تقديم
تمهيد
اللوح الأول
اللوح الثاني
اللوح الثالث
اللوح الرابع
اللوح الخامس
اللوح السادس
اللوح السابع
اللوح الثامن
اللوح التاسع
اللوح العاشر
اللوح الحادي عشر
اللوح الثاني عشر
تقديم
تمهيد
اللوح الأول
اللوح الثاني
اللوح الثالث
اللوح الرابع
اللوح الخامس
اللوح السادس
اللوح السابع
اللوح الثامن
اللوح التاسع
اللوح العاشر
اللوح الحادي عشر
اللوح الثاني عشر
ملحمة جلجاميش
ملحمة جلجاميش
ترجمة
عبد الغفار مكاوي
مراجعة
عوني عبد الرؤوف
تقديم
إن صلة الأستاذ الدكتور عبد الغفار مكاوي بالشعر قديمة، فقد كان يقرض الشعر وهو حدث صغير، ثم أقلع عن ذلك بعد تخرجه في كلية الآداب وانشغاله بالدراسات الفلسفية ومؤلفاته وإبداعاته في فن القصة والمسرحية، وإن لم يفقد اهتمامه بالشعر والشعراء، فكان يقدم من وقت إلى آخر ترجمة لبعض القصائد، ويقوم بدراسة لها ولمبدعها، فقدم أشعار سافو اليونانية، ولاوتس الصيني، وبرشت الألماني، كذلك قام بتقديم الكثير من شعر جوته، وهلدرلين، وغيرهما من أدباء الغرب.
ولعل صلته الحميمة بالكثير من شعراء العصر جاءت نتيجة لذلك، أو لعل هذه الصلة هي التي جعلته يهتم بهذه الدراسات والترجمات، وليس أدل على ذلك من كتابه ثورة الشعر الحديث الذي صدر في جزءين، وجاء نتيجة لاتفاقه مع صلاح عبد الصبور وعبد الوهاب البياتي على أن يقوم كل منهما بتقديم شعراء أوروبا للقارئ العربي، ثم تبين بعد فراغه من عمله بأنهما لم يوفقا إلى الوفاء بما اتفق عليه، فكان أن نشر ما قام بدراسته هو، وهذا يذكرنا بالاتفاق الذي تم بين دكتور طه حسين ودكتور عبد الحميد العبادي والأستاذ أحمد أمين على أن يقوموا بدراسة الحياة والأدب العربي في عصورهما المختلفة، ولم ينفذ الاتفاق إلا الأستاذ أحمد أمين الذي أصدر مجموعة فجر الإسلام وظهر الإسلام وضحاه.
وقد التزم الدكتور عبد الغفار مكاوي في ترجمته للشعر بما يراه من أننا لا نستطيع أن نعزل أنفسنا عن التجارب الشعرية عند الأمم المختلفة، وأننا لا يمكن أن نرجو لشعرنا العربي أن ينمو ويتجدد ويستجيب لعقولنا وأذواقنا وهمومنا إذا ظل بعيدا عن التطور الهائل في الشعر العالمي الحديث، على الرغم من اعترافه بأن الشعر لا يكاد يترجم، فالترجمة عنده ضرورة نلجأ إليها اضطرارا، مجرد جسر نعبر عليه من شاطئ لآخر، وسرعان ما ننسى الجسر ومن مده بعد أن نضع أرجلنا على بر الأمان ... (راجع مقدمة ثورة الشعر)، وهو هنا يتعرض لنص من النصوص السامية القديمة التي ترجمت إلى الكثير من اللغات الأوروبية وسبق ترجمتها أحيانا إلى العربية، وهو نص ملحمة جلجاميش التي حاول البعض ترجمتها شعرا أيضا، ولعل من أفضل هذه الترجمات ترجمة شميكل
Schmökel
وترجمة شوت
schott .
وقد سعدت كثيرا حين طلب مني الأخ الصديق عبد الغفار مكاوي مراجعة ترجمته على النص الأصلي، إذ إن ملحمة جلجامش هي أكبر وأجمل شعر بابلي اكتشف بمنطقة دجلة والفرات، وهي إحدى الملاحم البطولية للعالم القديم، ولا يوجد نظير لها بأي لغة قديمة بالشرق الأوسط، سواء بالمصرية القديمة أو العربية أو غيرها، ويمكن أن يطلق عليها الأوديسة البابلية، وقد أثارت اهتماما كبيرا في العالم الغربي منذ أن اكتشفت، بل لقد تقدم أحد الدارسين الأمريكيين ويدعى
Hope Nash Wolff
برسالة دكتوراه في قسم الأدب المقارن بجامعة هارفارد قارن فيها بين ملحمة جلجامش والأوديسة وبيوفولف
A Study in the narrative structure of three epic poems Gilgamesh, the Odyssey, Beowulf . اكتشفت معظم مواد الملحمة التي تتكون من اثنتي عشرة لوحة تشتمل كل منها على ما يقرب من ثلاثمائة سطر، باستثناء اللوحة الثانية عشرة التي لا تشتمل على حوالي نصف هذا العدد، في ركام بمنطقة دجلة والفرات واكتشفها الأثريون: أوستن لايارد وراسيم وسميث
Austan H. Layard, Hormuzd Rassam, George Smith . حوالي منتصف القرن الماضي ضمن خرائب مكتبة معبد الإله نابو
Nabu (بالبابلية
Nebo ) ومكتبة قصر الملك الآشوري آشور بانيبال (668-627 تقريبا ق.م) وكلاهما كان في نينوى آخر عاصمة للإمبراطورية الآشورية.
ومنذ ذلك الوقت اكتشفت عدة لوحات أخرى تتصل بملحمة جلجامش، وفي مطلع القرن العشرين اشترى برونو مايسنر
Bruno Meissner
شظايا كثيرة من تاجر في بغداد تتصل بالملحمة وجدت في خرائب سبار
Sippar
القديمة (أبو حبة الآن)، وهي تشتمل على جزء كبير من اللوحة العاشرة، وفي عام 1914م اشترت جامعة بنسلفانيا من تاجر عاديات مجموعة كبيرة من الشظايا، وهي تكون ستة ألواح تقريبا تشتمل على اللوحة الثانية البابلية، وفي الوقت نفسه اقتنت جامعة ييل
Yale
شراء من نفس التاجر لوحة تكمل ما حصلت عليه جامعة بنسلفانيا، وتكمل اللوحة الثالثة.
وفي عام 1914م وجدت البعثة الألمانية في آشور - عاصمة آشور القديمة - كمية من الشظايا للنسخة الآشورية، تشتمل على اللوحة السادسة.
وفي عام 1928-1929م اكتشف الأثريون الألمان في أوروك
Uruk
قطعتين صغيرتين يرجح أنهما تنتميان للوحة الرابعة، كما اكتشفت عدة شظايا بالسومارية لملحمة جلجامش في ركام مدينة نبور
Nippur
ومدينة كيش
Kish
ومدينة أور
Ur ، وقد تبين أن القدر الذي يتصل منها باللوحة الثانية عشرة يتفق تماما مع النسخة السامية، على حين أن البعض الآخر لا ينتفع به في الترجمة الحالية للملحمة وتختلف كلية عن الترجمة السامية، وأخيرا اكتشفت في مدينة خاتوساس
Hattusas
الحيثية (بوغاز كوى الآن) عاصمة الحيثيين القديمة شظايا بابلية تشتمل على ترجمة مختصرة للوحة الخامسة والسادسة، وحوالي اثنتي عشرة شظية ونصف بالحيثية وقليل من القطع بالحوريانية
Hurrian ، وبالرغم من هذا كله فما زالت بعض المواضع غير واضحة وغير تامة.
وقد قام جورج سميث
George Smith
بأول ترتيب وترجمة للوحات التي اكتشفت في خرائب نينوى، وقدم ذلك في دراسة قرأها في 3/ 12/ 1872م أمام جمعية آثار الكتاب المقدس
Society of Biblical Archaeology
بعنوان: التفسير الكلداني للطوفان
The Chaldean Account of the Deluge
وقدم ترجمة ومناقشة لعدد من الشظايا الخاصة بملحمة جلجامش - وبخاصة الجزء المتعلق بالفيضان - مما خلق اهتماما شديدا بالدراسات المسمارية بوجه عام في أوروبا
Archaeology II 1873 ، وقد أشار سير هنري راولنسون
Henry Rawlinson
أيضا إلى احتمال أن يكون ما وجد في سفر التكوين يرجع إلى أصول بابلية، وقام بالمشاركة في الترجمة والنشر أيضا فوكس تالبوت
Fox Talbot
وبسكوفن
St. Chod Boscowen
ولينورمنت
François Lenormant .
وفي عام 1875م نشر هنري راولنسون وجورج سميث اللوحات السادسة إلى الحادية عشرة، ثم أعيد عام 1891م نشرها حيث حل بنش
T. G. Pinches
محل جورج سميث.
ونشر ديلتز
Delizch
في النصوص الآشورية
Assyr. Lesestücke . في طبعته الثالثة عام 1885م نص اللوحة الحادية عشرة ثم طبعه، كاملة من باول هاوبت
عام 1884-1891م ملحمة النمرود البابلية
Das Babylobische Nimrodepos
وكان يطلق على جلجامش اسم النمرود (سفر التكوين 10: 8-10 دون تدليل على هذا) مع لوحة ثانية عشرة في
Beitrăge zur Assyriologie/1890 ، ونشر ياسترو
Jastrow
ترجمة في «ديانة بابل وآشور»
Religion of Babylonia and Assyria
عام 1905-1912م، وكذلك أرنولت
Muss. Arnolt
عام 1901م في مجلة
Assyr. and Babyl. Lit .
ثم ظهرت بعد ذلك ترجمة بيتر ينسن
التي قدمها مع الكتابة بالحروف اللاتينية لنصوص الملحمة المعروفة آنذاك مع شرح تفصيلي وتعليق عليها في مجلة أساطير وملاحم آشورية وبابلية
Assyrisch-Babylonische Mythen und Epen/Berlin 1900
ويعد هذا العمل خطوة واسعة بالنسبة لكل الأعمال السابقة، وما زال يشتمل على معلومات يعتد بها حتى الآن.
وظهر عام 1902م النص الذي قدمه مايسنر
Meissner
للملحمة وترجمة دورم
Dhorme
عام 1907م
Choix de Textes ، وظهرت شظية جديدة من النص الآشوري نشرها كنج
King
عام 1914م في
Suppt. Kauyujik Catalogue ، ومن الأعمال الهامة أيضا في هذه الأيام المبكرة التي تحل شفرة ملحمة جلجامش ما قدمه العالمان: آرثر أونجناد
Arthur Ungnad
وهوجو
Hugo
بجوتنجن عام 1911م بعنوان ملحمة جلجاميش
Das Gilgamesh Epos
وفي رسالته
Kulturfragen ، وهي تشتمل على ترجمة للملحمة ومناقشة تفصيلية لمحتوياتها.
وظهر لوحان آخران (الثاني والثالث): الثاني بملحوظات بويبل
نشره لانجدون
Langdon
وأعاد ياسترو
Clay Jastrow
طبعه.
ثم ظهرت نسخة من الملحمة السومارية بواسطة تسمرن
Zimmern
تشتمل على أسماء جلجامش وعشتر وأنكيدو في
Summer. Kultlieche
عام 1913م.
وثمة جزازات أخرى مشابهة عن الطوفان تحكي قصة الطوفان في البابلية القديمة لا تتصل بالطوفان، وتذكر نوح باسم أترومخاسيس
Atromhasis .
كذلك ظهر في الأناضول نصوص لملحمة جلجامش الحقيقية بالحيثية وجدت في بوغاز كيوى
Boghaz Keui ، ووجد الألمان جزازات ترجع إلى القرن الثالث قبل آشور بانيبال.
ولعل أحدث طبعة بالخط المسماري للنص هي ما قدمها كامبل تومبسون
R. Campbell Thompson
بعنوان
The Epic of Gilgamish/Oxford 1930
وهو لا يقدم النص المسماري للنسخة الآشورية فحسب، بل يقدم أيضا النص مكتوبا بالحروف اللاتينية لكل المواد السامية عن جلجامش المعروفة في وقته.
وكل ما قدم بعد ذلك من ترجمات للنص إنما يعتمد على هذا النص الذي قدمه تومبسون ما لم ينص المترجم على غير ذلك.
ويقدم إيريش إيبلنج
Erich Ebeling
عام 1926م ترجمة لهذا النص في نشريات:
Gressmann, Altorientalische Texte zum Alten Testament Berlin/Leipzig 1926 .
كذلك يقدم تومبسون
Thompson :
The Epic of Gilgamish/London 1928 .
وقدم ألبرت شوت
Albert Schott
ترجمة بعنوان:
Das Gilgamesh Epos/Leipzig 1934 .
كما قدم كونتينو
G. Contenau
ترجمة بعنوان:
L’Epopée de Gilgamesh/Paris 1939 .
وليونارد
W. E. Leonard
ترجمة بعنوان:
Gilgamesh Epic of old Babylonia/New York 1934 .
وملحمة جلجاميش من الأعمال الأدبية الأكدية الجميلة التي أحب دائما أن أقدمها لطلاب الدراسات السامية وأن أقوم بتدريسها لهم، وبخاصة أن النص من نصوص الشعر الأكدي المتميز باعتماده على النبر، فكل بيت يشتمل على أربع نبرات مرتفعة؛ اثنان في كل شطرة وبينها من نبرة إلى ثلاث نبرات هابطة، وإلى جوار ذلك توجد أحيانا أبيات تشتمل على نبرتين وثلاثة أو ثلاثة ونبرتين مرتفعة وبينها النبرات الهابطة، وتنتهي الأسطر الشعرية - بلا استثناء - نهايات مؤنثة، وغالبا ما لا تتناسب أسماء الأعلام وافتتاحيات جمل القول مع وزن الشعر، وكثيرا ما يقابل القارئ الأسطر المقفاة.
والملحمة مقسمة إلى مقطوعات كل منها به أربعة أسطر مثل: أغنية إشتر
Ischtar ، وقد تكون من عدة أسطر بكل منها ثلاثة مقاطع منبورة يتلوها سطر من خمسة مقاطع منبورة.
وهي في هذا لا تختلف أيضا عن الشعر الحماسي الأكدي الذي يوجد بجوار القصائد ذات المقاطع الأربعة نصف مقطوعات كل منها يحتوي على سطرين فقط، أما الأبيات المفردة فلا توجد إلا نادرا، وبخاصة في الشعر القديم، وإن كان فون سودن يرى أنه لا يمكن التأكد منها؛ لأن عدد النبرات الموجودة في البيت غير مؤكدة، حيث إن الكلمات ليست منغمة، كما أن الكلمات القصيرة مثل حروف الجر والأدوات والأسماء في حالة الإضافة لم تكن بالضرورة مقاطع غير منبورة، كذلك يمكن أن نجد بصيغ الأفعال المسندة إلى الضمائر أكثر من مقطع منبور، وقد أثبت كارل هيكر
Karl Hecker - في بحثه الذي طبع عام 1974 - أن السطر في الشعر الأكدي ينقسم إلى مجموعة من النبرات المرتفعة والمنخفضة، عدد الأوائل منها محدد على حين أن الأخيرة غير محددة العدد.
وقد رجعت في مراجعتي للترجمة العربية للنص الأكدي وترجماته السامية الذي نشره كامبل تومبسون
Campbell Thompson
بعنوان
The Epic of Gilgamish
الذي صدر باكسفورد عام 1930.
وأفدت من الترجمات والمؤلفات التالية مقارنا إياها بترجمة شوت التي يقدمها الأستاذ دكتور عبد الغفار مكاوي بالعربية:
Alexander Heidel: The Gilgamesh Epic and Old Testament
1965 .
Hope Nash Wolff: A Study in the Narrative Structure of Three Epic Poems Gilgamesh, The Odyssey, Beowulf New York/London 1987 .
Hartmut Schmŏkel: Das Gilgamesh Epos. Stuttgart/Berlin/Kŏln/Mainz 1966/1974 .
Karl Oberhuber: Das Gilgamesch-Epos. Wissenschaftliche Buchgesellschaft/Darmstadt 1977 .
وبخاصة عندما يكون الأصل الأكدي مطموسا أو غير واضح. (والله الموفق وبه نستعين.)
تمهيد
(1) من أصعب الأمور على الكاتب أن يحدث قارئه - الذي ينتمي مثله إلى حضارة هذه المنطقة من العالم - عن درة ساطعة في تاج هذه الحضارة، ودرة الدرر التي أعنيها هي ملحمة جلجاميش، والحضارة التي أقصدها هي حضارة وادي الرافدين القديمة، ومع أن الفجوة الزمنية التي تفصلنا عنها منذ اكتمال نسختها الأخيرة في العصر الآشوري الحديث (على عهد آخر الملوك الآشوريين العظام وهو آشور بانيبال من 668 إلى 627ق.م) تزيد عن ألفين وخمسمائة عام، ولا تقل منذ بداية تدوين أجزاء منها في العصر البابلي القديم (من 1984-1595ق.م) عما يقرب من أربعة آلاف سنة، بالإضافة إلى ما تراكم على الوعي بعد غروب شمس هذه الحضارة بانهيار الدولة الآشورية (609ق.م) والدولة البابلية مع انتهاء السلالة الكلدانية (539ق.م) من طبقات كونتها شعوب ونظم ودول أخرى مختلفة تعاقب حكمها على أرض النهرين حتى الفتح الإسلامي (من الفرس الأخيمينيين 538-331ق.م، إلى المقدونيين والسلوقيين 330-125ق.م، إلى الأزراسيين أو الفرثيين من حوالي 250ق.م إلى حوالي 228ب.م، إلى الساسانيين من 224ب.م إلى 651ب.م) فإن ذلك كله لم يمنع تلك الملحمة من التأثير على ثقافات الشرق الأدنى القديم والانتشار وراء حدوده، ولم يمنع كذلك - بعد اكتشاف نصها السابق الذكر في منتصف القرن الماضي - من أن تصبح جزءا لا يتجزأ من الأدب العالمي، وعنصرا من أهم العناصر المكونة للوعي المثقف، ومادة للبحث والدراسة والترجمة إلى كل اللغات، ومنبعا لا ينضب لإلهام المبدعين في الأدب والفن ...
1
والعمل الذي بين يديك محاولة لترجمة هذه الملحمة الجليلة الجميلة ترجمة يتذوقها القارئ العصري المتطلع لاستيعاب كنوز التراث الإنساني والاغتراف من منابع تراثه الحضاري والأدبي، ولا بد قبل الكلام عنه من نبذة مختصرة بقدر الإمكان عن النص الأصلي العريق من جوانبه المختلفة: قصة تدوينه ونسخه، وشذرات ألواحه المسمارية المشتتة في متاحف العالم، وملحمة اكتشافه وترجمته إلى اللغات القديمة والحديثة، وأصوله السومرية التي يحتمل أن يكون الكاتب أو الكتاب البابليون قد اعتمدوا عليها - بجانب التراث الشفاهي القديم - في نسج ملحمتهم الخالدة، ثم مكانة جلجاميش من الأدب العالمي وأهميتها للوعي والوجدان العربي الحاضر الذي لم تصل إليه ولم يتواصل معها بالقدر الكافي ... (2) لم يكن القصيد الشعري الكبير الذي اشتهر باسم «ملحمة جلجاميش» أو باسم أول بيت فيه وهو: «هو الذي رأى كل شيء» هو التشكيل الوحيد للأساطير وقصص المغامرات والحكايات الشعبية التي دارت حول شخصية جلجاميش، وتناقلتها الأفواه قبل تدوينها بمئات السنين ؛ ذلك أن جذور هذه الملحمة البابلية الأصيلة ممتدة في عروق الثقافة السومرية،
2
ولها تاريخ سابق يقوم على عدد من القصص السومرية التي تمكن العلماء من جمع شذراتها وحل معظم ألفاظها خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، وسوف نعرض لهذه القصص بعد الحديث عن حياة جلجاميش الذي يتفق العلماء اليوم على أنه قد عاش في الحقيقة والواقع، على الرغم من تأليه الكهنوت السومري له في زمن مبكر - شأنه في ذلك شأن ملوك سومر الذين جمعوا بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية - ومن رفعه إلى مصاف الآلهة بعد موته وتنصيبه قاضيا لأرواح الموتى في العالم السفلي ...
كان جلجاميش ملكا لدولة مدينة هي «أوروك» في جنوب بابل.
3
ويذكر ثبت الملوك السومريين - المدون في بداية الألف الثانية قبل الميلاد - أنه الملك الخامس في ترتيب حكام هذه المدينة التي كانت من أهم المدن السومرية التي «نزلت عليها نظم الملكية من السماء» بعد الطوفان، وآلت إليها السيادة على سائر المدن السومرية بعد انتصارها على مدينة «كيش»، وإن لم يتوقف الصراع بعد ذلك بينهما ... وقد نسب إليه بناء سورها العظيم الذي أشادت بذكره الملحمة في بدايتها وخاتمتها بوصفه أحد أمجاده التي كفلت له نوعا من الخلود المتاح للبشر الفانين بعد إخفاقه المأسوي في التوصل للخلود الذي تمناه وسعى إليه، واقتناعه في النهاية بأن الآلهة قد استأثرت به دون البشر ... وقد رجح العلماء - بعد فحص الأطلال الباقية من هذا السور والاطلاع على المأثور الغني عن شخصية جلجاميش - أنه قد عاش بين سنتي 2750 و2600ق.م وأنه كان من أقوى الملوك السومريين في فترة حافلة بالصراعات الدامية بين دول المدينة التي أسسوها، وبالصراع بعد ذلك مع الأكديين الساميين الذين كانوا قد استقروا في شمال وادي النهرين قبل أن يتمكنوا بقيادة سرجون العظيم (من حوالي 2334 إلى حوالي 2279ق.م) وحفيده نارام سين (2254-2218ق.م) من توحيد البلاد بأسرها تحت حكمهم.
تراكم حول شخصية جلجاميش مأثور ضخم من القصص والحكايات العجيبة عن طغيانه واستبداده بشعبه، وصداقته النادرة المؤثرة ل «وحش البرية» أنكيدو، ومغامراته معه وأسفاره التي انطلق إليها بعد موته بحثا عن سر الحياة والموت والخلود، ثم رجوعه إلى موطنه ومسقط رأسه بعد أن أضاع «نبتة» الخلود الشائكة «فتطهر» واقتنع بالحدود التي لا يجوز لإنسان أن يتخطاها، مهما صورت له نفسه أو صور له الكهنوت أن «ثلثيه إلهي والثلث الباقي بشري فان» ... ويبدو أن هذا المأثور الذي اختلطت فيه العناصر الأسطورية بالتاريخية قد نشأ في عصر مبكر، وربما سبق اكتشاف السومريين للكتابة بالخط المسماري على الألواح الطينية بزمن طويل؛ ولذلك يحتمل أن يكون الناس قد تناقلوه شفاها وعمل على صياغة وجدانهم قبل البدء في تدوينه في العصر البابلي القديم خلال القرون الأولى من الألف الثانية قبل الميلاد. ولما كانت الشواهد القليلة المتبقية من الأدب السومري قبل سنة 2100ق.م شديدة الغموض والتشوه، فلا نكاد نعرف شيئا عن المأثور السابق على هذا التاريخ الأخير، غير أن هنالك ما يدل على نهضة متأخرة للثقافة السومرية في حدود هذا التاريخ؛ أي في عهد ملوك سلالة أور الثالثة (من حوالي 2112 إلى حوالي 2004ق.م)، كما يدل على نوع من الرخاء الاقتصادي الذي شجع على نمو هذه النهضة التي أثمرت معظم الأشكال الشعرية والأسطورية التي وصلتنا من أدب السومريين، وبدأ نسخها وتدوينها بلغتها الأصلية أو في ترجمتها الأكدية البابلية قبل سنة 1700 قبل الميلاد وبعدها، وقد كانت «جلجاميش» أشبه بواسطة العقد في هذا المأثور المجهول المؤلف، شأنها في ذلك شأن معظم ما وصلنا من التراث السومري والبابلي، والذي يهمنا من هذا المأثور هي القصص السومرية الخمس التي تدور حول شخصية جلجاميش،
4
واستطاع عالم السومريات صمويل كريمر - بمساعدة عدد من زملائه وتلاميذه مثل فلكنشتين وجاكوبسين - أن يجلو غوامضها ويترجم معظم شذراتها التي وضع لها هذه العناوين: جلجاميش وأرض الأحياء، جلجاميش وثور السماء، جلجاميش و«أجا» حاكم كيش، جلجاميش وأنكيدو والعالم السفلي، ثم موت جلجاميش ، ومع أن العبقرية البابلية قد نسجت من هذه القصص المتفرقة ومن مأثورات أخرى عملا مبدعا متكاملا كما سبق القول، فإن هذا لا يقلل من تأثيرها على كاتب الملحمة الشهيرة أو كتابها الذين أفادوا بغير شك من بعضها (وبخاصة القصص الأولى والثانية والرابعة) وأغفلوا الثالثة والخامسة إغفالا تاما، ولا بد أنهم قد أخذوا أيضا من مأثورات سومرية أخرى لا نكاد نعرف عنها شيئا أو من مأثورات وصلتنا في صورة مشوهة، كما فعلوا مع قصة الطوفان التي تؤلف اللوح الحادي عشر وأقحموها على الملحمة، ومع اللوح الثاني عشر الذي لا يخرج عن كونه ترجمة حرفية لجزء من إحدى القصص التي ذكرناها، وهي قصة جلجاميش وأنكيدو والعالم السفلي ... وأيا كان الأمر فقد حان وقت التعريف القصير بمضمون القصص الثلاث التي تعد من الأصول الهامة التي تقوم عليها الملحمة ... (3) تبدأ القصة الأولى - وهي جلجاميش وأرض الأحياء - بالقرار الذي اتخذه بطلنا المغامر بالسفر إلى أرض الخالدين أو أرض الأحياء «ليصنع له اسما عظيما» ويحدث «خادمه» أنكيدو - الذي أصبح في الملحمة البابلية رفيق دربه وأعز أصدقائه بل صديقه الأوحد! - برغبته التي صمم عليها، فينصحه بأن يتوجه بالصلاة والدعاء لإله تلك الأرض وهو إله الشمس أوتو (الذي سيصبح إله الشمس والعدل البابلي شمش)، ويقدم جلجاميش التضحية للإله ويتضرع إليه أن يعينه في سفره ويشد أزره في الصراع المقبل عليه، ويبتهل إليه أن يساعده على أن يصنع لنفسه اسما يخلد ذكره وينتشله من الفناء المحتوم على البشر، ويوافق «أوتو» ويعده بحبس «الأبطال السبعة» الذين يحرسون تلك البلاد النائية في الكهوف، ويختار جلجاميش خمسين رجلا من شباب مدينته المتطوعين لمرافقته في رحلته، بعد أن يشترط عليهم ألا يكونوا قد كونوا أسرا بعد ...
ويبدأ البطل مغامرته بعد التزود من الحداد بالسلاح الضروري، وبعد اجتياز سبعة جبال وعرة يطوقه النوم العميق فلا يوقظه أنكيدو إلا بعد جهد جهيد، ويقسم جلجاميش بأمه «نينسون» وبأبيه «لوجال بندا» أنه لن يرجع أدراجه قبل قتل «الرجل»، ويحذره أنكيدو من سحر ذلك الرجل وقوته الشيطانية، ويلح عليه أن يرجع إلى وطنه، لكن جلجاميش يصر على القرار الذي صمم عليه، ولا يلبث حواوا (وهو نفسه المارد خمبابا الموكل بحراسة غابة الأرز في الملحمة) أن يلمح المتطفلين على أرض الأحياء، غير أنه لا يتخذ أي خطوة جادة لمنعهم من قطع أشجاره ... ويفرغ الرجال الخمسون من قطع أشجار الأرز وإعدادها للنقل، ثم يصل جلجاميش إلى «حجرة» حواوا أو مأواه الذي يختبئ فيه ويطلق منه تضرعاته لجلجاميش بأن يبقي على حياته، ويبدي هذا استعداده - كما في الملحمة تماما - للاستجابة شفقة عليه، غير أن أنكيدو يحذره من شر «نمتار» - وهو شيطان أو إله من العالم السفلي مختص بالأوبئة - الذي يمكن أن يصيبهم أذاه، عندئذ يسب حواوا «الخادم» أنكيدو ويصفه بأنه مرتزق أجير، وأنه قد تكلم ضده بالشر: «وعندما قال هذا قطعا رأسه، وحملا جثته للإله «إنليل» الذي أقامه حارسا على أرضه ولزوجته ننليل.» (وإنليل هو إله العواصف الغضوب ورب مدينة نيبور أو نفر السومرية القديمة التي عثر فيها على بعض ألواح الملحمة ...)
