعوامل، ولكن لأنهما من معدن نفيس لا يمكن أن يتدنى. كان أمين يشفق على بثينة من خواطرها الاجتماعية الثائرة ومن تهافتها على الإصلاح ومن تألمها المتواصل لما يعانيه أبناء وطنها ومن قلقها الذهني لخير المجموع. ولكنه فيما بينه وبين نفسه لم يكن إلا صورة من إحساس بثينة ذاتها. فما تقدمت دراستهما المشتركة للنحل والنحالة إلا وكان ما يشغلهما قبل العلم وقبل الكسب الشخصي كيفية انتفاع المجموع بهذا العلم، وكيف يستفيد الاقتصاد القومي منه، وكيف يمكن نشر النحالة العصرية على أحدث المبادئ العلمية بين الشعب رفعا لمستواه المعاشي وترفيها عنه، وكانت رحلاتهما إلى المنحل وجولاتهما فيه وجلساتهما المتنوعة ينتظمها دائما هذا الخاطر النبيل.
قال أمين: سرني يا عزيزتي إقبالك على الدراسة العلمية للنحلة، وقد قرأت وصفك التشريحي وتأملت رسومك الميكروسكوبية البديعة فرأيت بنان الفنانة فيها. - شكرا يا أمين، وحمدا على أن تلميذتك نصف خائبة فقط. - ولماذا تبخسين نفسك حقها يا بثينة؟ - لا بخس ولا انتقاص، ولن أعد نفسي ناجحة حتى أفوز بغايتين: أولاهما: أن أوفر عليك التعب وأحقق الإدارة الكاسبة لمناحلك كما اتفقنا، وينطوي تحت هذه الأمنية تفوقي العلمي، وأين أنا من كل هذا؟ ... وثانيهما: أن أنشر مبادئك الإصلاحية نشرا عاما فيتبدد أمامها الفساد والجهل كما يتبدد الظلام والضباب أمام أشعة الشمس الوهاجة.
فابتسم أمين ابتسامة المؤمن المبشر لرسالته التي أخذت تتمكن من التربة الصالحة وآذنت بالاستقرار فيها. - حقيقة يا بثينة ما استحق أن يولد من عاش لنفسه، ولكن لكي نعيش لأمتنا بل الإنسانية عامة لا بد من التمكن من معرفتنا ومن الوسائل اللازمة لتطبيقها، فالحماسة وحدها لا تجدي، وستتاح لك فرص كثيرة لفحص ما أقول ونقده والنظر في كيفية تطبيقه للصالح العام، فلا كان الخير الذي يختصنا وحدنا ولا كان المذهب الأناني القائل: أخف ذهبك ومذهبك وذهابك.
ولو أني حبيت الخلد وحدي
لما آثرت بالخلد انفرادا
سأحدثك اليوم عن أثاث الخلية وعن ضروب النحل وعن كيفية نشوء النحلة، وأظن أن هذا الحديث كاف بشرط أن تتزودي بقرص من الأسبيرين وقاية من الصداع، وبقرص من الثيامين ضمانا لانتباهك وانتعاشك، كما أني سأكافئك ببعض العسل الشمعي الجديد فسأقطفه خصيصا لك مع تحياتي الشعرية عند أوان الشاي. - أنت متأخر جدا يا أمين بهذه المظاهرة المفتعلة التي تتصنع بها بخس نفسك، لو كنت تقدمت بها منذ أسابيع وأنا لم أزل بعد «مادة خامة» لكان لها بعض المعنى، أما الآن فهي فاترة وبائخة تماما، إن حماستي يا أستاذي النجيب لا تقل ولن تقل عن حماستك، ولن أطالبك الآن بالرهان على تفوقي، ولكن سيأتي يوم قريب يطيب لك فيه هذا الرهان مطمئنا. - لقد زللت، فصفحا، وهلم يا روحي وإلهامي إلى خلية الرصد قبل أن نعود إلى عملنا الرتيب في الخلايا الأخرى.
ولكنهما ما كادا يخطوان بضع خطوات في اتجاه خلية الرصد حتى سمعا «تهليلا» عجيبا في الجو مبعثه آلاف من النحل الطائرة التي كانت تترامى في شتى الجهات كأنها مقذوفات المدافع الرشاشة، ثم أخذت تتكيف في مجموعها في هيئة دائرية وتتجمع رويدا رويدا إلى أن حطت على فرع من إحدى أشجار المشمش التي تظلل المنحل، وقد ترك أمين بثينة مشدوهة لهذا المنظر الساحر وهو يهتف «هذا ثول خرج من إحدى الخلايا» وهرع فأحضر دلوا من الماء ومضخة نثر بها الماء على النحل الطائرة كأنما يوهم النحل بسقوط المطر فدفعها بذلك إلى سرعة التجمع على الشجرة. قالت بثينة: حسبتك يا أمين تقول إننا بقطع بيوت الملكات في الخلايا التي تنشأ فيها نصون طوائفها من الانثيال، وأظن أننا فعلنا ذلك بكل دقة خلال الأسبوع الماضي، فماذا جرى يا عزيزي حتى نفاجأ هذه المفاجأة التي تفسد علينا ترتيبنا، وتفسد على إحدى الطوائف القوية إنتاجها؟ - لا ضرر إن شاء الله ... الواقع أنه قد فاتنا بيت ملكة ربما كان مختبئا في طرف قرص، فلما خرجت منه الملكة العذراء أو أوشكت على الخروج إنثال جانب من الطائفة مع الأم أي مع الملكة الأصلية المخصبة، وكان ما رأينا، وعلينا الآن أن نبحث عن الطائفة التي خرج منها الثول وأن نضعه في خلية جديدة، ونحن لم نخسر شيئا بتغيير مجرى حديثنا، وبتناولنا موضوعات غير التي كنا ننوي الحديث فيها، ومن يدري فقد يسمح لنا الوقت بتناولها أيضا، ولذة الحديث والعمل في المنحل ألا يكونا مقيدين. إن في وسعك وفي وسع أي طالب أن يقرأ كتابا موجزا أو مسهبا عن النحالة في المنزل وفيه الغنية عن كل حديثي، ولكننا هنا نقرأ كتاب الحياة بالقراءة المتسلسلة فيه، بل لنا أن ننظر في أية من صفحاته كما نشاء، فكل منها مستقلة وكل منها مرتبطة بغيرها، وأهم ما يعنينا أن نلم بروحها جميعا، وهذا الإلمام بروح المنحل هو أعظم ما نغنمه، ولا خير في نحال لا يتشرب هذا الروح.
وبعد أن رش أمين النحل بالماء جيدا أحضر من حجرة الأدوات صندوقا مصنوعا من السلك والخشب ذا غطاء وقطعة من النسيج، واتجه مع بثينة إلى حيث موضع الثول، وكان لحسن حظهما في موضع واطئ إذ لم تكن الشجرة مرتفعة، فطلب إليها أن تحمل الصندوق - بعد أن رفع غطاءه - تحت الثوب مباشرة، ثم هز الفرع هزة قوية موفقة فسقطت النحل أو معظمها داخل الصندوق فوضع أمين غطاء الصندوق عليه، ثم غطاه أيضا بقطعة النسيج، وأحله في مكان ظليل بجوار حجرة الأدوات، وكان غرضه من التغطية بالنسيج حجب الضوء بقدر الإمكان عن الثول ليبقى مستكنا في حين أن السلك الذي في الصندوق كفيل بالتهوية الوافية، كما أن وضع الصندوق في الهواء الطلق وفي مكان ظليل بدل إحدى الغرف يحميه من ارتفاع الحرارة المؤذية للنحل. ثم أخذ بثينة وراح يتأمل أبواب الخلايا عله يهتدي إلى الخلية التي خرج منها الثول، فوجد خلية ذات طابقين مأهولين بالنحل، ومع هذا لا يتجلى النشاط عند بابها، فقدر أن الراجح خروج الثول من هذه الخلية. لم يعبأ أمين ولا بثينة بلبس القناع عند جمع الثول من فوق الشجرة؛ لعلمهما بأن النحل المنثالة وديعة وأبعد ما تكون ميلا إلى اللسع، ولو أن الحكمة تقضي بلبس القناع على أي حال اتقاء لأي طارئ. أما وقد اضطرا إلى فتح خلية مأهولة بطائفة قوية فلم يكن بد من التأهب الكامل لذلك، وفتحا الخلية فوجدا في غرفة التربية عددا من بيوت الملكات في أدوار شتى من التكوين، كما وجدا بيتا مرفوع الغطاء دالا على خروج ملكة منه، وسرعان ما وجدا ملكة عذراء تجري كالصبية الطائشة على أحد الأقراص فأعادا هذا القرص إلى الخلية مطمئنين، وعمدا إلى قطع بقية بيوت الملكات اتقاء لأية هجرة تابعة، وهي ما يطلق عليها اسم «التطريد» كما يطلق على النحل المهاجر مع ملكة عذراء اسم «الطرد»، وبعد أن دون أمين ملاحظاته على بطاقة الخلية أغلقها وكتب على واجهة الخلية بالطباشير الحرفين (م ع) إشارة إلى أن فيها ملكة عذراء، ونبه بثينة إلى أنه لن يفتح هذه الخلية اللهم إلا عاسلتها حين يريد فرزها - قبل مرور أسبوعين أو ثلاثة؛ ليعطي الملكة العذراء دون مقاطعة تخيفها فرصة للتلقيح ولوضع البيض في هدوء، حتى إذا ما عاد إلى فتح الخلية كان أمام نتيجة يصح له الاطمئنان إليها.
قالت بثينة: ولكن ألا يجوز أن تضيع الملكة العذراء في أثناء التلقيح، فما الذي نغنمه من الانتظار كل هذا الزمن قبل إعادة الفحص؟ - إن في تصرفنا هذا ضمانا لمنع عصبية الملكة التي قد تلزمها الخلية ولا تشجعها على الخروج للتلقيح، وليس ثمة أسوأ من تهافت المبتدئ على التطلع إلى الملكة العذراء بين يوم وآخر للتأكد من أنها لقحت، فإن نتيجة ذلك اضطراب الطائفة، وتثبيط اهتمام الملكة بالخروج للتلقيح ؛ إذ قد يتغلب الخوف على الغريزة. - أليس من الجائز أن هذه الطائفة قد انثالت بالأمس مثلا في أثناء غيابنا، وأن الخلية التي خرج منها الثول هي غير هذه؟ - هذا جائز لولا أني لاحظت في أقراص هذه الطائفة بيضا عمره يوم واحد، وهو الذي يبدو واقفا على قاعدته دون ميل، وإن جاز لك أن تعترضي بأن الملكة قد تكون باضت بعد ظهر أمس قبل خروجها، وها هو لم يمر - ونحن في الصباح التالي - يوم كامل عليه؛ إذ يجوز أن ينثال النحل عند الأصيل كما ينثال في الصباح وإن كان انثيال الصباح هو الأكثر حدوثا، ومهما يكن من شيء فلدينا حيلة بسيطة وهي أن نجمع في صندوق آخر بقية الثول الجاثمة على فرع الشجرة، وننثر فوقها بعض الدقيق وندعها تطير، فإذا دخل بعض هذا النحل الذي سيتميز بما عليه من بياض الدقيق في هذه الخلية كان ذلك توليدا تاما لاستنتاجنا الأول.
ونفذ أمين قوله فتحقق استنتاجه وسرت بثينة بما رأت، ثم سألته: وماذا تنوي عمله لهذا الثول المحبوس؟ - سأهيئ له خلية صالحة له أزودها بقرص من الحضنة المختومة، وبآخر من البيض واليرقات الصغيرة وذلك من إحدى الطوائف القوية، كما أزوده بقرص من العسل والعكبر من قبيل التشجيع على الاستقرار، ولو أن الحقول وفية الآن للنحل بأزهارها العسلية. فأما الحضنة المختومة ففائدتها أنها تستبقي الثول في خليته الجديدة فلا يفكر في هجرتها، وأما قرص البيض واليرقات الصغيرة فإليه يلجأ النحل لتربية ملكة جديدة لو أن الحظ عاندنا وفقدت الملكة لأي سبب في أثناء إدخال الثول وإقراره في الخلية الجديدة، وأما قرص العسل والعكبر فيزود الثول بحاجته من الغذاء إلى أن تبدأ نحلة السارحة في الجمع الوافي في الحقول، وأما الأقراص الخالية المكملة بها غرفة التربية فلتكون تحت تصرف المملكة في وضع بيضها.
وفتحا خلية ذات طائفة قوية، وأخذا منها تلك الأقراص الثلاثة، وأحلا محلها ثلاثة إطارات بأساساتها الشمعية المثبتة في السلك الواقي لها، واختارا خلية خالية فوضعا فيها قرص العسل والعكبر في أحد جانبيها ، ووضعا القرصين الآخرين في الوسط، وأعدا بقية الأقراص الخالية للوضع داخل الخلية بمجرد نفض الثول فيها. فأحضر أمين الصندوق، وبعد رش النحل رشا جديدا بالماء من خلال السلك حتى لا يتهافت على الطيران عند نفضه داخل الخلية، رفع غطاء الصندوق، وهز ما عليه من نحل داخلها، ثم هز ما في الصندوق نفسه وأسرع فوضع الأقراص الخالية في أماكنها من غرفة التربية، ثم وضع فوقها الغطاء الداخلي، وقد أقفل فتحته المتوسطة بقطعة من الخشب حتى تبقى النحل ملازمة لغرفة التربية في بداية تعميرها لها، ثم وضع العاسلة الخالية فوق الغطاء الداخلي كأنها غرفة مساعدة على التهوية إذا ما صار الجو حارا، ثم أقفل الخلية بالغطاء الخارجي بعد أن ثبت داخله بطاقة عليها البيان الكافي عن الثول على غرار ما يكتبه من بيان عن كل طائفة.
قالت بثينة: ولماذا تكتفي يا أمين بغرفة واحدة لهذا الثول مع أنه كبير الحجم؟ - صحيح إنه كبير الحجم بالنسبة لأثوال النحل المصري ولكني لا أعده إلا وسطا، وقد يزن نحو ستة أرطال، أي يشمل زهاء ثلاثين ألف نحلة، ولكن حسبي أن أقلد النحل في حبها للتركيز والنظام. لقد أعطيت الثول أقراصا خالية وفي وسع ملكته أن تبيض فيها فورا، وبعد بضعة أيام يمكننا أن نعطي هذه الطائفة الجديدة طابقا ثانيا من الأقراص، وعدد النحل على أي حال لا يزيد عن حاجة غرفة واحدة، وإن من الأخطاء التي ترتكب في معاملة النحل إعطاءها فراغا أكثر من اللازم في الوقت الذي يراد فيه توجيه عنايتها إلى عمل معين وتركيز التفاتها إليه. - وهل تظن أن نحل الطائفة التي خرج عنها هذا الثول تستطيع الاستمرار في جمع الرحيق؟ - من حسن الحظ أن هذا الثول تركها بعد جمع معظم الرحيق، ولا يزال للطائفة الأصلية على كل حال عدد وافر من النحل السارحة؛ لأن النحل التي تؤلف الثول معظمها من النحل المتوسطة العمر؛ أي أنها ليست من النحل المراضع وهي النحل الصبية وليست من النحل البالغة التي انقطعت للسرح وتفرغت له ، والآن لنعد إلى خلية الرصد لنسائل صاحباتها العزيزات عما يشغلهن.