هنا يتوقف النص الأصلي لهذه القصة التي عبث الزمن بالألواح التي نقشت عليها وملأها بالثغرات والفجوات، والملاحظ على سبيل المقارنة أن الملحمة البابلية تروي قصة الحملة على أرض الأحياء وغابة الأرز بمزيد من التفصيل في الثالث والرابع والخامس من ألواحها التي لم يرحمها الزمن كذلك من التشوه!
ولا شك أن كاتب الملحمة قد تأثر بهذه القصة وبغيرها، وطور عناصرها في بناء محكم، وأبرز أهم هذه العناصر - وهو حرص جلجاميش على الشهرة وخلود الاسم - في أكثر من موضع، وذلك قبل أن ينتقل من الدوران حول الأنا إلى الاهتمام بالنحن، وقبل العثور على «نبتة» الخلود التي عبر عن رغبته في أن يشاركه شعب مدينته أوروك وشيوخها في الأكل منها لتجديد الشباب والحياة، حتى إذا اختطفتها منه الحية وجددت بها جلدها، صورت لنا الملحمة بأسه وضياعه الذي تحول - بعد اقترابه من مشارف مدينته ورؤية سورها وأبراجها - إلى نوع من الفرح والتصميم على مشاركة شعبه في العمل والبناء ... (4) وتأتي القصة السومرية الثانية التي يناظر مضمونها في خطوطه العريضة مضمون اللوح السادس من الملحمة البابلية، ومن المؤسف أن النص الأصلي قد وصلنا في حالة تشوه شديد، بحيث لا نملك إلا الحدس بمضمون البقية الباقية التي تبدأ سطورها بعد فجوة كبيرة يبدو من سياق النص، ومن الملحمة أيضا أنها كانت تدور حول العرض الذي تقدمت به ربة الحب والحرب إلى جلجاميش ليكون زوجها وزينة بيتها وعربتها المزدانة بالذهب واللازورد ... وما إن تشرع إينانا (وهي نفسها ربة الحب السومرية التي سماها البابليون عشتار) في وصف المنح والهدايا التي تعرضها على جلجاميش مقابل الزواج منها حتى ينقطع النص مرة أخرى ويمتلئ بالثغرات، ولا نجد شيئا يدل دلالة واضحة على رفض جلجاميش للعرض المغري، ولذلك تتجه إلى أبيها آنو إله السماء لتشكو إليه وتلح عليه أن يسلمها الثور السماوي لتنتقم من جلجاميش، ونفهم من النص أن الأب يرفض طلبها، وأنها ستلجأ لكبار الآلهة في مجمعهم الخالد إن لم يستجب لدعائها، عندئذ ينتابه الخوف (ولا نعرف من النص إن كان قد أشفق على مصير سكان أوروك من الثور الهائل كما نجد في الملحمة أم على مصير الكون كله ...) ويسمح لها بتسلم الثور والهبوط به إلى الأرض، فترسله إلى أوروك التي يلحق بها أفظع الكوارث (كالموت والقحط والجفاف التي اقترنت باسمه في تفسير بعض الباحثين) ...
وقد بقيت من النص أجزاء شحيحة، من أهمها قطعة تسجل جانبا من حديث أنكيدو مع جلجاميش، ولا شك أن القصة الأصلية قد روت مصرع الثور على يد البطلين، ولكننا لا نعلم إن كانت قد انتهت بهذا الخبر أو استمرت في رواية الأحداث التي نعرفها، والمرجح أن القصة لم تذكر الشتائم المهينة التي صبها كاتب الملحمة - على لسان جلجاميش - على رأس الربة الجميلة، كما أنها - فيما يبدو - لم تتطرق لغضب الألهة - بخاصة إنليل - على أنكيدو لتجديفه في حقهم، ولا لجرحه المهلك الذي تسبب في موته، وعبر بذلك عن عقدة الحبكة الدرامية التي أطلقت مأساة البطل المفزوع من «حظ البشر المحتوم»، ودفعته للبحث عن الخلود لنفسه ثم للبشر المساكين ... (5) ونصل إلى القصة الرابعة التي أثرت تأثيرا واضحا على اللوح الثاني عشر الذي يجمع العلماء على أنه مقحم على الملحمة ولا ينتمي إليها انتماء عضويا كما نقول اليوم، وعنوان هذه القصة هو «جلجاميش وأنكيدو والعالم السفلي» وهي تبدأ - شأنها شأن كثير من القصص الشعرية والأساطير السومرية القديمة - بالتذكير بأسطورة الخلق أو التكوين السومرية، إذ نجدها تتحدث في البداية عن فصل السماء عن الأرض بقوة إله السماء آنو وإله الرياح إنليل، كما تتطرق باختصار للصراع بين إله المياه العذبة «إنكي» وإله العالم السفلي أو وحشه المخيف كور، ثم تحكي بعد ذلك عن شجرة ضخمة هي شجرة الخولويبو، ولعلها كانت شجرة صفصاف على شاطئ الفرات، وكيف أوشك الطوفان والعواصف أن يقتلعاها من جذورها، ويتصادف مرور إلهة الحب إينانا بهذا المكان، فتشفق على الشجرة وتحملها معها لكي تغرسها في بستانها المقدس في مدينة أوروك، وتعنى الإلهة العطوف بالشجرة وتتعهدها بالرعاية، على أمل أن تصنع منها في المستقبل سريرا تنام عليه وكرسيا يليق بها. أن الأيام لم تشأ أن تحقق حلمها الجميل، إذ نمت الشجرة وصارت جذوعها مأوى لحية عظيمة لم ينفع السحر في إخراجها منه، كما أصبحت أطراف فروعها مسكنا لطائر العاصفة الإلهي «بدزو» الذي بنى عشه فوقها، وغدت ساقها القوية بيتا للشيطانة أو الروح الشريرة ليليت، تعذر إذن على إلهة الحب الرقيقة أن تقطع الشجرة فراحت تبكي بكاء مرا وتبث شقيقها إله الشمس أوتو حزنها وتروي له المصير الذي آلت إليه شجرتها، ويبدو أن جلجاميش سمع شكاتها وقرر أن يمد لها يد العون، فأمر بتجهيز درع زنته خمسون رطلا، وبلطة زنتها أربعمائة رطلا، وهجم على الحية الجبارة التي تربض في جذع الشجرة فقتلها، وكان أن طار طير العاصفة وهربت الشيطانة مذعورين، وتمكن جلجاميش وأتباعه من قطع الشجرة وتسليمها لإينانا لتصنع من خشبها الكرسي والسرير، وأرادت الإلهة المحبة أن تكافئ جلجاميش على صنيعه، فأعدت له طبلة وعصا أو عودا يدق بها عليها، (ويبدو أن البطل قد أساء استعمالهما - كما يعلمنا الكاتب البابلي - في استغلال شعب أوروك في أعمال السخرة وتأكيد سطوته عليهم، كما نرى في اللوح الثاني من ألواح الملحمة سطر 143 وبعده، وفي بداية اللوح الثاني عشر من سطر 1-20)، ثم تأتي هذه العبارة الدالة التي لا نشك في أن الشاعر البابلي قد اعتمد عليها في تصوير طغيان جلجاميش قبل أن «يتحول» بعد موت صديقه ذلك التحول الذي أدى به كما قلنا إلى «التطهر» في نهاية الملحمة: «وبسبب صراخ البنات الصغيرات سقطت الطبلة والعصا إلى العالم السفلي»، والبنات الصغيرات هن اللائي دأب جلجاميش على اختطافهن من آبائهن والدخول عليهن قبل أزواجهن ...
يتفق العلماء الذين درسوا الملحمة على أن كاتبها قد ترجم القسم الثاني من هذه القصة عن السومرية ترجمة شبه حرفية وألحقها بالنسخة الأخيرة للملحمة لتكون هي اللوح الثاني عشر فيها (وهي المعروفة بنسخة نينوى - العاصمة الآشورية الثانية - ووجدت كما سبق القول في مكتبة قصر الملك آشور بانيبال)، ويبدأ هذا القسم في نصه الأصلي بشكوى جلجاميش من ضياع الطبلة والعصا (أو البوكو والموكو ...) ومحاولته استدعاء روح أنكيدو الذي كان قد هبط إلى العالم السفلي استجابة لأمر سيده بإحضارهما له فأطلقت عليه «صرخة الأرض» أو ذلك العالم، وتخرج الروح من ثغرة في هذا العالم لتحدثه عن أهواله وظلماته وعن مصير أرواح الموتى فيه ... والمهم أن نهاية القصة السومرية لم تصل إلينا، ولم يخبرنا كاتبها بشيء عن نجاح جلجاميش أو فشله في استرداد آداتي جبروته واستبداده العزيزتين على قلبه ... لهذا لا أستبعد كما قلت من قبل أن يكون قد رجع إلى مسقط رأسه وقد تطهر من أوهام مجده وأنانيته الفردية، وعقد العزم على مشاركة شعبه في صنع الخلود الوحيد المتاح للبشر على هذه الأرض، ألا وهو بناء الحضارة وتأسيس ما ينفع الناس ويمكث في الأرض ... (6) وأخيرا فلا بد من كلمة قصيرة عن بقية القصص التي أغفلها الكاتب البابلي، فالقصة الثالثة «جلجاميش وأجا حاكم كيش»
5
تدور حول النزاع الذي ثار بين هذه المدينة وبين مدينة أوروك وأوشك أن يؤدي إلى اشتعال الحرب بينهما، وخلاصتها أن «أجا ابن أنميباراجاسي» بعث برسله إلى أوروك طالبا منها الاستسلام، وناقش جلجاميش هذا الطلب مع «مجلس» شيوخ المدينة وختم كلامه بقوله: «لا نريد الخضوع لبيت كيش، بل سنسحقه بقوة السلاح»، ولكن الشيوخ لم يوافقوه على رأيه، وأعلنوا أنهم يفضلون الإذعان للحاكم المستفز على اللجوء للحرب ... ولم يقتنع جلجاميش برأي «مجلس الشيوخ»، فاتجه إلى مجلس الشباب القادر على حمل السلاح (مما يدل على وجود نوع من الديموقراطية يستحق منا اليوم أن نتحسر عليه ونتمناه!) قائلا لهم: «لا تخضعوا لبيت كيش، فنحن نريد أن نسحقه بالسلاح»، وأقره الشباب على عزمه ففرح قلبه، وأمر أنكيدو أن يقلده أسلحته، مؤكدا أنه (أي أجا)، سيفزع منه بمجرد رؤيته، بحيث يضطرب فعله ويذهب عقله! ولم تمر عشرة أيام حتى زحف أجا بجيشه نحو أوروك التي اضطربت أمورها، فأخذ جلجاميش يبحث عن محارب يتطوع لقتال «أجا» أمام أسوار المدينة، مما يرجح أن الحروب في تلك العهود كانت تبدأ بالمبارزة بين الملوك والحكام أو من ينوب عنهم، وأعلن رجل اسمه «بيرشور نوري» عن استعداده لمواجهة «أجا» ومضى في طريقه واثقا من النصر، ولم يكد يغادر بوابة المدينة حتى أحاط به جنود العدو وأوسعوه ضربا وساقوه إلى قائدهم، وشاهد محارب آخر من فوق السور ما جرى لزميله، وسمع الكلمات التي قالها لأجا وأدت إلى تكرار ضربه ضربا مبرحا ... ويبدو أن الخبر انتشر بين جنود جلجاميش فأصابهم الذعر، مما اضطره للصعود بنفسه فوق السور، كما يبدو أن أجا قرر رفع الحصار عن المدينة إذا اعترف له جلجاميش بالتفوق والسيادة والرئاسة ... ويلهج جلجاميش بشكر المعتدي على صنيعه، وتختتم القصة بالثناء على ملك أوروك المسالم وفارسها الحكيم ...
والواضح من النص أنه يصور واقعة تاريخية مجردة من كل ثوب أسطوري، فشخصية جلجاميش فيها شخصية ملك «إنساني» عاقل، كما أن الآلهة لا تقوم فيها بأي دور، ولعل كاتب القصة أو ناسخها الذي سجل اعتراف جلجاميش بسيادة كيش قد حرص على تصوير هذه الواقعة المهينة في صورة لا تقلل من شهرة بطل أوروك ولا من مجد مدينته ذات الأسوار المنيعة ... والحقيقة أن القتال بين المدن السومرية كان أمرا معروفا، كما أن بكاء شعرائها على مدنهم المخربة بأيدي أبناء المدن المجاورة أو غيرهم من الشعوب والقبائل الغازية يعد من أهم الأنواع الأدبية في التراث السومري،
6
ومن أعمقها تأثيرا على قلب القارئ العربي المعاصر الذي يشهد خراب مدنه بأيدي العرب أنفسهم ... (7) أما القصة الخامسة - وهي «موت جلجاميش» - فقد وصلت إلينا في حالة من التشوه يرثى لها، ويبدو من بقايا النص المبتور أنه يبدأ بالكلام عن سعي جلجاميش إلى الحياة الخالدة، ثم يبين له إله لم يذكر اسمه أن إله الرياح إنليل لم يقدر له الخلود، وربما فعل ذلك تفسيرا لأحد الأحلام الكثيرة التي ظلت تعاود جلجاميش وتتدخل في تحريك الأحداث، ومع ذلك يطمئنه الإله المجهول - كما سيفعل أنكيدو في مواضع عديدة من الملحمة - أن ذلك ليس مدعاة للحزن أو اليأس، إذ ضمن له الإله الملك والمجد والانتصار على عدوه مدى الحياة، ثم لا نلبث أن نرى جلجاميش على فراش المرض الذي لن يقوم منه، ويموت الملك وترتفع أصوات النواح عليه، ثم تفغر فاها الواسع فجوة كبيرة في النص فنجد أنفسنا في العالم السفلي، كما نفهم أن جلجاميش رفع إلى صفوف الملوك الذين يحكمون ذلك العالم، وأصبح واحدا من آلهته الذين يسمون «الآنوناكي» ويقضون قضاءهم في أرواح الموتى، وأخيرا يذكر النص أسماء أتباع جلجاميش وأفراد عائلته، والهدايا التي يقدمها باسمهم لآلهة العالم السفلي، ثم يختتم النص بترتيلة تتردد فيها أصوات البكاء على جلجاميش والثناء عليه، ويبدو من الحفائر التي قام بها «ليونارد وولي» في «أور» وكشفت عن كنوز مقبرتها الشهيرة أن معظم الملوك السومريين في تلك الفترة من منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد كانوا يصطحبون حاشيتهم معهم إلى مقرهم الأخير، ولا يستبعد أن يكون أتباعهم قد تطوعوا في بعض الأحوال على الأقل بدفن أنفسهم معهم أحياء وفقا لطقوس الموت، ومع ذلك فربما تأتي الأيام بالشواهد الأثرية واللغوية التي تؤيد هذا الاحتمال المخيف - الذي لا أفتي فيه عن غير علم! - أو تنفيه ... (8) أما عن قصة الطوفان السومرية التي يستند إليها اللوح الحادي عشر من الملحمة فقد وصلت إلينا في حالة لا تسمح حتى الآن بفهم سياقها المتكامل، كما أن صيغة القصة نفسها من العهد البابلي القديم لا تساعد أيضا على ذلك، وتبدأ القطع الخمس المتبقية من النص بحديث أحد الآلهة عن الخدمات المفروضة على البشر تجاه الآلهة، ثم تستطرد إلى الكلام عن خلق البشر بواسطة الآلهة الكبار «آنو وإنليل وإنكي والإلهة الأم ننخور ساج»، وإلى نزول الملكية من السماء وتأسيس أقدم المدن في وادي الرافدين (مثل أريدو، أبو شهرين، ولاراك وسيبار بجانب مدينة الطوفان شوروباك التي تعرف باسم فارة).
ويبدو أن القصة الأصلية ذكرت قرار الآلهة بإفناء البشر بسبب إزعاجهم لهم، إذ نفهم من بعض سطورها الباقية أن بعض الآلهة قد أسفوا على اتخاذ هذا القرار، وراحوا يدبرون الحيل للوقوف بجانب البشر ... ثم يرد ذكر بطل الطوفان السومري، وهو زيوسودرا - أي الذي رأى الحياة - ملك مدينة شوروباك الذي يسر إليه أحد الآلهة (ولعله أن يكون هو إله الماء والحكمة إينكي الذي أصبح اسمه أيا عند البابليين، كما قام بنفس الدور في الملحمة) بخطة الآلهة في خطابه الهامس للجدار، ولا بد أن الفجوات الكثيرة في النص قد سردت قصة بناء الفلك وانهمار الأمطار من السماء، إذ توحي السطور التي جاءت بعدها بهبوب الأعاصير المدمرة وإغراق الطوفان للأرض سبعة أيام وسبع ليال «ثم طلع إله الشمس أوتو وغمر بنوره السماء والأرض، وفتح زيوسودرا نافذة - أو كوة - في السفينة الجبارة التي أضاءها البطل أوتو، وركع الملك زيوسودرا أمام أوتو، وذبح ثورا وخروفا» ... وبعد فجوة أخرى كبيرة نفاجأ بأن الإلهين آنو وإنليل قد ندما على ما فعلا، وأشفقا على البشر فأرسلا عليهم ريحا سماوية وأخرى أرضية بعثتا الحياة في مملكة النبات، ويلقي بطل الطوفان بنفسه أمام الإلهين اللذين يمنحانه الحياة الخالدة، ويقرران له العيش في جزيرة الخلود ديلمون (أو تيلمون)
7
التي تصور السومريون أنها تقع شرقي وادي النهرين وربما كانت هي «البحرين» الحالية ، وينتهي نص القصة عند هذا الحد، وهو يكفي على كل حال لبيان مدى استفادة الشاعر البابلي منه ومن النص البابلي القديم الذي لم يكن أحسن حالا.
ولا شك أن هذا الشاعر الموهوب قد أضاف تفصيلات أخرى من خياله الخلاق أو من مأثورات شفاهية لم تبلغ إلى عالمنا حتى الآن في صورة مدونة، وربما تكشف عنها الحفائر في مستقبل الأيام، ثم صنع من هذه الخيوط كلها نسيجا عبقريا أصيلا هو الذي يعرف اليوم باسم ملحمة جلجاميش أو باسم أول سطر في أول لوح فيها وهو «هو الذي رأى» ... (9) لم تكن هذه القصص السومرية هي المصدر الوحيد الذي غزل منه البابليون ملحمتهم الفريدة، فمنذ أن تولى الأكاديون الساميون زمام السلطة في بلاد الرافدين ووحدوها تحت قيادتهم واختلطوا بالسومريين، أخذوا عنهم معظم تراثهم الثقافي، وشرعوا في العصر البابلي القديم
8 (أي منذ حوالي سنة 1800ق.م) في نسخه وترجمة بعض أجزائه إلى الأكدية قبل أن يصوغوه بعد ذلك في أشكال جديدة ناضجة، ولا بد أنهم عرفوا الكثير من القصص والأساطير التي دارت حول حياة جلجاميش ومغامراته مما لا نعرفه اليوم، وإن كانت المعلومات القليلة التي لدينا عن الأدب البابلي في تلك الفترة - وبخاصة من القرن الثامن عشر إلى القرن السادس عشر قبل الميلاد - لا تسمح بالقول بأنهم تمكنوا في ذلك الوقت من صياغة الملحمة في بناء موحد متكامل، ومع ذلك فقد عثر على كسر ألواح مختلفة ترجع للعهد البابلي القديم وعليها أجزاء متفرقة مما سمي بعد ذلك بقصيدة جلجاميش أو ملحمته، وهي ألواح عثر عليها في أماكن مختلفة، وأصابها التلف الذي شوه الكثير من سطورها، وإن لم يمنع هذا معظم مترجمي الملحمة من الاستعانة بشذراتها لتكملة نواقص أحدث النصوص عهدا وأكملها، وهو النص الآشوري الذي عثر عليه في نينوى كما سبق القول.
9
مهما يكن الأمر فقد استطاع شاعر موهوب عاش حوالي سنة 1200ق.م أن يبدع هذا العمل الأدبي الرائع الذي نسميه جلجاميش، معتمدا على ما سبق أن ذكرناه من التراث السومري والبابلي القديم ومتحررا منه في آن واحد ... وقد حفظ لنا أحد المأثورات المتأخرة التي لم تتأكد صحتها اسم هذا الشاعر، وهو «سين-ليكي-أونيني»، ولا نكاد نعرف عنه إلا أن إحدى الأسر التي كانت تشتغل بالكهنوت في وقت متأخر في مدينة أوروك قد ذكرت اسمه كأحد أسلافها، ومع ذلك يظل الاسم أمرا غير ذي بال؛ لأن الشعراء والكتاب السومريين لم يحرصوا أبدا على ذكر أسمائهم، ولم يهتموا بأنفسهم كما نفعل اليوم للأسف إلى حد مرضي فظيع؛ لأن موهبة هذا الشاعر أقدر على التعريف به وتخليده من كل الأسماء (التي لا تعدو أن تكون ضجيجا ودخانا يحجب وهج السماء، على حد تعبير «جوتة» على لسان فاوست).
وجملة القول: أن جميع النسخ المتسقة أو المجتزأة التي وصلتنا من الملحمة ترجع إلى ما بعد القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ولكن القدر الأكبر من النص يرجع إلى القرن السابع قبل الميلاد، وقد عثر عليه كما ذكرت أكثر من مرة بين الألوف المؤلفة من الألواح الطينية التي اكتشفت في مكتبة الملك الآشوري آشور بانيبال، هذا الملك العجيب الذي نهب مصر وخرب سوسة (عاصمة مملكة عيلام القديمة في الجنوب الغربي من إيران)، وجسد التناقض الصارخ بين حرص العالم المثقف على جمع تراث أجداده، وقسوة الوحش الفظيع على أعدائه (إذ كان يتسلى بتقطيع أطرافهم وصلم آذانهم وسمل عيونهم أثناء استمتاعه بالأكل والرقص والغناء والموسيقى! ...) ومن حسن حظ الأدب والمعرفة والتاريخ أنه أرسل رسله إلى كل مراكز الثقافة القديمة في وادي الرافدين (مثل أوروك وبابل ونيبور وسييار)؛ لينسخوا القصائد والتراتيل والوثائق التاريخية والمدونات «العلمية» والقواميس ... إلخ، ويترجموا كل ما استطاعوا ترجمته من السومرية إلى الأكدية السامية، ويحفظوا الألوف من ألواحها في مكتبة قصره في العاصمة الآشورية المتأخرة نينوى
10 ... وقد كان من بينها الألواح التي تضم هذا القصيد الملحمي الذي دون وفق الأصل وجمع في قصر آشور بانيبال، «ملك العالم، وملك آشور»، وهو القصيد الذي نسميه اليوم ملحمة جلجاميش، والذي ما زال العلماء من مختلف بلاد العالم يتبارون في دراسته وملء فجواته وتفسير إشاراته ولمحاته ودلالاته من كل الجوانب والأبعاد، وترجمة ما يجد اكتشافه من ألواح أو كسر تتصل به، كما يتنافس الأدباء في استلهامه وصياغته في أشكال أدبية وفنية متنوعة ... (10) انتشر تأثير الملحمة منذ العصور القديمة وما يزال حيا وفعالا إلى يومنا الحاضر، ولا يرجع هذا فحسب إلى القيم الجمالية والدينية والتاريخية والاجتماعية ... إلخ التي تنطوي عليها، وإنما يرجع إلى أنها تخاطب «الإنسان» فينا قبل كل شيء، وتذكي نيران أسئلته الكبرى التي لا يجد عنها إجابة شافية ولا يملك مع ذلك - على حد تعبير كانط (1724-1804م) في مقدمته لنقد العقل الخالص - أن يسكت عنها أو يتوقف عن طرحها، ولا نريد أن ندخل في تفصيلات التأثير والتأثر - التي لم تزل موضع التخمين والجدل والخلاف الشديد بين العلماء المجتهدين - إذ يكفي أن نشير إلى بعض مظاهر الاهتمام بترجمتها إلى اللغات القديمة والحديثة، ومحاولات صياغتها واستلهامها، واحتمالات التشابه بين بعض «ثيماتها» أو موضوعاتها الأساسية وشخصياتها وبين نظائرها في الأدب القديم والوسيط، بشرط أن تتذكر أن مكتبة جلجاميش والأدبيات التي ألفت عنه قد أصبحت تفوق الحصر وفجرت أمواجها المتلاحقة كل الحدود ...
فقد ترجمت أجزاء من النص - كما ذكرنا في هامش سابق - إلى أربع لغات كانت تكتب بالخط المسماري في الفترة الزمنية الواقعة بين القرنين الواحد والعشرين والقرن السادس قبل الميلاد، وفي حدود المنطقة الواقعة بين جنوب بابل في أرض النهرين وبين عاصمة الحيثيين في آسيا الصغرى، وتغلغل المأثور الشفاهي عن جلجاميش إلى ما وراء تلك الحدود، فانتشرت بعض موضوعاته وتشكلت على صور مختلفة في أساطير وحكايات شعبية، وقصص عجائب وخوارق أثرت من العصور القديمة حتى العصر الحديث على شعوب وثقافات أخرى عديدة، وأصبح بعضها جزءا من الأدب العالمي (ويرجح بعض الباحثين أن تكون بعض «موتيفات» جلجاميش قد تسربت إلى عدد من الحكايات الشعبية الفارسية، مثلما حدث الشيء نفسه مع بعض الحكايات الخرافية البابلية على لسان الحيوان والنبات، وثبت أنها أثرت تأثيرا واضحا على بعض الحكايات الخرافية الفارسية وبعض حكايات أيزوب، وربما يعود أحد أسباب ذلك إلى أن الفرس ظلوا يستعملون الخط المسماري في كتابتهم لفترة طويلة بعد إهماله في بلاده نفسها).
وما برحت الآراء متأرجحة بين مؤيد ومعارض لتأثير اللوح الحادي عشر من الملحمة (الذي تروي فيه قصة الطوفان) على سفر التكوين في العهد القديم بجانب تأثير بعض نصوص أدب الحكمة البابلي على سفر الجامعة أو سفر أيوب والمزامير، وتأثر شاعر الإلياذة والأوديسة
11
أو شعرائها بالتراث الشفهي المأثور عن جلجاميش، وانعكاسه بصورة غير مباشرة على تصوير شخصياتهما التي تتشابه صفاتها من بعض الوجوه مع بعض شخصيات الملحمة البابلية (ففي أخيل وهيكتور وأوديسيوس ملامح من جلجاميش، وفي الساحرة كيريكه في الأوديسة قسمات من وجه عشتار وعنف حبها وغضبها، وربما أمكن التقريب بين مينيلاوس الذي أرسل إلى جنات الإليزيوم ليعيش مع أبطال الإغريق العظام وبين أوتنابشتيم البعيد الخالد في جزيرة الأحياء، وكذلك بين بعض أبطال الأساطير اليونانية المشهورين بمغامراتهم وانتصاراتهم على القوى الخارقة - مثل هرقل وبرسيوس وثيسيوس - وبين جلجاميش في صراعه مع الأسود والمردة والثور السماوي)، وإذا كان جلجاميش قد ذكر عند بعض الكتاب الإغريق المتأخرين (مثل إليانوس من أواخر القرن الثاني بعد الميلاد وأوائل الثالث في كتابه عن طبائع الحيوان وحكاياته، الكتاب الثاني عشر، الفصل الحادي والعشرين) فيحتمل كذلك أن تكون قصته (أي جلجاميش) قد تسربت إلى شعوب البحر الأبيض المتوسط مثلها مثل العديد من عناصر السحر والتنجيم والفلك البابلي (وبخاصة الكلداني) والآشوري التي دخلت في مذاهب الغنوص الروحانية وفي الأفلاطونية الجديدة أو المحدثة (نسبة إلى أفلوطين المصري السكندري آخر فلاسفة اليونان العظام ومجدد الأفلاطونية (عاش من سنة 205 بعد الميلاد إلى سنة 270م)).
وهنالك احتمالات أخرى - تحتاج إلى دراسات مقارنة مستفيضة لم يبلغ إلى علمي شيء منها - عن تأثير شخصية جلجاميش على الروايات الشعبية العربية عن النمرود وذي القرنين - كما وردت في كتاب التيجان وأخبار ملوك اليمن لعبيد بن شريه الجرهمي - وحكايات العجائب والخوارق التي اقترنت بمولد الإسكندر الأكبر، وعلى شخصيات كثيرة من الملاحم الأوروبية في العصور الوسطى وروايات الفرسان في أواخرها، وربما تستحق مسألة تأثيره الممكن على بعض أبطال السير الشعبية العربية أو على بعض حكايات ألف ليلة وليلة شيئا من عناية الباحثين في الأدب الشعبي العربي وعلاقته بالآداب السامية القديمة ... أضف إلى هذا أن مؤرخي الفن لم يغفلوا عن النقوش التي صورت جلجاميش في صراعه مع الثيران والأسود والوحوش الكاسرة على الأختام الأسطوانية، ولا عن مجسماته بالنحت البارز في قصور الملوك الآشوريين وبخاصة قصر خورساباد ...
وأما عن الترجمات والاستلهامات الأدبية فأكتفي بذكر ما اطلعت عليه منها أو قرأت أجزاء منه فيما قرأت من دراسات، وهو قليل من كثير، فمن الترجمات ما حافظ على روح الملحمة وهيكلها دون التقيد بالترجمة الحرفية التي تشوبها كثرة الثغرات والفجوات بما يتعذر معه متابعة السياق، مثل ترجمة فيلهيلم قندلانت (برلين 1927م) وجورج بورخارت (فرانكفورت 1958م) والأستاذة ن. ك. ساندرز (سلسلة بنجوين 1972م، ولها ترجمة عربية للأستاذين؛ محمد نبيل نوفل وفاروق حافظ القاضي، القاهرة دار المعارف 1970م)، ومنها ما التزم بالترجمة الدقيقة مع استكمال الفجوات الأصلية من الشذرات البابلية القديمة أو الترجمات الحيثية، مثل ترجمة ألبيرت شوت التي اعتمدت عليها، وترجمات ألكزندر هايديل، شيكاغو 1963م، وأ. ا. شيايزر ضمن كتاب بريتشارد المعروف نصوص من الشرق الأدنى القديم في ارتباطها بالعهد القديم، برينستون 1955، 1975م والترجمتين العربيتين عن الأكدية للمرحوم الأستاذ طه باقر، بغداد 1980م، والدكتور سامي سعيد الأحمد، بيروت وبغداد 1984م، وترجمة الأستاذ فراس السواح التي وفقت بين ترجمات إنجليزية مختلفة، دمشق 1987م، والترجمة الشعرية للشاعر والباحث العراقي المعروف عبد الحق فاضل بعنوان «هو الذي رأى» بيروت 1972م، وكل ذلك بجانب نصوص من الملحمة وردت في دراسات قيمة من أهمها في العربية كتاب هنري فرانكفورت وزملائه «ما قبل الفلسفة، الإنسان في مغامرته الفكرية الأولى» من ترجمة الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، بيروت 1980م، والأسطورة والتاريخ في التراث الشرقي القديم، دراسة في ملحمة جلجاميش، للدكتور محمد خليفة حسن أحمد، بغداد 1988م؛ حتى إذا تركت حقل الدراسات العلمية والأكاديمية وبحوث علماء الآشوريات في كتبهم ومقالاتهم في مجلة «سومر» وغيرها من الدوريات المتخصصة؛ أحزنك ألا تجد في العربية عملا روائيا أو مسرحيا واحدا استوحى هذا الأثر الخالد باستثناء مسرحية شعرية متواضعة للشاعر العراقي يوسف أمين قصير، بعنوان «جلجاميش في العالم السفلي»، بغداد 1973م، ومعالجة مسرحية شائقة من نوع «المونودراما» للعرائس التي يحركها وينطقها ممثل واحد هو الفنان العراقي سعدي يونس (وقد أسعدني الحظ بمشاهدتها ولم يسعدني بالاطلاع على نصها)، ولا شك أن هذا دليل كاف على أن الملحمة لم تصل بعد إلى الوعي العام، ولم تحرك بصورة كافية وجدان المبدع العربي، وهو أولى الناس بالاهتمام بإرثه وامتلاك ميراثه، لعله أن يتصرف فيه تصرف الحر، ويدرك مدى تغلغل «نموذجه الأصلي» في شعوره ولا شعوره الفردي والجمعي عبر العصور والأجيال ...
12 ••• (11) كانت هذه المقدمة ضرورة لا غنى عنها للتعريف بأثر خالد من آثار تراثنا الثقافي والحضاري من ناحية، وجزء لا يتجزأ من الأدب العالمي لا تزال الدراسات العلمية والأدبية تتوالى عنه من مختلف أبعاده من ناحية أخرى، مع الحرص على عدم الدخول فيما لا نهاية له من التفصيلات والتفسيرات التي لا يحتملها هذا التقديم، والواقع أن دوري في هذه الترجمة هو دور «ساعي البريد الأمين» الذي أخذ على عاتقه توصيل «رسالة» سحيقة القدم إلى القارئ، أي «ترجمتها» بالمعنى الأعمق والأشمل لهذه الكلمة، بحيث ينصهر فيها أفق الكتاب الأصلي مع أفق مترجمه وقارئه المعاصر، ويتم بينهما التقارب والتجاوب والتعاطف، مع توخي الدقة التامة في النقل، وإدراك أوجه التباين بين الرؤى والأزمنة والتراكيب والسياقات التاريخية والحضارية والاجتماعية واللغوية والدلالية (كما يفيض في ذلك أصحاب فلسفة التفسير أو التأويل للنصوص المختلفة - الهيرمينويطيقا - وبخاصة الفيلسوف هانز جورج جادامر)، وسوف أؤجل الحديث عن هذا الدور قليلا لأقدم بعض الملاحظات التي أرجو أن تلقي الضوء على مكانة «جلجاميش» من التراث الإنساني ومن تراثنا القديم، دون أدنى رغبة في التفاخر أو الزهو (وإن كان الزهو بعيون التراث حقا مشروعا لأبنائه، كما هو سند نفسي لهم في أوقات المحن والشدائد التي يشعرون فيها بالحاجة الملحة لسماع صوت «رسالته» الموجهة لهم)، ولعلي ألخص هذه الملاحظات في النقاط التالية: (أ)
إذا لم يكن جلجاميش هو أول بطل إنساني، فهو على التحقيق أول بطل مأساوي في تاريخ الأدب العالمي، وإذا كانت مأساته تكمن في فشله النهائي في التوصل للخلود الذي شقي شقاء لا يوصف في السعي إليه، فإن هذا الفشل نفسه هو سر بطولته وإنسانيته التي تجعله أقرب إلينا من كثير من أبطال المآسي القديمة والحديثة، ومع أن شاعر الملحمة قد جارى الكهنوت والتقاليد الدينية والأسطورية القديمة في تصوير جماله وقوته في صورة خارقة للمقاييس البشرية، وصرح أكثر من مرة بأن ثلثيه إلهي والثلث الباقي بشري فان، فقد حرص - في تصوري على الأقل - على تأكيد إنسانيته وفرديته، وإبراز ضعفه وتردده في كثير من مواقفه وهواجس رؤاه وأحلامه، وعلى تتبع «تطهره» التدريجي من تألهه وتجبره وتسلطه على شعبه، بل من تمرده المؤلم والعقيم على قوانين الموت والفراق المحتوم، حتى وصوله إلى مرحلة الوعي بالوضع البشري وقانون اللحظة العابرة والواقع هنا والآن، والاقتناع بأن الخلود الوحيد المتاح للبشر إنما يكون في إنجاز أعمال حضارية من نوع السور الذي يثني عليه ثناء حارا وهو في الطريق إلى موطنه ومسقط رأسه، والحق أن بنية الملحمة نفسها توحي بأنها نوع من القص الإنساني أو «العلماني» كما نقول اليوم، فلم يثبت للعلماء أنها كانت تتلى مع الطقوس الدينية، كما كان الحال مع قصيدة الخلق البابلية «إينوما ايليش» (عندما في الأعالي)، وبقيت قصة إنسانية على الرغم من إطارها الأسطوري وتدخل الآلهة - وبخاصة إله الشمس والعدل شمش - في كثير من أحداثها، أضف إلى هذا أن موت صديقه أنكيدو كان ضربة ساحقة لألوهيته المزعومة، فجرت فيه بشريته المذعورة من «حظ البشر»، وأطلقت بحثه اللاهث وسؤاله المحموم عن الخلود لنفسه أولا ثم لشعبه بعد ذلك، ولا ننسى أخيرا أن مأساويته ترجع في جانب منها إلى التشاؤم القاتم الذي طبع منذ القدم وجود الإنسان في أرض النهرين، بسبب قلقه الدائم من قوى الطبيعة المدمرة، وهجمات المدن والشعوب المجاورة، وغزوات القبائل البدوية وغاراتها المفاجئة، وخوفه المقيم من مصيره التعس بعد الموت في عالم لا عودة منه، عالم سفلي خال من النور والأمل، كتب فيه على أرواح الموتى أن تعيش كالطيور الصامتة على التراب، وأن تقتات من الطين، وتتعذب خلف الأبواب السبعة المغلقة في قبضة الملكة المخيفة أريشكيجال وزوجها نيرجال وحراسهما وزبانيتهما الأشداء ... (ب)
وإذا كان الغربيون يؤكدون أن «أوديب» هو أول فرد حاول أن يخرج من حصار الأسطورة والملحمة، ويستقل بنفسه عن روح الجماعة ويحررها من نسيج تقاليدها وأساطيرها وكهنوتها، وإذا كانوا يفتخرون بأن سقراط هو أول من طبق حكمة معبد دلفي والحكماء السبعة «اعرف نفسك» بصورة أخلاقية عقلية، وأول من تمثلت فيه «الذاتية» الوجودية الحقة بكل تمزقها بين النهائي واللانهائي، وبين المحدود والمطلق (على نحو ما صورها كيركجارد في رسالته المبكرة عن مفهوم الدعابة مع التركيز المستمر على سقراط)، فمن حق أبناء حضارة هذه المنطقة من العالم أن يردوا عليهم بأن «جلجاميش» قد سبق «أوديب» في إصراره على فرديته مهما كلفه ذلك من الاغتراب عن وطنه وشعبه، والمغامرة في اقتحام المخاطر والمهالك، وأنه لا يقل عن سقراط في «الذاتية» الفردية التي قادته على الطريق الوعر، طريق معرفة النفس وحدودها ومكانها من العالم وعلاقتها بالآلهة والبشر، وطريق البحث الشائك عن معنى الحياة والموت والخلود ... والدليل على هذا أن ملحمته التي ترجع إلى الألف الثالث قبل الميلاد ما زالت تحرك عقولنا وقلوبنا في أواخر القرن العشرين، وما فتئت تثيرنا ببساطتها وعفويتها، دون أن يقلل من استمتاعنا بها أسلوب الاستطراد والتكرار والتقرير والارتجال الذي يطبع الأدب الشعبي والقصص الشعبي بوجه عام ... (ج)
انتقد بعض فلاسفة الغرب (مثل فيلسوفي مدرسة فرانكفورت ومؤسسي النظرية النقدية الجدلية وهما: ماكس هوركهيمر وتيودور أدورنو في كتابهما المشترك عن جدل التنوير الذي صدر عام 1947م)،
13
انتقدا حركة التنوير العقلي الأوروبي، وأكدا أن التنوير ظل طوال تاريخه الطويل متداخلا مع الأسطورة التي كان ينتزع نفسه منها لكي يرتد إليها من جديد بصورة أبشع (كما حدث للعقل الذي سقط في اللاعقلانية المروعة مع كارثة قيام الأسطورة النازية وتحطمها ...) والمعروف أن التنوير الأوروبي قد بلغ ذروته في القرنين: السابع عشر والثامن عشر، وأن أقطابه قد أكدوا سلطة العقل النقدي الذي تقاس عليه كل سلطة أخرى، بما في ذلك سلطة التراث الديني، وعرفه كانط - رأس المثالية الألمانية الحديثة - بأنه هو خروج الإنسان من الوصاية وبلوغه مرحلة الرشد؛ أي مرحلة معرفة الذات والتحرر من الخرافة والإقطاع والتعصب، والاتجاه - على هدي النزعة الإنسانية والفلسفة العقلانية وتطور العلوم الطبيعية - إلى توحيد البشرية العاقلة تحت لواء التسامح والتقدم والاستنارة ... والذي يهمنا في هذا المقام أن الفيلسوفين السابقي الذكر قد أرجعا التنوير إلى جذوره الأولى في التاريخ الغربي، وزعما أن «أوديسيوس» - بطل ملحمة الأوديسة لهوميروس - هو أول «مستنير» أوروبي استطاع بخبثه وذكائه التخلص من سحر الأسطورة ومن كيد بعض الآلهة والعمالقة له ولرفاقه في رحلته الخطرة، وبصرف النظر عن مدى صحة هذا الرأي، وعن تأرجح التنوير الغربي منذ ذلك الحين بين التقدم والتراجع، ففي تقديري أن جلجاميش كان أسبق إلى التنور أو الاستنارة من أوديسيوس بألف وخمسمائة عام على الأقل ... فقد كانت مغامراته تحديا مستمرا للأساطير المسئولة إلى حد كبير عن تألهه وجبروته واستعباده لشعبه ولهاثه المضني وراء حلم الخلود المستحيل، وظل يخرج من أساطيره وأحلامه بالتدريج ويتحول عنها خطوة بعد خطوة، حتى يئس منها بعد ضياع نبتة الخلود من يديه وانخراطه في البكاء على تعاسته وانهياره وانكساره، ثم تطهر من تلك الأساطير والأحلام - أو هذا على الأقل هو تفسيري لخاتمة الملحمة! - مع عودته إلى مسقط رأسه في أوروك، وعزمه - الذي نستشفه من فرحته الغامرة برؤية سورها وأبراجها من بعيد! - على وضع يده في يد شعبه لتحقيق الخلود الوحيد المتاح للبشر أثناء حياتهم المتناهية على الأرض، وهو - كما قلت - بناء الحضارة وإيثار ما ينفع الناس ويمكث في الأرض على الشهر الكاذبة والتسلط الأناني والمجد الشخصي الزائف، ومع ذلك فربما ينظر إلي القارئ نظرة المتشكك الساخر وهو يسأل: إلى أين أوصلهم التنوير الذي بدأ مع أوديسيوس؟ وإلى أين وصلنا بالتنوير الذي بدأه جلجاميش بطل أوديسة الرافدين القديم؟! وله وحده أترك الإجابة على هذا السؤال على ضوء محنتنا الراهنة أو بالأحرى في غياهب ظلماتها ... (12) ليس القدم وحده هو الذي يضفي على جلجاميش وملحمته هالة الجلال والصدق والجمال؛ لأن أشعة هذه القيم الباقية تنبعث من تكوينها الفني ومضمونها الفكري، والدلالات التي يوحي بها شعرها وأحداثها وشخصياتها على مأساة الإنسان في وجوده القلق، وبحثه عن المعنى والمعرفة، وسؤاله عن سر الحياة والموت، بجانب دلالتها على النموذج الأصلي أو النمط الأولي - على حد تعبير عالم النفس السويسري كارل جوستاف يونج - للشخصية الشرقية المستبدة في بعدها الأسطوري والتاريخي، ومدى ما بقي منها من رواسب فاعلة في لاوعينا الجمعي (وإن كان جلجاميش - في تفسير بعض الباحثين والتفسير الذي ارتضيته - يقدم مثلا نادرا في تاريخ القهر والقمع الطويل لهذه المنطقة من العالم على الحاكم الذي تطهر من طغيانه وتسلطه واستبداده)؛
14
ولذلك فإن جلجاميش وعاء أثري وفني يحتوي على مزيج مأسوي مدهش من مغامرة الإنسان بحثا عن نفسه وصراعه الأخلاقي مع الشر، ورؤاه ومواقفه الوجودية التي تتذبذب بين الاستغراق في نبع اللحظة الراهنة واغتراف كل ممكناتها، والتصميم على تحقيق أمل «يوتوبي» يبدو في حكم المستحيل، أضف إلى هذا أهم ما اشتهر به جلجاميش وضمن له الشمول والحضور وراء حدود المكان والزمان، وهو سعيه الدائب إلى الخلود الذي يمكنه من الإفلات من «حظ البشر»، ويعينه على مواجهة الموت القابع في مخدعه، وتخطي أسوار الفناء الذي يشل خطاه ويحاصر حياته في كل لحظة، ويلتهم كل أعماله وأتعابه وما بنت يداه ... ثم إنها تخاطبنا اليوم أيضا - كغيرها من أمهات النصوص في تراثنا الأدبي والحضاري - في سعينا الدائب لمعرفة هويتنا وتحقيقها، وتطلعنا لإرساء الأساس الأول المفتقد لوجودنا وتقدمنا على درب التحضر والتنور والتطور، ألا وهو الحرية، وهل ثمة سبيل يقربنا من هويتنا مثل تفهم نصوص تراثنا، وتتبع مسار تحولاتها التاريخية في مختلف السياقات والأبنية الاجتماعية والسياسية والثقافية ... إلخ وتجديد حضورها في وعينا، وجعلها معاصرة لنفسها ولنا في وقت واحد (على حد التعبير الجميل الذي يوجه بحوث المفكر العربي محمد عابد الجابري في التراث العربي والإسلامي وتجده في مقدمة كتابه نحن والتراث)؟! (13) تزخر الملحمة بشواهد عديدة على التفكير السومري والبابلي القديم وأوضاعه التاريخية والنفسية والاجتماعية والثقافية والطبقية ... إلخ، ومواقفه من البيئة المحيطة به ومن العالم السفلي الذي لا رجاء فيه ولا عودة منه (بالأكدية: ايرصة لاتاري أو أشار لاتاري ...)، وتقاليده وحكمته وأحلامه ورؤاه التي تتنبأ بسلوكه وتوجهه كما تكشف عن رعبه من أرض اللاعودة وأسرارها، وحياته اليومية المنغصة بالسخرة والقهر والطاعة المطلقة للحاكم الإلهي أو المتأله (الإنسي) والكهنوت ومجمع الآلهة الرهيب الذي يحكم الكون والمدن ويعين مندوبين عنه من صغار الآلهة لحكم البيوت والعائلات أيضا ... وهي تدلنا كذلك على علاقاته السياسية والاقتصادية بجيرانه (فالرحلة المحفوفة بالمخاطر إلى غابة الأرز في جبل لبنان تبين حاجته إلى الخشب والمعادن الشحيحة في بلده)، وعلى صلته بالآلهة الذين يخشى غضبهم وانتقامهم (مثل إنليل رب العواصف) والآلهة الذين يتضرع إليهم وينعم بعطفهم وتعاطفهم (مثل أيا وشمش) وتمتعه بنوع من الديموقراطية البدائية التي تجلت في وجود مجلسين للشورى من الشيوخ والشباب، وبدايات زحف الحضارة (ممثلة في جلجاميش وبغي المعبد) بترفها وفسادها على البداوة (ممثلة في أنكيدو وحش البرية) بقيمها الفطرية النقية ... إلى آخر الشواهد الدالة على تصور الرافدي القديم للعالم والبشر والحياة والموت، والقيم المختلفة كالشجاعة والحب والإيثار والعفو والخير وأضداها من الضعف والأنانية والتسلط والاستبداد والتهالك على الملذات الفاحشة، بجانب لمحات قليلة عن «علوم» الحكمة العملية في تلك العهود كالسحر والتنبؤ وتفسير الأحلام وطقوس التطهير من الأرواح الشريرة ... إلخ.
لن يتسع المجال المحدود للخوض في هذه الموضوعات التي يمكن الرجوع فيها إلى الكتب المتخصصة؛ ولذلك أستأذن القارئ في الاكتفاء بالمعلومات الضرورية التي قدمتها، وتسجيل بعض الملاحظات عن علاقتي بالملحمة وبطلها الشهير، ومحاولتي المتواضعة في قراءتها وتفسيرها من منظور ذاتي وتاريخي، ومبررات هذه الترجمة العربية الجديدة التي أتمنى أن تصل إلى الوعي المثقف، وتفتح عيون وجدانه الفردي والجمعي على آلام الماضي الممتدة في الحاضر، لعله أن يجرب تراثه ويحاول تجاوزه ... (14) يرجع حبي واهتمامي بهذه الملحمة إلى سنوات الطلب، كنت قد اطلعت عليها لأول مرة في ترجمة الأديب الألماني جورج بوخارت التي سبقت الإشارة إليها، وخطر لي في ذلك الحين - أوائل الستينيات - أن أستلهمها في عمل أدبي لا أذكر معالمه على وجه التحديد (وإن كنت قد عثرت قبل شهور قليلة على مسودته المدفونة مع غيرها من المسودات والمشروعات الموئودة في توابيت الأدراج ومقبرة الذاكرة ...)
ولا بد أنني استبعدت ذلك الخاطر النزق الذي ظل يتقلب كالشوكة في أغوار الوجدان مع غيره من الأشواك التي لا يتوقف وخزها المؤلم البطيء ... كانت التجربة فوق طاقتي المحدودة، ولم تكن قد نضجت إلى الدرجة التي تكفي لتحريك الشوكة فيتحرك القلم! ومن أنا حتى أتجاسر على الاقتراب من كنز أدبي خالد، لا يسبر أغواره إلا من يقدر على الغوص في بحار عالم حضاري كامل، عالم أقف أمامه وقفة التلميذ البائس البليد، فلا أنا أعرف اللغة الأصلية التي كتب بها، ولا لدي فكرة عن علم الآشوريات وأسراره المحجوبة إلا عن أهل الاختصاص! ثم لمن أقدم هذه التجربة وجلجاميش غائب عن وعي القارئ العام، وبيننا وبينه فجوة زمنية سحيقة لا تقل عن خمسة آلاف عام؟!
وشاءت تحولات الأيام والأعمال أن أعكف طوال السنوات الثلاث الماضية على قراءة نصوص أدب الحكمة البابلية (مثل أيوب البابلي لدلول - بيل نيميقي - أو لأمتدحن رب الحكمة والمعذب والصديق وحوار السيد والعبد وغيرها من الأمثال والحكم والتراتيل والحكايات الشعبية البابلية ...) لم يفارقني الوعي التام بمدى قصوري العلمي، وجهلي باللغتين: السومرية والأكدية جهلا فات أوان تداركه وإصلاحه ... لكن الانجذاب إلى حكمة هذه الحضارة، ومحاولة قراءتها وتفسيرها من «داخلها» بعيدا عن حكمة «اللوجوس» الذي تحكم في مسيرة ذلك النسق العقلي والمنهجي المترابط الذي نسميه الفلسفة منذ الإغريق إلى اليوم، ثم طموحي أو غروري الذي صور لي من خلال تلك النصوص القديمة التي تشبه اللآلئ الساطعة التي تقطر بدماء الشكوى والأنين من الظلم والتسلط واضطهاد البررة الصالحين، كما تردد أصوات الاحتجاج والتمرد المحبط على نظم القهر والطغيان الكهنوتي والاجتماعي؛ كل ذلك صور لي - بحدس الأديب لا بيقين العالم! - أنني قد لمست جذور المحن والمآسي العربية المتكررة في تراثنا التاريخي - وبخاصة في عصور التدهور والإنحطاط - بما يشبه القوانين التي تتحكم في الدورات الطبيعية والكونية ... ورست رحلة القارب الصغير على الشاطئ ومعها كتاب سيئ الحظ عن «حكمة بابل» ربما يقدر له الظهور في وقت غير بعيد ، ومسرحيتان قصيرتان هما كل الصيد من تلك الرحلة الخطرة إلى الأعماق المجهولة
15 ... وكان من الطبيعي أن أعاود قراءة جلجاميش في ترجماتها وصيغها المتاحة (وفي مقدمتها ترجمة شوت مع مراجعة فون سودن، وترجمة شبايزر في كتاب بريتشارد السابق الذكر، والترجمتين الأدبيتين للأستاذ ساندرز والأستاذ بوخارت، والترجمتين العربيتين للمرحوم طه باقر والأستاذ فراس السواح ...) وتحركت الشوكة القديمة وجددت وخزاتها الأليمة ... وتمخضت التجربة عن قراءة درامية للملحمة العريقة، أتاحت لي المزيد من التعمق في استكناه أحداثها ومواقفها وصورها العفوية المعجزة ببساطتها وقوة دلالتها، والتعاطف مع شخصياتها ومحاولة «إحضارها» إلى بؤرة الوعي الحاضر وتحريكها على خشبة الواقع العربي المشحون بالمآسي والهزائم والآلام، والمفعم أيضا بالأشواق والتطلعات والأحلام ... وتجسدت التجربة (أو الترجمة الدرامية بالمعنى الأصلي لكلمة الترجمة!) في مسرحية ملحمية تحمل عنوان: «هو الذي طغى ... محاكمة جلجاميش» ويعلم الله وحده إن كان القراء سيحكمون لها أو عليها
16 ...
خرجت من هذه التجربة - التي لم تكن أقل خطرا ومعاناة من أسفار جلجاميش ومعاناته التي نقشها على لوح حجري! - بضرورة إنجاز ترجمة عربية جديدة، وبأفكار وانطباعات أخرى أعرضها على القارئ قبل الحديث عن مبررات هذه الترجمة، راجيا أن يتذكر ما قلته من قبل من أنها انطباعات على وجدان أديب متعاطف، وليست أفكار عالم محقق؛ ولذلك تقع خارج مجال الصدق واليقين العلمي أو وراء حدوده ... (15) يبدو لي من قراءة الملحمة ومعايشتها - وربما أكون مخطئا في هذا الرأي! - أن شخصية جلجاميش قد مرت بتغيرات حاسمة جعلتها تتحول من «الأنا» إلى «النحن»، ومن التسلط إلى التطهر، ومن اللهفة المحمومة على الخلود الإلهي إلى الخضوع للوضع البشري والتسليم به والاتجاه بهدوء إلى مشاركة «الناس» في أعمالهم وهمومهم، وبذلك تحررت من الذعر من الموت وآمنت بقانون اللحظة الواعية الفاعلة، لحظة العمل الخلاق مع الآخرين ومن أجلهم، ويكاد يتملكني حدس غلاب بأن جلجاميش قد تطهر من استبداده الأناني ولهاثه العقيم إلى الشهرة وخلود الاسم بعد تحسره على ضياع «النبتة» في جوف الأفعى وبكائه بكاء مفجعا على الجهد الذي ذهب سدى، وسنوات الشباب التي تبددت في الغربة عن الوطن وعن الشعب الذي رجع إليه صفر اليدين من كل أمل.
ومع ذلك فربما تكون نجمة هذا الأمل قد أرسلت شعاعا رحيما إلى عقله وعينيه مع اقترابه من أسوار أوروك ورؤية شبح السور العظيم الذي اقترن باسمه إلى اليوم، وظلال الأبراج (الزقورات) والمعابد التي شيدها - قبل القيام برحلته - لإله السماء «آنو» وإلهة الحب «إينانا»، وربما يكون هذا الشعاع الرحيم قد أوحى إليه بهذا الخاطر الإنساني حقا: إن الخلود الوحيد المتاح للبشر الفانين على الأرض الفانية يكمن في مثل هذا «العمل»، لا في ذلك الحلم المستحيل أو ذلك «الوهم» الذي ساقه للاغتراب عن وطنه وشعبه، كما ساق غيره من الجبابرة والطغاة من بعده وراء أوهامهم الزائفة وشطحاتهم المدمرة ...
ومن يدري؟ فلعله أن يكون قد أحس في لحظات الندم والتطهر المأسوية بالذنب تجاه شعبه الذي طالما سخره واغتصب بناته وساق أبناءه إلى الموت أو إلى الذبح في مغامراته الفاشلة (ومن أسف أن الكاتب أو الناسخ البابلي لم يلتقط الخيط الذي قدمه له سلفه السومري عندما ذكر في إحدى القصص الخمسة التي لخصناها من قبل أن جلجاميش أخذ معه خمسين من خيرة شباب أوروك، واشترط فيهم أن يكونوا غير متزوجين! ...) وليس أدل على هذا كله - في تقديري على الأقل - من الفرحة التي لم يستطع شاعر الملحمة أن يخفيها عندما انتقل فجأة في خاتمة الملحمة إلى ترديد هتاف جلجاميش برفيق رحلته الملاح أورشنابي أن انظر يا أورشنابي إلى سور أوروك، اصعد عليه وتفحص لبناته ... إلخ!
ربما يساعد هذا على اعتبار جلجاميش صورة مبكرة جدا من صور «الرواية التربوية» والتعليمية التي ازدهرت في الأدب الغربي منذ أوائل القرن التاسع عشر، وهي روايات تتابع تطور البطل في معرفته بنفسه وبالعالم والمجتمع، وتحوله من الاغتراب عن الذات إلى الانتماء إليها، ومن التبدد والضياع إلى معرفة النفس وتحديد دورها وواجبها في العالم والواقع، فهل يمكننا القول بأن كاتب جلجاميش أو كتابها قد قصدوا إلى هذه المهمة التعليمية والتربوية غير المباشرة بطبيعة الحال، فأرادوا أن يصححوا نموذج المستبد الشرقي العريق باختيار أشهر ممثليه في هذه الحضارة وإصلاح انحرافه وفساده بحيث يكون عبرة لغيره من مسوخ الطغاة المتتابعين، وأمثولة تقول لكل مستبد نرجسي وانتهازي مثله: قد كنت كذلك وطغيت، لكني الآن تطهرت؟!