وتوجها إلى خلية الرصد فكشفا أغطيتها الجانبية فإذا بثينة تلاحظ أن بعض النحل ترقص رقصات غريبة، فقال أمين: لاحظي كذلك يا عزيزتي أنها تحمل طلعا أزرق زاهيا في السلال التي بأرجلها الخلفية، وأن الغرض من هذا الرقص تنبيه زميلاتها إلى هذه الثروة الجديدة، حتى تتجه إلى مصادرها، فالرقص إذن من لغة التخاطب بين النحل العاملات. - سأقلدهن يا أمين، وسأمرنك على هذه اللغة العصرية. - إنها لغة أزلية بالنسبة إليهن ... ولكن انظري يا بثينة ها هي الفرصة متاحة لك لمشاهدة النحل متعلقة بعضها ببعض في هيئة سلاسل مشغولة ببناء قرص جديد على الأساس الشمعي الذي في الطابق الأعلى، والآن يمكنك الانتفاع عند مراقبة عملها بالمعلومات التي وعيتها مني ومن مشاهداتك الميكروسكوبية عن تشريح النحلة فلن تتململي بل ستشكرين معرفتك إياها ...
ولا تنسي أن هذا الأساس الشمعي نعمة من نعم النحالة الحديثة ولو أنه من نعمها الأولى، فإن مبتكراتها تتوالى وأحدثها القرص الصناعي من الألومنيوم والباغة ومن العجائن المتينة العازلة للحرارة وللبرودة ... هذا الأساس الذي تشاهدينه من صنف ممتاز، ويسمى «أساس داوانت السلكي» فإنه إلى جانب جودة شمعه الطبيعي وجودة صناعته مغروز فيه أسلاك متموجة تكسبه قوة ومتانة لا غنى عنهما في المناطق الحارة حيث يؤثر الجو على درجة احتمال الأساسات الشمعية، وهو مطبوع طبعا جيدا بقواعد بيوت العاملات بنسبة 27-29 بيتا للبوصة المربعة، فتبني النحل بيوت العاملات على هذه القواعد فتكون النتيجة قرصا حسن الانتظام يكاد يكون خاليا من بيوت الذكور نظرا لمراعاة النحل للمشق الذي أمامها، وهكذا لا تبيض النحل في هذه البيوت إلا بيضا ملقحا فتكثر نسبة العاملات كثرة محسوسة في الطائفة، وهذا ما يتمناه النحال تحقيقا لحسن إنتاجه، وتلاحظين أننا لا نكتفي بهذه الأسلاك المتموجة المغروزة طوليا في لوح الأساس بل نثبت في الأساس أسلاكا مستعرضة كذلك، وهكذا نزيد تماسك القرص الذي يبنى على هذا الأساس في الإطار الذي يحتويه، وسأعطيك فرصا كافية يا عزيزتي للتمرن على تسليك الأساسات سواء بواسطة الجهاز الكهربائي المخصص لذلك أو بواسطة عجلة التثبيت التي تجري ساخنة - بعد إخراجها من الماء المغلي - فوق السلك فتساعد على غرزه في اللوح الشمعي، وليس راء كمن سمع، ولا يفوتني تكرار تنبيهك إلى أهمية نقاء الشمع في صناعة ألواح الأساس، وعلى الأخص في المناطق الحارة حتى لا يتمدد الشمع بدرجات متفاوتة فينبعج القرص ويتثنى في مواضع وقد يسقط بتأثير الحر فلا يصيب النحل والنحال غير الخسارة، ولذلك يهمني دائما الحصول على أجود أنواع الأساس. - ولماذا لا نصنع هذا الأساس في وطننا فنخلق صناعة جديدة ونوفر مالنا؟ - هذا أحد الأهداف الإصلاحية في النحالة المصرية التي أرمي إليها بالرغم مما ألاقيه من عقبات. - وأي عقبات يمكن أن تخلق في وجه مثل هذا العمل؟ - لا تسأليني يا عزيزتي، وإنما سلى روح الجمود والهوى، وسلى روح الجسد الأثيل الخالد في المجتمع البشري ... وسأسبقك إلى سؤال لا شك أنه في خاطرك: أيها أولى بالتفضيل: الأساسات الشمعية أم الأقراص الصناعية؟ - عمرك أطول من عمري يا أمين. - لا سمح الله يا حياتي، إن لكل من الأساسات الشمعية والأقراص الصناعية فوائدها، ولو خيرت لاقتصرت على استعمال الأقراص المعدنية في العاسلات لادخار العسل نظرا لمتانتها في أثناء الفرز بالآلات الخاصة به خلافا لحال الأقراص الشمعية المتعرضة للتكسر والتلف، وستتأكدين من هذه المزايا بنفسك عندما نتولى فرز العسل قريبا، وأما الأقراص الباغة والأقراص العجينية المصنوعة من السليكون “Silicone”
مثلا فهي جد صالحة لغرفة التربية؛ لأنها جامعة ما بين المتانة ومقاومة التقلبات الجوية، فإذا أهمل النحال المبتدئ في كيفية استعمالها لم يكن ضرر ذلك خطيرا، وأما الأساسات الشمعية فإني أوثر قصرها على إنتاج العسل الشمعي أي الذي يؤكل بشمعه، وفي هذه الحالة نستعمل أساسا أقل سمكا من الأساس الذي نستعمله لأقراص التربية؛ إذ لا حاجة بنا حينئذ للمتانة والكثافة، وإنما نريد رقة الشمع الذي يؤكل مع العسل كأنه البسكويت الرقيق. أما الأقراص الباغة والعجينية التي لا تستأثرها الحرارة والبرودة فهي أصلح ما تكون لغرفة التربية، كما أنه من الممكن استعمالها في الخلية عامة، أي للتربية ولإنتاج العسل على السواء. - ولكني لم أر أقراصا عجينية في المنحل فأين هي؟ - هي في ذهني يا عزيزتي. - ماذا تعني؟ - إنها إحدى مقترحاتي لتحسين أدوات النحالة، وقد تحققت من إمكان تنفيذ ذلك متى سمحت الظروف بعد الحرب إذا ما قامت بصنعها شركة قديرة متوثبة، فيصنع القرص وإطاره قطعة واحدة من هذه المادة العجينية العازلة، كذلك سيتيسر صنع أجزاء الخلايا من نفس المادة، وستظفر النحالة الحديثة حينئذ بأدوات جيدة اقتصادية، بل بأدوات مثالية لا ينال منها الزمن ولا تعبث بها تقلبات الجو فتبقى لها جدتها ورونقها، ومتى انخفضت تكاليف الإنشاء والصيانة في المنحل انخفضت نسبيا أثمان العسل والشمع والنحل، وعوض النحال ذلك بالتوفر على زيادة الإنتاج وكثرة البيع فيستفيد النحال ويستفيد الشعب الذي يجب أن نوفر له ضروب الغذاء الصالح بأقل ثمن مستطاع، فلا سعادة لطائفة من الأمة بدون سعادة المجموع، ويجب دائما أن يكون أفقنا واسعا عند التفكير في أي مشروع في ثمراته وعواقبه. - ولكن لماذا لا نكتفي الآن باستعمال الأقراص المعدنية مثلا، وقد رأيت النحل تدخر العسل فيها دون تردد بكميات عظيمة كما رأيت الملكة تبيض فيها دون تحفظ؟ - لا مانع في المناطق المعتدلة لو أن جميع النحالين لهم مثل ثقافتك، ويعرفون كيف يحتاطون الاحتياط المعقول لحماية حضنة النحل من التقلبات الجوية، ولكن أكثرهم يتساهل بل يستهتر فيقضون على الحضنة بإهمالهم ويخربون الطائفة. إن الأقراص المعدنية يمكن إعطاؤها للطوائف القوية لا للنويات الضعيفة بالاشتراك مع أقراص الشمع، وإني شخصيا أستعملها أولا في إنتاج العسل حيث تكون النحل قد بنت على الحوافي المعدنية لبيوتها امتدادات شمعية عازلة، وبعد الفرز أعطي ما أشاء للملكة في غرفة التربية، وسرعان ما تملؤها الملكة بالبيض، ومتى فقس البيض وتطورت الدودة وشرنقت العذراء في البيت وختمت النحل عليها نقلت مثل هذا القرص المختوم إلى العاسلة؛ ليستكمل حضانته، حتى إذا خرجت النحل الوليدة من بيوت القرص نظفت النحل هذه البيوت ولمعتها وادخرت الجديد من العسل فيها. أما النحال المبتدئ فما أسهل خطأه ؛ إذ لا يتورع عن إعطاء أقراص معدنية جديدة - وفوق الحاجة عددا - إلى طرد صغير من النحل لا يكفي لتغطيتها ووقايتها من التقلبات الجوية، وهكذا تسوء العاقبة أو يعطي نواة ضعيفة مثل هذه الأقراص الجديدة فيصيبها الفشل. أما الأقراص المصنوع من الباغة (وقد تستعمل لصناعتها الأفلام السينمائية القديمة المستغنى عنها) فلا تحتاج إلى مثل هذا التحفظ وكأنها أقراص شمعية، ولكن للأسف لا توجد وفرة منها في السوق، فلا هي صنعت محليا ولا هي جلبت من موطنها في الولايات المتحدة حيث كان للمهندس النحال المبتدع جورج ماكدونالد فضل السبق إلى ابتكارها وإلى ابتكار الأقراص الألومنيوم، فكان موفقا توفيقا عظيما، وأدهش عالم النحلة بترويضه النحل على هذه الأقراص الصناعية في سهولة ويسر، والواقع أنه لم يكن مناهضا لطبيعة النحلة باختراعه هذا بل كان مستغلا لها، والنحلة بمرونتها العملية طاوعته راضية قريرة؛ إذ لم يفتها في النهاية أن تحول القرص الصناعي إلى ما يشبه الطبيعي بفضل الامتدادات الشمعية التي ألصقتها بحوائط البيوت، واكتسبت المتانة التي زوده النحال بها. - وهل تبطن النحل هذه البيوت بالشمع؟ - كلا، إنها لا تفعل شيئا من ذلك، وإنما تطيل حوائط البيوت بالإضافات الشمعية؛ لأن الشركة التي تصنع هذه الأقراص تتعمد ألا تجعل عمق البيوت كاملا حتى تتيح للنحل فرصة هذا البناء الإضافي المناسب جدا لها، والموائم للنحال حينما يريد كشط الغطاء الشمعي عن الأقراص العسلية، بعكس الحال فيما لو كانت الحوائط المعدنية كاملة، وأظنك رأيت كثيرا من البيض على القواعد المعدنية اللامعة لبيوت القرص، وعانيت صعوبة في رؤيتها أحيانا، وهذا يثبت لك أن النحل ذاتها لا اعتراض لديها على الأقراص المعدنية في ذاتها. - لاحظت يا أمين أن الأساس الشمعي الذي قام النحل عليه شبه مكحوت فهل هذا صحيح؟ وهل يستغل النحل ما يكحته من الشمع في بناء القرص؟ - هذا هو الواقع دون أن يعفي النحل من فرز شمع إضافي من غددها الشمعية الخاصة لتكملة البناء، ومن أجل هذا الاعتبار تصنع ألواح الأساسات الشمعية لغرفة التربية بمعدل سبعة ألواح للرطل وزنا ، حتى تكون كثيفة بدرجة كافية؛ لينتفع النحل من كحتها في بناء القرص دون الإخلال بمتانتها. - لست أدري أيهما أعجب: أهو اختراع الأساس الشمعي الذي يوفر على النحل جهدا عظيما وينظم لها أقراصها حتى تساعد على نشوء أفراد الطائفة أفضل نشأة، أم هو ابتداع القرص الصناعي الذي ينقل النحل من أساليب فطرتها إلى أحدث ما تزودها به المدنية لنجاحها ورفاهتها؟! - كلاهما عجيب، ولكن الأعجب هو العقل الإنساني الذي درس طباع هذه الحشرة، ثم طوعها لمصلحتهما المشتركة. لقد جاء ابتداع مهرنج “Mehring”
الألماني للأساس الشمعي مكملا لابتداع لانجستروث “Langstroth”
الأمريكي لخليته ذات الإطارات المتحركة، كان ذلك في العقد السادس من القرن الماضي، فقد ظهرت خلية لانجستروث في سنة 1851م، وبعدها بست سنوات (1857م) قدم مهرنج هديته النفيسة إلى عالم النحالة، وبعد ذلك بتسع سنوات (1866م) صنعت شركة روت الشهيرة أول مطبعة أسطوانية لطبع الأساس الشمعي طبعا واضحا غائرا بحيث لا يتردد النحل في البناء المتقن عليه، وما زالت صناعة الأساس الشمعي منذ ذلك الوقت في تقدم مطرد حتى أدخلت شركة داوانت المعروفة أساسها السلكي المعرج، وقلدتها في ذلك شركات أخرى، وتفنن الجميع في حسن صناعة الأساس إرضاء للنحالين. - ولكن يخيل إلي مما سمعت منك أن أهم ما يعنينا من الأساس الشمعي قبل جودة طبعه بقواعد البيوت أن يكون مصنوعا من شمع النحل النقي، وإلا تعرض النحل والنحال إلى خسائر، وربما أصيبت الطائفة بكارثة نتيجة تثني الأقراص وسقوطها بالنحل وعليها إذا ما اشتدت حرارة الجو، فكيف تضمن نقاء ما تشتريه من الأساس الشمعي المصنوع محليا؟ هل تلجأ إلى مصلحة الكيمياء لفحصه؟ - أصبت في ملاحظتك، ولكني لا ألجأ إلى مصلحة الكيمياء بل أطبق امتحانا بسيطا تعلمته في أثناء الدراسة من أستاذي في الجامعة، فقد نبهنا إلى طرق يسيرة ولكنها صائبة اعتمادا على حاستي الشم والذوق، ثم اعتمادا على تجربة هينة. كان يقول لنا إن غش الأساس ينطوي إما على إدخال شمع البرافين أو الشحم الاعتيادي أو الدهن أو ما ماثل هذه المواد في صناعته، والغالب أن النحل ترفض استعماله إذا كان الغش كبيرا. فإذا كان الأساس مغشوشا بالشحم فإن رائحته تنم عليه إذا ما كسرت قطعة منه وشممناها، وأما إذا كان مغشوشا بشمع معدني فإن مضغ قطعة منه يجعلها تتحول تحول اللواك حينما يدار في الفم فتصير متماسكة كالعجينة بعكس ما لو كان الأساس نقيا فإن القطعة الممضوغة منه تتفتت في الفم ... - وهل هذه تجربة يمكن التعويل عليها؟ - كلا، وإنما هي امتحان مبدئي، وأما التجربة العملية التي أوصينا بها باعتبارها تجربة في متناول كل منا، وأنها قد تغنينا عن الالتجاء إلى المعمل الكيميائي إلا في حالة الاشتباه القوي فيمكن إجراؤها كالآتي: تملأ كوبة إلى نصفها بالماء، وتوضع فيها قطعة صغيرة من الشمع النقي (أي من إنتاج النحل نفسه من إحدى الخلايا) حيث تبقى عائمة؛ لأن الثقل النوعي لشمع النحل (960-970) أقل من الثقل النوعي للماء (1000). فإذا أضفنا تدريجيا بعد ذلك قليلا من الكحول إلى أن تهبط قطعة الشمع إلى قاع الكوبة بعد أن كانت عائمة ودون أي إضافة زيادة على ما نحتاج إليه لتحقيق ذلك، فإننا نكون بذلك قد ساوينا بين الثقل النوعي للماء ولشمع النحل النقي، ومن حيث إن الأساس الشمعي الملوث بالبرافين وما إليه له ثقل نوعي أخف من الثقل النوعي لشمع النحل النقي فإننا إذا وضعنا قطعة من هذا الأساس المغشوش في هذه الكوبة فإنها بطبيعة الحال تعوم على سطح السائل حينما تبقى قطعة الأساس النقي في قاع الكوبة. - بديع! هذه ولا ريب طريقة ميسورة لكل نحال. - نعم، وفي إمكان كل نحال أن يعد هذا السائل الكحولي، ويحتفظ به في زجاجة محكمة الغلق؛ لاستعماله في الفحص هكذا عندما يريد، ثم يعيده إلى الزجاجة بعد الفراغ من الفحص. - أليس للون الشمع علاقة بنقائه؟ - ربما تكدر لون الأساس الشمعي إذا لم يكن حديث الصنع، كما يكون أقل مرونة أي أقرب إلى التكسر، ولكن تدفئته قليلا تحسن طبيعته ورونقه. - ولماذا تبني النحل عيون القرص سداسية؟ - لعل من أسباب ذلك أن هذه الصورة من البناء تعطينا أكبر عدد من البيوت في أقل مساحة ممكنة مع التوفير في الجهد وفي مادة البناء، وقد نبه إلى ذلك من قديم العلامة الطبيعي تشارلس داروين وغيره، وأشاروا بمتانة القرص المبني على هذا النسق. - كأنما النحلة بفطرتها مهندسة عظيمة! - بلا ريب. - لي بضعة أسئلة أخرى متعلقة بما ذكرته: (1) ما هي مزايا الأقراص الصناعية إجمالا على الأقراص الشمعية عدا متانة الأولى؟ (2) ألا يضر النحل قصر إنتاجها الشمعي نتيجة تربيتها على الأقراص الصناعية؟ (3) ألا تحد الأساسات الشمعية المطبوعة بقواعد بيوت العاملات، وكذلك الأقراص الصناعية المؤلفة من بيوت عاملات فحسب من تربية الذكور حدا أكثر من اللازم، وإذا صح هذا أفلا يوجد علاج له؟ - مهلا، مهلا، يا عزيزتي، هذه أسئلة جامعة بل جامعية، والإجابة عنها تستحق الإسهاب، ولكني سأوجز قدر الطاقة. فاعلمي يا حبيتي، أن النحل لا تقوم بعمل هين عند بناء الأقراص الشمعية. إنه يكلفها جهدا ووقتا كما يكلفها عسلا. فلا بد للنحل إذا ما فرزت غددها رطلا من الشمع من هضم جملة أرطال من العسل لتستحيل بطريقة التمثيل الغذائي إلى شمع تفرزه الغدد، وفي هذا خسارة غير هينة للنحال أيضا إذا ما قدرنا الفرق ما بين سعر العسل المستعمل وسعر الشمع الناتج، وهذا من أسباب ارتفاع سعر العسل الشمعي ولكنه ارتفاع لا يعوض بالقياس إلى سعر العسل المفروز وإنتاجه، ويجب ألا ننسى أن الأقراص الشمعية معرضة للتلف التام إذا ما تمكنت منها العثة الشمعية، وهي حشرة تبيض في الأقراص الشمعية، وتقوم يرقاتها بحفر سراديب في هذه الأقراص تبطنها بما تلفه حولها من غزل الحرير وهي تنساب في هذه السراديب، ومتى استوفت تغذيتها غزلت فيلجا أبيض حولها وشرنقت سواء داخل الأقراص أو على إطاراتها أو على حائط من حيطان الخلية أو على أي جزء منها حافرة في الخشب قبل نومها مكانا لها حينما يستقر الفيلج أو الشرنقة، وستتاح لك فرص لمشاهدة هذه الحشرة بنوعيها الكبير والصغير، والأخير هو الأكثر شيوعا، ولا تكتفي يرقاتها بأكل الشمع بل تقضي أيضا على ما في الأقراص من حضنة وطلع وعسل ... إلخ، ولذلك لا بد للنحال الذي يستعمل الكثير من الأقراص الشمعية في منحله إذا ما خزن الزائد منها أن يضعه في صناديق خاصة أو في غرفها الزائدة عن حاجة الخلايا بعد إحكام قفلها وبتبخيرها بغاز الكبريت المحترق «ثاني أكسيد الكبريت» أو بإحدى المواد الفعالة ضد العثة مثل التحضير الكيميائي المسمى ميتكس
Mitex
وفي كل هذا عناء وتكاليف وخسارة، إلى جانب ما لا بد أن يفقده النحال سنويا بنسبة تتراوح ما بين 10٪ و15٪ من الأقراص التي تشوه أو تتكسر في أثناء العمل مما سترين أمثلته بنفسك في ظروف شتى، وصحيح أنه يمكن إذابة الشمع المشوه والمكسور، وصبه بعد تصفيته في قوالب للبيع، ولكن هذا لا يعوض خسارة النحال إلا تعويضا جزئيا. أما الأقراص الصناعية المشغولة أي التي بنت عليها النحل امتدادات شمعية فإن الحشرة الشمعية إذا ما أصابتها لا تتلف منها سوى تلك الإمدادات ويبقى أصلها سليما، ولا تنسي أيضا أن الفيران لها حظها أحيانا في العبث بالأقراص الشمعية في حين تبقى الأقراص الصناعية سليمة. كذلك تبخير الأقراص الصناعية وتطهيرها إذا ما تلوثت بميكروبات ممرضة للنحل، وعلى الأخص لليرقات؛ إذ من ألد أعدائها جراثيم ذات بذور مقاومة جدا للمطهرات في حين أنه لا بد من إذابة الأقراص الشمعية، وفي هذه الحالة وقد نضطر أحيانا إلى حرقها وحرق إطاراتها أيضا، وفي كل هذا خسارة فادحة للنحال، وصحيح أننا لحسن الحظ، لا نعرف هذه الأمراض في مصر، ولكن من الجائز أن تتسرب إلينا بعد أن قضت المواصلات الجوية على الحدود الجغرافية وكادت تقضي على الحوائل الجمركية، كما أني أنظر إلى هذه المسألة نظرة غير محدودة بمنفعتنا الخاصة؛ إذ لماذا لا نعاون الأقطار الشقيقة كذلك على النهوض بنحالتها وفيها مع الأسف بذور تلك الأمراض التي سببت خسائر عالية فادحة؟ ... وقد سألتني عما إذا كان يسيء إلى النحل تثبيط إنتاجها الشمعي نتيجة استعمال الأقراص الصناعية، والواقع أن النحل الموكلة ببناء القرص (وهي في المعتاد النحل المتوسط العمر) لديها الفرص الكافية لذلك في أثناء الموسم في بناء الامتدادات الشمعية على هذه الأقراص الصناعية إلى تغطيتها ونحو ذلك، ومع كل فأغشية فرز الشمع الغددية تخلق طبيعيا ولا وجود لها في الملكة ولا علاقة لخلقها بمقدار استعمال النسل لها، وعلى الأخص لأن حياة النحلة العاملة محدودة جدا، وليس الخوف على النحل العاملة من قلة استعمال هذه الغدد بل من إرهاقها في بناء الأقراص ...
وأما عن سؤالك الخاص بحد الأقراص الصناعية والأساسات الشمعية المطبوعة بقواعد بيوت العاملات من تربية الذكور حدا يتجاوز ما ينبغي فحسبي في الرد عليه أن أذكر لك أن النحل لا تتقيد بطبع الأساسات الشمعية. هذا إذا ما شعرت بالحاجة إلى تربية الذكور، وغاية الأمر أن تلك الأساسات الشمعية تحد من إسرافها في بناء بيوت الذكور؛ إذ تستهويها إلى الإكثار من بناء بيوت العاملات التي هي أمنية النحال، وحتى الأقراص الصناعية المخصصة لتربية العاملات قد تبيض فيها الملكة عددا من البيض غير الملقح، أي الذي تنشأ عنه الذكور، فهل يحدث هذا مصادفة أم بتأثير عوامل خارجية كحلول موسم الانثيال والتكاثر الذي يسبقه طبيعيا ازدياد عدد الذكور؟ هذا ما لا أستطيع الحكم عليه، والنتيجة أن الذكور التي تربى في بيوت العاملات تنشأ صغيرة الحجم وإن لم تكن ضئيلة الحيوية. - ولكن ألا يمكن تخصيص أساسات شمعية أو أقراص صناعية لتربية الذكور؟ - هذه توجد فعلا، ولكن أكثر استعمالها مقصور على المناحل المتخصصة في تربية الملكات، والتي يهتم أصحابها تربية وفرة من الذكور الممتازة المختارة إلى جانب تربية الملكات الممتازة المختارة، وبذلك يضمنون إلى حد بعيد التلقيح النافع المطلوب، وأما في مثل مناحلنا التي تتجه عنايتها إلى إنتاج العسل فحسبنا أن نمنع نشوء الذكور غير الممتازة، فتترعرع الذكور الجيدة. - وكيف يتحقق ذلك؟ - المعتاد أن يصطحب النحال معه - إلى جانب العتلة والمدخن - شوكة كالمستعملة على مائدة الطعام يتلف بها أغطية بيوت الذكور الزائدة عن الحاجة أو التي لا ترضيه سلالتها، وتقليل الذكور في الطائفة من عوامل تثبيط الانثيال ... وعلى ذكر مائدة الطعام، لك أن تقاضيني يا بثينة على تأخير الغداء، ولكني سأسترضيك بتحفة من العسل الشمعي للتحلية بعد الغداء وبغيرها للشاي، أي سأضاعف وعدي لك. - لك أن تسرف يا أمين، ما دمنا في شهر العسل. - أتمنى يا ملكتي المحبوبة أن تعني ما تقولين.
الفصل السابع
قال أمين بعد استمتاعهما بغداء هنيء: أظنك لاحظت بنفسك عند دراسة تشريح النحلة أنها، خلافا للشفافير والزنابير، ليس فكاها من القوة التي تمكنها من إتلاف الفاكهة، مع أن الطبيعة على أي حال لم تخلقها لذلك، بل لها وظيفة صريحة، وهي تلقيح صديقاتها الأزهار الإناث بطلع الأزهار الذكور بعد جمعها لهذا الطلع في أثناء تنقلها من زهرة إلى زهرة أخرى، ولذلك حرصت الطبيعة على أن تجعل من عادة النحل الاقتصار على زيارة نوع واحد من الأزهار في وقت واحد، وقد عملت تجارب شتى فأثبتت أن النحل لا يمكن أن تمس أية فاكهة سليمة، وإن جاز أن تمص عصير الفاكهة المعطوبة، وإذن فهي المؤتمنة على الفاكهة التي هي ثمرة تلقيحها شأنها شأن البذور، ولولا إدخال النحل في زيلاندا الجديدة التي كانت خالية من النحل لما تيسر لها إنتاج بذور البرسيم، ولولا النحل لما نشأت محاصيل الفاكهة الهائلة في كاليفورنيا، وأما عن أمراض النحل الوبائية فلا وجود لها في مصر فيما أعلم، وبغض النظر عن هذه الحقيقة فأمراض النحل لا تصيب الإنسان ... فهذه دعاية عجيبة أساسها الجهل المطبق، وربما كان مصدرها أولئك الجهلة من النحالين القدامى الذي يربون النحل المصري في الكوارات الطينية ولا يريدون أن ينافسهم أحد فتدفعهم الأنانية إلى اختراع أسباب التنفير من النحالة، ولو كان ولاة الأمور عنوا باستئصال أسباب تأخرهم، وسنوا التشريع الواجب لإصلاح حالهم، كما فعلت ممالك أخرى، لما بقيت هذه النحالة القذرة العتيقة قذى في العيون، ومصدرا من مصادر الدعايات الفاسدة. - ومع ذلك فهم يكسبون! - إن مكسبهم نسبيا صغير، وكواراتهم، أي خلاياهم الطينية، عبارة عن مصانع لتربية الحشرة الشمعية، وهي مجردة عن النظافة، قليلة الإنتاج، لا يمكن الكشف التام عنها، بل هي كالصندوق المغلق غالبا، ولذلك لا يمكن ضبط الانثيال منها؛ إذ محال ضبط تهويتها أو تربية الذكور والملكات فيها، ولا يمكن تغذية طوائفها تغذية فردية في يسر، وهي بالإجمال تمثل التعب والقذارة، ولذلك حرصت جميع الممالك التي تعنى بالنحالة المنتجة باستبدال أمثال هذه الكوارات والصناديق المقفلة بخلايا ذات إطارات متحركة، كما عنيت بترقية النحل الشائع في مناحلها، وأظن أنه آن لنا يا بثينة أن نلقي اليوم نظرة فاحصة على ضروب النحل التي لدينا، وأن نتحدث عن نظام العمل في الخلية قبل أن نشغل في المرة الآتية بفرز العسل.
وتوجها يتأملان تباعا أبواب الخلايا، وعلى كل منها كان يبدي أمين ملاحظته، وكان يجتهد في أن يعود بثينة التشخيص المبدئي لحالة كل طائفة من النظر إلى باب الخلية، ووقفا عند خلية نحلها سنجابي اللون كبير الحجم نسبيا وقال: هذا مثال للنحل الكرنيولي المربى في مصر في محطة معزولة، وهي خلية عامرة جدا كما ترين، فهي تشغل ثلاثة أدوار، وربما بلغ عدد سكانها خمسين ألفا ومائة ألف نحلة، وهذا الضرب من النحل مشهور جدا بوداعته فهو النحل الذي يصلح لنشز النحالة في ضواحي المدن، وإذن ففي وسعنا أن ندرس على هذه الطائفة القوية الوديعة - ولو أن هذه دراسة مكررة بعد مشاهداتك السابقة - كل ما تهمنا معرفته عن نظام العمل في الخلية، وتقسيمه بين طبقات النحل المختلفة، وكيفية نشوء النحلة متطورة من البيضة، وسأدعك أنت تتولين الفتح وإن شئت فلك أن تتولي الحديث، وسأكتفي بأن أكون خادمك المساعد الأمين، وهو شرف يكفيني ...