هل حاولوا - بالأسلوب الشعبي البسيط الهادئ الذي يكتفي بالتلميح دون التصريح - أن يعبروا كذلك عن تحول جلجاميش من أحلامه المستحيلة المشوشة إلى الحلم الواقعي بإقامة «وطن الإنسان» الدافئ بالحرية والعدل والبناء، الزاخر بالمشكلات «الحقيقية» التي تؤرق الناس في حياتهم «هنا والآن» دون التوقف عن متابعة الحلم وتدعيم أسس ذلك الوطن المأمول؟ أليس هذا أمرا ممكنا وجزءا من مضمون «الرسالة» التي يبلغها هذا العمل إلينا، كما بلغها لمستمعيه وقرائه الأقدمين؟! (16) يخيل إلي كذلك أن «جلجاميش» تعبر عن أول صورة من صور الاعتراف «باللحظة الخصبة الممتلئة» (كما أشار إليها بندار في أناشيده البيتية وكما سماها جوته ونيتشه وأفاض مؤخرا في وصفها الفيلسوف الماركسي إرنست بلوخ في كتابه الأكبر مبدأ الأمل)، لقد شبهها القديس أوغسطين (354-430م) بالقوس المتوتر بين لحظة ماضية ذهبت بغير عودة وإن بقيت ذكراها في الذاكرة، ولحظة لم تأت بعد ولم يزل القوس مشرعا عليها بكل ما فيه من طاقة الحلم والتوقع والتأهب.
هذه اللحظة الممتلئة المظلومة دائما؛ لأنها زائلة ولا وجود لها في حساب الزمن الفلكي والموضوعي، هي في الحقيقة لحظة الوعي والفعل وحقل الإنتاج والإبداع الإنساني الوحيد، وكل «مفارقة» الوجود الإنساني تكمن في هذه اللحظة التي نهملها عادة ونتركها تفلت من أيدينا ولا ننتبه إليها - إن فعلنا على الإطلاق! - إلا في المواقف الحاسمة في حياتنا الفردية والجماعية حين نمسك بها ونصب فيها عرقنا ودمنا، ونحرك حقلها بجهدنا وتعبنا، وبذلك نحقق معنى وجودنا و«ذواتنا » الفردية والجماعية، ونواجه هاوية الموت الحتمي و«خرونوس» الفاغر فاه لابتلاعنا ونحن نصيح به: ها نحن قد استطعنا أن نتحداك ونترك وراءنا «خلودنا الصغير» الذي حاولنا به مقاومتك! (لذلك لم يكن من قبيل الصدفة أن تصور أساطير الإغريق البديعة الذكية تلك اللحظة المواتية العابرة - «الكايروس» - في صورة ربة جميلة ينبت في قدميها جناحان وتمسك في يدها سكينا أحد وأمضى من الريح، وتتدلى من جبهتها خصلة شعر يتحتم على من يجدها أن يقبض عليها من فوره؛ لأنها إذا فاتته فلن يستطيع أن يمسك بها أبدا مهما جرى وراءها - إذ أن رأسها من الخلف صلعاء! - ولن تترك له إلا الحسرة والندم والخذلان ...)
17
ولعل إشراقة اليقين بمسئولية هذه اللحظة الموجودة والمعدومة في وقت واحد - لأن وجودها أو عدمها، وتحقيقها أو التفريط فيها رهن بمدى شعورنا بحريتنا ومدى وعينا بالواجب الذي تفرضه علينا - لعلها قد أشرقت في نفس جلجاميش - التي اغتسلت بدموع الندم - لحظة أن وقعت عيناه على السور والأبراج البعيدة، وربما يكون قد صمم في تلك اللحظة ذاتها على أن يضع يده في يد شعبه ليعاهده على المزيد من البناء والتأسيس؛ أي على الشكل الأسمى للإبداع في ذلك الزمان، والاحتمال غير مستبعد وإن لم تجد علينا يد الزمان ولا أيدي علماء الآثار والحفريات بالشواهد والأسانيد التي تعززه من خلال أعماله وتفاصيل حياته بعد رجوعه إلى مسقط رأسه.
ومع ذلك فلا بد أن نسأل أنفسنا: ألا يمكن أن يكون رفض جلجاميش لكأس اللحظة واللذة العابرة من يد ساقية الحان سيد ورى، ثم ثورته على الحياة الخاملة التي يعيشها جده «الخالد» أو تنابشتيم، نوعا من رفض الحياة بلا خلود، والثورة على الخلود الممل بلا حياة، أي نوعا من الاقتراب من الوعي بلحظة الخلود أو باللحظة الخالدة
18
التي وصفناها باللحظة الخصبة الممتلئة؟! (17) وأخيرا فقد ذكرت من قبل أنني أتصور جلجاميش في صورة «النموذج الأول» أو «النمط الأصلي» الكامن في أغوار اللاوعي الجمعي للمستبد الشرقي بوجه عام والعربي السامي بوجه أخص. تغلغل هذا النموذج في أقدم طبقات الوعي كالعنكبوت أو الأخطبوط الذي يلتف حول نواته منذ أقدم العصور، استقر فيه وتمكن منه وأقام عرشه المرعب، وراح يجدده بمختلف وسائل القمع والتخويف والتعذيب والإرهاب التي تجددت كذلك أشكالها ونظمها وفنونها عبر العصور.
وإذا كان كتاب جلجاميش - إذا صح الفرض الذي قدمته - قد حاولوا تصحيح هذا النموذج وتقديم أمثولة المستبد المتطهر لتتعلم منها الأجيال اللاحقة معاني الثورية الصادقة، فلم يزل العنكبوت-الأخطبوط ينسج خيوطه اللعينة في ظلمات اللاوعي الفردي والجمعي وفي ضوء الوعي أيضا، ولم يزل ينفث حمم مصائبه ولعناته وأهواله المشئومة كلما تصورنا أننا اقتربنا من تثبيت أقدامنا على درب التحرر والتقدم والاستنارة، وبعيدا عن لغة المجاز أقول باختصار: إن هذه هي قضية القضايا في حياتنا الراهنة، وليس ثمة قضية أخرى أولى منها بالتفكير والكتابة والتحليل والعلاج، خصوصا بعد محنة عربية لم يكتف فيها الأخطبوط-العنكبوت المتجدد بتدمير بلدين عربيين، وسوق عشرات الألوف إلى المذبحة، وتمريغ تراث حضاري كامل في الوحل، بل ما يزال ينسج خيوطه ويدبر لمحن أخرى ربما تكون أدهى وأمر.
ولا بد أن يثير النموذج القديم المتجدد أسئلة من هذا النوع: إلى أي حد يمكن القول بأن تراث الماضي يؤثر على الحاضر والمستقبل، وأن بعض رواسبه من أقدم العهود ما تزال فعالة إلى يومنا الراهن (لا سيما تلك الرواسب التي تتمثل في صوره اللا إنسانية القبيحة وقيمه السلبية لا في جوانبه الحضارية والإنسانية الحية المشرقة؟) وإذا كان التراث - كما تدل التسمية نفسها - هو فعل البشر وإنجازهم في الزمان والتاريخ، فمتى ندرك أن التراث متجدد، وأنه يطالبنا دائما بمراجعته ونقده وتجاوزه بصنع تراث آخر له قيم أخرى، تحول القديم وتغيره، ثم لا تلبث أن تصب في النهر الكبير المتدفق الذي صنعه الموتى ويواصل الأحياء صنعه؟ متى نعلم أن «التراث» بمعناه الحقيقي هو ثورة الأقدمين الذين ذهبوا، وأن الثورة والتقدم والنهضة والاستنارة هي تراث الحاضرين والقادمين الذين لم يأتوا بعد؟ وإذا كنا قد ورثنا ركاما ضخما من التقاليد - أو الرذائل الموروثة! - وأنماط التفكير والشعور والسلوك المتخلفة بكل المقاييس الإنسانية والعلمية، فمتى نلقي بها في متاحف التاريخ أو مزابله؟ ومتى تصح عزيمتنا على التغيير الذي أثبتت أقسى التجارب في تاريخنا - وآخرها المحنة الأخيرة - أننا عاجزون عنه أو خائفون منه أو رافضون له؟ وإذا كنا قد وصلنا إلى حضيض التناقض الرهيب الذي يتمثل - كما قلت في موضوع آخر - في التدمير الذاتي أو الانتحار الجماعي المتزامن مع التطلع المستمر للتحرر والتحضر والتقدم ... إلخ، فإلى متى نصبر على تسلط بعضنا على بعض، وأكل الأخ منا لحم أخيه، والوقوع في شبكة تدميرنا لأنفسنا بأنفسنا كما تفعل حيوانات شرسة آن أوان انقراضها، بينما «الصياد» الجشع الحقود يتلذذ بالتفرج علينا ويعمل على تصفية وجودنا المادي والمعنوي وإقامة دولته الكبرى على أشلائنا وبقايانا؟ وإذا كان التسلط والاستبداد وسائر ما يقترن بهما
19
ويتداخل معهما من اللا قيم أمورا ملازمة لكل تجمع بشري، ألا يكون السؤال الأسبق هو كيف تصبح ممكنة؟ وما الذي جعلها ويجعلها ممكنة؟ وفي داخل أي سياق أو أي نظام أو بالأحرى لا نظام؟ ومتى تجتمع الإرادة والوعي بالحاضر الذي هو جنين المستقبل على تحرير الشخص العربي في ظل نظام عربي حر، ومن خلال تربية ديموقراطية وعلمية حرة ربما يطول دربها ولكنه هو الدرب الوحيد والمأمون والأكيد؟ وأخيرا كيف نحقق ذلك كله بالأفعال لا بالأقوال والأصوات المرتفعة التي أصمت الآذان وأعمت العقول طوال نصف القرن الأخير على ألسنة عدد كبير من المعذبين في الأرض (بتشديد الذال وكسرها!) من أشباه المثقفين وأشباه الثوريين؟!
حسب «جلجاميش» إذن أن يثير مثل هذه الأسئلة وغيرها كثير، وإذا كان من الظلم - بطبيعة الحال - أن نحمل الملحمة وبطلها مسئولية تراث ثقيل ممتد من القهر والتسلط والطغيان والاستبداد، فقد أثرت قضية «النموذج الأولى» للمستبد الشرقي كما أثرت غيرها من القضايا والأسئلة؛ لكي أؤكد أن معايشة النص القديم (والوسيط والحديث) من داخله ومحاولة قراءته وتفسيره من وجهة نظر ذاتية-تاريخية تجعله يحتمل قراءات وتفسيرات ويثير أسئلة لا حصر لها، والمهم أن يكون التفسير مقنعا ومتسقا وإن عجز عن أن يكون ملزما من الناحية العلمية، والأهم من ذلك أن ينطلق من الحاضر - بعيدا عن أي إسقاط فج؛ لأن رؤية الماضي في الحاضر أو الحاضر في الماضي أمر مشروع من حيث المبدأ عند من يأخذون بذلك المنحى في القراءة والتفسير، أو إن شئت في «الترجمة» بالمعنى الذي أشرت إليه، وبخاصة في الأحوال التي نتصدى فيها لفهم وترجمة نص قديم ينتمي لحضارة قديمة كادت أن تنقطع بيننا وبينها أسباب التواصل والاتصال ...
وربما يكون من مآثر هذه «الترجمة» وأمثالها أن تجدد حضور هذه الحضارة في وعينا، وأن تخرجها من دائرة «الظلام» و«الموت» التي ألقاها فيها بعض كبار علمائها «الآخرين» من الباحثين الغربيين،
20
وأن تتيح لنا النظر في بعض مشكلاتنا وقضايانا التي تمتد جذورها المأساوية في تربة الماضي السحيق، وتفرش ظلالها وأشواكها دروب الحاضر المرتبك والمستقبل المجهول، وإذا كانت تحفر للعرب اليوم حفرة كبيرة، يشاركون هم أنفسهم بالدور الأكبر في تعميقها، فإن جلجاميش يشير لهم من بعيد إلى سبيل النجاة الوحيد: إلى العمل والبناء والإبداع الحضاري ... (18) هل بقيت ثم مبررات لهذه الترجمة الجديدة؟
أجل، فالأعمال الأدبية الكبرى تعرف ترجمات عديدة في كل اللغات الحية الحديثة والقديمة (التي نصفها ظلما بأنها لغات ميتة!) ومن هذه الأعمال ما يجب ترجمته من حين إلى حين، تبعا لتطور فهمه وتفسيره واكتشاف المزيد من أبعاده ودلالاته و«أسراره» على ضوء المعطيات المستجدة، وجلجاميش بالذات تستحق أن تترجم أكثر من مرة في أي لغة من اللغات الحية، لا لأنها درة أدبية لا يسطع بريق جوهرها الأصيل إلا بلمسات عدد كبير من الصائغين، مثلها في ذلك مثل ملحمتي: هوميروس وأوديب وهاملت وفاوست ... وغيرها من الروائع الغربية والشرقية، ولكن لسبب آخر أهم، وهو أن الحفريات الأثرية لا تفتأ تظهر من طوايا الأرض والبلى والنسيان كسرات جديدة من ألواح الملحمة أو من ترجماتها القديمة، مما يساعد على إكمال الفجوات الناقصة وإصلاح السياق المضطرب؛ ولذلك كانت من الأعمال التي تفرض ترجمتها أو على الأقل مراجعة الترجمات المتوفرة، كلما اكتشفت رقم أو لقي أثرية جديدة تحمل شواهد لغوية أو معلومات تاريخية لم تعرف من قبل ...
ويكفي أن نعلم أن لها في الإنجليزية مثلا أكثر من عشر ترجمات يلتزم بعضها بالأمانة العلمية الدقيقة، ويميل بعضها الآخر إلى التصرف الأدبي الحر، مع التفاوت بينها في مستوى الرصانة والتقيد بالأصل الأكدي، أو في درجة الحساسية والمرونة وشاعرية التعبير، ويصدق هذا أيضا على الترجمات العربية المتاحة التي سننظر فيها بعد قليل. (19) والواقع أن ترجمة جلجاميش تواجه المتصدي لها بكل ما تحمله النصوص الشعرية العظيمة من مسئوليات وإشكالات يصعب حلها حتى على العارفين بلغتها الأصلية القديمة (وربما على هؤلاء أكثر من غيرهم!) إنها «ليست ترجمة لكلمات، بل لحياة نص نابض، محبة له وتفاعل واتحاد معه»؛
21
ذلك لأن مترجم الشعر لا بد أن يكون مبدعا لنص سبق إبداعه، وأن تكون غايته هي تحقيق نص جديد مكافئ بقدر الطاقة لروح الأصل وأنفاسه وإيقاعه وبنيته الداخلية ومناخه الثقافي العام، على الرغم مما تحتمه الترجمة - عند العبور بنظام صوتي ونحوي ودلالي إلى شاطئ نظام آخر - من ضياع الجرس الموسيقي المرتبط باللفظ الأصلي وضياع غيره من الجماليات الشكلية المرتبطة بجماليات المعنى والصورة
22 ... إلخ، ناهيك عن ضرورة «التحام» أفق المترجم بأفق المؤلف الأصلي بكل ما يضمه من علاقات وإيحاءات ودلالات نفسية واجتماعية وثقافية وحضارية، مع الوعي المستمر بخصوصية النص الأصلي وعوامل اختلافه وجوانب أصالته التي لا يمكن نقلها وينبغي الاجتهاد في المحافظة عليها ...
وإذا التفتنا إلى الترجمات العربية المتاحة لجلجاميش وجب علينا أن نرجع الفضل في أول محاولة رائدة لترجمتها للمرحوم العلامة طه باقر، وقد قام بها لأول مرة مع زميله الأستاذ بشير فرنسيس ونشرت في مجلة «سومر» سنة 1950م قبل أن تنشر في طبعتها الرابعة سنة 1974م، والحق أنها هي أيسر الترجمات وأقربها للقارئ وأجدرها بأن توصف بأنها أدبية وعلمية في وقت واحد، فقد اعتمد فيها على الأصل الأكدي بجانب ترجمتي: شبايزر وألكزندر هايديل، ولم يدخر وسعا في الرجوع إلى ترجمة شوت الألمانية في كثير من المواضع، وذلك بالإضافة إلى المقدمة النافعة القيمة والتعليقات المفيدة الرصينة، غير أنها قد عدلت عن التقسيم الأصلي للملحمة إلى ألواح متتالية، واستعاضت عنه بتقسيمها إلى أربعة فصول فأضرت ببنيتها الأصلية، كما عمدت في كثير من المواضع المليئة بالفجوات والتشوهات إلى التلخيص وإدماج بعض السطور في بعضها وحذف بعضها الآخر وإلغاء التكرار الذي يميز هذه الملحمة والأدب الشعبي بعامة، ولا شك أن العالم المترجم قد أراد بذلك التيسير على القارئ بتقديم سياق متصل، ولكنه أفقده قدرا كبيرا من تكامله ووحدته الداخلية والشكلية، كما ضيع جانبا من أصالته وجلاله القديم المرتبط بنقاطه وفجواته وفراغاته الكثيرة
23 ...
وأما عن ترجمة الدكتور سامي سعيد الأحمد فهي جهد كبير لتحقيق ترجمة علمية شديدة الأمانة إلى حد الوقوع في الحرفية وإغفال المعنى والسياق الكلي، وتقديم أعمدة بل ألواح كاملة في حالة يرثى لها من التفكك والاضطراب بحيث لا يخرج منها القارئ بشيء، ويبدو أن العالم الكبير في اللغة الأكدية والتاريخ القديم قد تصور أن الترجمة «العلمية» هي الترجمة الحرفية الدقيقة، وأن هذه الدقة تتنافى مع الاجتهاد في حدس المعنى واقتراح البدائل الممكنة، والاهتداء بالمحاولات الأخرى في اللغات الحديثة؛ ولذلك تقتصر فائدة ترجمته على الدارسين للنص الأكدي، إذ تجشم المترجم الفاضل مشقة كتابته بالحروف العربية وشرحه شرحا مفصلا بالغ الدقة والاستقصاء، أما بالنسبة للقارئ العام فتعد هذه الترجمة - في تقديري - مأساة حقيقية ... وأخيرا فإن أحدث الترجمات للأستاذ فراس السواح قد تلافت معظم الأخطاء التي وقعت فيها الترجمتان السابقتان، كما بذلت جهدا فائقا في الرجوع إلى الترجمات الإنجليزية مع الاعتماد على ترجمة هايديل، وزودت القارئ بنص بالغ الحساسية والشاعرية - وذلك على حساب التركيب العربي الصحيح في بعض الأحيان! - مع مقدمة وتعليق رائعين يدلان على الاستبصار العميق والمكابدة الباطنة لروح النص وعلاقاته المتشابكة ... (20) ولقد شجعني على الإقدام على هذه الترجمة أمور ثلاثة: أولها أنني وجدت أن ترجمة شوت - بمراجعة العلامة فولفرام فون سودن - هي أكمل الترجمات التي تيسر لي الاطلاع عليها وأكثرها اتساقا وترابطا في ترتيب الألواح، وقد بذل المترجم والمراجع غاية جهدهما في إكمال النسخة الآشورية ومحاولة سد ثغراتها والاجتهاد في تعويض نقصها بالاستعانة بالترجمتين: الحيثية والحورية وبالأصول السومرية، مع الحرص في كل الأحوال على تقديم نص دقيق ومقروء في آن واحد؛ ولذلك اعتمدت عليها وتقيدت بها مع تسجيل القراءات الأخرى الممكنة التي بدت لي أكثر معقولية وأقرب إلى المعنى الكلي، ولما كنت غير مختص في الآشوريات - كما اعترفت بذلك أكثر من مرة - فقد اكتفيت بهذه الترجمة التي ثبت لي أنها قد أضافت عشرات من السطور التي لم أجد لها أثرا في أي ترجمة أخرى، واجتهدت في تكملة عدد كبير من الكلمات والجمل والسطور التي أغفلتها تلك الترجمات أو تركتها ناقصة، وتجد كل هذه الاجتهادات المؤقتة في الكلمات والجمل والسطور التي كتبت بالخط الأسود المكثف، أما النقط الموضوعة بين قوسين منكسرين [...] فتشير إلى كلمات أو جمل تشوهت تماما بحيث استحال إصلاحها، وأما الكلمات القليلة التي وضعت بين حاصرتين أو قوسين منحنيين (...) فهي زيادات أضفتها من عندي؛ بغية التوضيح والتيسير على القارئ، علاوة على الهوامش التي شرحت فيها ما وجب شرحه من الأساطير والقصص والأحداث وأسماء الآلهة والأشخاص والأماكن، ولست أدري إن كان البحث الحديث في علوم الآشوريات قد اهتدى إلى ألواح أو كسر من ألواح جديدة تعوض بعض النقص الملحوظ في مواضع عديدة من الملحمة، ولكن الذي أدريه أن الترجمات السابقة الذكر كانت نعم الرفيق والدليل الهادي طوال رحلتي المتواضعة مع هذه الترجمة؛ ولذلك يطيب لي أن أوجه لأصحابها - باسم القراء وباسمي - أصدق آيات الشكر والعرفان والتقدير ... (21) والأمر الثاني الذي شجعني على الإقدام على المحاولة الخطرة أن صديق العمر الأستاذ الدكتور عوني عبد الرءوف العالم في فقه اللغات السامية القديمة قد أبدى استعداده لمراجعة الترجمة على الأصل الأكدي (ومبلغ علمي أنه هو العالم المصري الوحيد الذي يتقن هذه اللغة، ويقوم بتعليمها في كلية الألسن التابعة لجامعة عين شمس)، وإني لأتقدم إليه بصادق الامتنان والعرفان، كما أعبر عن سعادتي بالاشتراك معه في هذا العمل ...
والأمر الثالث والأخير: إن تجربة الترجمة كانت ضرورة اقتضتها تجربة أسبق منها، وهي كتابة الملحمة في عشر لوحات درامية تضمها مسرحية ملحمية بعنوان: «هو الذي طغى: محاكمة جلجاميش»، وقد خطر لي أن القارئ الذي اطلع على هذه المسرحية ربما يشعر بالحاجة إلى الرجوع للملحمة الأصلية على سبيل الائتناس بها أو المقارنة معها ...
والله أسأل أن لا أكون في الحالين قد حملت «جلجاميش» أكثر مما يحتمل من شجون زماننا وهمومه ، كما أتمنى أن ينبهني الإخوة والزملاء المختصون إلى الأخطاء التي وقعت فيها، وأرجو ألا تكون أخطاء جسيمة! ...
أشكره سبحانه إن كنت قد وفقت، وأستغفره إن كنت قد قصرت، فمنه وحده الهدى والسداد، وإليه ألجأ وإليه المصير.
القاهرة في 12 أكتوبر 1991م
عبد الغفار مكاوي
هوامش
اللوح الأول
العمود الأول (1) هو الذي رأى كل شيء
في تخوم
البلاد،
1 (2) عرف البحار،
وأحاط علما
بكل شيء، (3) كما
نفذ ببصره إلى أشد الأسرار غموضا . (4) امتلك الحكمة والمعرفة بجميع الأشياء، (5) واطلع كذلك على المكنون،
وكشف
عن الأمور الخافية. (6) جلب معه أخبار (العهود السابقة) على الطوفان، (7) وقطع طريقا بعيدا، حتى أصابه التعب (ونال منه)
الإرهاق ، (8)
ونقش
على نصب حجري كل ما عاناه. (9) أمر ببناء سور أوروك (الفيحاء)،
2 (10) حول معبد إيانا المقدس،
وحرمها
السني. (11) انظر إلى (جدار) سوره الذي تتألق أفاريزه،
كأنما صنعت من نحاس! (12) تأمل قاعدته! فليس لها (في أعمال البشر) شبيه! (13) وتلمس العتبة الحجرية - الموجودة في مكانها من أقدم الأزمان! (14) اقترب من إيانا، مقام عشتار، (15) الذي لا يماثله عمل ملك لاحق ولا (يدانيه عمل) إنسان، (16) واعتل كذلك سور أوروك،
تمش عليه . (17) اختبر أسسه، تفحص لبناته. (18) أولم تصنع من آجر مفخور؟
3 (19) أولم يضع الحكماء السبعة أسسه؟
4 ... [ثغرة صغيرة.]
5 ... (3) لما
خلق
جلجاميش،
6 (4) أكمل
بطل الآلهة
هيئته، (5) اشترك الآلهة في صنع صورته؛ (6) فأضفى عليه
الجمال
شمش السماوي، وحباه أدد
7
البطولة. (7) على
أروع
صورة
خلق
الآلهة العظام جلجاميش:
بلغ طول
قامته
أحد عشر ذراعا، (8) وعرض صدره تسعة
أشبار .
8
العمود الثاني (1) ثلثاه إلهي، والثلث (الباقي) بشري! (2) وهيئة جسمه
شامخة .
9 ،
10 ...
11 *** (8) كالثور الوحشي مهيبة
خطاه، (9) وبأس سلاحه ليس له نظير.
12 (10)
على (دقات) الطبول
تستيقظ رعيته.
13 (11) (وكم) ثار أهل أوروك ساخطين: ... (12) «جلجاميش » لا يترك الابن لأبيه. (13)
يقهر الشعب بالليل
وفي وضح النهار، (14) (مع أن) جلجاميش هو راعي حمى أوروك، (15) (وهو) الفائق القوة والجمال، والخبير
الحكيم . (16) إن جلجاميش لا يترك العذراء
لحبيبها ، (17) (ولا) ابنة البطل، ولا زوجة المحارب. (18) سمع شكواهم الآلهة العظام. (19)
فنادت
آلهة السماء «آنو» سيد أوروك:
14 (20) ألم تكن أنت الذي خلق الثور الوحشي
العنيد ؟
15 (21) إن بأس سلاحه ليس له مثيل. (22)
على (أصوات) الطبول
يوقظ رعاياه. (23) جلجاميش لا يترك الابن لأبيه.
يقهر
شعبه بالليل وفي وضح النهار! (24) وهو الراعي لحمى أوروك، (25) هو راعيهم،
وهو مع ذلك قاهرهم الظلوم ! (26) فائق القوة والجمال، وهو الخبير
الحكيم ! (27) لا يترك جلجاميش العذراء
لحبيبها ، (28) ولا ابنة البطل، ولا زوجة المحارب. (29) سمع شكواهم آنو
الجليل . (30) ونادوا «آرورو»
16
العظيمة (قائلين): «أنت يا من خلقت
ما أمر به آنو ! (31) اخلقي الآن ما يأمر به،
وليكن له ندا يضارعه في جموح الفؤاد! (32) ليتنافسا في الصراع، فتستريح أوروك!» (33) ما إن سمعت «آرورو» هذا (النداء)،
حتى سوت في قلبها ما أمر به آنو.
17 (34) غسلت آرورو يديها.
أخذت (قبضة) من الطين ورمتها في
البرية .
18 (35) خلقت أنكيدو الجبار، بطلا وربيب سكون الليل.
حباه القوة «نينورتا».
19 (36) بشعر (كثيف) يكسو جسده كله.
وشعر رأسه كشعر امرأة: (37) جدائل شعر رأسه نامية كجدائل شعر «نصابا»،
20 (38) وهو كذلك لا يعرف البلاد ولا الناس:
ويلبس (من الثياب) مثلما يلبس «سموقان».
21 (39) يرعى الكلأ مع الغزلان، (40)
ويتدافع
إلى موارد الماء مع الحيوان، (41) ويفرح قلبه بتزاحم القطعان على الماء. (42) (تصادف) أن رآه عند موارد الماء
صياد قناص، (44) واجهه يوما، ويوما ثانيا، وثالثا
عند موارد الماء. (45) لما رآه الصياد تجمد وجهه (من الخوف)، (46) فدخل مع حيواناته إلى بيته. (47) أصابه الهلع، ثم سكنت حركته وشل (لسانه). (48)
اضطرب قلبه ، واكتأب محياه، (49) ونفذ الغم إلى أعماقه، (50) حتى صار وجهه أشبه بوجه مسافر جاب الدروب البعيدة.