وفتحت بثينة الخلية بمساعدة أمين، وهي فخورة بالترويح عن معلوماتها في هذه المحاضرة الأولى، قالت وقد بلغت أحد الأقراص الوسط من أقراص التربية: ها هي ذي الملكة يا أمين، معلمة وجميلة! وها هو ذا البيض الجديد في عيون القرص! لقد وضعت اليوم؛ لأنه قائم غير مائل ... ولكني سأعيد هذا القرص، وسأنظر في غيره ... ها هو ذا بيض عمره يومان لأنه مائل قليلا إلى جانبه، وها هو ذا بيض عمره ثلاثة أيام لأنه راقد على قواعد البيوت، وها هي ذي يرقات ذات أعمار شتى: انظر هنا بدقة تجد يرقة لعلها فقست الساعة من البيضة لأنها راقدة في هيئة خط مستقيم وطولها لا يتجاوز خمس قطر البيت الراقدة فيه، وانظر ثمة تجد يرقة عمرها يومان، راقدة في هيئة نصف دائرة وقد لمس رأسها ذنبها وهي تشغل تقريبا نصف قطر البيت الراقدة فيه، وعلى مقربة منها في بيت آخر توجد يرقة أخرى عمرها ثلاثة أيام تشغل خمسة أسباع قطره، أما اليرقة التي أوجه لها المؤشر فهي تشغل قطر بيتها جميعه وعمرها أربعة أيام. - برافو يا بثينة، هكذا العلم والتدريس وإلا فلا. - هل أخطأت في ملاحظاتي؟ - كلا يا عزيزتي، لقد أجدت وأحسنت، ولكن لي ملاحظة عارضة في هذا المقام: إن نظرتك الفاحصة التي هدتك إلى اكتشاف أعمار اليرقات وأناملك الدقيقة كفيلة ببراعتك في تربية الملكات صناعيا حينما أمرنك على هذه التربية التي تقوم على محاكاة الطبيعة واستغلال العوامل التي تحت تأثيرها تربي النحل ملكات جديدة، وأهمها النزوع إلى الانثيال وفقدان الملكة، وفي هذه الحالة متى كانت النحل متريثة تختار أصغر اليرقات الفاقسة من بيضة ملقحة لتغذيتها بالغذاء الغددي الفاخر الذي نسميه «الفالوذج الملكي»، والمتخصص في تربية الملكات يدقق فلا يختار يرقة يتجاوز عمرها 36 ساعة؛ بل يؤثر أصغر اليرقات التي عمرها يوم فحسب، ولن أثقل عليك الآن بشرح هذه العملية البديعة التي لها أوانها فيما بعد، وقد نؤجلها إلى الربيع الآتي، ويكفي من آياتها أن أذكر أن المربي يقلد الطبيعة أولا بحرمان طائفة قوية من ملكتها، وبعد أن تحس اليتم وتشرع في تربية ملكات يقطع هذه البيوت حينما يكون قد أعد لها إطارا مثبتة عليه أسس شمعية صناعية لبيوت ملكات على قواعد صغيرة خشبية بحجمها مغروزة في الإطار الذي يمكن تقسيمه في وسطه بقطعة مستعرضة من الخشب، وتثبيت عدد من هذه القواعد تحتها زيادة على المثبت تحت القضيب الأعلى للإطار، وهكذا يمكن أن يحمل مثل هذا الإطار عددا وافرا من هذه القواعد التي يطعمها الفالوذج الملكي المخفف بالماء، ثم يقوم عليه في كل بيت يرقة واحدة صغيرة ثم يعطيه النحل، وبعد 24 ساعة يراجع ما صنع، وقد يعيد هذه العملية أو بعضها إذا وجد النحل لم تستجب إليه واكتفت بمص الفالوذج الملكي وأهملت اليرقات، ومتى عنيت النحل بتكملة هذه البيوت وبتربية اليرقات حتى تنمو وتشرنق وتختم، فإن النحال ينقل حينئذ هذه البيوت إلى إطار آخر ويحميها داخل أقفاص سلكية واقية كلا منها في قفص خاص، ويعهد بها إلى طائفة أخرى يتيمة لتتولى حضانتها، حتى إذا ما فقست تولت النحل تغذيتها من عيون السلك دون أن تسيء إليها ودون أن تسيء هذه الملكات العذارى بعضها إلى بعض، ولو أن من المناسب أيضا أن يحتوي القفص وتحت غطاء فتحته قليلا من السكر الناعم المعقود بالعسل لتلجأ إليه الملكة العذراء عند الحاجة، وهكذا يستطيع النحال المربي أن يستعين بهذه الملكات في تكوين نويات جديدة من طوائفه، أو يستطيع بعد إدخالها على نويات صغيرة من النحل مخصصة لها لكي تستضيفها حتى تتلقح، أن يبيع الملكات الملقحة بعد اختبارها - أي بعد التأكد من فحص حضنتها أنها ملقحة - بثمن يجزل عليه الربح. - إن وصفك يا أمين لهذه العملية مشوق، ويبدو لي أنها سهلة، فلماذا نؤجلها إلى الربيع؟ - لقد تعمدت تبسيطها لك، وهي في الواقع عملية غير شاقة للمتدرب، ولكن فيها نقطا عملية دقيقة تحتاج إلى التمرين، وليس أهونها كيفية نقل اليرقة الدقيقة بالإبرة المخصصة لذلك من القرص إلى البيت الصناعي، ولا أدري إذا كان يحق لي أن أسميه بيتا صناعيا؛ إذ كل ما هو صناعي فيه أساسه المشبه الكستبان الصغير أو قمع الخياطة، وفيما عداه فالنحل هي التي تبني البيت من أوله إلى آخره، وبهذه المناسبة أؤكد لك أن بيوت الملكات الطبيعية متى فقست منها الملكات هدمتها النحل ولا تعيد استعمالها خلافا لبيوت العاملات والذكور المعتادة في القرص فإن النحل بعد تنظيفها وتلميعها بالمادة الصمغية (العلك) التي تجمعها من براعيم الأشجار وتحملها على أرجلها الخلفية كما تحمل الطلع تهيئها للملكة للبيض فيها مرة أخرى أو تستعملها لخزن العسل أو لخزن الطلع. - ما رأيك في أني لم أكمل بعد محاضرتي، وطبعا لن تجيز امتحاني دون تكملتها؟ - عفوا يا معلمتي ... صحيح، عليك أن تشرحي كيفية تطور النحلة من بيضة إلى حشرة كاملة، ثم وظيفة هذه الحشرة في أدوار حياتها، وما يتبع ذلك من تقسيم العمل بين أفراد الطائفة. - سؤال ضخم، أستحق بلا ريب درجة الدكتوراه العلمية على إجابتي عنه، وعلى أي حال فلن أدعك تضحك مني ... اسمع يا تلميذي النجيب: إن تطور النحلة من بيضة إلى حشرة كاملة هو من غرائب أعمال الطبيعة نظرا للتفاوت في التشكيل بين طور وطور، فإن التأمل في استحالة دودة إلى حشرة مجنحة لها أعضاء ووظائف مختلفة كل الاختلاف عن أعضاء الأولى ووظائفها لمن الأمور المحيرة للعقل، وقد شرحت كيف أن البيضة تعمر ثلاثة أيام قبل أن تفقس مع اختلاف وضعها خلال تلك الأيام الثلاثة، ثم كيف تتجلى اليرقة في نموها وفي وضعها بعد ذلك، ولكني لم أستكمل هذا الشرح، كما أنه ينبغي أن أبين أنه يوجد تباين بين نمو الحضنة في الملكة والعاملة والذكر، ولعل خير وسيلة للمقارنة أن أعرض الجدول الآتي للتأمل فيه وللمقارنة:
طور النمو
الملكة
العاملة
الذكر
البيضة
3 أيام
3 أيام
3 أيام
تغذية وغرفة اليرقة
5 أيام
5 أيام
6 أيام
نسيج اليرقة للشرنقة
1 يوم
2 يوم
3 أيام
فترة الاستقرار
2 يوم
3 أيام
4 أيام
تحول اليرقة إلى عذراء
1 يوم
1 يوم
1 يوم
تحول العذراء إلى حشرة كاملة
3 أيام
7 أيام
7 أيام
مجموع المدة من يوم وضع البيضة إلى خروج النحلة من بيتها
15 يوما
21 يوما
24 يوما
وقد تختلف هذه المدة بالنسبة للملكة على الأخص، فقد تهبط في الجو الحار إلى 14 يوما وقد ترتفع في الجو البارد إلى 16 يوما، وتكون الزيادة أو النقص أولا في مدة تغذية اليرقة ونموها فقد تطول إلى خمسة أيام وربما هبطت إلى أربعة أيام ونصف، ولعل لسخاء التغذية إلى جانب حرارة الجو أثرا في ذلك، كذلك فترة تحول العذراء إلى حشرة كاملة - وهي فترة استقرار - قد تطول إلى ثلاثة أيام ونصف يوم وقد تهبط إلى يومين ونصف يوم تبعا لدرجة حرارة الجو، أي أن هذا الاقتضاب النسبي في مدة الحضانة قلما يسري على الممالك الباردة الجو، وقد يكون لبعض ضروب النحل بل لبعض سلالاته أثر بيولوجي في مدة التطور هذه وفي اختلافها، أما عن تعمير النحل بعد ولادتها - إذا جاز لي هذا التعبير - فالملكة قد تعيش نظريا خمس سنوات وربما أكثر، ولكن الواقع أن النحل قبل النحال قلما يسمح لها بأن تعيش أكثر من ثلاث سنوات؛ إذ سرعان ما يدركها الكلال أو الشيخوخة نتيجة جهدها العنيف في وضع البيض فلا يبقى النحل عليها، وكثير من المناحل العصرية تبدل ملكاتها في كل عام من محطات التربية الممتازة، والمعتاد أن يحتفظ النحال بالملكة عامين فقط إلا إذا كانت فذة متفوقة، وذلك لأن الملكة هي أساس الحياة في الطائفة فيجب على النحال الحصيف ألا يبخل بثمنها، وبتكاليف استبدالها؛ لأنه سيغنم أضعاف ما ينفق في النهاية إذا ما رزقته بطائفة جيدة منتجة، وأما عن العاملات فيختلف حياة كل منها باختلاف زمن ولادتها، فإن عمر النحلة العاملة - كما يقال عن الإنسان بل عن كل كائن حي - هو عمر غددها التي تترتب عليها صحة أعضائها. فالنحلة والعاملة التي تولد في الخريف ولا جهد عليها تؤديه تستطيع أن تعيش ستة أشهر، في حين أن النحلة التي تولد في الربيع وعليها واجبات جمة متتابعة قد لا تعمر أكثر من ستة أسابيع، وأما الذكور فتستطيع أن تعمر شهورا لو أن النحل العاملات تتركها وشأنها، ولكن يندر أن يحدث هذا إلا في المناطق الدافئة الجو المتوالية المراعي الوفيرة الرحيق، وأما الغالب فقضاء العاملات عليها حينما يقبل الخريف وينقطع الرحيق ويبرد الجو ولا تبقى لها وظيفة مرعية - حينئذ تطردها العاملات شر طرد، وتعض أجنحتها وأرجلها تشويها لها وتعجيزا، وعلى أي حال لا تسمح لها بالبقاء في الخلية فتموت في خارجها جوعا، ومن عادة النحل ألا تقبل في خليتها غير أفرادها في العائلات وإن سمحت لبعض جيرانها بالدخول في خليتها إذا جاء ذلك عفوا وكانت محملة بالعكبر على أرجلها الخلفية ومنتفخة مزهوة بما تحمله من الرحيق في كيس العسل، أما الذكور فلديها جواز مرور من أي طائفة إلى أخرى ومن أي منحل إلى آخر، إلا إذا استقر رأي النحل على التضحية بها، وحينئذ لا يكون حظها غير الفناء، وقد تتكدس أمام أبواب الخلايا حتى لينعت ما يصيبها بمذبحة الذكور. - ما هذا الإبداع يا بثينة؟! إني أراك تتفنين في وصف ما لم تشاهدي اعتمادا على مطالعتك، فانتظري حتى تري هذه المذبحة المزعومة ... ولا شك أن تتحدثين بروح من التشفي فهل من جنسي أو شخصي؟ ... إن أخوف ما أخافه أن تعامليني يا عزيزتي مثلما تعامل صاحباتك العاملات زملائي اليماخير.
فقهقهت بثينة ضاحكة، وقالت: يظهر يا أمين أنك شاعر بذنوبك الكثيرة، وليس أقلها أنك تقاطعني، ولا تريد أن أكمل محاضرتي، وهذه هي غيرة الرجال المأثورة ... إن العاملات فعلا مصدر السلطات في الطائفة، وهن يكون جمهورية متوجة، وهن المثل الأعلى لحياة العمل ولنظام العمل ولتوزيع الاختصاص وللدأب المتواصل ولمحاربة البطالة، وهاك بيانا بواجبات النحلة العاملة من أول يوم بعد الفقس إلى حين وفاتها:
العمر
الواجبات
الأيام الثلاثة بعد الفقس
تشتغل بتنظيف عيون الأقراص وبالحضانة.
اليوم الرابع
تكمل قدرتها على اللسع فتتهيأ للدفاع عن وطنها.
اليوم السادس إلى العاشر وأحيانا إلى الخامس عشر.
تغذي اليرقات الصغيرة.
اليوم السابع
أول طيران لها لترويض أجنحتها إذا سمح الجو بذلك، وربما حدث هذا الطيران في اليوم الثالث في أثناء الصيف، وقد يتأخر إلى اليوم العاشر.
اليوم الثامن إلى السادس عشر
تبدأ من تناول الرحيق والعكبر والعلك (المادة الصمغية) التي تجلبها النحل السارحة لإيداعها في الخلية.
اليوم التاسع إلى الثامن عشر
تمتنع عن تناول الرحيق والعكبر والعلك (المادة الصمغية) التي تجلبها النحل السارحة لإيداعها في الخلية.
اليوم الثاني عشر إلى الثامن عشر
تشتغل ببناء الشمع.
اليوم الرابع عشر إلى العشرين
تبدأ بحراسة باب الخلية، وبالسرح لجمع الرحيق والعكبر والماء ... إلخ، وتستمر على ذلك حتى وفاتها.
اليوم الخامس والعشرون
تبدأ بجمع العلك.
وبالرغم من بعض الاختلاف في تاريخ البداية بهذه الوظائف، وفي مدة القيام بها، فالمهم أن بين النحل العاملات توزيعا محكما للعمل وتقسيما دقيقا له وتقديسا مستمرا لروح العمل، وها هي ذي نظرة إلى باب أي خلية عارمة - فضلا عن مراقبة «خلية الرصد» - ترينا كيف تقسم النحل العمل فيما بينها: فها هي ذي النحل المروحة عند الباب، وها هي ذي غيرها تبدو على أرضية الخلية وعند الباب أيضا مشغولة بتنظيفها لفكوكها، وها هي ذي بعض النحل تنقل إلى الخارج ما تساقط من قشر الشمع وأي أدران على قاعة الخلية وأي نحل ماتت داخلها، وها هي ذي نحل أخرى مزدحمة عند حافة الغدير حول العشب تجمع الماء لتستعين به في تهيئة غذائها ولتساعد بوضعه في الخلية على عملية التبخر المائي التي يترتب عليها ضبط درجة الحرارة في الخلية، هذا إلى أفواج النحل المشغولة بجمع الرحيق والطلع والعلك وإلى جماعاتها المشغولة ببناء الأقراص أو بتغطية عيونها سواء بالشمع الخالص كما يحدث لعيون العسل أو بالشمع الممزوج بالطلع كما يحدث لأغطية بيوت الحضنة ولبيوت الملكات؛ لأن هذا المزيج يهيئ للبيت ثقوبا دقيقة تساعد على تنفس الحشرة داخلها، وتبدو هذه الأغطية قاتمة بالنسبة لأغطية بيوت العسل، وأغطية بيوت الذكور تتميز بأنها محدبة كالقبة، وهكذا ترى أن اسم «العاملات» هو اسم على مسميات حقا. فلقد يبلغ ببعض العاملات التوق إلى أداء الواجب، بل إلى ما هو أكثر من الواجب، أنه عند افتقاد ملكة الطائفة لحادثة من الحوادث أن تهرع في لهفتها - وقد تنبهت مبايضها الضئيلة الأثرية - إلى البيض رغبة في التعويض عن فقدان الملكة، ولكن هذا البيض الذي تجود به إناث غير كاملات أو خناث لا ينتج سوى ذكور هزيلة، وقد يعاني النحال من هذا الوفاء الغاشم من هذه «العاملات البياضة» التي قد تدل من البداية على لهفتها بتهافتها على وضع عدد من البيض - بدل بيضة واحدة كما هو شأن الملكة - في كل عين تحت تأثير عامل الأمومة الجديدة والغيرة على حياة الطائفة، ولذلك تنعت أحيانا هذه العاملات البياضة «بالأمهات الكاذبة»، ويضطر النحال بأساليب شتى إلى التخلص منها أو إلى إضاعة نفوذها تمهيدا لإعطاء الطائفة ملكة جديدة أو بيت ملكة على وشك الخروج منه نقلا من طائفة أخرى، وربما كان من أيسر الوسائل المهيئة لذلك إعطاء هذه الطائفة التي تظهر فيها العاملات البياضة أقراصا من الحضنة المختومة من طوائف أخرى قوية؛ لأن هذه الحضنة متى خرجت من بيوتنا المختومة خلقت جوا جديدا وعقلية جديدة في الطائفة، وأرجعتها إلى حالتها الطبيعية في نفسيتها فتقبل الملكة الجديدة أو بيت الملكة التي على وشك الخروج. - برافو يا بثينة، ... هل من عجب بعد ذلك إذا تعلقنا بحب نحلتنا العزيزة، وهي التي بلغت نفس منزلتها الحاضرة قبل أن تعرف الكرة الأرضية الإنسان الأول؟ وهل من عجب إذا قدسها أجدادنا المصريون فنقشوها على معابدهم وعلى توابيت ملوكهم؟ - وهل من عجب يا أمين إذا كان فرجيل
Virgil - وكان شاعرا نحالا مثلك - قد تغنى بالنحل في كتبه اللاتينية وأشاد بها، وقد أعطت الإنسان غذاء شهيا ومصدرا كريما لإضاءته، فإلى القرن السادس عشر الميلادي لم يكن الإنسان يعرف سوى عسل النحل معينا على تحلية غذائه، ولم يكن يجد أفضل من شمعها لصناعة شمع الإضاءة وعلى الأخص في كنائسه. لقد اكتشف الإنسان قصب السكر حول القرن الأول الميلادي، وقد ذكر الكاتب العالم استرابو “Strabs”
كيف أن أمير البحر لأسطول الإسكندر المقدوني أبلغه بإعجاب عن اكتشاف هذا «القصب العسلي» في طريقه إلى الهند، ولكن لم يفكر أحد قبل الأسبانيين في القرن الخامس عشر في استخراج العصير من القصب وفي صناعة السكر المتجمد حيث أقاموا مصنعا له في ماديرا، وحتى في ذلك الوقت كان السكر من الكماليات فلم يكن في متناول عامة الناس، وبقيت النحل ترعى الجماهير وأطفالها الصغار كما رعتهم من قبل ... - ولكن الآية انقلبت الآن يا بثينة، فقد كاد عسل النحل يعد من الكماليات، وبعد أن أثبت علم التغذية فائدته لأطفالنا ولمرضانا، فضلا عن أصحائنا حتى إن الدكتور بك “Dr. Beck”
في أمريكا ألف كتابا عن ذلك سماه «العسل والصحة» “Honey and Health”
جمع فيه آراء العلماء الثقات من شتى الأمم وآراء الهيئات الطبية المحترمة، أصبح لا غنى للنحالين ولهيئاتهم العاملة عن السعي لنشر النحالة الحديثة المنتجة حتى يصير عسل النحل شائع الاستعمال بسعر مقبول يستطيع أن يدفعه كل إنسان، فشتان بين القيمة الغذائية، فضلا عن المذاق والخواص الطبية التي لعسل النحل السهل الهضم الشهي الطعم الزكي الرائحة وبين المحضرات السكرية المغشوشة التي يخدع بها الجمهور وتسمى عسلا في حين أن الأزهار والنحل تتبرأ منها ولا تتبناها إلا آلات المصانع الحديدية، ولا يمكن أن يقر هذا الغش إلا جاهل أو مغرض، ولن تكون عاقبته إلا الإساءة للصحة العامة ... لقد صدق القدماء حينما سموا عسل النحل «شراب الآلهة».
وبينما هم في هذا الحديث الحلو وقفت سيارت بجوار المنحل ونزل منها شاب أنيق، وأقبل على المنحل وفي يديه علبة صغيرة، وهو يهتف: «لقد وصلت الأمانة يا أمين». - أهلا وسهلا، أي أمانة يا فريد؟ - إحدى لعبك يا عزيزي، وقد وصلت بالبريد العاجل من المنحل التعاوني في السويس، فتفضل يا حبيبي، وافرح بها ...
لقد ذهبت إلى منزلك زائرا فلم أجدك، وأصرت والدتك على أن أحضر لك هذه اللعبة فورا، فانظر كيف تستبدان بي؟
كان فريد طالبا في السنة النهائية بكلية الطب بجامعة فؤاد، وقد حضر إلى الإسكندرية لتمضية إجازته الصيفية، وكانت بينه وبين أسرة أمين وشائج قرابة فكان يعرف بثينة ولكن دون اختلاط، بل لعله لم يرها منذ سنوات كما أنه لم يتبينها في قناعها وفي ملبسها الرجالي ... وكانت أسرته موسرة فبدت عليه علائم الثروة والترف، وبعد تبادل التحايا، وبعد الاعتذار إلى بثينة لتقصيره في تحيتها، قال أمين: لقد جئت لي بخير هدية يا فريد، بل بهديتين، فقد أوحشني بعدك عنا في القاهرة، فجاءت زيارتك أول هدية نفيسة من صداقتك الباقية، وجاءت هذه الملكة الكرنيولية النقية الهدية النفيسة الثانية. فما رأيك وأنت في إجازتك السنوية لو أمضيت أياما معنا في المنحل مؤنسا ومؤنسا ومتعلما؟ ألا تزال تخاف النحل؟ ... فقال فريد وقد شجعه وأدهشه مرأى بثينة التي لم تستثن أنوثتها أحدا من جاذبيتها: أخشى أن أكون تلميذا بليدا ويخيب أملك في، بل وأكون باعثا لتعطيل أعمالكما.
فقاطعته بثينة كما قاطعه أمين بعبارات التشجيع والترحيب، واتفقوا على أن يحضروا معا بانتظام إلى المنحل، كما وعدهما فريد بأن يحضر شقيقته صفية إلى المنحل في الأسبوع التالي للمعاونة على فرز العسل للمرة الأولى، أو على جمع «القطفة» الأولى كما سماها أمين، وجاء لفريد بقبعة وقناع فلبسهما ووقف معهما يستمع ويتأمل معجبا. قال أمين: أتدري لماذا فرحت بهذه الملكة الكرنيولية يا فريد؟ - سمعت كثيرا يا سيدي عن مزايا هذا النحل الذي قيل إنه لا يلسع. - لا يا فريد، ليس هذا هو السبب، وعلى الهامش يجب أن تعرف أن جميع نحل العسل المستعمل في مصر يلسع فعلا، ولكن النحل الكرنيولي (نسبة إلى كرنيولة موطنه، وهي إحدى مقاطعات يوغوسلافيا) يمتاز مثل قريبه النحل القوقازي بالوداعة المتناهية نحو صديقه الإنسان، وإن كان أبعد ما يكون عن الوداعة إزاء أعدائه الطبيعيين كالشفافير والزنابير، ولكن فرحتي بهذه الملكة؛ لأنها من أول ما أنتجته محطة التربية التعاونية في السويس، وإني رجل أومن بالتعاون، وأعتقد أن الحركة التعاونية كفيلة بحل جميع متاعبنا الاقتصادية وغيرها، وأنها مدرسة الشعب البرلمانية، وها هي ذي تسعف النحالين المصريين بملكات هذا النحل الممتاز الشحيح في العالم، إن النحل الكرنيولي كما ترى سنجابي اللون كبير الحجم، بل لعله أكبر نحل الخلايا حجما، وملكته كبيرة الحجم كذلك ولونها البني أميل إلى القتامة، وإذا نظرتما إلى داخل هذا الصندوق بعد رفعي الغطاء الورق الذي كان عليه العنوان من فوق الغطاء السلكي فإنكما ستريان الملكة وحولها بعض العاملات الصبية لتعهدها بالتغذية في أثناء سفرها في البريد، ولو أن في نهاية الصندوق مستودعا صغيرا يحتوي قندا مكونا من العسل المعجون بدقيق السكر، وهذه العجينة لا هي بالجافة التي لا تستطيع النحل التناول منها ولا هي بالمائعة التي تغرق النحل فيها، فلو اتفق أن ماتت النحل المرافقة للملكة لأي سبب وبقيت الملكة حية فإن الملكة تستطيع تغذية نفسها من هذا القند مؤقتا حتى ينتهي سفرها ما دام مقصورا على يوم أو يومين. أما عن كيفية إدخال الملكة على النحل فلها مراسيمها وهي تختلف حسب طرائق الإدخال، ولكنها تشترك في اعتبار واحد وهو ضرورة شعور النحل أولا بفقد ملكتها، ثم إبداؤها الألفة نحو الملكة الجديدة قبل أن نسمح لأنفسنا بالإفراج عنها واختلاطها بالنحل، ومن الجائز إزاء النحل الكرنيولي أو النحل القوقازي - وكلاهما بعيد عن العصبية أو الشراسة - أن ندخل الملكة عليه فورا، ولكن لا بد قبل الإفراج عنها من تعود النحل عليها، والوقت الحاضر ملائم جدا لإدخال الملكات، فالحقول ما تزال سخية بالرحيق، وفي ذلك ملهاة لها عن تتبع استبدال ملكة بأخرى، ولكني على أي حال سأريكما كيفية إدخال هذه الملكة بطريقة هينة لا أقول إنها الطريقة المثلى، فطرق إدخال الملكات توحيها الظروف وأحوال الطوائف والنويات، ولكن حسبي أن أقول إنها من أمثل الطرق.
واتجه أمين معهما إلى طائفة كرنيولية قوية ففتح خليتها وأخذ منها ثلاثة أقراص من الحضنة المختومة وقرصين من العسل والطلع وعليها جميعا نحلها المعطى لها ولكن دون الملكة، فقد حرص على تركها في الخلية ووضعها في صندوق يسع ستة أقراص، وهو على شكل خلية صغيرة على حامل، وله غطاءان: غطاء داخلي من الخشب والسلك بمقبض في الوسط وغطاء خارجي مغطى بالصاج، وأحل محل تلك الأقراص إطارات بأساساتها الشمعية بعد أن وزعها ما بين أقراص الحضنة الباقية في غرفة التربية للخلية التي فتحها، مبينا أن هذا إجراء مباح في هذا الوقت؛ لأن الفيض من العسل الذي لم ينته بعد سيسمح للنحل ببناء أقراصها الجديدة على تلك الأساسات كما سيسمح للملكة بالبيض فيها، وأما عن ذلك الصندوق الذي وضع فيه تلك الأقراص الخمسة وعليها نحلها فقد قال عنه إنه يسمى «صندوق نواة» - والنواة عبارة عن طائفة صغيرة - وأنه سيدخل الملكة الجديدة فيه (وكان قد وضعها في مكان ظليل حتى لا تسيء أشعة الشمس إلى الملكة، ولو أن الوقت كان أصيلا والجو لطيفا)، وأنه ترك محل القرص السادس خاليا زيادة في التهوية داخله إلى أن ينقل النواة فيما بعد متى ترعرعت إلى خلية كبيرة حيث يزودها بأقراص شمعية خالية أو بإطارات ذات أساسات؛ ليعطيها الفرصة لاستكمال قوتها حتى تصبح طائفة كاملة، وقال أمين إنه سيقفل هذا الصندوق مؤقتا مسافة نصف ساعة قبل إدخال الملكة الجديدة، وذلك حتى يلاحظا تصرف النحل حينما تكتشف فقدان ملكتها، وكذلك تصرف النحل البالغة بهرعها عائدة إلى خليتها الأصلية، وفي أثناء مرور هذا الوقت شرح لهما أمين أن سبب اختياره لأقراص الحضنة المختومة هو تعويض النواة عما تفقده من النحل السارحة العائدة إلى خليتها الأصلية؛ لأن النحل التي ستخرج من البيوت المقفلة ستحل محل النحل الهاجرة بل ستزيد، وستكون خير رفيقة للملكة الجديدة حينما يحين وقت بيضها فترعى حضنتها وتشجع الملكة على البيض، وسرعان ما يحين وقت سرحها مع أخواتها السابقات، وسرعان ما تصبح النواة جديرة بالحلول في خلية كبيرة وأهلا لأن تعد طائفة، وقال: إن صندوق النواة هذا قابل لأن يكون صندوق سفر لإرسال النواة به في قطار المساء إلى أي عنوان في القطر بحيث يصل النحل في أول النهار أي قبل اشتداد الحر، وما على النحال إلا أن يسمر أطراف الإطارات داخل الصندوق، ويحكم قفل غطائه الداخلي المؤلف من السلك والخشب، ويسد بابه بعد أن تأوي النحل السارحة إليه - إذا كانت النواة قديمة فيه - وينزع الغطاء الخارجي محتفظا به في مخزنه إلى أن يعاد إليه الصندوق فارغا فيعيد استعماله، أو يمكن استعمال صناديق سفر أبسط وأخف وأرخص فتباع مع النحل دون احتياج المربي النحال إلى إعادتها إليه، ويجب أن يلصق أعلى صندوق السفر تحذير من وضعه في الشمس أو بالقرب من النار أو في مكان حار ساكن الهواء أو من تعريضه للمطر أو لأي إصابة أو رجة عنيفة، ويجب أن يبقى قائما هكذا في أثناء السفر بمعنى أنه لا يجوز قلبه أو وضعه على جانبه.
وأخذ أمين يشرح لهما في إسهاب ضروب النحل الرئيسية المستعملة تجاريا لإنتاج العسل. وخلاصة قوله: إن ثمة ثلاثة ضروب من النحل تنعت بالنحل القياسي. ألا وهي النحل الكرنيولي والنحل القوقازي والنحل الإيطالي، وقد نعتت هكذا لأنها ثابتة في صفاتها قابلة للتأقلم، كما أنها كبيرة الطوائف منتجة للعسل، وقد جربت جميعا في المناطق الباردة والمعتدلة والاستوائية، فكانت تتأقلم وتعيش وتنتج خيرا من إنتاج النحل الأصيل في تلك المناطق، وهذه أمريكا كان نحلها الأصلي أسمر أو بني اللون ولم يكن منتجا إنتاجا مذكورا، فجلبت من إيطاليا ملكات إيطالية جيدة حولت بها وبما ربته محليا من ملكات إيطالية في محطات معزولة لطوائف ذلك النحل الهزيل إلى طوائف إيطالية على مر السنين، وأخيرا أدخلت النحل الكرنيولي والنحل القوقاسي؛ لما ثبت لهما من مزايا خاصة لا بالنسبة للوداعة فقط بل في إنتاج العسل الشمعي الفاخر، ولما اتصفت به ملكاتها من الخصوبة، ولطول عمر هذا النحل السنجابي نسبيا، ولتعففه عن السرقة من الطوائف الأخرى، ولعزوفه عن جمع المادة الصمغية المفسدة لقطاعات العسل الشمعي، ولسهولة إدخال الملكات عليه، ولسهولة الاشتغال به عامة، وقد دلت تجربة النحل الكرنيولي في مصر على أنه حري بالتقدير، واستفدنا فائدة إضافية من إنتاج الهجين الأول ما بين الكرنيولي السنجابي والمصري الأصفر، أي من تلقيح الملكات الكرنيولية العذارى بذكور مصرية، أو من تلقيح ملكات مصرية عذارى بذكور كرنيولية؛ إذ جاء هذا النحل الهجين الأول منتجا أحسن إنتاج مستطاع مقبول الطباع (وإن لم يكن في وداعة الكرنيولي الأصيل)، وكان لنا بمثابة نحلة مصرية جديدة نافعة. أما النحل القوقاسي فكثير الشبه به ولكنه أصغر منه حجما، ولذلك كانت مصلحتنا في الاكتفاء بالضرب الأول، بل لا شك أن مصلحتنا القومية تدعو إلى جعل مصر محطة قومية عالمية لتربية النحل الكرنيولي استغلالا لما فيها من جهات معزولة متعددة في الواحات وفي منطقة القنال وفي الفيوم وفي دمياط وفي جهات أخرى، وانتفاعا بظروف مصر الخاصة من اعتدال الجو وسبق الربيع فيها وانعدام أمراض النحل الوبائية وقلة تكاليف الإنتاج وحسن مواصلاتها الجوية مع ممالك شتى مما ييسر لها إنتاج ملكات هذا النحل الممتاز إنتاجا مبكرا، وتوزيعها على شتى الممالك توزيعا سريعا، وبأثمان اقتصادية هي في الوقت ذاته غنم لنا نظرا لقلة تكاليف الإنتاج نسبيا عندنا، وسيكون من الميسور لنا إذا ما أخذنا جديا بسياسة إنشائية إصلاحية أن ننتج الآلاف العديدة من الملكات الكرنيولية العذارى، ونوزعها بأسعار يسيرة على شتى المناحل المصرية؛ لنحقق في النهاية إبدال نحلها العصبي الهزيل بهجين الكرنيولي الأول المتفوق. هذا، والملحوظ أن جميع النحل الأصفر كالمصري والسوري والقبرصي والإيطالي عصبي المزاج وإن يكن على درجات متفاوتة، ولا شك أن النحل الإيطالي أهدأ هذه الضروب وأوفرها إنتاجا وأصلحها للتأقلم، ولذلك عد أحد ضروب النحل القياسية الثلاثة، ولكنه أقل صلاحية لنا في مصر من النحل السنجابي بنوعيه (أي الكرنيولي والقوقازي) إلا إذا كان نقيا؛ لأنه متى تهجن فإن هجينه مع الدم المصري سيكون عصبيا، وقد يحتمل هجينه الأول، وربما جاء في مثل هدوء هجين الكرنيولي الأول، ولكن الهجين الثاني وما بعده لا يمكن أن توصف طباعه بكلمة خير، ولذلك ليست لنا مصلحة في تشجيع التوالد بين الضروب الصفراء، التي كثيرا ما يحدث الغش في بيعها بعكس النحل الكرنيولي النقي فلا مجال للغش في لونه السنجابي الواضح.