العمود الثالث (1) فتح الصياد فمه وقال لأبيه: (2) «يا أبت لقد هبط رجل من الجبال، (3) هو أقوى من في البلاد، وبأسه شديد، (4) تشبه قوته الجبارة
قبضة
آنو، (5) وهو لا ينفك يجوب الجبال (والتلال)، (6) ويلتهم العشب مع الحيوان، (7)
وتتوقف
قدماه عند موارد الماء، (8) منعني الخوف فلم أقو على الاقتراب منه. (9) ردم الحفر التي حفرت، (10) وقطع شباكي التي نصبت. (11) جعل الوحش وحيوان البرية تفلت من بين يدي، (12) وصيد البرية حرمه علي!» (13) فتح الأب فمه وقال للصياد: (14) «
اعلم
يا بني أن أوروك
يعيش
فيها جلجاميش، (15)
ما من أحد فاقه في قوته ؛ (16) فقوته الجبارة تشبه
قبضة
آنو. (17) يمم وجهك شطر (هذا)
الملك ، (18)
أنبئه بنبأ
الرجل القوي (الجبار)، (19) وليعطك بغيا
22
تصحبها معك إلى البرية،
23 (20) ولتتمكن المرأة منه بقوتها التي تفوق قوة الرجل، (21) وعندما (يأتي) مع الوحوش ليرد الماء، (22)
دعها تخلع ثوبها لينجذب إلى فتنتها ؛
24 (23) فسوف يتقرب منها، بمجرد أن يراها، (24) لكن ستنكره حيواناته التي تربت
معه
في البرية!» (25) عمل الصياد بمشورة أبيه، (26)
وانطلق في طريقه
إلى جلجاميش، (27) أخذ يغذ السير (حتى)
استقر
به المقام في أوروك: (28) «استمع إلي يا جلجاميش،
وجد علي بالنصيحة . (29) هناك رجل متفرد هبط من الجبال، (30) هو أقوى من في البلاد، وبأسه شديد، (31) قوته الجبارة تشبه
قبضة
آنو، (32) وهو لا ينفك يجوب الجبال (والتلال)، (33) ويلتهم العشب مع الحيوان، (34)
وتتوقف
قدماه عند موارد الماء، (35) وقد منعني الخوف من الاقتراب منه. (36) ردم الحفر التي حفرتها، (37) قطع
الشباك
التي نصبتها، (38) جعل الوحش وحيوان البر يهرب من يدي، (39) وحرم علي القنص في البرية.» (40) قال له جلجاميش، قال للصياد: (41) «اذهب يا صياد، وخذ معك بغيا. (خذ معك)
المومس، (42) فإذا ما اقترب الوحش البري ليرد الماء، (43) فاجعلها تخلع ثوبها،
وتكشف
عن فتنتها، (44) وما إن يقع عليها بصره، حتى يقترب منها، (45) لكن حيواناته ستنكره، وهي التي تربت
معه
في البرية.» (46) مضى الصياد مصطحبا معه البغي، (مصطحبا معه) المومس، (47) وانطلقا قدما على الطريق الصحيح.
25 (48) في اليوم الثالث بلغا الموضع المقصود، (49) وقبع الصياد والبغي في
مخبئهما . (50) مكثا اليوم الأول، واليوم الثاني تجاه مورد الماء،
وجاء حيوان البر وشرب من الماء.
العمود الرابع (1) ورد الحيوان الماء فطاب فؤاده، (2) أما أنكيدو، الذي كان موطنه في الجبال، (3) والذي يأكل العشب مع الغزلان، (4) ويرد الماء مع الحيوان، (5) فقد طاب فؤاده مع حيوان البر عند الماء. (6) رأته البغي، رأت الرجل
الوحش ، (7) الرجل الجبار الآتي من أعماق البرية. (8) «ها هو ذا، أيتها البغي! فاكشفي عن نهديك، (9) افتحي حجرك
لينغمس في التلذذ بك !
26 (10) لا تخجلي، بل خذي منه زفراته؛ (11) فإنه متى ما رآك تقرب منك. (12) انشري ثوبك، كي ينطرح عليك، (13) وعلميه - وهو
الوحش - صنعة المرأة ، (14) وسوف تنكره حيواناته التي تربت
معه
في البرية. (15)
ويطؤك
فتحسي زخم (عاطفته).»
27 (16) كشفت البغي عن نهديها،
فتحت حجرها،
28
فانغمس في التلذذ
بمفاتنها. (17) لم يمنعها الخجل، فراحت تتلقى زفراته، (18) نشرت ثوبها لكي ينطرح عليها، (19) علمته -
وهو الوحش (الفطري) - صنعة المرأة. (20) (وأخذ يواقعها)
فأحست وطأته
عليها.
29 (21) أنكيدو لبث متيقظا ستة أيام وسبع ليال،
قضاها في مضاجعة البغي. (22) لما شبع من التمتع (بمفاتنها)، (45) كان قد نسي المكان الذي ولد فيه.
30 (23) توجه إلى إلفه من حيوان (البر)، (24) فما إن رأته الظباء حتى وثبت ولاذت بالفرار، (25) وهربت من الاقتراب من جسده حيوانات الفلاة. (26) عاق أنكيدو عن الحركة (وأثقله) جسده
النظيف .
31 (27) خذلته ركبتاه (عن اللحاق) بحيواناته الهاربة، (28)
وخارت قواه ، ولم تعد مشيته كما كانت من قبل، (29) غير أنه اكتسب الفهم، وصار واسع الحس. (30) قفل راجعا وجلس عند قدمي البغي، (31) راح يتأمل وجهها، وجه البغي، (32) وتصيغ أذناه السمع إلى كلامها. (33) قالت له
البغي ، قالت لأنكيدو: (34) «
حكيم
أنت، يا أنكيدو، وشبيه بإله! (35) فلماذا ترعى في البرية مع قطعان الحيوان؟ (36) تعالى آخذك إلى أوروك ذات الأسوار،
32 (37) إلى المعبد (الطاهر) السني، مقام آنو وعشتار؛ (38) حيث يعيش جلجاميش الكامل القوة (والبأس)، (39) الذي يجرب - كالثور الوحشي - قوته العاتية على الناس!» (40) لما تكلمت إليه، وقع كلامها من نفسه موقع القبول (والاستحسان)؛ (41)
فالفطن الحس
يبحث عن صديق. (42) قال لها أنكيدو، قال للبغي: (43) «هلمي أيتها البغي،
خذيني معك (44) إلى المعبد السني، مقام آنو وعشتار، (45) حيث يعيش جلجامش الكامل القوة (والبأس)، (46) الذي يجرب - كالثور الوحشي - قوته الطاغية على الناس!
33 (47) وأنا الذي سأطلبه وأكلمه بنفسي،
وأعنفه في القول.
العمود الخامس (1)
سأهتف
مناديا في أوروك: «القوي هو أنا! (2) متى دخلت (مكانا)، غيرت فيه المصائر، (3) إن المولود في البراري، لذو قوة (وبأس عظيم)!»» (4) - «
تعال، هيا بنا نذهب (إليه)،
ولير
وجهك. (5)
سأدلك على جلجاميش ، فأنا أعلم (أين) مكانه. (6)
هلم بنا ندخل
أوروك الحمى يا أنكيدو؛ (7) حيث يزهو الرجال
بأروع
الأحزمة،
34 (8)
وكل يوم هناك
يحتفل بعيد ... (9) حيث الغلمان يتنافسون في
جلب الفرح (والمتعة)،
35 ،
36 (10) والبغايا (المقدسات)
يفتن الأبصار كما ينتظر
منهن، (11) تغمرهن البهجة، ويمتلئن بالشهوة والنشوة. *** (13) أنكيدو، يا من
لا تعرف
الحياة، (14) سأريك جلجاميش المختلف في طبعه عنك!
37 (15) انظر إليه، تطلع إلى وجهه، (16) (تره) رائع الرجولة، مكتمل القوة، (17) والبهجة تغمر جسده كله. (18) أنه يفوقك في قوته الجبارة، (19) (قلق) لا يهدأ ليل نهار. (20) أنكيدو، تخل عن غرورك؛
38 (21) فجلجاميش قد شمله شمش بعطفه (ورعايته)، (22) كما حباه آنو وإنليل وإيا سعة الفهم.
39 (23) وقبل أن تأتي أنت من ذلك الجبل، (24) طفت بأحلامه (التي رآها)،
40
في أوروك: (25) استيقظ جلجاميش (من نومه) وأخذ يقص رؤياه،
على أمه وهو يقول: (26) «أماه، لقد رأيت الليلة حلما: (4) كنت أمشي بين الناس مزهوا بقوتي،
41 ،
42 (6) عندما (أبصرت) نجوم السماء تحتشد من حولي، (28) وهوى واحد منها علي وكأنه
قبضة
آنو.
43 (8) أردت أن أرفعه، فثقل علي،
44 (9) حاولت أن أحركه، ولكني لم أستطع أن أزحزحه! (10) تجمع حوله أهل أوروك. (11) قبل رجالي قدميه، (12) عندما انحنيت عليه، (14) (حتى تمكنت)
بمعاونتهم
من رفعه وحمله إليك.» (15) ردت أم جلجاميش
45
الخبيرة بكل شيء، قائلة له: (17) «ربما ولد لك نظير (18) في البراري يا جلجاميش، (19) وربته الجبال (والتلال) في الفلاة، (20) إذا رأيته فسوف يفرح به فؤادك، (21) ويقبل الأبطال قدميه، (22) وسوف تحتضنه، وتأتي به إلي.
46
العمود السادس (1) إنه أنكيدو القوي،
الرفيق الذي يعين صديقه (في وقت) الشدة! (2) وهو أقوى من في البلاد، بأسه شديد، (3) وعزمه الجبار مثل قبضة آنو! (4)
لقد انحنيت عليه كما تنحني على امرأة ، (5) ... ولكنه
سينقذك
المرة بعد المرة.» (24) أخلد إلى النوم ورأى حلما آخر، (25) قال لأمه: (26) «أماه، لقد رأيت حلما آخر، (27) ...
بحثت
على الطريق في سوق أوروك، (29) كانت ثمة فأس مطروحة، تجمع الناس حولها، (12)
وتزاحم
الشعب عليها. (31) بدا منظر هذه الفأس
فظيعا ! (32) ولما أبصرتها، شعرت بالفرح، (33) وأحسست نحوها بالحب،
فانحنيت
عليها كما أنحني على امرأة، (35) وتناولتها ووضعتها بجانبي.» (16) نينسون الحكيمة،
العارفة
بكل شيء، قالت لابنها: (17) نينسون الحكيمة،
العارفة
بكل شيء، قالت لجلجاميش: (18) «إن الفأس التي رأيتها رجل، (19) سوف
تنحني
عليه كما تنحني على امرأة، (20) وسوف أجعله
ندا لك . (21) ثم إنه هو أنكيدو القوي،
وهو الرفيق الذي يعين صديقه عند الشدة! (22) إنه أقوى من في البلاد، وذو بأس شديد، (23) وقوته الجبارة شبيهة
بقبضة
آنو!» (24) عاد جلجاميش يقول لأمه: (25) «عسى أن أنال
هذا الحظ
العظيم، (26) فلكم
أتمنى
أن يكون لي
صديق ، (أو يكون لي)
رفيق !» ...
47 *** (28) وأخذ
جلجاميش يقص
رؤاه.
48 (62) هلم بنا، انهض من على ... الأرض!»
49 (29) هكذا قالت البغي، وهي تكلم أنكيدو. (30) وكانا
وحدهما عند مورد الماء .
هوامش
اللوح الثاني
(43) جلس أنكيدو أمام البغي،
1 (44) وراح كلاهما يداعب الآخر. (64) استمع إلى كلماتها، أصغى إلى حديثها، (65) ونصيحة المرأة وقعت من قلبه موضع الرضى (والقبول). (67) خلعت عنها الثوب (وشقته نصفين)؛
فكسته بنصف، (69) واحتفظت بالنصف الآخر. (71) أخذته من يده كأنه طفل صغير (73) إلى مائدة الرعاة، إلى موضع الحظائر، (75) وتجمع الرعاة حوله، (76)
لكن أنكيدو الذي ألف سكنى الجبال ، (77)
قد شب كذلك على أكل العشب مع الظباء (والغزلان) . *** (81) تعود أن يرضع لبن الحيوانات البرية. (83) وضعوا أمامه طعاما، فارتبك ونفر منه،
أخذ ينظر إليه ويحدق فيه؛ (86) فأنكيدو لا يعرف كيف يؤكل الخبز، (88) ولا يفهم كيف يشرب الشراب المسكر! (90) فتحت البغي فمها وقالت لأنكيدو: (92) «كل الخبز يا أنكيدو، فهو (زاد) الحياة، (94) واشرب من الشراب المسكر، فهذه عادة البلاد.» (95) أكل أنكيدو من الخبز حتى شبع، (97) شرب من الشراب المسكر سبع
جرار !
2 (99) انتشت روحه وفرحت، (100) وابتهج قلبه وأشرق محياه! (102) غسل بالماء جسده
المشعر ، (104) دهن نفسه بالزيت وغدا إنسانا. (106) ارتدى ثوبا، فبدا كالرجال. (108) أخذ سلاحه وانطلق يهاجم الأسود، (110) (فاستطاع) الرعاة أن يناموا الليل! (111) صرع الذئاب، وطارد الأسود، (113) فاستراح رعاة (الماشية)
العجائز ؛ (114) (أضحى) أنكيدو حارسهم، (115) (وهو) الإنسان اليقظ، الرجل الأوحد. [فجوة من أربعة عشر سطرا، أنكيدو مع البغي.] (131) أخذته النشوة والبهجة. (132) لما رفع عينيه، لمح رجلا! (134) قال للبغي: (135) «دعي الرجل يمضي، أيتها البغي !
3 (136) لماذا جاء (إلى هنا)؟ أريد أن أدعوه باسمه!» (142) فتح الرجل فمه وقال لأنكيدو: (144) «
أريد أن أقودك
إلى بيت العائلة!
4 (145) قدر على الناس (أن يستأثر جلجاميش) باختيار العروس،
5 (147) وأن يفرض على المدينة حمل
السلال (المملوءة) بالآجر . (148) إن (عبء) إطعام المدينة يقع على
النساء المرحات (؟)، (149) وقد فتحت لجلجاميش، ملك أوروك ذات الأسواق،
شباك الناس. (151) لجلجاميش ، ملك أوروك ذات الأسواق، (152) فتحت شباك الناس ليكون أول من يدخل (على العروس)، (154) فيضاجعها ويدخل عليها، (155) قبل أن يدخل عليها زوجها (الذي خصصت له). (157) (وهم يقولون): إن هذه هي إرادة الآلهة ومشورتهم، (158) وإنهم منذ أن قطع حبله السري
قد قدروه له.» (160) لما سمع (أنكيدو) كلام الرجل، (161) امتقع وجهه ... [فجوة من تسعة أسطر.] (171) سار أنكيدو في المقدمة، ومن خلفه البغي. (173) لما دخل أوروك ذات الأسواق، (174) تجمع الناس حوله، (175) وعندما وقف على الطريق في أوروك ذات الأسواق، (177) احتشد الناس كذلك حوله وأخذوا يقولون: (179) «إنه يشبه جلجاميش في بنيته، (180) وإن يكن أقصر قامة منه، وأقوى عظاما. (182)
وحيث ولد الرجل، (اعتاد) أن يأكل أوراق الربيع ، (184) ويرضع لبن الحيوانات البرية.»
6 (186) كانت الأضاحي تقدم في أوروك بغير انقطاع،
7 (187) والرجال الأبطال يتطهرون،
العمود الثاني (42) ويقبلون قدميه كالأطفال الضعاف، (188) وضع إناء للبطل الذي وجهه ... (190) لجلجاميش وضعت الحاجيات المناسبة
كما لو كان إلها، (192) وتم إعداد الفراش لأشتارا؛
8 (194) (إذ) تعود جلجاميش أن يتصل
بالآلهة
ليلا. (196) ولما اقترب وقف أنكيدو في الطريق، (198) يريد أن يسده عليه، (200)
ويمنعه
من الدخول إلى المخدع. *** (209) رأى جلجاميش
أنكيدو الهائج ، (210)
الذي ولد
في البرية، بشعر رأسه
الغزير . (212) نصب قامته
وتقدم
إليه. (214) تصادما في (المكان الذي يقام فيه) سوق البلاد. (215) سد أنكيدو الباب بقدمه، (217) ومنع جلجاميش من الدخول. (218) هنالك أمسك كل منهما بالآخر، وتصارعا كثورين، (220) حطما
عمود الباب ، وارتج الجدار! (222) جلجاميش وأنكيدو (223) أمسك كل منهما بالآخر، تصارعا مثل ثورين، (225) حطما عمود الباب، وارتج الجدار! (227) وعندما ثنى جلجاميش ركبته، وقدمه ثابتة في الأرض، (229) انفثأت (سورة) غضبه، وأدار صدره. (231) وما إن أدار صدره، (232) حتى كلمه أنكيدو، كلم جلجاميش: (234) يا لك من (بطل) فذ ولدتك أمك، (236) أمك نينسونا، بقرة أوروك الوحشية! (238) رأسك مرفوع فوق رءوس الأبطال، (239) وقدر لك إنليل الملك على الناس، (241)
وبقوتك
تفوقت على
أمراء العالم . [فجوة من حوالي عشرة سطور.] (19) قبلا بعضهما وعقدا (أواصر) الصداقة (بينهما) ...
9 [فجوة من تسعة عشر سطرا يبدو أن الملحمة تروي قرب نهايتها كيف قدم جلجاميش لأمه الحكيمة صديقه أنكيدو، بينما أخذ يتحدث عنه قائلا]:
العمود الثالث (43) «إنه أقوى من في البلاد، وبأسه شديد، (44) وقوته جبارة مثل
قبضة آنو ! (58)
ما من أحد
يصمد له! اشمليه أنت برعايتك!» (46) قالت أم جلجاميش لابنها، (48) نينسون، البقرة الوحشية، قالت لجلجاميش: (49) «يا بني ... (50) بمرارة ...» *** [يبدو أن نينسون قد عبرت عن دهشتها من منظر أنكيدو، ويحتمل أن تكون السطور التالية هي رد جلجاميش على أمه.]
العمود الرابع (4) يشكو بمرارة ... (5) «ليس لأنكيدو
أب ولا أم ، (6) شعر رأسه الطليق
لم يحلق أبدا .
في البرية ولد، فلم
يربه
أحد.» (8) هناك وقف أنكيدو
وسمع كلامه ، (72) امتلأت عيناه بالدموع، (73) شعر بالأسى، فأطلق زفرة
أليمة . (75) امتلأت عينا أنكيدو بالدموع، (76)
شعر بالأسى ... راح يعاني. (78) أحنى جلجاميش رأسه، (12) أمسك كل منهما بالآخر،
وجلسا
سويا، (13) ويداهما
متشابكتان كالعشاق ، (79) وقال جلجاميش لأنكيدو: (80) «يا صديقي، لماذا امتلأت عيناك بالدموع، (82) وشعرت بالأسى ... والمعاناة؟» (84) فتح أنكيدو فمه وقال لجلجاميش: (86) «إن
الحزن يخنقني
يا صديقي؛ (88) تراخى ذراعاي، ووهنت قواي.» (90) فتح جلجاميش فمه وقال لأنكيدو: *** (96) «
في الغابة يسكن
خمبابا الرهيب، (97)
فلنقتله
أنا وأنت، (98) ونمحو
كل شر من البلاد . (99)
دعنا نقطع
شجرة الأرز.» *** (103) فتح أنكيدو فمه وقال لجلجاميش: (105) «لقد عرفت، يا صديقي، (عندما كنت أعيش) في الجبال والمرتفعات، (106) وأتجول هنا وهناك مع حيوانات البرية، (107) أن الغابة
تمتد (مسافة) عشرة آلاف ساعة مضاعفة! (108) من ذا الذي (يجرؤ) على التوغل في أعماقها؟ (109) وخمبابا - زئيره الطوفان، (110) (ينفث) من فيه النار، ونفسه الموت (الزؤام)! (112) ماذا يدفعك لأن تفعل هذا؟ (114) لن يقوى أحد على الهجوم على مسكن خمبابا.» (116) فتح جلجاميش فمه وقال لأنكيدو: (118) «أشجار الأرز، لقد عزمت على أن أرتقي جبلها، (119) الذي يقع وسط الغابة الهائلة! (122) أريد أن أمضي إلى الغابة، مسكن
خمبابا ، (124)
وستكفيني
فأس
أستعين بها في القتال ، (125)
أما أنت فلتبق هنا، وسأنطلق (إليه) وحدي.» (127) فتح أنكيدو فمه وقال لجلجاميش: «كيف يمكننا الذهاب ... إلى غابة
الأرز ؟
إن حارسها هوقير،
10 ...
وهو قوي، لا يغمض له جفن أبدا.
خمبابا ... إن قير
معه ،
أداد ...
العمود الخامس (5) عينه إنليل لحماية أشجار الأرز،
وجعله يبعث الرعب في (قلوب) الناس، (6) ومن يوغل في الغابة يطبق عليه الشلل!» (138) فتح جلجاميش فمه وقال لأنكيدو: (140) «من ذا الذي يستطيع، يا صديقي،
أن يصعد للسماء ؟ (141) إن الآلهة وحدهم مخلدون على عروشهم مع شمش، (142) (أما) أيام البشر فمعدودة، (143) وكل ما يعملون ريح باطلة.
11 (144) إنك تخشى الموت وما زلنا هنا، (145) فماذا دهى قوة بطولتك؟ (146) لهذا عقدت العزم على أن أتقدمك، (147) ولينادني فمك عندئذ: «تقدم! لا تخف!» (148) وإذا سقطت فقد رفعت اسمي، (149) سيقول الناس: «لقد تجرأ جلجاميش على منازلة خمبابا الرهيب.» *** (158) أريد أن أمد يدي، وأقطع أشجار الأرز، (160) وأصنع لنفسي اسما خالدا! (161)
الآن ، يا صديقي،
سأسرع
إلى صانع السلاح، (162) (وسأطلب منه) أن يصب البلطات أمامنا.» (163)
أمسك كل منهما بالآخر، وأسرعا
إلى صانعي السلاح. (164) كانوا هناك مجتمعين للتشاور (بينهم)، (165) صبوا بلطات عظيمة، (166) صبوا فئوسا زنتها ثلاث طالنتات،
12 (167) صبوا سيوفا عظيمة، (168) نصل (الواحد منها) يزن طالنتين، (169)
ومقابضها
ثلاثون رطلا. (170) صبوا سيوفا من ذهب زنتها ثلاثون رطلا! (171) وتسلح كل من جلجاميش وأنكيدو (بأسلحة) تزن عشر طالنتات! (172)
توجه الناس
إلى
بوابة أوروك ذات المزاليج السبعة ، (173) وهناك احتشد الخلق. (174) فرح الناس وابتهجوا في شوارع أوروك ذات الأسواق، (175)
ورأى
جلجاميش
فرحة الشعب
في شوارع أوروك ذات الأسواق. (177) عندئذ
شرع يتكلم بينما
جلس
الشعب
أمامه. (178) جلجاميش قال لشعب أوروك ذات الأسواق: (180) «
أريد أن أرحل للقاء خمبابا الرهيب . (181) أريد، أنا جلجاميش، أن أرى من يتحدثون عنه، (182) ذلك الذي تردد الأفواه اسمه في البلاد، (183) أريد أن أصرعه في غابة الأرز! (184) إن ابن أوروك قوي (وشجاع)، (185) هذا ما أريد أن تسمعه البلاد! (186) سأمد يدي وأقطع أشجار الأرز، (187) وأسجل لنفسي اسما خالدا!» (188) رد شيوخ أوروك ذات الأسواق (189) على جلجاميش قائلين: (190) «لأنك، يا جلجاميش، لم تزل شابا؛
فقد حملك قلبك بعيدا. (191) إنك لا تدري ماذا تصنع! (192) لقد سمعنا عن خمبابا أن منظره مخيف؛ (193) من ذا الذي يقوى على الصمود لأسلحته؟ (194) الغابة تمتد عشرة آلاف ساعة مضاعفة؛ (195) من ذا الذي يجرؤ على التوغل في أعماقها؟ (196) خمبابا؛ إن زئيره هو الطوفان، (197) ينفث فمه النار ونفسه الموت؛ (198) فما الذي يدفعك على هذا الفعل؟ (199) ما من أحد هاجم مسكن خمبابا وانتصر عليه.» (200) ما إن سمع جلجاميش كلمة ناصحيه، (201) حتى نظر إلى صديقه وهو يبتسم: «الآن، يا صديقي،
أجيب
قائلا:
13 ...» [فجوة من تسعة أسطر.] (212) «فل... إلهك الحامي، ويهديك (214) على الطريق (الذي يعيدك) إلى أوروك ذات الأسواق.» (215) وبعد أن ركع جلجاميش،
رفع يديه (قائلا): (216) «فلتستجب (مشيئتك) لدعائهم.
14 (217) سأمضي الآن يا شمش!
وإليك أرفع يدي (بالدعاء)، (218) لتحفظ علي روحي (وتضمن) لها النجاة، (219) وترجعني (
سالما ) إلى (أوروك) ذات الأسوار المنيعة! (220) ابسط أنت علي ظل (رعايتك)!» (221) ثم نادى جلجاميش
صديقه ، (222)
واستطلع
فأله
معه .
15 *** (229) جرت الدموع من عيني جلجاميش: (230) «طريق ... لم أسلكه في حياتي، (231) وكذلك لا أعرف يا ربي أخطاره؛
16 (232) فإذا حفظت
روحي (وقدرت) لها النجاة، (233) فسوف
أبذل لك الحب
كما يشتهي فؤادي، (234)
وأشبع (نفسي)
من بيت
مباهجك ، (235)
وأجلسك
على العروش.»
17 (236)
ثم أحضر الخدم
أسلحته: (237) السيوف العظيمة
والقوس
والكنانة. (239) ... سلموها له، أخذ البلطات، (241)
وعلق
كنانته،
وقوس
أنشان،
18 (243)
وثبت
السيف في حزامه. (244) تقدموا
على الطريق ، (245) ... أحضروا: «جلجاميش، (245) ... أعده إلى المدينة!»
19
هوامش
اللوح الثالث
(247) باركه (عجائز) الشيوخ،
1 (248) وزودوه بالنصح في سفره: (249) ينبغي عليك ألا تغتره بقوتك (وحدها) يا جلجاميش.
2 (250) افتح عينيك جيدا، واحم نفسك.
العمود الأول
إن هذا (الرفيق) يعرف الدرب ويحفظ الصديق. (251) دع أنكيدو يتقدمك، (252) فلقد رأى الطريق وسلكه، (253) وهو يعرف مداخل الغابة، (254) وكل حيل خمبابا الشريرة! (255) لقد سبق له أن حفظ رفيقه (في السفر)، (256) وعيناه بصيرتان، ولسوف يحميك. (257) عسى شمش أن يحقق رغبتك، (258) ويري عينك ما أفصح عنه فمك، (259) ليفتح أمامك الطريق المسدود، (260) ويعبد لخطاك الدرب، (261) ويمهد لقدمك (مسالك) الجبل؛ (262) لتأتك هذه الليلة بما يفرحك،
3 (264) وليؤيدك لوجال بندا (
بنصره )،
4 (265) وتصل إلى النجاح سريعا. (266) في نهر خمبابا، الذي تسعى إليه، (267) اغسل قدميك، (268) وعندما تخلد للراحة في المساء، احفر بئرا. (269) وليكن في قربتك ماء نقي على الدوام. (270) قرب لشمش ماء صافيا، (271) واحرص دائما على ذكر لوجال بندا؛ (9) عسى أن يحمي أنكيدو صديقه، ويحفظ رفيقه،
5 (10) ويحضر جسده إلى
الزوجات . (11) إننا في اجتماعنا (هذا) نعهد إليك بالملك،
6 (12) (وعليك) أن تسلم لنا الملك عندما ترجع به إلى الوطن. (272) فتح أنكيدو فمه وقال لجلجاميش:
7 (273) «لقد اتخذت قرارك، فامض الآن. (274) لينزع قلبك منه الخوف - وحسبك أن تنظر لي! (275) (لنذهب) إلى هناك، حيث أقام مسكنه. (276) إلى الطريق الذي تعود خمبابا أن يتجول فيه، (277) أصدر أمرك بأن
ننطلق - واصرف أولئك (الشيوخ)!» (278)
فتح جلجاميش فمه وقال لشيوخ أوروك ذات الأسواق : *** (282) «... عسى أن يرحلوا معي. (283)
سأحاول أن أفعل ما قلته
لكم، (284)
ولقد سمعت
نصيحتكم عن طيب خاطر.» (285) لما
سمع الشيوخ
حديثه هذا، (286) تضرع إليه الرجال: (287) «ارحل، يا جلجاميش،
وليكن التوفيق حليفك .
ليسر
إلهك الحامي بجانبك ،
ويساعدك على بلوغ
النجاح .» *** (13) فتح جلجاميش فمه للكلام وقال لأنكيدو:
8 (15) «تعال يا صديقي، فلنذهب إلى القصر الكبير، (16) ونمثل في حضرة نينسون، الملكة العظيمة (17) نينسون اللبيبة، المحيطة
بالعلم كله ، (18) لتمنح أقدامنا الخطوة الرزينة.»