ولما بلغ أمين بحديثه هذا المبلغ كان قد مر نصف ساعة على تكوين تلك النواة، فتطلع مع صاحبيه إلى باب صندوقها حيث رأوا النحل قلعة حائرة ما بين طائرة ومتمشية مسرعة تفتش حول بابه داخلة خارجة كأنما منها استوحى شكسبير وصفه لطائفة النحل الغاضبة في روايته (هنري السادس)، وحينئذ ذهب أمين وأحضر دلوا صغيرا من الماء، والعلبة الصغيرة التي وردت فيها الملكة ووصيفاتها وقفصا مستديرا من السلك والمعدن في هيئة قبة، وقال لهما: الآن يمكننا إدخال هذه الملكة على النواة، وطريقتي أن لا أستعمل هذه العلبة التي جاء فيها لحبسها في أثناء فترة الإدخال خصوصا؛ لأن النحل الوصيفات غريبات عن النواة، ففي وجود هذه الوصيفات إثارة إضافية لبغضاء النحل، وإنما طريقتي هي أن أغمس هذه العلبة كما هي في الماء نحو عشرين ثانية هكذا، ثم أصفي ما فيها من الماء وأرفع الغطاء السلكي وعيني على الملكة واضعا القلب على غطاء إحدى الخلايا المجاورة كأنه منضدة ، وفي سرعة أستدرج الملكة للدخول في قفص الإدخال هذا، وحينما تصعد إلى أعلاه أضعه وفتحته إلى أسفل، وفي سرعة أفتح صندوق السفر أو صندوق النواة وأستخرج منه أحد قرصي العسل والطلع، وأزيح النحل عن أحد أركانه العليا، وبعد تجريح غطاء العيون العسلية تجريحا خفيفا بالشوكة، وحينما ألحظ الملكة في أعلا قبة قفص الإدخال السلكي كما هو الحال الآن، أنقل القفص سريعا إلى المكان الذي أعددته؛ لتثبيته عليه من القرص حتى يصل إلى أساسه الشمعي، وهكذا أعيده إلى محله وأقفل الصندوق دون أن تفوتني كتابة المذكرة الواجبة عن النواة وما جرى لها ووضعها تحت الغطاء الخارجي للصندوق، وبهذه العملية سيتاح لنحل النواة الاطمئنان إلى وجود ملكة جديدة، وسيتعرف إليها عن كثب، ثلاثة أيام مثلا، حتى تكتسب رائحة النواة قبل الإفراج عنها في هدوء وأمان، وهي في أثناء حبسها تبقى في مأمن من الجوع، وبديهي أنه ممكن إجراء هذه العملية - بعد نفض النحل داخل الصندوق - في إحدى غرف المنحل بعد قفل بابها. حتى إذا ما طارت الملكة مصادفة (والغرض من غمسها في الماء تعطيلها عن ذلك) لم تقع في يد النحال.
سرت بثينة وفريد من هذه المشاهدة ومن شرحها، ولكن فريد استأذن في الانصراف؛ لارتباطه بمواعيد أخرى، وتركهما على وعد من تكرار الزيارة لهما وللمنحل - تركهما وقد أكملا يومهما في حبور، ولكن بثينة بدا عليها اهتمام جديد لم يلحظه أمين في البداية، وقد أخذت تفكر وتفكر.
الفصل الثامن
رأت بثينة وأمين أن لا بد لهما من الإكثار من زيارة المنحل، وقد انتصف شهر يونية، وانضم إليهما فريد، وقد تشجع واستثيرت رغبته، فكان ثلاثتهم صحبة منسجمة للدرس والائتناس. فكانوا يتبادلون الملاحظات والأسئلة والأجوبة في زياراتهم اليومية للمنحل حتى صار فريد وبثينة توأمين في الخبرة والمعرفة، وكان فريد وشقيقته صفية عونا لأمين وبثينة في إجراء عملية الفرز الأولى وقد بكرا لها، وزاد من أنسهما أن أحضرت بثينة معها شقيقتها الصغرى نادية، وفي أصيل اليوم السابق هيأ أمين الخلايا المراد فرزها بوضع جهاز خاص لفرز النحل من العاسلات في فتحة الغطاء الداخلي الذي أحله ما بين العاسلات وغرفة التربية، مفسرا بأنه متى جاء الصباح فسيهبط النحل جميعه من العاسلات، وستتاح لهم فرصة فرز أقراصها دون أي عناء أو مضايقة للنحل أو لهم.
وفي صباح اليوم التالي حضر الجميع مبكرين، واتفقوا على أن تتولى الآنسات الثلاث عملية الفرز داخل الغرفة المخصصة له، وأن يقوم أمين وفريد بنقل أقراص العسل إلى غرفة الفرز، ثم إرجاعها إلى الخلايا بعد إتمام فرزها، وبدأوا متعاونين بغسل حجرة الفرز، ثم بغسل الفرازين والفناطيس المعدة لتلقي العسل المفروز فيها والمواعين المخصصة لوقوع الأغطية الشمعية من أقراص العسل عليها عند كشطها، وكذلك أدوات الفرز والغرف الصغيرة من سكاكين وشوك ومغارف ونحوها، ولكن أمين رأى قبل البدء لعملية الفرز أن يوجه إلى الجميع ملاحظات عامة للاسترشاد بها وبيانا عن أسباب تصرفاته فقال: إذا كنت أتعبتكم بهذا الغسل الشامل لغرفة الفرز ومحتوياتها قبل إجراء عملية الفرز كما سأتعبكم بمثله بعد الفراغ منها، فلا ريب أنكم تقدرون مثلي السبب الموجب لهذه العناية، وهو أننا نتناول مادة غذائية سلمتها إلينا النحل نقية فوجب علينا أن نحافظ على نقائها، ولو بيدي لما اكتفيت باستبدال الخلايا الطينية القذرة، بل لوضعت قانونا لهجين المناحل أسوة بمعامل الألبان وجميع المصانع المنتجة للمواد الغذائية، ولا يعفينا من ذلك أن عسل النحل بطبيعته مادة غير صالحة لنمو الجراثيم الممرضة فيها مثل جراثيم التيفود والديسنطاريا وما إليها، وأحب قبل أن نبدأ العمل أن أوجه نظركم إلى بضعة اعتبارات هامة: فأولها أن استعمال مصرف النحل ينبغي أن يقترن بسرعة الكشف عن العاسلات؛ إذ لو حدث خلل في هذا الجهاز - على بساطته - فستكون النتيجة حبس النحل في العاسلات، وسيقضي عليها حتما إذا اشتد الحر كما ستصاب الأقراص بتلف، ولذلك وضعت المصارف في أماكنها من الأغطية الداخلية في خمس وعشرين خلية، أمس عصرا، استعدادا لعملية الفرز هذا الصباح، واكتفيت بهذا العدد لفرز اليوم؛ لأني قدرت أن في ذلك ما يشغل وقتنا وأوعيتنا أو يزيد، فإن فرز خمسمائة قرص تحوي زهاء خمسة وعشرين قنطارا من العسل ليس أمرا هينا، وقد اتفقت مع مساعدي على الحضور قبل الغروب في سيارة من شركة النقل الأهلية لنقل فناطيس العسل، كما اتفقت مع شريكتي العزيزة الآنسة بثينة على تولي تصفيته ثم تعبئته فيما بعد، وتعهدت بأن لا أغالطها في نصيبها الحق جزاء تعبها بعد تسويق العسل والحصول على ثمنه، والآن أعلن تعهدي لكم أيضا بأن لا أغالطكم، وسيكون لكم نصيبكم أيضا من هذا النضار السائل تحت أقدامكم وفي متناول أيديكم، بل أخشى أن تسخطوا عليه؛ لأنكم لن تتموا عملية الفرز إلا وتجدوا هذا النضار السائل منثورا ومفروشا أينما سرتم ولاصقا بأجسامكم ... فضحك الجميع، وقالت صفية: إنهم مكتفون «برائحته» ... وقال فريد: بل إنه متطلع إلى فكرة المشي على بساط العسل ... فقال أمين: لا تعجب لهذه الملاحظة، فبالرغم من كل حيطة لا أدري كيف يتسرب العسل إلى أرضية غرفة الفرز وإلى جوانبها وإلى كل من فيها وإلى كل محتوياتها، ولذلك فإني أخصص لمن يعملون في فرز العسل طاقيات أو قبعات بيضاء خاصة، وكذلك أردية خارجية بيضاء، محاولة لصيانة العسل من التلوث ومحاولة لصيانة الفارزين من أن يعسلوا ... وبهذه المناسبة تحضرني أسطورة «الطريق الذهبي» أي المفروش بالذهب، فهي ووصف الطريق العسلي سيان في الخيال والحقيقة ... وتجيء سيرة الطريق الذهبي في قصص شتى للأطفال حتى رآه الكبار رأي العين في غينيا الجديدة، وقد رصف العمال بين أحراجها ميلين من طريق جديد فلما جفت الأرض وجدوا الطريق يتألق براقا في أشعة الشمس وقد حوت الحجارة التي يستعملوها في رصف هذه المسافة الصغيرة منه ما قدر بخمسة وأربعين ألف أوقية من الذهب يبلغ ثمنها مليونا من الدولارات ...! وهكذا تجيء سيرة العسل المفروش في الطرق المزهرة في كتب الأطفال الخيالية، وكيف تخطر عليه الحوريات، وكلما سارت عليه زاد حلاوة فتوزعه ذات اليمين وذات اليسار، وكلما لمسته استحال إلى حلوى مبلورة هي أمنية الأطفال ... وسنرى اليوم العسل تحت أقدام الآنسات.
فقاطعته بثينة قائلة: أراك قد عدت إلى استرسالك القديم يا أمين، ولن ينفعنا ظرفك ومؤانستك إذا ضاع الوقت فإننا لم نبدأ بأي عمل بعد، ولم تتعد في ملاحظاتك أولاها ...
فقال أمين: صدقت يا عزيزتي، فأنت أدرى الجميع بعيوبي، وأنت جديرة بوقفي عند حدي ... إن ثاني الاعتبارات التي أريد توجيه أنظاركم إليها يا ضيوفي الأعزاء: هو أن الاستغناء عن مصرف النحل والاكتفاء بنفض الأقراص واحدا بعد آخر سواء بهزها أو بواسطة مسحها بفرشاة ناعمة طويلة الشعر ليس معناه المشقة والعطلة فحسب، بل تعريض الطائفة كذلك إلى اضطراب شديد نتيجة هذا العمل، وقد يكون من عواقبه فقدان الملكة، وعلى الأخص إذا أضاف النحال إلى هذا الخطأ خطأ آخر وهو إجراء الفرز بعد انقطاع الرحيق حينما تنزع النحل إلى السرقة بعضها من بعض فتهجم النحل الغريبة على ملكة الطائفة وتقتلها وتضايق المشتغلين في غرفة الفرز مهما أحكموا قفلها واحتاطوا ضد دخولها إليهم لسرقة العسل. أما ثالث الاعتبارات: فهو أني أتحاشى فرز الأقراص غير المختومة، ولذلك لا أتعجل الفرز بل أنتظر حتى تغطيها النحل بطبقة من الشمع إيذانا بنضوج ما فيها من العسل، وحينئذ لا خوف على هذا العسل من الاختمار بعد فرزه؛ لأن كثافته وتركيز السكر فيه ستحول دون نشاط جراثيم الاختمار، وهأنذا لم أتلهف على الفرز المبكر حبا في اكتساب السوق ولو بعسل ناضج قابل للاختمار، ولم أتباطأ أكثر مما ينبغي حتى ينقطع الرحيق وتضايقنا النحل السارقة، وكثيرا ما يحدث في هذه المنطقة ما بين منتصف يونية ومنتصف يوليه أن يشح الرحيق، وذلك قبل تزهير القطن أو الخضر تزهيرا كافيا، وفي مقدمتها البامية التي تعتبر من الوجهة النباتية من فصيلة القطن وتدر مثله رحيقا وفيرا مدة طويلة تعد بالأسابيع، ولكن الغالب في هذا العام بسبب تأخير فيض البرسيم نتيجة تأخر الربيع أن لا تنشأ فترة الجدب المعتادة، وأن يلاحق فيض العسل من الخضر والقطن - على قلة المزروع منه في هذه المنطقة في زمن الجدب - فيض البرسيم، وقد اعتاد النحالون في مثل منطقتنا هذه في فترة الجدب أن يبتعدوا ما أمكن في أثناءها عن فتح الخلايا إلا لضرورة قصوى، وعن عمل النويات، وعن إدخال الملكات وما إلى ذلك من عمليات لا نتيجة لها غالبا إلا الفشل بسبب شيوع النحل السارقة، وجسها النبض عند أبواب الخلايا، واستعدادها لمهاجمة أية طائفة يتيمة كسيرة الجناح أو أية نواة ضعيفة، وإن نجاح إدخال الملكات ليساعد عليه أن يكون في أثناء فيض الرحيق أو في أثناء تغذية صناعية سخية بشراب سكري أو بعسل مخفف بالماء حتى تشغل النحلة بهذه التغذية عن التربص للملكة الجديدة، وهو مبدأ سيكولوجي له اعتباره في الحشرات والحيوانات كما له اعتباره في عقلية الإنسان، ولعلكم تذكرون خطبة الحجاج بن يوسف الثقفي في المسجد الجامع بالكوفة حين ولي العراق، وكان متلثما بعمامة خز حمراء كما نتلثم نحن بهذه الأقنعة فقد قال منذرا فيما قال: « ... أو لأدعن لكل رجل منكم شغلا في جسده!» أي عقابا جسديا يشغلون به عن مناوأته، ومبدأنا واحد، ولكنا لا نشغل النحل في هذه الحالة بالعقاب بل بالثواب، وهو ما يفعله كثير من قادة الشعوب فيشغلونها بمسائل صغيرة تثير اهتمامها حينما تكون عنايتهم موجهة إلى مسألة كبرى تعنيهم وحدهم، ومسألة المسائل للنحال في تلك الحالة هي التوفيق في إدخال الملكة وسلامتها وتلاحظون ...