9 (19) تماسك جلجاميش وأنكيدو يدا في يد، (20) واتجها صوب القصر الكبير، (21) ليمثلا أمام نينسون الملكة العظيمة. (22) تقدم جلجاميش ودخل عليها (قائلا): (23) «نيمسون، لقد عقدت العزم ... (24) (
على الرحيل ) إلى طريق بعيد،
حيث يعيش
خمبابا، (25) والإقدام على معركة، لا أعرف
10 (نتائجها)، (26) والسير على طريق، أجهل
11 (مسالكه)، (27)
فحتى أذهب وأعود ، (28)
حتى أصل إلى غابة الأرز ، (29)
وأصرع خمبابا الرهيب ، (30)
وأمحو من البلاد كل شر يكرهه شمش ؛ (31)
تضرعي أنت لشمش من أجلي ، (32) وإذا (فرغت من) قتله، وقطعت أشجار الأرز، (33) فعسى أن
يسود السلام البلاد عاليها وواطيها ،
12 (34)
وأن أقيم لك علامة النصر .» (35) إلى
كلام
ابنها جلجاميش (36) استمعت
الملكة نينسون (قلقة حزينة ). [فجوة من أربعة عشر سطرا.]
العمود الثاني
13 (1) دخلت نينسون إلى مخدعها، (2) أخذت أوراق نبات (...) لجسدها،
14 (3) لبست ثوبا يليق بجسمها، (4) (وتزينت)
بحلية
تليق بصدرها، (5) ووضعت
حزامها
وتاجها، (6)
ونثرت الماء من الأواني
على الأرض والتراب. (7)
ارتقت
الدرج وصعدت إلى الحاجز
والسقف ، (8) وأحرقت البخور أمام شمش. (9) ولما (فرغت من) تقديم القربان،
رفعت ذراعيها إلى شمش (قائلة): (10) «لم أعطيت ابني جلجاميش قلبا مضطربا؟ (11) وها أنت ذا قد حفزته على الرحيل (12) في سفر بعيد، إلى موطن خمبابا.
15 (13) إنه يريد أن يدخل معركة لا يعرف
16 (نتائجها)، (14) وأن يقطع طريقا يجهل
17 (مسالكه). (15) حتى يذهب ويعود، (16) حتى يبلغ غابة الأرز، (17) ويقتل خمبابا الرهيب ، (18) ويمحو من البلاد كل شر تكرهه. (19) وإلى اليوم الذي
تطل فيه على طريق
جلجاميش، (20) ليت عروسك «آيا» لا يمنعها الخجل فتذكرك (به)، (21)
ولتوص به النجوم أيضا ، وهم حراس الليل، (22) وتعهد به في السماء إلى
أبيك «سين» .»
18 ،
19 [فجوة من حوالي اثنين وتسعين سطرا، تتبعها هذه الشذرات التي ما زال من الصعب فهمها، وربما تدور حول طقوس تبني الابن التي تقوم بها نينسون نحو أنكيدو الذي تصفه بأنه ولدها الذي لم يخرج من أحشائها ...]
العمود الرابع
20 (15) كومت البخور، ونطقت
بالتعويذة ، (16) دعت أنكيدو، لتبلغه الأمر: (17) «أنكيدو، أنت أيها القوي،
يا من لم تخرج من رحمي! (18) لقد كلمتك الآن مع الخادمات اللائي وهبهن جلجاميش للمعبد، (20) ومع عرائس الآلهة والمتبتلات
والمنذورات لخدمة المعبد !» (21) (ثم) طوقت عنق أنكيدو
بقلادة (من الجواهر ). (22) أخذت عرائس الآلهة ... (23) وأبدت بنات الآلهة
رغبتهن في القيام على تربيته .
21 [فجوة من أربعة وثمانين سطرا الحديث الثاني الذي يوجهه الشيوخ إلى أنكيدو ...]
العمود السادس
22 (8) «عسى أن يحمي أنكيدو صديقه، ويحفظ رفيقه،
وليحضر جسده للزوجات !
23
عليك أن تسلمنا الملك عند رجوعك للوطن!» [بقية اللوح تالفة تلفا شديدا.]
هوامش
اللوح الرابع
[يرجح علماء الآشوريات أن تكون الأعمدة أو الحقول الخمسة والنصف الأولى من هذا اللوح الذي أصابه التلف الشديد قد تضمنت الوصف التفصيلي لرحلة الملك وصديقه وتجاربهما في غابة الأرز، وقد بقيت من اللوح شذرة صغيرة تعطينا فكرة عن هذه التجارب ...] (1) بعد عشرين ساعة مضاعفة تناولا بعض الزاد،
1 (2) وبعد ثلاثين ساعة مضاعفة توقفا في المساء (ليأخذا حظهما) من النوم، (3) ثم قطعا أثناء النهار خمسين ساعة مضاعفة، (4) واجتاز مسيرة شهر ونصف في ثلاثة أيام.
وقبل أن يخلدا للنوم
حفرا بئرا.
2 ،
3 [فجوة تدل على ضياع ما يزيد على المائتي سطرا، وعندما تبدأ السطور المتبقية يتضح أن جلجاميش وأنكيدو قد وصلا إلى باب الغابة المسحور الذي يجدان عندها ماردا ضخما عينه خمبابا لحراسته، والظاهر من النص المشوه أن جلجاميش قد ساوره الشك في قدرتهما على القضاء على هذا الحارس، إذ يقول له أنكيدو]:
العمود الخامس (39) «
فكر
فيما قلته في أوروك! (40)
وانهض
وتقدم إليه
لتقتله . (41) أي جلجاميش،
يا ابن
أوروك!» (42) سمع كلام فمه
وامتلأ ثقة (بنفسه) . (43) «هيا اهجم عليه
بسرعة ، حتى
لا يهرب ، (44)
ولا
ينحدر إلى الغابة
ويفلت
منا. (45) لقد تعود أن يلبس سبعة دروع،
لا يقوى أي سلاح على اختراقها ، (46) وهو يلبس الآن
واحدا ، (بعد أن) نزعت الستة الأخرى،
وطرحت على الأرض أمام قدميه .» (47) كثور وحشي (انقض عليه) .
4 (48) صرخ للمرة الأولى وامتلأ (قلبه)
رعبا ... (49) ينادي حارس الغابة ... (50) خمبابا مثل ... [فجوة من اثنين وعشرين سطرا، يحتمل أن تكون قد روت قصة انقضاض البطلين على حارس الغابة وقتله، وكيف فتح أنكيدو الباب المؤدي إلى الغابة فأصيبت ذراعه بشلل مؤقت ... ويلاحظ أن اللوح السابع (ابتداء من السطر السابع والثلاثين) يورد الوصف التفصيلي لهذا الباب على لسان أنكيدو الذي يهذي في مرضه الأخير ...]
العمود السادس (23) فتح أنكيدو فمه للكلام وقال لجلجاميش: «
لا تدعنا
نهبط إلى الغابة!» *** (26) فتح جلجاميش فمه للكلام وقال لأنكيدو: (27) «أي صديقي، هل كنا من الضعف (بحيث نتخاذل الآن)؟ (28) لقد اجتزنا جميع
الجبال ، (29)
لكن ما زال الهدف
بعيدا عنا ... (30) أي صديقي الذي تمرس بالقتال،
وخبر
المعارك. (31) ... فلا تهاب
الموت
بعد، (32) ... بجانبي،
وكن منافسا لي. *** (34) عندئذ يزول الشلل من
يدك ،
وتفارقك التعاسة (والحزن؟). (35) أيمكن أن
تبقي هنا
يا صديقي؟ (36) دعنا ننطلق سويا (للغابة). (37)
وليتشجع
قلبك (ويقدم على القتال).
انس الموت، ولا تخش شيئا! (37) إن القوي إذا سار في المقدمة وهو متأهب حذر، (38) فهو يحمي نفسه، ويحفظ صاحبه، (39) فإذا سقط فقد خلد اسمه.» (40) وصلا للجبل الأخضر. (48) سكتت كلماتهما، وقفا ساكنين.
هوامش
اللوح الخامس
العمود الأول (1) وقفا ساكنين،
يتأملان
الغابة، (2) أخذتهما الدهشة (لرؤية) ذرى أشجار الأرز، (3) وأذهلهما مدخل الغابة. (4) شاهدا
آثار أقدام ، حيث (تعود) خمبابا المسير. (5) كانت الطرق ممهدة، والدرب معبدا، (6) وشاهدا جبل الأرز؛ مسكن الآلهة، ومقام إرنيني،
1 (7) تزدهر أمامه أشجار الأرز، (8) (وتمد) ظلالها المبهجة المنعشة، (9) وأدغال الشوك الكثيفة
متشابكة الأغصان . [فجوة من حوالي خمسين سطرا.]
العمود الثاني (7)
راح البطلان ينتظران
خمبابا، (8) لكنه لا يأتي ... [فجوة من تسعة سطور.] (18) فتح أنكيدو فمه وقال لجلجاميش : (19) «
هل سنعثر (بهذه الطريقة)
على أثر خمبابا ؟ (20)
لنترك أنفسنا للأحلام (لتهب) لكل منا رؤياه. *** (24) وعسى أن تكون ثلاثة
أحلام ...» [فجوة من ستة وعشرين سطرا ورد فيها الحلم الأول الذي رآه جلجاميش ...]
فتح أنكيدو فمه وقال لجلجاميش: *** (3) لقد سرني حلمك إلى أبعد حد. [السطور التالية من شذرة بابلية قديمة يرد فيها حلم جلجاميش الأول على هذه الصورة التي أصلحها كل من شوت وفون سودين ...] (1) «تسلق
صخور
الجبل، وانظر! ... (2) لقد سلبت النوم (الذي يهبه) الآلهة، (3) ورأيت حلما يا صديقي،
يا له من حلم
سيئ ... مضطرب! (4) (رأيتني)
أمسك
بثور (من ثيران) البرية، (5) خار (وضرب) الأرض (فأثار) ... سحابة من الغبار. *** (7) أطبق ... طوق ذراعي، *** (9) سقاني ماء من قربته.» [رد أنكيدو على صديقه]: (10) «أي صديقي، إن الإله الذي نتجه إليه (في سفرنا)، (11) ليس هو الثور الوحشي! فكل شيء فيه مثير وغريب! (12) والثور الوحشي الذي رأيت، هو شمش الراعي، (13) وسوف يأخذ بيدك في (وقت) الشدة، (14) (أما الذي) سقاك الماء من قربته، (15) فهو إلهك لوجال بندا الذي يكرمك (ويرعاك). (16) نريد أن نتحد وننجز عملا (17) لا يفسده الموت (ولا يبدده).» [هنا تواصل الشذرة التي عثر عليها في بوغاز كوى - موقع العاصمة الحيثية القديمة حاتوشاش، - رواية هذا الحلم على الصورة الآتية]: (5) أمسك كل منهما (بيد الآخر)، وذهبا
لمضجعهما ،
2 (6)
وأدركهما
النوم الذي ينساب من الليل. (7) في منتصف الليل
هرب منه
3
النوم، (8) (فأخذ يروي) الحلم الذي رآه على أنكيدو: (9) «أي صديقي، ألم تكن أنت الذي أيقظني؟
لماذا استيقظت (من النوم)؟ (10) أنكيدو، يا صديقي، لقد رأيت حلما ... (11) هل أنت الذي أيقظني؟
لماذا استيقظت (من النوم)؟ (12) لقد
طاف بي
حلم ثان:
العمود الثالث (33) (رأيت أننا) نقف في هوة جبل
عميقة ، (34) ثم سقط الجبل (فجأة) ... (14) سحقني تحته،
وأطبق على قدمي
ولم يتركهما ، (35) وكنا
إزاءه
مثل ذباب القصب الصغير.
4 (15) كان الضوء ساطعا وهاجا،
وظهر لي
رجل، (16) هو أجمل رجل في البلاد، كان جماله
رائعا ، (17) جرني من تحت الجبل ... (18) وسقاني ماء، فاطمأن قلبي، (19) وأعطاني أرضا تحت قدمي ...»
5 (36) ابن البرية ...
أنكيدو . (37) كلم صديقه، أنكيدو فسر الحلم (قائلا): (38) «حلمك ، يا صديقي، جميل، إنه حلم بديع ... (40) والجبل الذي رأيت، يا صديقي، هو
خمبابا ، (41) سوف نمسك بخمبابا ونقتله، (42) ونرمي جثته في الفلاة! (43) غدا
يتم كل شيء !»
6 (44) بعد عشرين ساعة مضاعفة تناولا بعض الزاد، (45) وبعد ثلاثين ساعة مضاعفة تأهبا للنوم،
7 (46) فحفرا بئرا أمام وجه شمش،
8 (47) لكن جلجاميش صعد
الجبل ، (48) ونثر الدقيق الناعم عليه:
العمود الرابع (1) «أيها الجبل، هبني حلما، كلمة
من شمش !» (2) عندئذ وهبه إياه، وأنكيدو.
9 (3) بدأ رذاذ المطر يتساقط، فثبت
السقف (؟) (4) طرحه هناك، ومن حوله ... (؟) (5) فصار كالقمح، الذي
يطحن
في الجبال ... (؟) (6) وبينما جلجاميش جالس، وذقنه على ركبته، (7) هبط عليه النوم، الذي ينسكب على البشر. (8) انتبه (من نومه) أثناء (نوبة) الحراسة الوسطى،
10 (9) فأفاق وقال لصديقه: (10) «ألم تنادني يا صديقي؟ فلماذا صحوت؟ (11) ألم تهزني؟ فلماذا فزعت؟ (12) ألم يمر إله من هنا؟ فلماذا ترتجف أعضائي؟ (13) أي صديقي، لقد رأيت حلما ثالثا، (14) والحلم الذي رأيت كان مخيفا: (15) ضجت السماوات بالصراخ، أرعدت
11
الأرض. (16) ... تصلبت، زحف الظلام، (17) سطع البرق، اشتعلت النار، (18) ... ازداد تكاثفها، تساقط مطر الموت، (19) وفجأة خبت النار المتوهجة، (20) وكل ما تساقط تحول إلى رماد. (21) تعال نهبط (إلى السهل) لكي نتشاور في الأمر.» (22) لما سمع أنكيدو (
قصة ) حلمه الذي رواه له،
قال لجلجاميش: [فجوة يحتمل أن تكون قد تضمنت ثناء أنكيدو على الحلم الأخير الذي رآه جلجاميش، وعزم الصديقين على قطع أشجار الأرز ...]
من العمود الثاني (4-6) أمسك
البلطة
بيده ...
وكانت
معهما
فأس، (7) أطبق
أنكيدو
عليها بيده، (8) وطفق يقطع أشجار الأرز. (9) فلما سمع
خمبابا الضجيج ، (10) ثار غضبه: «من هذا الذي جاء، (11) ولطخ (بالعار؟)
12
الأشجار ، وهي
ربيبة
جبالي، (12) وقطع أشجار الأرز؟» (13) عندئذ كلمهما من السماء شمش السماوي: (14) «تقدما! لا تخافا!» [فجوة من ثمانين سطرا، ويبدو أن جلجاميش وأنكيدو قد توجها إلى الإله شمش طالبين المشورة والنصح في شأن معركتهما المقبلة مع خمبابا، والظاهر أن رد شمش لم يكن مشجعا؛ إذ يواصل جلجاميش تضرعه وبكاءه حتى يستجيب له ويسارع لنجدته ...]
العمود الرابع (6)
وانهمرت
الدموع (من عينيه)
أنهارا ، (7) ثم قال جلجاميش لشمش السماوي: *** (10) «لقد
أطعت
شمش السماوي، (11) وسرت على الطريق الذي قدر لي.» (12) سمع شمش السماوي صلاة جلجاميش، (13) وهبت على خمبابا رياح عاتية:
13 (14) الريح الكبرى، ريح الشمال، ريح
الزوبعة ، والريح
الرملية ، (15) ريح العاصفة، وريح الصقيع، ريح الأنواء وريح النار! (16) هبت عليه ثمانية رياح، (17) ضربت خمبابا في عينيه؛ (18) تعذر عليه التقدم، (19) كما تعذر عليه التقهقر، (20) هنالك أسقط في يد خمبابا (واستسلم). (21) قال خمبابا لجلجاميش: (22) «أطلق سراحي يا جلجاميش، (23) ولتكن لي سيدا، وأكون لك خادما! (24) سأقطع لك الأشجار، وهي
أبناء جبالي ، (26)
وأبني لك
بيوتا منها.» (27) لكن أنكيدو قال لجلجاميش: (28) «لا تسمع الكلمة التي نطق بها خمبابا. (30) عليك أن
لا تبقي على حياة خمبابا .» [فجوة يرجح أن يكون قد ورد فيها مقتل خمبابا وعودة البطلين إلى أوروك - وقد عثر العلماء على شذرة من لوح يرجع للعصر البابلي القديم ذكر فيها قتل خمبابا - الذي سمته الشذرة البابلية باسم حواوا ... على الصورة التالية]:
العمود الخامس (9) ... قال جلجاميش لأنكيدو: (10) «... (عندما) نصل (إلى هناك)، (11) ستتلاشى أشعة الضوء الساطع
14
في الفلاة (الموحشة)، (12) ستتلاشى أشعة الضوء الساطع، ويظلم وهج الأشعة!» (13) قال له أنكيدو، قال لجلجاميش: (14) «يا صديقي، (ابدأ) بقنص الطائر! وإلى أين تفر أفراخه؟ (15) سوف نفتش بعد ذلك عن أشعة الضوء الساطع، (16) التي ستهيم في العشب (كما تفعل) الأفراخ. (17) سدد إليه الضربة بعد الضربة، ثم اضرب
خادمه
من بعده.» (18) سمع جلجاميش كلمة رفيق (سفره)، (19) أمسك الفأس في يده، (20) جرد السيف من حزامه، (21) وضرب عنقه، (22) صديقه أنكيدو ... (23) وسقط بعد الضربة الثالثة. (24) ...
المضطربة ... سكنت سكون الموت، (25) بعد أن صرع الحارس خمبابا (وطرحه) على الأرض. (26) ظلت أشجار الأرز
تنوح
على مدى ساعتين مضاعفتين. (27) وكان أنكيدو قد ضرب معه ... *** (29) لقد صرع أنكيدو
حارس
الغابة، (30) الذي ارتعشت لكلمته ساريا
15
ولبنان. (31)
استراحت ... الجبال، (32)
استراحت ... في كل المرتفعات. (33) ضرب ... لأشجار الأرز، وال...
المهشمة ... (34) بعد أن ضرب سبعا منها، (35) شبكة القتال
16 ... والسيف (الذي يزن) ثمانية طالنتات
17 (36) تناوله ... وتوغل في الغابة، (37) فتح مسكن «الآنوناكي» الخفي. (38) جلجاميش قطع الأشجار، أنكيدو ... (39) قال له أنكيدو، قال لجلجاميش: (40) «... جلجاميش، اقطع أشجار الأرز.» *** [ربما أمكن قراءة السطر الأخير من هذا اللوح على الصورة الآتية]:
العمود السادس (48)
غرس (؟)
جلجاميش
رأس خمبابا
المقطوع .
هوامش
اللوح السادس
العمود الأول (1) نظف الوسخ (العالق به)، ولمع أسلحته، (2) أسدل خصلة شعره على ظهره، (3) خلع ملابسه المتسخة، واكتسى ملابس نظيفة، (4) التف
بالعباءة ، وربطها بحزام. (5) لما وضع جلجاميش تاجه (على رأسه)،
1 (6) رفعت عشتار الجليلة عينيها (ولمحت) جماله:
2 (7) «تعال يا جلجاميش! كن زوجي! (8) امنحني، آه امنحني فيض (قوتك)! (9) فتكون زوجي، وأكون زوجتك. (10) سآمر لك بعربة من الذهب واللازورد، (11) عجلاتها من ذهب، وقرونها من
نحاس أصفر ، (12) تشد إليها
العواصف ،
3
والبغال العظيمة! (13) أدخل بيتنا المعطر بشذا الأرز (الزكي)، (14) وعندما تدخل بيتنا، (15) سيقبل
الكهنة المبجلون
قدميك، (16) وسينحني لك الملوك والرؤساء والأمراء، (17) ويقدمون لك
غلة
الجبل والسهل. (18) ستلد لك العنزات ثلاثا، والنعجات توائم، (19) وحمارك سيفوق البغل في حمله. (20) حصانك (المشدود) إلى العربة سيكون أسرع (الخيول) عدوا، (21) وثورك (المربوط) في النثر لن يكون له نظير.» (22) فتح جلجاميش فمه للكلام، (23) وقال لعشتار الجليلة: (24) «
ماذا علي
أن
أعطيك لو
اتخذتك (زوجة)؟
4 (25) هل
تحتاجين دهانا
لجسدك،
أم تحتاجين
ثيابا؟ (26)
هل يعوزك
الخبز أو الغذاء؟ (27)
عندي بالطبع
طعام يليق بالآلهة، (28)
وعندي شراب
يليق بالملوك. *** (30)
لكن ما الداعي ؟ إن مكانك
في الشارع ، (31) ...
يمكنك
أن ترتدي حلة ...
5 (32) فينالك من
يشتهيك ! (33) (ما
أنت
إلا)
موقد
لا ... الثلج،
6 (34) باب ناقص، لا يصد الريح وقصف (الصواعق؟)، (35) قصر يسحق فيه البطل،
7 (36) فيل
يمزق
غطاءه،
8 (37) قار
يلوث
حامله، (38) قربة
تبلل
حاملها، (39) حجر جيري
يهد
الجدار (الصخري)،
9 (40)
يشب يجذب
بلاد الأعداء،
10 (41) حذاء يضايق (قدم) صاحبه! (42) من من عشاقك
حافظت على حبه ؟ (43) أي طائر (من طيورك الصغيرة) ... استطاع أن
يحلق في الأعالي ؟
11 (44) حسنا! (فلأسرد عليك)
أسماء
أخلص أحبابك: *** (46) تموز حبيب صباك، (47) قضيت عليه بالنواح عاما في إثر عام.
12 (48) لما عشقت الطائر الملون، (49) (قمت) بضربه وكسر جناحيه، (50) وهو الآن يعيش في الغابات يصرخ: كابي!
13 (51) ولما أحببت الأسد الكامل القوة، (52) حفرت له من الحفر سبعا وسبعا. (53) وحينما أحببت الحصان المرهوب (الجانب) في النزال،
14 (54) سلطت عليه السوط والمهماز والسير (الجلدي)، (55) وحكمت عليه بالعدو سبع ساعات مضاعفة، (56) والشرب من المياه العكرة. (57) وعلى أمه سيليلي قدرت النواح (والبكاء)، (58) لما أحببت الراعي، الذي
يحمي القطيع ، (59) والذي لم ينقطع عن تقديم
الفطائر ، (60) وذبح الجديان (العجول؟) لك كل يوم، (61) ضربته ومسخته ذئبا، (62) وها هم صبيته (الذين عملهم الرعي) يطاردونه، (63) وكلابه تعضه في فخذيه! (64) ولما عشقت «إيشولانو» بستاني نخل أبيك، (65) الذي ظل يحمل سلال التمر إليك، (66) ويزين مائدتك العامرة كل يوم؛ (67) رفعت إليه عينيك، وأقبلت عليه قائلة: (68) «آه يا إيشولانو، دعنا نستمتع بفحولتك، (69) مد يدك والمس جسدي.» (70) ورد عليك «إيشولانو» بقوله: (71) «ما الذي تريدينه مني؟ (72) أولم تخبز أمي؟ أولم آكل؟ (73) حتى لا أضطر لأن آكل خبزي
بالإهانات واللعنات ، (74) وأتلحف بالحلفاء لأدرأ عني البرد؟» (75) وعندما سمعت منه هذا القول، (76) ضربته
ودحرته ،
15 (77) وجعلته يعيش (في نكد)
وشقاء . *** (79) «ولو أنك أحببتني لجعلتني مثل هؤلاء!»» (80) لم تكد عشتار تسمع هذا الكلام، (81) حتى تملكها الغضب وصعدت إلى السماء، (82) مثلت في حضرة أبيها آنو، (83) وجرت دموعها أمام أمها آنتوم:
16 (84) «أبتاه! لقد (سبني) جلجاميش وأهانني، (85) ألحق بي
إهاناته
واحدة بعد الأخرى، (86) (عدد)
شتائمه ولعناته !» (87) فتح آنو فمه للكلام، (88) وقال لعشتار الملكية: (89) «لا بد أمك تحرشت
بملك أوروك ، (90) (فلاحقك)
بإهاناته ، (91) (وصب عليك)
شتائمه ولعناته !» (92) فتحت عشتار فمها للكلام، (93) وقالت لأبيها آنو: (94) «أعطني ثور السماء،
ليقتل جلجاميش . *** (96)
إن لم تعطني
ثور السماء، (97) حطمت أبواب العالم السفلي، (98) وانتزعت الأعمدة، وتركت البوابات مفتوحة على مصاريعها، (99) وجعلت الموتى يقومون ويلتهمون الأحياء، (100)
فيصير
الأموات أكثر عددا من الأحياء!» (101) فتح آنو فمه للكلام، (102) وقال لعشتار الجليلة: (103) «
يا ابنتي، لو فعلت
ما تطلبينه مني. (104) لحلت سبع سنوات عجاف، (105) فهل جمعت
القمح (الذي يكفي) البشر ، (106) وتركت العشب ينمو (ليكفي)
الدواب ؟»
17 (107) فتحت عشتار فمها للكلام، (108) وقالت لأبيها آنو: (109) «
أبتاه ! لقد خزنت
الغلال للناس ، (110) وجمعت العلف
للماشية ، (111) ولكي يشبعوا في السنوات السبع العجاف، (112) خزنت
الغلال للناس ، (113)
وجعلت العشب ينمو للدواب .» *** (117) بعد أن سمع آنو كلامها، (118)
سلم عشتار مقود
الثور السماوي، (119)
فأخذته لتنزل (بالثور)
إلى الأرض ، (120)
وقادته
إلى
ربوع
أوروك (الفيحاء). *** (122) هبط الثور السماوي
فنشر الفزع ؛ (123)
أهلك
في خواره
الأول مائة إنسان ، (124) أهلك فوق ذلك مائتين، ثلاثمائة. (126) وفي خواره الثاني
قضى على مائة آخرين ، (127) وعلى مائتين
كذلك
وثلاثمائة. (129) في خواره للمرة الثالثة
هجم
على أنكيدو، (130) أنكيدو ... فخذيه. (131) قفز أنكيدو
وأمسك
الثور السماوي من قرنيه، (132) قذف الثور السماوي رغاءه،
18 (133) وطوح روثه بذيله السميك. (134) فتح أنكيدو فمه للكلام، (135) وقال لجلجاميش: (136) «(لكم) تفاخرنا يا صديق، ... (137) فكيف نرد (عليه الآن)؟ (138) لقد رأيت يا صديق ... *** (140) أريد أن
أنتزع ... (141) أنا وأنت،
ينبغي أن نقتسم العمل : (142) سأمسك
بالثور من ذيله ، *** (145) وبين العنق والقرنين و...
ينبغي أن يطعنه سيفك .» (147) طارد أنكيدو ثور السماء ليمسك به، (148) ثم أطبق على ذيله، (149)
وقبض
عليه بكلتا يديه. (150) وجلجاميش
كقصاب بارع ، (151)
طعن
الثور السماوي
بقوة وثقة ، (152) بين العنق والقرنين و... بسيفه ... (153) وبعد أن قتلا الثور السماوي
انتزعا
قلبه، (154) وقرباه إلى شمش. (155)
تراجعا للوراء ، وهما ينحنيان لشمش في خشوع،
ثم جلس الأخوان. (157) صعدت عشتار سور أوروك المنيعة، (158) قفزت فوق ... وأطلقت صرخة أليمة: (159) «الويل لجلجاميش الذي جللني بالعار،
وصرع ثور السماء!» (160) لما سمع أنكيدو هذا القول من عشتار، (161)
انتزع
فخذ الثور السماوي وقذفه (في وجهها): (162) «لو أمسكتك لفعلت بك مثل ما فعلت به، (164) ولربطت أحشاءه في ذراعك!» (165) عشتار جمعت حولها البنات (المنذورات)، (166) وبغايا (المعبد المقدسات) والإماء، (167) وأقامت مناحة على فخذ الثور السماوي. (168) أما جلجاميش فجمع أرباب الحرف وكل صانعي السلاح، (170) أشاد الصناع بحجم القرنين؛ (171) (إذ بلغ) وزنهما ثلاثين رطلا من حجر اللازورد، (172)
وسمك (غلاف) كل منهما شبران ،
19 (173) وسعتهما ستة كورات من الزيت.