فقاطعته بثينة قائلة: لا يا أمين، يظهر أنك تريد تقليد شيشرون ... دعنا بالله من التاريخ والاجتماع، ولنؤجل إكمال محاضرتك اللذيذة الممتعة إلى جلسة سمر في بيتي أو إلى فرصة أخرى، فإن الوقت يضحك منها ويهرب معجلا، وقد مضت علينا ساعة في غسل وحديث ولم ننجز شيئا بعد من عمل اليوم، مع أنك أنذرتنا بوجوب إنجازه ... - سمعا وطاعة يا مولاتي.
وبزعامة بثينة وبإرشاد أمين بعد أن تعاون وفريد على نقل العاسلات تباعا إلى غرفة الفرز تمكنوا من إنجاز عملهم على أحسن وجه (وإن لم يستطيعوا فرز جميع الأقراص) ومن إعادة الغرف بأقراصها المفروزة إلى الخلايا بعد أن رفعوا الأغطية الداخلية إلى أعلا العاسلات، ونزعوا مصارف النحل منها، واتفقوا على أن يستريحوا يوما؛ ليكملوا فرز بقية المنحل على دفعتين بمثل ذلك الاستعداد ، وقال لهم أمين: إن النحل كفيلة بتنظيف الأقراص المفروزة، وجمع ما عليها من عسل، وإيداعه في بعض عيون القرص، ثم استئناف عملها في الحقول للمحصول الثاني، حتى إذا ما حان شهر أغسطس كان لهم أن يتطلعوا لفرز «القطفة الثانية» من العسل الناتج من القطن والخضر، وهو زيتي اللون وأكثف قواما من عسل البرسيم الأبيض ومن عسل الموالح الذي لا يشبهه إلا في اللون، والذي يتيسر في مناطق الدلتا الغنية بأشجار الموالح وعلى الأخص في مديريتي المنوفية والقليوبية، وذكرهم بأن العسل كالأنبذة شتى الألوان والطعوم، فمنه عسل الفول الأبيض الذي اشتهرت به بعض المناطق في الصعيد وعلى الأخص مديرية المنيا، ومنه العسل القاتم الناتج من الأشجار العسلية في جيرة البساتين كبعض أعسال القاهرة والإسكندرية والقناطر الخيرية، ومعظمه من إنتاج المدن التي تكثر فيها الحدائق؛ إذ ليست لنا الغابات الشائعة في أقطار أخرى، وقال: إن العسل المصري على اختلاف صنوفه من أفخر أعسال الدنيا، فهو على أي حال جدير بعنايتنا، وقد علمهم أمين طريقة بسيطة لإعداد الأقراص للفرز، فما كان يلجأ إلى السكين الطويلة الساخنة لإزالة أغطية الأقراص قائلا إنه لا يرى موجبا لاستعمال هذه السكين، أو كبديلتها السكين البخارية والسكين الكهربائية، إلا في المناحل الكبرى - وقد سبق له استعمالهما في أمريكا حيث تستعمل أيضا الفرازات الكهربائية - وحسبه في منحله الصغير هذا (وإن اعتبر منحلا كبيرا في مصر) أن يلجأ إلى كشط أغطية الأقراص تجريحا بالشوكة فقط؛ وسيكفي هذا لخروج العسل من عيون القرص بالقوة الدافعة للفراز حين إدارته، وقد عني أمين من البداية بالتأكد من عدم صعود الملكات إلى العاسلات قبل وضع مصرف النحل ما بينها وبين غرفة التربية، فكانت الخلية التي يجد في دورها الثاني أقراصا من الحضنة يتركها حتى يفحصها في مرة تالية، ولو أن مصرف النحل كفيل على أي حال بهبوط الملكة مع نحلها، وحدث فعلا أن فاتته رقعة من الحضنة، في أحد الأقراص العاسلة فبقيت النحل عليها ومعها الملكة فتدارك ذلك، وقال إنه لا يجاري الداعين إلى استعمال «حاجز الملكة» ما بين غرفة التربية والعاسلات؛ لأنه معطل لعمل النحل. والحاجز عبارة عن مسطح من الزنك مساحته السطحية مساحة غرفة الخلية، وهو مثقوب بثقوب تسمح بمرور العاملات، ولا تسمح بمرور الملكة إلا إذا كانت شاذة في صغر حجمها كبعض الملكات المصرية، وهو يوضع فوق غرفة التربية، أي ما بينها وبين العاسلات، وثمة أشكال أخرى من حواجز الملكات بعضها مصنوع من السلك المتين المضفور والخشب، ولكن أمين كان ينفر من هذه المعدات التي تضاعف العمل وتضيع الوقت وتعرقل النحل، ومن أجل ذلك كان يضحك من استعمال مصايد الذكور على أبواب الخلايا، ويجعل شعاره «الوقاية خير من العلاج».
كان ذلك اليوم يوما من أيام النصر لأمين وبثينة، فعادا مخمورين بحلاوته، كما عاد الجميع في مثل نشوتهما، ولكن كانت لكل منهم آمال خاصة وإن اشتركوا في أحلامهم المجنحة.
الفصل التاسع
مرت الأسابيع سراعا، ولكنها مرت حافلة عامرة، وقد انتظم ثلاثتهم - أمين وبثينة وفريد - في الحضور إلى المنحل، دون أن يفوتهم التردد أيضا على المناحل الأخرى، وتخلى أمين عن أنانيته وحبه الاستمتاع وحده بصحبة بثينة رغبة منه في استفادتها علما وتمرينا وإنتاجا، فكان يعرفها إلى أصدقائه النحالين المتعلمين، وكان يعطيها كل الفرص المتاحة للمشاهدة والخبرة، وأجاز أحلامها فهيأ لها فرصة في أثناء فيض عسل القطن والخضر لتربية الملكات صناعيا مختارا يرقات طائفة كرنيولية ممتازة، فكانت فرحة بثينة عظيمة بنجاحها، وتردد الطلبة على المنحل فتهيأت منهم حلقات للدرس، وكانت بثينة وفريد يتبادلان معا إرشاد المبتدئين طورا تحت إشراف أمين وتارة مستقلين، وكان أمين في تدريبهما يجهد كأنه يسابق الزمن، كأنما يريد أن يلقنهما في أسابيع ما يستأهل شهورا من الدرس، وأن يمرنهما على تلك المعرفة تمرينا قويا جبارا، والمثل يقول: «حيثما وجدت الرغبة وجدت الوسيلة» وقد كانت الرغبة قوية في المعرفة والتمرن عند بثينة وفريد، فكانا متجاوبين مع أستاذهما تجاوبا تاما، وكانت حماستهما لا تحد. درس أمين معهما شتى الأزهار التي يهواها النحل، وكثيرا ما كان يصحبهما إلى الحقول وإلى شاطئ الترعة وإلى حوافي الجداول لجمع الأزهار ثم يدرسونها معا - في مكتبه وعلى الأخص الأعشاب الآبدة منها - مستعينين بما لديه من مراجع علمية عن النباتات العسلية، ولم يفته معهما فحص نماذج من العسل ميكروسكوبيا بعد ترسيب محتوياته من الطلع؛ للاستدلال منها على مصادره ومعرفة صنفه، وهكذا كان ينتقل بهما من النظريات إلى العمليات ومن العمليات إلى الفحص العلمي الخالص وإن كانت له قيمته التطبيقية.
ودرس معهما بصفة خاصة كيفية ضبط الانثيال في المنحل (وإن كان وقت الترويح إليه محصورا في مدة معينة تختلف باختلاف كل منطقة، وإن عمها إجمالا جانب من فصل الربيع) وكيف يمكن عمل نول صناعي، أي تقليدا للطبيعة، وذلك بأخذ أقراص الحضنة بما عليها من نحل من الطائفة النزاعة إلى الانثيال المصرة على بناء بيوت الملكات وتربيتها ونقلها إلى خلية جديدة في مكان آخر مع بيت ملكة جيد النضج، على أن يترك في الخلية الأصلية قرص من الحضنة المختومة، وتنزع البيوت الأخرى إذا لم توجد حاجة إليها أو تستعمل في خلايا أخرى تحتاج إليها إما بسبب يتم طوائفها وإما استبدالا لملكاتها المسنة أو العاجزة، وإما لتأليف نويات جديدة، وهكذا لا يبقى في الخلية الأصلية سوى أقراص العسل والطلع والملكة وبعض النحل الصبية والمتوسطة العمر وجمهرة النحل، وفي المعتاد يكفي هذا لتثبيط روح الانثيال التي يعدها أمين من أخطر ما يسيء إلى المناحل الخارجية أي المناحل الريفية البعيدة عن المنحل المركزي، أي عن مكان الإدارة.
كذلك أراهما كيف يمكن عمل ثلاث طوائف من طائفتين مستعينا بأقراص من الحضنة وبيت ملكة من إحداهما وبالنحل من الطائفة الأخرى حيث يضع الخلية الجديدة محلها، كما أراهما عمليات شتى على هذا النحو وغيره بالإكثار متى توفر النحل وبيوت الملكات والملكات، وإنما كان يشترط لنجاح كل ذلك أولا: مواتاة الظروف بالنسبة للجو والرحيق، وثانيا: استغلال رغبة النحل ذاتها في التكاثر، فكان يأبى تقسيم أي طائفة لا تنزع إلى بناء بيوت ملكات إلا إذا كانت في متناوله ملكات جديدة مخصبة، وكان مع ذلك الجو والرحيق يسبب ما يطرأ من ظهور «أمهات كاذبة » أي «عاملات بياضة»، وهذه وإن لم تكن مألوفة بهذه الصورة في هجين النحل الكرنيولي الإيطالي إلا أنها كثيرا ما تظهر في هجين النحل الشرقي والأفريقي متى أحست الطائفة بفقد ملكتها، فتكون هذه «العاملات البياضة» مبعث متاعب عديدة.
ودرس أمين معهما علامات السرقة، سرقة النحل من بعض، وكيفية تحاشي ذلك بعدم فتح الخلايا في أثناء النهار عندما ينضب الرحيق بالحقول، وبتحاشي عرض أية مادة سكرية في المنحل إبان فترة الجدب، وبالامتناع عن أية تغذية إلا قبيل المساء وعلى وجه السرعة وعند الضرورة فقط حتى لا تنتبه النحل الطائرة إلى هذه العملية، فتهاجم الطوائف المغذاة حتى ولو كان لدى طوائفها هي الغذاء الكافي بل نفس التغذية الصناعية.
وعودهما الاستماع إلى أصوات النحل المختلفة، وتبين الفروق بينها - من صوت الملكة التي تنادي طائفتها للانثيال، إلى صوت النحل الصبية التي تطير لأول مرة راقصة مرحة مستمهلة أمام باب الخلية دارسة معالمها وجيرتها قبل أن تجازف بالابتعاد عنها، إلى صوت النحل اليتيمة المستكينة، إلى صوت النحل الخائفة، إلى صوت النحل القانعة الراضية، إلى صوت النحل الغاضبة، إلى صوت النحل السارقة، إلى صوت الذكور المتميزة الطنين في أثناء طيرانها، وكان يبين لهما فائدة هذه المعرفة من الوجهة العملية، ووقعت مرة حادثة سرقة لنواة فعمل على وقف السرقة بنقل النواة من محلها مؤقتا وبدهن بابها بمحلول الكربوليك فلم يجد ذلك نفعا، وأخيرا ضمها إلى طائفة صغيرة لم تعجبه ملكتها فقتلها واضعا جريدة مبسوطة فوق غرفة التربية وقد ثقبها ثقوبا متعدة بمسمار صغير واضعا أقراص النواة بنحلها في الدور الأعلى، ثم قافلا الخلية بعد ذلك حتى يتيح للنحل فرصة قرض الجريدة في مواضع الثقوب، ثم الاختلاط بعضها ببعض دون نزاع بعد أن تتوحد رائحتها، وقد أوضح لهما أن هذه هي الطريقة المثلى للتوحيد (أي الضم)، وأن الواجب اللجوء إليها كلما وجدت طوائف يتيمة أو نويات ضعيفة ولم تسمح الظروف - كما قد يحدث في الخريف عند نهاية الموسم - بتربية ملكات جديدة، وبالحصول على ملكات مخصبة جيدة؛ إذ لا فائدة من محاولة تشتية نحل ضعيفة الطوائف وتعريضها لعبث الجو البارد الممطر بها ولمهاجمة الأعداء لها.
وتناول معهما مسألة تدريج العسل وإعداده في حالة جذابة للسوق وكيفية خزنه، ولم يفته قبل التشتية، وبعد انتهاء آخر فرز من التعاون معهما على تغذية الطوائف بعض التغذية السريعة؛ إذ كان قد صرح أن ما في الحقول من خضر وذرة كاف إلى حد بعيد بموافاة النحل بحاجتها من الغذاء حتى شهر مارس «المقبل» حين تشتد حاجة النحل إلى زيادة الغذاء بسبب التوسع في تربية الحضنة.
وكان مما ذكره عن تدريج العسل أنه من الوجهة التجارية تحسن بنا دراسة ذوق الجمهور الذي نبيع له أعسالنا، فإذا كان شديد الانقسام بعضه يحب العسل الأبيض، وبعضه يؤثر العسل الأصفر، وغيرهما يؤثر العسل القاتم؛ فمن المصلحة حينئذ فرز هذه الأعسال على حدة وتدريجها، وتعيين أثمان خاصة لكل منها حسب المقدار الميسور من الفرز ومزاياه؛ إذ من المعقول مثلا أن يكون عسل الأشجار العطر الرائحة - ولو أنه قاتم اللون - أغلى ثمنا من عسل القطن، وعلى الأخص بعد أن أثبت التحليل الكيميائي وجود الحديد في العسل القاتم مما يجعله ملائما للأطفال، أما إذا كان الجمهور لا يهمه هذا الاختلاف اللوني، ويعني على الأكثر بطعم العسل، فمن الحكمة مزج الأعسال وضبط لون قياس لها يعرف به إنتاج المنحل إلى جانب اسمه ووسمه.
وكرر أمين التنويه بأهمية التعبئة الحسنة، وإن كانت وحدها لا تكفي لرواج العسل، وإذا خدع بها بعض المشترين أولا فسرعان ما يكشف عيب العسل وغشه فينصرف الجمهور عنه، ومن أبرز هذه العيوب الواضحة: بيع عسل الكوارات باسم عسل ناتج من خلايا فرنجية حديثة. أو بيع عسل مغشوش مخلوط بشراب الجلوكوز كأنه عسل نحل نقي، ولكن ليس معنى اغترار أي نحال بإنتاجه النظيف الجيد أن يهمل تعبئته الحسنة أو يقصر الدعاية له، ولعل أفضل الأوعية من وجهة الدعاية هي الأوعية الزجاجية البلورية، وقد برعت أمريكا في صناعتها بأشكال وأحجام شتى، وبعضها في هيئة مرجونة النحل، وقد رسم شكل النحل بارزا عند بابها، فمن هذه الزجاجات يلوح العسل جذابا للناظرين ويراودهم لشرائه، ولو أن لعلب الورق المشمع وللصفائح مزاياها إما من جهة الرخص وإما من جهة المتانة والقابلية للتصدير متى لحمت أغطيتها، وكلتاهما مما يمكن وضع اسم المنحل وعنوانه مع تصوير النحل والأزهار وما إلى ذلك عليها في صورة جذابة.
وأشار أمين إلى أنه من مصلحة النحال أن يبيع إلى جانب العسل المفروز بعض العسل الشمعي أو على الأقل يعرضه في متاجر بيع العسل كإعلان له، ولو أن إنتاج العسل الشمعي وعلى الأخص في هيئة القطاعات - وهي العلب الصغيرة المعدة لإنتاج رطل من العسل الشمعي في كل منها - يحتاج أولا إلى طوائف بالغة القوة، وثانيا: إلى مناطق عظيمة السخاء غزيرة الفيض بالرحيق، وثالثا: إلى جهات غير شديدة الحرارة حتى لا تأبى النحل الاكتظاظ في عاسلات القطاعات.