20 (174) قربها لإلهه الحامي لوجال بندا، (175) وعلق (القرنين) في مخدع رب البيت. (176) غسلا أيديهما في ماء الفرات، (177) ثم أمسك كل منهما بيد الآخر وانطلقا (بمركبتهما). (178) في طرقات أوروك، (179) احتشد أهالي أوروك ليشاهدوهما، (180) وخاطب جلجاميش خادمات قصره
21
بهذه الكلمات: (182) «من أروع الرجال؟ (183) من أقوى الأبطال؟ (184) جلجاميش أروع الرجال! (185) جلجاميش أقوى الأبطال! (186) تلك التي قذفناها
بفخذ الثور السماوي
ونحن غاضبون، (187) عشتار ... لا تجد في الطريق أحدا يفرح قلبها!» (188) ... (189) أقام جلجاميش في قصره حفلا بهيجا. (190) نام البطلان واستراحا على فراش الليل. (191) أنكيدو نام كذلك ورأى حلما، (192) ثم هب مستيقظا (من نومه) وأخذ يقص رؤياه، (193) وهو يقول لصديقه:
هوامش
اللوح السابع
العمود الأول
1 (1) «أي صديقي، ما الذي جعل الآلهة الكبار يجتمعون للتشاور؟ (3) استمع (إلي لتعرف) أي حلم (عجيب) رأيت الليلة الماضية: (4) اجتمع آنو وإنليل وأيا، وشمش السماوي
للتشاور بينهم ، (5) وقال آنو لإنليل: (6) «لأنهما قتلا الثور السماوي،
كما قتلا خمبابا، (7) فينبغي أن يموت منهما
من جرد الجبال من أشجار الأرز.» (9) لكن إنليل قال: «أنكيدو (هو الذي) ينبغي أن يموت، (10) أما جلجاميش فلا ينبغي أن يموت.» (11) عندئذ احتج شمش السماوي على البطل إنليل قائلا: (12) «ألم يقتلا بأمر مني (13) ثور السماء وخمبابا؟
فلماذا يموت أنكيدو وهو بريء؟» (14) لكن إنليل أجاب شمش السماوي في غضب (شديد): (15) «ألأنك كنت تهبط عليهم كل يوم كأنك
واحد منهم ؟»» (17) رقد أنكيدو (مريضا) أمام جلجاميش، (18) (قال له جلجاميش) والدموع تنهمر من عينيه أنهارا: (19) «أخي! يا أخي الحبيب! لم يبرئونني من دونك؟» (20) واستطرد قائلا: «هل سيقضى علي بأن أجلس مع روح ميت، (21) عند
باب
أرواح الموتى؟ (22) وأن لا أرى بعيني أخي الحبيب أبدا؟» [فجوة من حوالي ثلاثة عشر سطرا يبدو أنها كانت تتضمن اتهام أنكيدو للباب الذي كان قائما أمام غابة خمبابا، وأصاب ذراعه - كما عرفنا - بشلل مؤقت، بأن الذنب يقع عليه فيما أصابه من مرض؛ لأن جمال منظره قد خدعه عن تأثيره الضار. ولعله قد قال هذا وهو يهذي تحت تأثير الحمى التي ألهبت جسده ... وتختلف الآراء حول الباب الذي يخاطبه وهل هو باب الغابة الأصلي، أمام باب الغرفة التي يرقد فيها مريضا، وقد صنع من خشب غابة الأرز الذي حمله معه أو من خشب الباب الأصلي، وأشرف أنكيدو بنفسه على صنعه عند النجارين المهرة في مدينة نيبور السومرية القديمة (نفر حاليا ) التي اشتهرت بوجود معبد الإله إنليل بها، وكان يسمى «الايكور» أي بيت الجبل ...] (36) رفع أنكيدو
عينيه ،
2 (37) وأخذ يكلم الباب
كأنه يكلم إنسانا ، (38) مع أن باب الغابة لا يعقل، (39) والفهم مفتقد لديه: (40) «
تبينت
خشبك
الجيد
من مسافة عشرين ساعة مضاعفة، (41) قبل أن أبصر أشجار الأرز الباسقة ... (42) وكان خشبك
في عيني
بلا مثيل، (43) كان ارتفاعك (يبلغ) اثنين وسبعين ذراعا،
وعرضك أربعة وعشرين، (44) ودعامتك، وتجويف (قفلك) ومصراعك ... (45) لقد نجرتك، وحفظتك في (مدينة) نيبور ... (46) ولو كنت أعلم - يا باب - أن
جمالك
هذا، (47) وأن جمال
خشبك (سيجر علي هذا)؛ (48) لرفعت بلطة
وأخذته ، (49) وصنعت (من ألواحه) طوفا. [فجوة من حوالي اثني عشر سطرا، يستأنف بعدها أنكيدو كلامه]:
العمود الثاني (12) لكن (ما العمل) يا باب، وقد نجرتك، وحفظتك ... (13أ) فإما أن يأتي بعدي ملك «يوقظك»،
3 (13ب) أو ... إله ... ك... (14أ) فيزيل اسمي ويضع اسمه!» (14ب) انتزع ... ألقى ... (15) سمع جلجاميش كلمات صديقه، وبكر بالإسراع ... (16) سمع جلجاميش كلمات صديقه أنكيدو وجرت دموعه، (17أ) فتح جلجاميش فمه، وكلم أنكيدو قائلا: (17ب) «
لقد وهبك الإله ... القلب الواسع والكلم
الرصين ، (18) وحباك العقل، ومع ذلك تنطق
بكلام
غريب، (19) لماذا نطق فؤادك - يا صديق - بهذه الأمور العجيبة؟ (20أ) كان حلمك بديعا، لكن ما أشد رعبه! *** (21أ) ... كانوا كثيرين ... وكان الحلم بديعا: (21ب) أبقى
الآلهة
للأحياء النواح! (22) والحلم أبقى لهم الشكوى (والبكاء). (23)
سأصلي
وأتضرع للآلهة العظمى! *** (28) سأصنع لك تمثالا من ذهب لا آخر له!
4 ،
5 [فجوة من تسعة سطور.] (38) ... أنكيدو يمثل (في حضرة) شمش ... (39) ... تجري دموعه أمام شمش ... [فجوة من بضعة سطور، أنكيدو يدعو شمش أن ينزل العقاب بالصياد ...]
العمود الثالث (1) «... بدد ما يكسبه، أوهن
عزمه ، (2) ولتكن
أعماله بغيضة
إليك، (3)
لتهرب
منه
حيوانات البر
التي يطاردها، (4) ولا تتحقق للصياد أمنية يتمناها قلبه!» (5) وتحمس قلبه للعن البغي (فقال): (6) «تعالي أيتها البغي أقرر لك
مصيرك ،
6 (7) وهو مصير لن ينتهي أبد الدهر! (8) إني لألعنك لعنة شديدة، (9) ولتصبك لعنة ... الآلهة في الحال! [فجوة من تسعة سطور، تدل بعض كلماتها المخرومة على أن أنكيدو يواصل فيها صب لعناته على البغي ...] (24) ليكن طعامك من الفضلات في
مجاري
المدينة، (25) وليكن شرابك في المدينة من
غسيل الصحون ، (19) ... ليكن الطريق مسكنك، (20) وفي
ظل الجدران
مأواك، (22) وليلطم السكران والظمآن فكيك!» [فجوة من عشرة سطور.] (33) عندما سمع شمش كلام فمه، (34) ناداه على الفور من السماء (قائلا): (35) «لم تلعن الفتاة (المنذورة) يا أنكيدو؟ (لم تلعن) البغي (36) التي جعلتك تأكل طعاما يليق بالآلهة، (37) وسقتك خمرا تليق بالملوك، (38) وألبستك الملابس الفاخرة، (39) وأعطتك جلجاميش الرائع ليكون رفيقك؟ (40) إنه الآن، يا صديق، أخوك الجسدي، (41) يجعلك تستريح على الفراش الوثير، (42) أجل، على فراش الشرف تستريح، (43) ويجلسك مجلس الراحة عن شماله، (44) ليقبل
حكام
الأرض قدميك. (45) (سوف) يجعل الناس في أوروك يبكونك ويندبونك، (46) ويغمر
السعداء (منهم)
بالغم (والحزن) عليك، (47) وإذا
بقي
حيا بعدك، فسيترك جسده مغطى بالأوساخ، (48) وسيضع عليه جلد أسد ويهيم (على وجهه) في البرية.» (49) لما سمع أنكيدو كلام شمش البطل، (50) هدأت في الحال (ثورة) قلبه الغاضب. [فجوة من سطرين، يعود بعدها أنكيدو للحديث عن البغي وقد تراجع عن صب اللعنات على رأسها ...]
العمود الرابع (2) «فليحبك الملوك والأمراء، (3) وليضرب
الفتى
فخذه من أجلك، (4) ويهز
الشيخ
شعر رأسه بسببك،
7 *** (6) وليقدم لك العقيق والملكيت واللازورد والذهب، (7) ... (و) كان علينا أن نقدمها لك، (9) ليدخلك
الكاهن
إلى حضرة الآلهة، (10) ولتهجر
بسببك
الزوجة،
أم الأطفال السبعة!» (11) أنكيدو يشعر بالألم ... (12) بعد أن رقد وحيدا (في فراشه) وقتا طويلا، (13)
فتح
قلبه في الليل لصديقه: (14) «
يا صديقي ، رأيت الليلة حلما: (15) صرخت السماء،
8
وجاوبتها الأرض. (16) ... تقدمت، (17)
وظهر (أمامي)
رجل
مكفهر الوجه، (18) وجهه مثل وجه
طائر
عظيم، (19) وله
مخالب
ذات أظفار
مثل
مخالب النسر.» [فجوة من حوالي اثني عشر سطرا، ربما يكون أنكيدو قد روى فيها كيف خلع عليه الرجل الذي تجلى له شكل روح من أرواح الموتى التي سيرد وصفها ...] (31) «عندئذ حول (هيئتي) تحولا
تاما ، (32) فغدا ذراعاي
مكسوين بالريش
مثل (أجنحة) الطيور. (33) أمسك بي، وساقني إلى بيت الظلام مسكن «أركالا»،
9 (34) البيت الذي لا يغادره من دخله، (35) والطريق الذي لا يعود أدراجه، (36) البيت الذي حرم ساكنه من النور، (37) حيث التراب طعامه، والطين زاده. (38) عليه ثياب من الريش كالطيور، (39) ويجلس في الظلام ولا يرى النور، (40) في بيت التراب الذي دخلته، (41) (وجدت)
العروش محطمة ،
10
وتيجان الملوك
ملقاة على الأرض ، (42)
والأمراء ، أصحاب التيجان،
الذين حكموا البلاد من أقدم العصور، (43) نواب «آنو» و«إنليل»،
يحملون اللحم المشوي والخبز، (44) ويقدمون الماء البارد من القرب. (45) وفي بيت التراب الذي دخلت، (46) يسكن الكهنة الكبار والقضاء،
11 (47) يسكن كهنة التطهير المنذرون، (48) يسكن الكهنة المباركون، (القائمون على خدمة) الآلهة العظام،
12 (49) يسكن «إيتانا» و«سموقان»،
13 (50) تسكن أريشكيجال ملكة الأرض (السفلى)، (51) و«بعلة صيرى»، كاتبة الأرض السفلى، راكعة أمامها، (52) حاملة (في يدها) لوحا تقرأ لها منه. (53) لفتت رأسها ورأتني، (54) فأخذت هذا ... بعيدا ...» [فجوة من حوالي خمسين سطرا، يرد بعدها حديث جلجاميش إلى أمه]:
العمود السادس (3) صديقي الذي اجتاز معي كل المصاعب (والمشقات)،
فكري في كل (الأماكن) التي عبرتها معه،
صديقي (هذا) رأى حلما
ينذر بالشر . (6) انقضى اليوم الذي رأى فيه الحلم، (7) فرقد أنكيدو (في فراشه) يوما، ويوما ثانيا، (8)
والموت جالس في مخدع أنكيدو. (9) ويوما ثالثا ويوما رابعا،
جلس الموت في مخدع أنكيدو. (10) ويوما خامسا وسادسا وسابعا،
وثامنا وتاسعا وعاشرا. (11) (ثقل) المرض على أنكيدو
وازداد سوءا على سوء ، (12) ومضى اليوم الحادي عشر واليوم الثاني عشر وهو راقد في فراشه. (13) أنكيدو راقد في فراش
الموت ؛ (14) عندئذ دعا جلجاميش إليه وقال له: (15) «لقد نزلت علي، يا صديقي،
لعنة شريرة ! (16)
لن أموت (ميتة رجل) يسقط في ساحة القتال، (17) لقد فزعت من الحرب؛ ولذلك
أموت عاطلا من المجد،
مبارك ، يا صديق، من يسقط في المعركة،
أما أنا فأموت (الآن) يلطخني العار.» [فجوة صغيرة، لا شك أنها ذكرت موت أنكيدو ...]
هوامش
اللوح الثامن
العمود الأول (1) لم تكد تلوح أنوار الفجر،
1 (2) حتى فتح جلجاميش فمه وقال لصديقه: (3) «أنكيدو، يا صديقي، (يا من) أنجبتك أمك الغزالة، (4) وأبوك حمار الوحش. (5) أرضعتك من لبنها
أربع حمر وحشية ، (6)
وأرشدتك
حيوانات البرية إلى كل أماكن الرعي. (7) المسالك التي قادتك يا أنكيدو إلى غابة الأرز، (8)
لتبك عليك ولا تتوقف (عن البكاء)
ليل نهار! (9) ليبك عليك شيوخ أوروك الفسيحة الأرجاء ، (10) وليصل
الشعب كله
بعد موتنا! (11) ليبكك الرجال (الأبطال)، والجبال في المرتفعات! (12) ... أضطجع هناك. (13) لتنح عليك المروج (والبراري) نواح أمك، (14) وليندبك ... ويقدم لك زيت الأرز. (15) ...
وعسى ألا يقتربوا منا
ونحن في غمنا (وحزننا). (16) ليبكك الدب والضبع
والنمر والثور البري والفهد ، (17) والأسد والثور الوحشي والأيل والجدي وكل حيوان الحقل. (18) ليبك عليك نهر «أولا» الذي (طالما) تمشينا على ضفافه،
2 (19) وليبكك نهر الفرات
المقدس ! (20) ... الماء من
القرب . (21) ليبك عليك رجال أوروك الفسيحة الأرجاء. *** (24) ... مدينة أريدو ستعظم اسمك، (25) ليبك ... (26) ... سيعظم اسمك. (27) ليبك عليك ... (28) ...
يملك الشعير ... سواه (ليطعم) فمك. (29) ليبكك ... (30) ... حمل إلى ...ك ... الزبد. (31) ليبكك ... (32) (من) قدم الجعة السائغة لفمك. (33) لتبك عليك الغانية (المنذورة) ... (34) ... بالزيت ضمخت (جسدك) وراقك هذا. (35) ليبكك ... (36) ...
في بيت العشيرة (الذي يختار فيه
الزوج) أعطوك
خاتما. (37) وليبكك ... (38) ليبك عليك الأخوة والأخوات!
3 *** (40)
لتتمزق
شعورهن (حزنا) عليك! (41) ... أنكيدو، إن أمك وأباك (يعيشان) في البرية،
وأنا أبكيك ...
العمود الثاني (1) اسمعوني يا شيوخ أوروك، أنصتوا إلي، (2) إنني أبكي أنكيدو، أبكي صديقي، (3) وأنوح عليه نواح الندابة. (4) أنت أيها الفأس في جنبي، يشد أزر يدي، (5) أنت أيها السيف في حزامي، والدرع الذي يحميني، (6) أنت يا حلة عيدي، يا مشدا لفيض قوتي، (7) لقد ظهر شيطان لعين واختطفه مني. (8) أي صديقي، أنت أيها البغل الخفيف،
يا حمار الوحش الجبلي، يا فهد البرية! (9) أنكيدو يا صديقي، أنت أيها البغل الخفيف،
يا حمار الوحش الجبلي، يا فهد البرية! (10) بعد أن أتممنا معا كل شيء وارتقينا الجبل، (11) واستولينا على المدينة (؟) ... وصرعنا الثور السماوي، (12) وقتلنا أيضا خمبابا، الذي كان يسكن غابة الأرز. (13) أي نوم هذا الذي أطبق عليك؟ (14) لقد طواك الظلام فما عدت تسمعني!» (15) لكن (أنكيدو) لا يفتح عينيه، (16) وحين وضع (جلجاميش) يده على قلبه، وجده لا ينبض! (17) وبعد أن غطى وجه الصديق (كما يغطى) وجه العروس، (18) أخذ يحوم حوله كالنسر، (19) كلبؤة اختطف منها أشبالها، (20) وطفق يذهب ويجيء (أمام فراشه)، (21) وينتف شعره المسترسل ويرمي به على الأرض، (22) ويمزق ثيابه ويلقي بها كأنها شيء (بخس) لا يلمس. (23) لم تكد تلوح أنوار الفجر، (24) حتى أطلق جلجاميش المنادين في أنحاء البلاد: (25) «أنت أيها الحداد
وصاقل الأحجار الكريمة
والنحاس والصائغ
والنقاش ، (26) اصنعوا تمثالا لصديقي،
أبدعوا صورته !» (27) عندئذ نحت ... تمثالا لصديقه، (28) من أعضائه ... (29) ... «ليكن صدرك من اللازورد، وجسمك من الذهب!» [فجوة من حوالي خمسة وعشرين سطرا، يبدو أنها تضمنت رفض جلجاميش دفن جثمان صديقه في التراب، ظنا منه أن بكاءه عليه يمكن أن يرد إليه أنفاس الحياة. انظر كذلك اللوح العاشر، العمود الثاني، من سطر 6-8. حيث يروي جلجاميش لساقية الحانة سيدورى كيف رفض لمدة سبعة أيام وسبع ليال أن يواري صديقه التراب ...]
بقية من العمود الثاني (50) «جعلتك تستريح على فراش فاخر،
العمود الثالث (1) أجل، على فراش الشرف (جعلتك) تستريح، (2) وأجلستك مجلس السلام إلى شمالي، (3) لكي يقبل حكام الأرض قدميك. (4) سأجعل أهل أوروك يبكونك ويندبونك، (5)
والسعداء
أملأ (قلوبهم) حزنا عليك، (6) وأنا نفسي سأترك بعدك جسدي مغطى بالأوساخ، (7) وألبس جلد الأسد وأهيم (على وجهي) في البرية ...» [فجوة من حوالي مائة وسبعة وثلاثين سطرا، يحتمل أن تكون قد تحدثت عن دفن أنكيدو، والسطور الأربعة التالية تبدو ناشزة عن السياق، وربما سبقتها سطور مفقودة عن احتفال أجراه جلجاميش تكريما لروح أنكيدو أو على شرفه كما نقول اليوم، على الرغم من ثورته الجامحة على فكرة الموت نفسها، ورفضه أن يسري عليه المصير المحتوم على البشر، وهما الثورة والرفض اللذان سيدفعانه إلى رحلته الخطرة لجده الخالد أو تنابشتيم كما سيرد بالتفصيل فيما بعد ...]
العمود الخامس (45) لم تكد تلوح أنوار الفجر، (46) حتى أمر بإحضار مائدة عظيمة من خشب «الأيلاماكو».
4 (47) ملأ بالعسل إناء من
العقيق (الأحمر)، (48) وملأ بالزبد إناء من اللازورد (الأزرق)،
بقية السطور من 30-50 في هذا اللوح مكسورة ...
هوامش
اللوح التاسع
العمود الأول (1) بكى جلجاميش صديقه أنكيدو بكاء مرا، (2) وهام (على وجهه) في البراري: (3) «ألن يكون مصيري - إذا مت - مثل مصير أنكيدو؟ (4) نفذ الغم إلى وجداني، (5) والخوف من الموت تمكن مني، وها أنا ذا أهيم في البراري، (6) (قاصدا) «أوتنابشتيم»، ابن «أوبار-توتو»،
1 (7) الذي اتخذت طريقي وحثثت الخطا إليه. (8) وصلت ليلا إلى مسالك الجبل، (9) رأيت الأسود وانتابني الخوف ، (10) فرفعت رأسي إلى «سين» وصليت له، (11) وتضرعت للعظمى بين الآلهة.
2 (12) «نجيني من هذا الخطر واحفظيني».» (13) نام
في الليل
ثم انتبه مفزوعا من حلم رآه: (14) كانت تمرح في ضوء «سين» مبتهجة بالحياة،
3 (15) فتناول فأسه في يده، (16) واستل سيفه من حزامه،
4 (17) ومرق وسطها كالسهم، (18) وانقض عليها وشتتها. [فجوة من اثنين وثلاثين سطرا، بعدها يصل جلجاميش إلى جبلي «ماشو» التوءمين اللذين تشرق منهما الشمس وتغرب فيهما ...]
العمود الثاني (1) ماشو هو اسم الجبل. (2) لما أن بلغ جبل ماشو، (3) الذي يحرس الشمس في دخولها وخروجها،
5 (4) ولا تفوقه
في العلو إلا
قبة السماء، (5) وفي الأسفل يلمس صدره عمق الجحيم.
6 (6) كان الرجال العقارب يقومون بحراسة بوابته، (7) ينبعث منهم الرعب الرهيب، و(في) نظراتهم الموت، (8) ويجلل الجبال بريق رعبهم المخيف، (9) وهم يحرسون الشمس في دخولها وخروجها. (10) لما أبصرهم جلجاميش تعتم وجهه (هلعا) من رعبهم وهولهم، (11) (ولكنه) تمالك نفسه وانحنى أمامهم. (12) نادى الرجل العقرب زوجته (قائلا): (13) «إن هذا الذي جاء إلينا جسده من لحم الآلهة.»
7 (14) فردت عليه زوجته قائلة: (15) «(أجل) إن ثلثيه إله وثلثه بشر.» (16) هتف العقرب البشري، الذي اتخذ صورة الرجل، بجلجاميش، (17) قائلا هذه الكلمات
لسليل
الآلهة: (18) «
ما الذي دعاك لأن تقطع
الطرق البعيدة؟ (19) ولماذا
جئت إلى هنا ، حتى مثلت أمامي، (20) وعبرت الأنهار التي يشق عبورها؟ (21) إني لأتوق لأن أعرف
قصدك.» [ثغرة من ثمانية وعشرين سطرا يقول جلجاميش بعدها]:
العمود الثالث (3) «(جئت) قاصدا جدي (الأكبر) أوتنابشتيم، (4) الذي دخل في زمرة الآلهة، ونال
الحياة (الخالدة)، (5)
أريد أن أسأله عن (سر) الحياة والموت.» (6) فتح الرجل العقرب فمه، (7) وقال
لجلجاميش : (8) «
لم يقو بشر
على هذا يا جلجاميش، (9) ولم يستطع أحد أن
يجتاز
غور الجبل، (10)
فهو حالك الظلام
على مدى اثنتي عشرة ساعة مضاعفة. (11) كثيف هو الظلام، ولا
نور هناك ، (12) والطريق
يتجه صوب
مشرق الشمس، (13)
وكذلك
صوب مغيب الشمس.» [فجوة من ثلاثة وسبعين سطرا، والظاهر أن جلجاميش قد استطاع بنحيبه وشكواه أن يحصل من الرجل العقرب على الإذن له بدخول الجبل والقيام برحلته الشاقة ...]
العمود الرابع ...
8 (37) فتح الرجل العقرب فمه، (38) وقال لجلجاميش هذه الكلمات: (39) «امض يا جلجاميش،
لا تخف ! (40)
إني أفتح أمامك (بوابة) جبال ماشو، (41)
فاعبر
الجبال وسلاسلها المرتفعة
في أمان. (42) وعسى أن
ترجع بك قدماك
سالما (معافى).» *** (44)
ما إن سمع
جلجاميش هذا، (45) حتى
تبع
كلمة
الرجل العقرب ، (47) ودخل بوابة الجبل ليسير
على طريق
شمش. (47) لما قطع ساعة مضاعفة، (48) كان الظلام دامسا، ولا نور هناك، (49) وهو لا يستطيع أن يرى ما خلفه. (50) لما قطع ساعتين مضاعفتين،
العمود الخامس (1) كان الظلام دامسا، ولا نور هناك، (2) ولم يستطع أن يرى ما خلفه. [فجوة من خمسة عشر سطرا، ربما يمكن تصور عباراتها الناقصة على النحو التالي]:
لما قطع ثلاث ساعات مضاعفة،
كان الظلام حالكا ولا نور هناك،
ولم يستطع أن يرى ما خلفه. (23) لما قطع أربع ساعات مضاعفة، (24) كان الظلام ما يزال حالكا، ولا نور هناك، (25) ولم يستطع أن يرى ما خلفه. (26) لما اجتاز خمس ساعات مضاعفة، (27) كان الظلام كثيفا، ولا نور هناك، (28) ولم يستطع أن يرى ما خلفه. (29) لما توغل ست ساعات مضاعفة، (30) كان الظلام ما يزال كثيفا، ولا نور هناك، (31) وهو عاجز عن رؤية ما خلفه. (32) ولما توغل سبع ساعات مضاعفة، (33) كان الظلام ما يزال كثيفا، ولا نور هناك، (34) ولم يستطع أن يرى ما خلفه. (35) ولما أوغل (في المسير) ثماني ساعات مضاعفة، أطلق صرخة. (36) لم يزل الظلام دامسا، ولا نور هناك، (37) وهو عاجز عن رؤية ما خلفه. (38) ولما توغل تسع ساعات مضاعفة، شعر (بلمسة) الريح الشمالية، (39) ... فابتسم محياه. (40) لم يزل الظلام حالكا، ولا نور هناك، (41) وهو عاجز عن رؤية ما خلفه. (42) ولما أوغل في المسير عشر ساعات مضاعفة، (43) كان المخرج قد صار قريبا ... *** (45) لما توغل (في المسير) إحدى عشرة ساعة مضاعفة،
خرج واستقبل مشرق الشمس. (46) ولما توغل (في المسير) اثنتي عشرة ساعة مضاعفة، عم الضياء. (47) اقترب ليرى
أشجار الأحجار الكريمة : (48) شجر
العقيق ، الذي يحمل ثماره، (49) تتدلى منه الأعناب (تسر) النظر.
9 (50) وشجر اللازورد يحمل
الأوراق الخضراء ، (51) كما يحمل الأثمار التي تفتن الأبصار. [توحي البقايا المهشمة من العمود السادس بأنها أكملت وصف بستان الجواهر والأحجار الكريمة.]
هوامش
اللوح العاشر
العمود الأول
1 (1) سيدورى، ساقية الحان التي تسكن بعيدا عن ساحل البحر،
2 *** (3) صنعوا لها جرة، صنعوا لها دورقا
ذهبيا ،
3 (4) اتشحت بخمار ...
4 (5) (رأت) جلجاميش قادما (وجسده)
مغطى بالأوساخ ، (6) وعليه لباس من جلد الحيوان ... (7) (وفي طينته
5
بعض) من لحم الآلهة، (8) والهم تمكن من قلبه، (9) وأشبه وجهه وجه مسافر جاب الطريق النائية. (10) تطلعت ساقية الحان إلى (الأفق) البعيد، (11) وأخذت تناجي قلبها (12) بهذه الكلمات:
6 (13) «ربما كان هذا (الشخص القادم)، (14)
المتجه إلى مكان غير معلوم ...» (15) عندما رأته ساقية الحان أوصدت الباب، (16) أوصدت بابها، وأحكمت إغلاقه
بالمزلاج ،
7 (17) غير أن جلجاميش تنبه إلى
الصوت ،
8 (18) فرفع ذقنه
ووجه بصره إليها ، (19) وقال لها جلجاميش، قال لساقية الحان: (20) «يا ساقية الحان، ماذا رأيت (مني) حتى توصدي بابك، (21) حتى توصديه وتغلقيه بالمزلاج؟ (22) سأحطم الأبواب وأكسر المزلاج!»
9 [تضيف الترجمة الألمانية هنا خمسة عشر سطرا من أحد ألواح الأصل البابلي القديم، وهي سطور تراها ملائمة لهذا الموضع ولم توجد في النسخة الآشورية الحديثة المعتمدة بوجه عام، ولا كان من الممكن أن توجد فيها ...] (2) «يلبس جلود الحيوان، ويأكل اللحم النيئ،
10 (3) وفي الآبار، يا جلجاميش، التي لم يسبق وجودها أبدا، (4) ستحرك ريحي،
إن شئت ، الماء!»
11 (5) تكدر شمش وذهب (بنفسه) إليه، (6) قال لجلجاميش: (7) «إلى أين تمضي يا جلجاميش؟ (8) إن الحياة التي تبحث عنها لن تجدها!» (9) قال له جلجاميش، قال لشمش البطل: (10) «أبعد السير والجري في البراري، (11) تتبقى (لي) الراحة على الأرض؟ (12) ومع ذلك فقد نمت طوال كل السنين. (13) ألا ليت عيني ترى الشمس، ليتني أشبع من النور! (14) وعندما يبتعد الظلام، فكم يبقى (من) الضياع؟ (15) ومتى استطاع ميت أن يرى بريق الشمس (الساطع)؟» [تبدأ هنا فجوة صغيرة، ويحتمل أن تكون سيدورى قد سألت جلجاميش عن أعماله ...]