وانتهز أمين نجاح الفرزين فنوه من جديد بالأقراص الصناعية التي كان امتلاؤها بالعسل قرة للعيون، والتي كانت تسمح لمتانتها بالفرز السريع دون أي خشية عليها من التلف، في حين أن عددا من الأقراص الشمعية - وعلى الأخص الأقراص الجديدة - ما كان يستطاع فرزها فرزا كاملا، وتعرض بعضها للتلف.
كذلك نوه أمين في دروسه بالانتفاع بمنتجات المنحل الانتفاع الأوفى، وبالإكثار منها؛ إذ لا يجب أن تقتصر العناية على تسويق العسل والشمع فحسب، وذكر أن في أمريكا توجد شركات تعني بصناعة خل العسل باعتباره ألطف طعما وأصلح نفعا من الخل التجاري المعتاد، وحتى خل المولت (أي الخل المصنوع من الشعير المنبت أو شعير الجعة)، وثمة شركات تعني بصناعة المشروبات الروحية لا يفوتها صنع التبغ أو خمر العسل، وهو من المشروبات الروحية النقية الفاخرة.
ولو وجدت جمعية تعاونية مركزية تعني بالتوسع في منتجات المناحل وفي تسويقها في محلاتها الخاصة لوجدت مجالا فسيحا لعملها، ولنشأت فيها أقسام مختلفة لكل منها اختصاصه ومحاله في التحضير والبيع، فعدا صناعة الخل والمخللات من خضر وفواكه توجد صناعة التبغ، وصناعة المشروبات كالليموناده وأمزجة العسل باللبن والشيكولاتة وصنوف الكوكتيل، ثم صناعة الفواكه المحفوظة بالعسل، فضلا عن الكعكة والهلام ومخاليط الزينة وغيرها من صنوف المأكولات المتعددة التي يجملها العسل، ثم صناعة المربيات العسلية، وصناعة صابون العسل، والدهانات الطبية، والورنيش الذي تطلى به الأثاثات والأرضية الخشبية للغرف ... وغير ذلك من التحاضير التي لا حصر لها.
وما ظهر الوروار أو آكل النحل حتى كان أمين شديد السخط على عدم التعاون على محاربته، وكيف أن القانون يحميه باعتباره من آكلي الحشرات، مع أن تشريح حوصلته أثبت على أن جل محتوياتها إن لم يكن كلها عبارة عن نحل أو أجزاء من النحل. فهذا الطائر عدو لدود للنحل، وهي تسمع لصوته المنفر المخوف، وتراه يتبعها أفواجا بل ويكاد يقف في الجو وهو طائر ويلتقط أخواتها غنيمة باردة، وبعضها في شجاعتها تجري وراءه تريد لسعه، ولكن هيهات! وهكذا يعطل الطوائف عن العمل بل قد ينكبها في أعز شيء لديها وهي ملكاتها إذا ما عادت إلى الخلايا للتخصيب، وقد يؤدي ذلك إلى خراب مناحل التربية. فمن الغرابة بعد ذلك أن يحمى مثل هذا الطائر هذه الحماية العمياء، وهناك طيور لاقطة غير الوروار ولكن هذا الطائر الشره كان أشدها خطرا.
أما سخط أمين على الشفافير فكان أشد من سخطه على الوروار، وقد عد ضررها للنحالة المصرية مقابلا لضرر الأمراض المعدية للنحل في أوروبا وأمريكا، وكان تألمه منصبا على التهاون في محاولة استئصالها أو على الأقل محاربتها كما يحارب الجراد، فكلاهما ضار بالزراعة، والشفافير لا تقضي على المناحل فحسب بل تسيء كذلك إلى محصول الفاكهة، وإن النحالين ليعانون منها كثيرا ما بين تعطيل النحل وما بين الإنفاق على صيدها في المناحل وما بين حبس الطوائف بالحواجز المعدنية المشابهة لحاجز الملكة مثبتة على أبواب الخلايا، في حين أن التشريع بمسؤولية كل مالك عن تسميم أعشاشها في ملكة مع مراقبة تنفيذ ذلك كفيل باستئصال شأفتها في سنوات قليلة بدل الخسائر الفادحة التي تصيبنا منها عاما بعد عام.
وأما عن أعداء النحل الأخرى كالفيران والضفادع والسحالي والعناكب والنمل فأمرها هين بالنسبة إلى هذه الشفافير المتوحشة، وقد يعد من أعداء النحل النحال الجاهل والنحل المنحطة. فالنحال الجاهل بسوء تصرفه قادر على إتلاف خير الطوائف وأقواها، والنحل المنحطة إذا استقرت في منحل أفسدت ذكورها تلقيح الملكات العذارى، وبلبلت بطباعها الشاذة النظام الهادئ في المنحل ما بين لسع مفاجئ لا مبرر له وسرقات متعددة وغير ذلك من المتاعب المضايقة، ولذلك يجب على النحال الحصيف أن لا يسمح أبدا بإقامة مثل هذا النحل في منحله، وكفى شيوع الذكور المصرية وتنقلها الذي لا يحد ما بين المناحل.
ولما اقترب الشتاء هم أمين أن تكون جميع الخلايا مثبتة جيدا بحواملها في الأرض حتى لا ينال منها عصف الرياح، كما همه أن تكون جميع طوائفها قوية، وقد عمل على تحقيق ذلك، ولم يعبأ بما اعتاده سواه من وضع قش الأرز وما إليه في غرفة خالية فوق الغطاء الداخلي؛ بل كان يصرح بأن أفضل غطاء للنحل هو النحل، أي أن الطوائف القوية في غنى عن أي غطاء خارجي، وأن ما يؤذي النحل ليس البرد ما دام في حدود الاعتدال كما هو الحال في مصر، وإنما هي الرطوبة، ولذلك يجب أن يكون سقف الخلية محكما لا يسمح بتسرب المطر إلى داخلها. •••
وهكذا انتهى الموسم على أحسن الأحوال من تعليم وصحبة وإنتاج، فانقطع المتعلمون وانفض السامر، ووزع أمين الهدايا على أصحابه، وخص بثينة بهدية غالية نفيسة، وحسب أن فريدا قد عاد إلى القاهرة مفاجأة لاستئناف دراسته فإذا به يزوره ويبلغه أنه حول دراسته إلى كلية الطب بجامعة فاروق الأول، فسر أمين من ذلك؛ لأنه كان يحب فريدا ويستظرفه ويعجب باستقامته وبتنزهه عن الغرور، ولكن مضت الأيام ولم تتكرر الزيارة، فحسبه في البداية مشغولا بدراسته ورأى من الواجب أن يسأل عنه، وعلى الأخص؛ لأنه فاتته رؤية بثينة زمنا، وكان كلما سأل عنها قيل له إنها ما تزال متغيبة في العاصمة ...
وذات مرة توجه إلى منزل فريد فإذا بشقيقته صفية تبلغه أنه ذهب إلى السينما مع الآنسة بثينة لمشاهدة عرض رواية (الأرملة الطروب) الغنائية.
فذهل أمين ، وأسقط في يده، ولكنه تمالك نفسه وسأل صفية: حسبت أن الآنسة بثينة ما تزال في القاهرة. - لا أعرف أنها سافرت بعد، فهي كثيرا ما تزورنا مع شقيقتها الآنسة نادية، وقد كنا نتحدث عنك أمس فقالت الآنسة بثينة إنك مشغول جدا في هذه الأيام.
يا لله! أهذه نهاية الحب؟ أكذا يكون الوفاء؟ أيمكن أن تفكر في شاب صغير مثله لم ينضج بعد؟ ثم ما هذه الزيارات المتواصلة المتبادلة بينها وبين فريد في حين أنها كان تهرب من لقاء أمين؟ وما هذه السينما التي تجمعهما في مشاهدة أوبريت غرامية قائمة على الاستهواء والمجازفة؟ أكان سخيفا أبله في ابتعاده هو عن الاستهواء والمجازفة؟ ... لقد فقد كل شيء، حينما كان يأمل في قرارة نفسه أن تكون فاتحة العام الجديد المقبل فاتحة سعادة جديدة له.
ولبث حائرا بعد انصرافه تتلاطم هذه الخواطر في ذهنه، وكله لوم لنفسه على تهيئة الفرص لفريد للظفر ببثينة، بينما أطار حظه من يديه غباء وإهمالا ... وبقى زمنا في غم وكرب لا يدري ماذا يصنع، أيواجه فريدا ويستوضحه حقيقة ما بينهما، أم يذهب إلى بثينة التي حسبها محبوبته الخالدة؛ ليشكو ويؤنب دون مواربة؟!
وأخيرا انتهى عزمه على مقابلة فريد في اليوم التالي، فتوجه إليه في الصباح الباكر فإذا به على وشك الخروج من المنزل. - خيرا يا أمين؟ صباح الخير! - جئت لأراك في مسألة هامة وعاجلة يا فريد. - أهي مسألة تتعلق بأعمالنا؟ - كلا، بل هي مسألة شخصية تعنيك وتعني بثينة أيضا. - إني فاهم ما تريد أن تقول، ولكني مضطر إلى سرعة التوجه إلى الكلية، وقد كنت مع بثينة ونادية نتحدث عنك أمس، فإن شئت فقابلنا اليوم في منزلها الساعة الخامسة بعد الظهر وستسمع منا الكلمة الحاسمة عما يجول في خاطرك.
وقبل أن يستوعب أمين هذه العبارات الجافة التي كانت تقرع سمعه كالحصى، وقبل أن يفيق من صدقها، كان فريد قد مرق وأسرع إلى الترام فركبه ...
عاد أمين إلى منزله منكس الرأس حزينا، وكان قد علق إلى جوار مكتبه قصيدة إذا “IF”
للشاعر كبلنج ، وكان مغرما بتلاوتها من وقت إلى آخر، ولا يغادر مكتبه دون أن يلقي نظرة عليها كأنما يستمد منها العزم، ولكنه في هذه المرة أراد أن يستمد منها العزاء والسلوى إذا عجز عن استثارة جلده وتدعيم رجولته، فقرأ قول كبلنج: «إذا استطعت حلما دون أن تجعل الذي تراه من الأحلام فوقك سيدا
إذا استطعت فكرا دون أن تجعل الذي تراه من الأفكار غايتك القصوى
إذا استطعت أن تلقى (انتصارا) و(نكبة) وعاملت ذين الخادعين سواء» ...
ولكن لا فائدة من استمرار القراءة أو من محاولة فهم ما يقرأ، وفي هذا المأزق ذهبت تربيته الأمريكية مع الريح، وما الفائدة من مخادعة نفسه وإيهامها أن حلمه ببثينة ليس متسلطا عليه، وأنه ليس غايته القصوى؟ وما معنى التظاهر بأن يضع «نكبته» الحاضرة التي لا ريب فيها موضع المساواة مع «انتصاره» الذي كان يحلم به؟ ... لا، لا، هذا رياء في رياء، وهذه حكم زائفة تنشد للعبث واللهو، وليس لها الآن أي طعم أو معنى أو وقع في نفسه ... وانتزع الورقة من الحائط ومزقها ... •••
وحانت الساعة الخامسة بعد الظهر فكان أمين يطرق منزل بثينة وإذا بها شخصيا تستقبله، وكأنه لم يحدث منها أي حادث عكر صفوه وكاد يقضي على نفسيته، ولاحظ أنها تلبس رداء جميلا ولم يذكر أنه رآها أبهى رونقا مما رآها في تلك اللحظة. كذلك لاحظ أن شقيقتها نادية في مثل حلتها وقد توافقا، فللأختين مسحة واحدة من الجاذبية، وتمالك أمين نفسه وأخذ يحدثها على انفراد وهو يظهر الثبات والاطمئنان: يا بثينة يا حبيبتي، لقد جئت إليك عاتبا وغير عاتب، فأنت جميلة متوجة، ولك أن تختاري من تشائين من رعاياك، ولكن وعدك القديم ما يزال مصونا في قلبي يرن في أنحائه. - وماذا حدث يا أمين حتى تستفز إلى العتاب والشكوى؟ وهل قطعت عهدا بالزواج منك، أليس من صفات الحياة التغير والتجدد؟ أتنكر أنك أنت ذاتك تغيرت؟ - ماذا حدث يا مهجتي؟ وهل بعد ما جرى حدوث؟ أهذه عقبى تأميلي فيك يا بثينة؟ إني أدع لضميرك أن يعترف بعهدك المقطوع لي وهو عهد الحب والوفاء الصريح، فأين ذهب؟ أما أنا فلن أحول دونك أبدا، وأنا أعبدك الآن كما كنت في كل وقت، فلا تذلي رجولتي يا بثينة. - اسمع يا أمين، إن بيني وبين فريد كلمة صريحة ستسمعها الآن، وسأرى كيف تحتملها، ويجب أن يكون معنا بعد لحظة.
فلم تزد كلماتها خاطر أمين إلا بلبلة وهما، وكاد يهم بمغادرة المنزل لولا أن طرق الباب ثم دخل فريد، فإذا به يستقبل أمين هاشا باشا، ويحتضنه مداعبا خلافا لما عهده منه في الصباح، وقبل أن يفيق أمين من ذهوله المجدد فاجأه فريد بقوله: إني أعدك في منزلة الأخ يا أمين، وأومن بأني لم أر صديقا أنبل منك أو أطيب قلبا وأكرم نفسا، وقد اعتبرت نفسي وكيلك وتآمرت مع بثينة عليك، فاتفقنا أن يكون زفافك لها في يوم زفافي بنادية، وأن يتم العقد في الساعة السابعة هذا المساء، وبالفعل أرسلنا الدعوات لهذه الحفلة العائلية السعيدة، وها هي ذي السيدة والدتك قد حضرت فعلا ...
ولم يدعه أمين يتم كلامه بل هوى عليه وعلى بثينة يقبلهما تقديرا ومحبة ... •••
كان العام قد مر على هذا الزواج السعيد، وفي ذكراه الأولى اعترفت بثينة لأمين بتبدل نظراتها العاطفية منذ صحبتهما في المنحل تبدلا محسوسا فإن الحياة في حضن الريف وما كانت تراه من أمومة النحل ومن رسالة الطبيعة أثر في نفسها عن وعي وغير وعي، فشعرت بأنه إذا كان لا قيمة للرجل بغير رجولته المكافحة القائدة، فكذلك ليس للمرأة من قيمة بغير أنوثتها التي ترعى الرجل، وإذا كان للرجل أن يدللها ويسعدها إلى جانب حمايتها وهي وظيفته الأولى نحوها، فإن عليها دون أن يسألها أن تلهمه وتؤانسه وتسعده فهذه وظيفتها الأولى نحوه، وهكذا يكون التجاوب السليم والتضافر على الحياة.
تعاونت بثينة وأمين تعاونا قلبيا في كل أعمالهما فذاع صيتهما في النحالة والأدب، ونعما بحياتهما الزوجية الموفقة، ونجحا ماديا كما نجحا أدبيا، واقتنيا منزلا ريفيا جميلا زينا حديقته بالخلايا البيضاء الزاهية المأهولة بالنحل الكرنيولي الوديع، وكان المارة يشاهدون أحيانا سيدة مشرقة في ردائها الأبيض وإلى جانبها طفلها الصغير الجميل وهي تشير بأصبعها إلى باب الخلية وتشرح له ... وتوقفت النحل عن الطيران وقد سمعها تقول: «انظر يا سمير إلى هذه النحل فهي أخواتك، وهي التي جمعت بين بابا وماما، فيجب يا حبيبي أن تحبها كما تحبنا ...»
صفحه نامشخص