بقية العمود الأول
12 (34) قال لها جلجاميش، قال لساقية الحان: (35) «
أنا (الذي) أمسكت بالثور الذي نزل من السماء وأجهزت عليه، (36)
أنا
الذي صرعت حارس الغابة، (37) وقتلت خمبابا الذي يسكن غابة الأرز، (38) كما قتلت الأسود
في مسالك
الجبال.» (39) قالت له ساقية الحان، قالت لجلجاميش: (40) «إن كنت أنت جلجاميش الذي قضى على الحارس، (41) وصرع خمبابا الذي يسكن غابة الأرز، (42) وقتل الأسود في
ممرات
الجبال، (43) وأمسك بالثور الذي نزل من السماء وأجهز عليه؛ (44) فلماذا ضمرت وجنتاك، وتغضن محياك؟
13 (45) (لماذا) اكتأب فؤادك وذبلت ملامحك، (46) وتمكن الهم من نفسك، (47) وأشبه وجهك وجه مسافر جاب الطرق البعيدة، (48) ولفحت محياك الرطوبة ووهج الشمس؟ (49) ... (ولماذا) تهيم (على وجهك) في البرية؟» (50) قال لها جلجاميش، قال لساقية الحان: (51) «إن صديقي، الذي أحببته حبا جما،
14
العمود الثاني
15 (1) والذي قهر معي جميع المصاعب (والمشاق)،
16 (2) أنكيدو الذي أحببته حبا جما، (3) ولازمني في اجتياز جميع الصعاب، (4) قد أدركه مصير البشر. (5) بكيت عليه ليل نهار، (6) لم أسمح بدفنه (في التراب)، (7) لعل صديقي أن يبعثه نحيبي (ونواحي)، (8) سبعة أيام وليال سبع، (9) حتى وقع الدود على وجهه.
17 (10) منذ مضى، لم أجد الحياة؛
18 (11) همت على وجهي في البرية مثل قاطع الطريق. (12) والآن يا ساقية الحان، وقد رأيت محياك، (13) أتمنى ألا أرى الموت الذي (أخافه) وأخشاه.» (14) قالت له ساقية الحان، قالت لجلجاميش:
العمود الثالث
19 (1) «إلى أين تمضي يا جلجاميش؟ (2) إن الحياة التي تبحث عنها لن تجدها! (3) فعندما خلقت الآلهة البشر، (4) قسمت للبشر الموت، (5) واستأثرت في أيديها بالحياة. (6) (أما) أنت يا جلجاميش فاملأ بطنك، (7) متع نفسك ليل نهار، (8) واجعل أيامك أعيادا. (9) ارقص والعب ليل نهار، (10) نظف ثيابك، واغسل رأسك،
واستحم بالماء. (12) احن على الصغير الذي يمسك بيدك،
20 (13) ودع الزوجة تفرح في أحضانك. (14) هذا هو حظ البشر (على الأرض؟).» [فجوة صغيرة.]
العمود الثاني
21 (15) قال لها جلجاميش، قال لساقية الحان: (16) «والآن أيتها الساقية، أين الطريق إلى «أوتنابشتيم»؟ (17) ما هي علامته؟ دليني، دليني على علامته!
22 (18) لأعبرن البحر (إليه) لو استطعت، (19) فإذا أعجزني ذلك همت (على وجهي) في البرية!» (20) قالت له الساقية، قالت لجلجاميش: (21) «لم يوجد (أبدا) هذا المعبر يا جلجاميش،
23 (22) وما من أحد أمكنه - منذ القدم - عبور البحر. (23) إن شمش البطل هو وحده الذي يعبر البحر،
ومن يعبره غيره؟ (24) شاق هو هذا المعبر، والدرب إليه مضن، (25) بينهما تمتد مياه الموت، (مياه الموت)
عصية ! (26) ربما أمكنك - يا جلجاميش - أن تعبر البحر من أي مكان، (27) لكن ماذا تفعل إن أمكنك بلوغ مياه الموت؟ (28) جلجاميش، ها هو ذا «أورشنابي»، ملاح (سفينة) «أوتنابشتيم»، (29) ولديه
الصور الحجرية ،
24
وهو هناك في الغابة يجمع الأرز. (30) (امض إليه) عساك تراه.
25 (31) إذا استطعت، فاعبر معه (البحر)،
وإذا لم تستطع، فارجع أدراجك!» (32) لم يكد جلجاميش يسمع هذا، (33) حتى حمل الفأس في يده، (34)
واستل السيف من حزامه ،
26
وتسلل (إلى داخل الغابة)، ونزل إليها،
27 (35) وانقض عليها كالسهم، [فجوة صغيرة.]
العمود الرابع
28 (1) وفي ثورة غضبه حطمها (تحطيما).
29 (2) ثم رجع لكي يلتقي به، (3) ونظر «أورشنابي» في عينيه. (4) قال له «أورشنابي»، قال «لجلجاميش»: (5) «قل لي ما اسمك؟ كلمني! (6) (أما) أنا (فاسمي) «أورشنابي».» (تابع) «أوتنابشتيم». (7) قال له «جلجاميش»، قال «لأورشنابي»: (8) «اسمي «جلجاميش»، (9) أنا الذي جئت من أوروك، من بيت «آنو»، (10) وأنا الذي جبت الجبال (والمرتفعات)، (11) (وقطعت)
الطريق النائي، طريق شمش . (12) والآن وقد رأيت وجهك يا «أورشنابي»، (13) دلني على أوتنابشتيم البعيد!» (14) قال له «أورشنابي»، قال لجلجاميش:
30
العمود الثالث
31 (2) «لماذا ضمرت وجنتاك، وتغضن محياك؟ (3) (ولماذا) اكتأب قلبك، وذبلت ملامحك، (4) وتمكن الهم من نفسك، (5) حتى أصبح وجهك يشبه وجه مسافر قطع الطرق البعيدة، (6) ولفحته الرطوبة ووهج الشمس، (7) ... وهمت (على وجهك) في البرية؟» (8) قال له جلجاميش، قال لأورشنابي الملاح: (9) «يا أورشنابي، كيف لا تضمر وجنتاي ويتغضن محياي؟ (10) (كيف) لا يكتئب قلبي وتذبل ملامحي، (11) ويتمكن الهم من نفسي؟ (12) (كيف) لا يشبه وجهي وجه مسافر قطع الطرق البعيدة؟ (13) وكيف لا تلفحه الرطوبة ووهج الشمس، (14) ... وأهيم (على وجهي) في البرية؟ (15) (و) صديقي، البغل الخفيف، حمار الوحش الجبلي، (16) صديقي أنكيدو، البغل الخفيف، حمار الوحش الجبلي، فهد البراري، (17) بعد أن قمنا معا بكل شيء، فصعدنا الجبل، (18) واستولينا على المدينة (؟) ... وأجهزنا على الثور السماوي، (19) وصرعنا كذلك خمبابا، الذي كان يسكن غابة الأرز،
وقتلنا الأسود في مسالك الجبال. (20) صديقي (هذا)، الذي أحببته حبا جما،
والذي اجتاز معي جميع المصاعب (والمشاق)، (21) صديقي أنكيدو، الذي أحببته حبا جما،
والذي اجتاز معي جميع المصاعب (والمشاق). (22) قد عاجله مصير البشر. (23) بكيت عليه ستة أيام وسبع ليال،
ورفضت السماح بدفنه، (24) حتى وقع الدود على وجهه. (25) انتابني الرعب
من منظر صديقي ،
فزعت من الموت، فهمت (على وجهي) في البرية، (26) ثقل علي الخطب (الذي نزل) بصديقي، (27) فقطعت طريقا نائيا في البراري!
ثقل علي الخطب (الذي نزل) بصديقي أنكيدو، (28) فقطعت طريقا نائيا في البراري! (29) آه! كيف يخرس (لساني)؟ آه! كيف ألزم الصمت (30) وصديقي الذي أحببت، قد صار ترابا!
أنكيدو، صديقي الذي أحببت، قد صار ترابا؟ (31) أولن أضطجع مثله فلا أقوم أبد الدهر؟» (32) قال له جلجاميش، قال للملاح أورشنابي: «أين الطريق إلى أوتنابشتيم؟ (34) ما هي العلامة (التي تدل عليه)؟
أعطني، أعطني علامته. (35) إذا استطعت عبرت البحر (إليه)،
وإذا أعجزني ذلك همت (على وجهي) في البرية!» (36) قال له أورشنابي، قال لجلجاميش: (37) «يداك، يا جلجاميش، قد عاقتا الإبحار! (38) فلقد حطمت
الصور الحجرية ... (39) وما دامت (الصور) الحجرية
قد تحطمت
فلن نستطيع العبور . (40) خذ الفأس في يدك يا جلجاميش! (41) هيا واهبط للغابة مرة أخرى،
واقتطع منها مائة وعشرين «مرديا» طول كل منها ستون ذراعا.
32 (42) سوها، وألصق بها صفائح التجديف! ثم جئني بها.»
33 (43) ما إن سمع جلجاميش هذا (الكلام)، (44) حتى تناول الفأس في يده ... (45) وانحدر مرة أخرى إلى الغابة،
فاقتطع مائة وعشرين «مرديا» طول كل منها ستون ذراعا، (46) وسواها وصفحها بصفائح التجديف وأحضرها لأورشنابي. (47) ركب جلجاميش وأورشنابي السفينة، (48)
أنزلا
السفينة
على الأمواج
وأبحرا (بها)، (49) وفي اليوم الثالث
قطعا
رحلة شهر وخمسة عشر يوما؛
34 (50) وبذلك وصل أورشنابي إلى مياه الموت.
العمود الرابع
35 (1) قال له أورشنابي، قال لجلجاميش: (2) «ارجع إلى الوراء يا جلجاميش ...
36 (3) وحذار أن تلمس
يدك
مياه الموت ... (4) خذ مرديا ثانيا يا جلجاميش وثالثا ورابعا، (5) خذ يا جلجاميش مرديا خامسا وسادسا وسابعا، (6) ومرديا ثامنا وتاسعا وعاشرا، (7) وخذ يا جلجاميش الحادي عشر والثاني عشر.» (8) ومع (الدفعة) المائة والعشرين كان جلجاميش قد استنفد المرادي، (9) في هذه الأثناء فك حزامه ... (10) ونزع جلجاميش ثيابه من على جسده، (11) وبيديه ثبتها على صاري (السفينة).
37 (12) أوتنابشتيم تطلع ببصره بعيدا، (13) أخذ يناجي قلبه (بهذه) الكلمات، (14) أجل، خاطب نفسه قائلا: (15) «لماذا حطمت الصور
الحجرية (الخاصة) بالسفينة؟ (16) ومن هذا الذي يركبها بغير حق؟ (17) إن الرجل القادم (معها) ليس من أتباعي ... *** (21)
ما عسى قلبه أن يبتغيه مني ؟» [فجوة من عشرين سطرا، يتبعها وصول جلجاميش إلى «جزيرة الأحياء» ولقاؤه بأوتنابشتيم ...] (42) قال له أوتنابشتيم، قال لجلجاميش: (43) «لماذا ضمرت وجنتاك، وتغضن محياك؟ (44) لماذا اكتأب فؤادك، وذبلت ملامحك، (45) وتمكن الغم من نفسك، (46) وصار وجهك أشبه بوجه مسافر جاب الطرق النائية، (47) ولفحت الرطوبة ووهج الشمس وجهك، (48) ... وتهيم في البرية؟» (49) قال له جلجاميش ، قال لأوتنابشتيم: (50) «كيف لا تضمر وجنتاي، يا أوتنابشتيم، ويتغضن محياي؟
العمود الخامس
38 (1) كيف لا يكتئب فؤادي وتذبل ملامحي، (2) ويتمكن الغم من نفسي؟ (3) كيف لا يشبه وجهي وجه مسافر جاب الطرق النائية، (4) وتلفح الرطوبة ووهج الشمس وجهي. (5) ... وأهيم في البرية؟ (6) وصديقي البغل الخفيف، حمار الوحش
الجبلي، فهد البراري، (7) صديقي أنكيدو، البغل الخفيف، حمار الوحش الجبلي،
فهد البراري، (8) بعد أن قمنا معا بكل شيء، فصعدنا الجبل، (9) واستولينا ... على المدينة، وأجهزنا على الثور السماوي، (10) وصرعنا خمبابا أيضا، الذي كان يسكن غابة الأرز، (11) وقتلنا الأسود
في مسالك
الجبال. (12) صديقي الذي أحببت حبا جما،
واجتاز معي جميع الصعاب (والمشاق). (13) أنكيدو، صديقي الذي أحببت حبا جما،
واجتاز معي جميع الصعاب (والمشاق). (14) قد عاجله مصير البشر.
بكيت عليه ستة أيام وسبع ليال، (15) ورفضت السماح بدفنه (في التراب)، (16) حتى وقعت الدودة على وجهه. (17)
انتابني الرعب من منظر صديقي ،
وفزعت من الموت فانطلقت أجري في البراري (والقفار). (18) رزح على صدري الخطب الذي نزل بصديقي،
فرحت أجوب الطرق البعيدة في البراري (والقفار). (19) رزح على صدري الخطب الذي نزل بصديقي أنكيدو،
فرحت أجوب الطرق البعيدة في البراري (والقفار). (20) آه! كيف أسكت (ويخرس لساني)؟ كيف ألزم الصمت (21) وصديقي، من أحببت (كثيرا)، قد صار ترابا؟!
صديقي أنكيدو، من أحببت (كثيرا)، قد صار ترابا! (22) أولن أضطجع مثله فلا أقوم أبد الدهر؟» (23) قال له جلجاميش، قال لأوتنابشتيم: (24) «حتى أصل لأوتنابشتيم وأراه،
وهو الذي يدعونه البعيد، (25) أخذت أطوف بكل البلاد، (26) واجتزت الجبال الوعرة، (27) وعبرت جميع البحار، (28) لم يهنأ وجهي بالنوم الحلو، (29) جلبت المرض على نفسي من قلة نومي،
أسكنت الوجع بأعضائي، (30) وقبل أن أبلغ بيت ساقية الحان،
كانت ثيابي قد خلقت. (31) قتلت
الدب ،
الضبع ، الأسد، الفهد،
النمر .
والظبي، الأيل، الوحش وحيوان البرية،
أكلت لحمها،
ولبست
جلدها.» [فجوة من اثنين وأربعين سطرا.]
العمود السادس
39
قال له أوتنابشتيم، قال لجلجاميش: (25) «الموت القاسي
لا يرحم : (26) هل نبني بيتا (لا يفنى)؟
هل نختم عقدا (لا يبلى)؟ (27) هل يقتسم الإخوة (ميراثا يبقى)؟ (28) أيعم (الأرض)
إلى الأبد الحقد،
40 (29) وتدوم مياه الفيضان إذا امتلأ النهر،
فيبقى المد ويطغى؟ (30) واليعسوب ...
رأينا . (31) لا، لم يتسن لوجه (فان) أن ينظر للشمس، (32) يحدق فيها دوما. (33)
والنائم
والميت، كم يشبه أحدهما الآخر! (34) أولا يرتسم الموت على وجه النائم والميت؟ (35) أجل! أنت أيها الإنسان، أيها الرجل! منذ أن
بارك إنليل
41 ... (36) وآلهة «الآنوناكي» العظام مجتمعون، (37) و«ماميتوم»، أم الأقدار،
42
تحدد معهم المصائر، (38) إنهم يوزعون الموت أو الحياة، (39) وتظل أيام الموت مجهولة.»
43
هوامش
اللوح الحادي عشر
(1) قال له جلجاميش، قال لأوتنابشتيم البعيد: (2) «إذا نظرت إليك يا أوتنابشتيم، (3) (وجدت) هيئتك غير مختلفة؛ فأنت مثلي!
1 (4) بل إنك لا تختلف (عني)؛ فأنت مثلي! (5) كان قلبي متأهبا (تمام التأهب) للصراع معك، (6) غير أن ذراعي لا يحرك ساكنا (ضدك)!
2 (7) قل لي (إذن): كيف دخلت في زمرة الآلهة ونلت الحياة (الخالدة)؟» (8) قال له أوتنابشتيم، قال لجلجاميش: (9) «سأكشف لك، يا جلجاميش، عن أمر خفي، (10) سأطلعك على سر (من أسرار) الآلهة. (11) شروباك،
3
المدينة التي تعرفها،
4 (12) الواقعة على شاطئ الفرات. (13) كانت هذه المدينة قد شاخت، (كما شاخ) الآلهة (المقيمون؟) فيها، (14) والآلهة العظام حثتهم قلوبهم على إرسال الطوفان؛ (15) فتشاوروا
5 (في الأمر) بينهم: أبوهم «آنو»، (16) و«إنليل» البطل، مستشارهم، (17، 18) و«نينورتا» وزيرهم، وإينوجي نائبهم (المشرف على السدود)، (19) ونينبحيكو - إيا الذي كان حاضرا معهم، (20) ونقل كلامهم إلى كوخ القصب (وقال): (21) «كوخ القصب! يا كوخ القصب! أيها الجدار! أنت يا جدار! (22) اسمع يا كوخ القصب، وافهم يا جدار!
6 (23) يا رجل شروباك، يا ابن أوبار-توتو!
7 (24) اهدم دارك، ابن سفينة. (25) اترك الثروة، واسع إلى الحياة (الخالدة؟). (26) تخل عما تملك، وانج بنفسك، (27) واحفظ في السفينة كل (أنواع) البذور الحية؛ (28) السفينة التي عليك أن تبنيها ، (29) وينبغي أن تضبط مقاييسها، (30) ويكون عرضها مساويا لطولها، (31) وأن تجعل سطحها
مثل (سطح) «الآبسو».»
8 (32) لما فهمت ما قال، خاطبت ربي «إيا» بقولي: (33) «أمرك، يا سيدي، الذي وجهته إلي، (34) قد وعيته وسوف أطيعه، (35) لكن ماذا أقول للمدينة، كيف أرد (على أسئلة) الناس والشيوخ؟»
9 (36) فتح فمه للكلام، (37) وقال لي، قال لعبده: (38) «أنت يا رجل، عليك أن تقول لهم: (39) يبدو أن إنليل لا يطيقني،
10 (40) فلا يجوز لي العيش في مدينتكم بعد اليوم، (41) ولا أن أضع قدمي أبدا على أرض إنليل، (42) لهذا أنوي النزول إلى «الآبسو»،
والعيش مع سيدي «إيا». (43) أما أنتم فسيمطركم خيرا وفيرا، (44)
أسرابا
من الطيور، و... من الأسماك، (45) سوف يجود عليكم بالحصاد الوافر، (46) وينزل عليكم في الصباح بقولا، (47) وفي المساء يرسل عليكم مطرا من الحنطة.» (48) لم تكد تلوح أضواء الصباح، (49) حتى تجمع (أهل) البلد من حولي، (50) حمل
بعضهم الأضاحي
من الأغنام المنتقاة، (51) والبعض الآخر جلب (معه)
الأضاحي
من أغنام البراري.
11 (52) ... الرجال ... (53) ... السر. (54) أحضر الأطفال القار، (55) وأحضر الأقوياء ... المئونة (الضرورية). (56) في اليوم الخامس صممت
هيكلها .
12 (57) كانت مساحة أرضيتها (حقلا) واحدا،
13
وارتفاع جدرانها مائة وعشرين ذراعا، (58) وطول كل جانب من جوانب سطحها الأربعة مائة وعشرين ذراعا. (59) حددت
شكلها الخارجي
على الصورة التالية: (60) جعلت فيها ست
أرضيات ، (61) وقسمتها إلى سبعة طوابق. (62) قسمت
بنيتها
تسعة أقسام،
14 (63) وغرزت في وسطها أوتاد الماء.
15 (64) حرصت على (وضع) المراد فيها، وخزنت فيها المؤن:
16 (65) ست وزنات من القار سكبتها في الكور،
17 (66) وثلاث وزنات من القطران، (67) وجلب حاملو السلال ثلاث وزنات من الزيت، (68) فضلا عن وزنة زيت استهلكها
عجن الدقيق ، (69) ووزنتين من الزيت قام ملاح السفينة بتخزينهما. (70) نحرت عجولا للناس،
18 (71) وذبحت الأغنام كل يوم، (72) سقيت الصناع عصير العنب
ونبيذ السمسم ، (73) والزيت والخمر؛ فشربوا كأنهم يشربون ماء النهر، (74) واحتفلوا كأنهم في عيد رأس السنة! ...
19 (76) تم بناء السفينة في اليوم السابع مع غروب الشمس، (77) وكان من الصعب ... (78) وكان عليهم ... من أعلى ومن أسفل، (79) حتى غاصت
السفينة
إلى ثلثيها
في الماء . (80) كل ما كنت أملك حملته فيها، (81) كل ما كنت أملك من فضة حملته فيها، (82) كل ما كنت أملك من ذهب حملته فيها، (83) كل ما كنت أملك من بذور الحياة حملته فيها، (84) أركبت في السفينة كل أهلي وعشيرتي، (85) أركبت فيها حيوان البر وحيوان الحقل،
وتركت جميع الصناع يركبونها، (86) كان شمش قد حدد لي المهلة على هذه الصورة:
20 (87) «في الصباح سأرسل بقولا
21
وفي المساء أمطر حنطة، (88) وعندها ادخل السفينة وأغلق (عليك) بابك.» (89) حل الموعد المضروب (لهذه المهلة )؛ (90) ففي الصباح نزلت البقول،
22
وفي المساء أمطرت حنطة. (91) تأملت حالة الجو؛ (92) كان منظره مخيفا، (93) دخلت السفينة وأغلقت بابي، (94) وللملاح «بوزور-آموري» الذي قام بطلاء السفينة بالقار،
أسلمت قياد القصر بكل ما فيه من متاع.
23 (96) ما إن لاحت أنوار الصباح، (97) حتى صعدت من قاع السماء سحب سوداء. (98) أرعد في داخلها (الإله) أدد،
24 (99) يتقدمه «شلات»
25
و«خانيش»،
26 (100) (اللذان) يطلقان النذير في الجبال والسهول. (101) انتزع إيراجال عمود السفينة، (102) وتبعه «نينورتا» (ففتح السدود) لتنهمر المياه من حوض الماء.
27 (103) رفع «الآنوناكي» المشاعل، (104) ليحرقوا الأرض بوهجها المخيف، (105) وانقبضت السماوات من (رعود) أدد، (106) فأحالت كل نور إلى ظلام، (107) وتحطمت الأرض الشاسعة (كما تتحطم) آنية من فخار. (108) هبت عاصفة الجنوب يوما كاملا ... (109) وتعاظمت شدتها حتى
غطت الجبال بالماء ،
28 (110) وأهلكت البشر كأنها الحرب (الضروس). (111) (صار) الأخ لا يرى أخاه،
29 (112) وبات البشر لا تتعرف عليهم السماء. (113) ذعر الآلهة من هذا الطوفان، (114) فولوا هاربين إلى سماء آنو؛ (115) أفعى الآلهة كالكلاب خارج الجدار. (116) صرخت عشتار
30
كامرأة في المخاض، (117) ناحت سيدة الآلهة وصاحبة الصوت العذب: (118) «ليت ذلك اليوم تحول إلى طين،
31 (119) لما أمرت بالشر في مجمع الآلهة. (120) كيف طاوعتني نفسي أن آمر بالشر في مجمع الآلهة، (121) وتسليط الحرب على أبنائي البشر لتهلكهم؟ (122) أنا التي ولدت أبنائي البشر الأحباء، (123) وها هم يملئون البحر كصغار الأسماك!» (124) ناحت معها آلهة الآنوناكي. (125) جلسوا يبكون منكسي الرءوس، (126) وبشفاه متيبسة
ينتحبون . (127) ستة أيام وسبع ليال، (128) والريح تعصف، والطوفان (يسيل)،
والزوابع تهب من الجنوب وتغطي البلاد. (129) ولما طلع نهار اليوم السابع،
هدأت
زوابع الجنوب وغيض الطوفان وخفت وطأة القتال، (130) بعد أن اشتدت ضرباتها كامرأة في المخاض. (131) هدأ البحر وسكنت (أمواجه)،
وتوقف الإعصار (وتراجع) الطوفان. (132) فتحت الطاقة، سقط الضوء على وجهي، (133) وتطلعت إلى
اليابسة : الصمت حولي، (134) وجنس البشر بأجمعه تحول إلى طين، (135) والوادي مستو كسطح (البيوت)؛
32 (136) عندئذ سجدت
33
وبكيت،
34 (137) وعلى وجهي انسابت الدموع. (138) تطلعت إلى البحر (بحثا عن) السواحل، (139) (فأبصرت) جزيرة ترتفع مائة وأربعة وأربعين ذراعا، (140) وأخذت السفينة تقترب من جبل نصير.
35 (141) أمسك جبل نصير بالسفينة، ومنعها من الاهتزاز. (142) ومضى يوم ، ويوم ثان، والجبل ممسك بالسفينة،
يمنعها من الاهتزاز. (143) ومضى يوم ثالث ورابع والجبل ممسك بالسفينة،
يمنعها من الاهتزاز. (144) ويوم خامس وسادس والجبل ممسك بالسفينة،
يمنعها من الاهتزاز. (145) حتى إذا أقبل اليوم السابع، (146) (أتيت) بحمامة وأطلقتها،
36 (147) وطارت الحمامة (بعيدا)، ثم رجعت؛ (148) لم تقع عينها على مكان تحط فيه، فاستدارت راجعة. (149) (أتيت) بسنونو وأطلقتها، (150) طارت السنونو بعيدا، ثم رجعت؛ (151) لم تقع عينها على مكان تحط فيه، فاستدارت راجعة. (152) (أتيت) بغراب وأطلقته: (153) طار الغراب كذلك بعيدا، ولما رأى المياه انحسرت، (154) أخذ يأكل، ويحوم وينعق، ولم يرجع. (155) عند ذاك تركتهم يخرجون إلى الرياح الأربع،
37
وقدمت أضحية، (156) وقربت قربانا على قمة الجبل:
38 (157) وضعت سبع قدور (للسكائب) وسبعا، (158) ألقيت في أوعيتها القصب، وخشب الأرز، والآس. (159) تشممت الآلهة شذاها. (160) أجل تشممت شذاها العطر، (161) فتزاحمت كالذباب على مقرب القربان، (162) وما إن أقبلت «ماخ»،
39 (163) حتى رفعت عقد الجواهر الذي صنعه «آنو» لإرضائها: (164) «أيها الآلهة المجتمعون هنا، كما أنني لا أنسى،
هذا العقد اللازوردي (الذي يطوق) جيدي، (165) فسأظل أذكر هذه الأيام ولن أنساها أبدا، (166) ليتقدم الآلهة إلى القربان، (167) إلا إنليل فليس له أن يقترب منه؛ (168) لأنه أرسل الطوفان بغير ترو، (169) وأسلم (خلقي) من البشر إلى الهلاك.» (170) وما إن جاء إنليل، (171) وأبصر السفينة حتى (اشتد) غضبه، (172) وامتلأ حنقا على آلهة (الإيجيجي):
40 (173) «كيف نجت نفس واحدة،
وقد (قضيت) بألا ينجو أحد من الهلاك؟!» (174) فتح (نينورتا)
41
فمه للكلام وقال لإنليل البطل: (175) «ومن ذا الذي يدبر شيئا غير «إيا»؟
42 (176) كذلك يعرف «إيا» كل ما يتم صنعه.»
43 (177) فتح «إيا» فاه للكلام وقال لإنليل البطل: (178) «أيها البطل، أنت يا أكثر الآلهة فطنة (وذكاء)، (179) آه ! كيف أحدثت الطوفان بغير ترو؟ (180) حمل المخطئ (ذنب) خطيئته،
والمعتدي (إثم) عدوانه. (181)
وأرخ (الخيط) حتى لا ينقطع،
وتشدد، حتى لا ...
44 (182) بدلا من أن ترسل طوفانا،
دع أسدا ينقص عدد الناس! (183) بدلا من أن ترسل طوفانا،
دع ذئبا ينقص عدد الناس! (184) بدلا من أن ترسل طوفانا،
لتنزل بالبلاد مجاعة تفتك بها! (185) بدلا من أن ترسل طوفانا،
لينهض «إيرا» ويخنق البشر!
45 (186) أما أنا فلم أفش سر الآلهة العظام، (187) (بل) جعلت الحكيم (اللبيب) يرى حلما (في المنام)،
46
فأدرك سر الآلهة. (188) والآن أشر في أمره!» (189) عندئذ صعد «إنليل» إلى السفينة، (190) أخذ بيدي وأركبني فيها، (191) وأركب زوجتي وجعلها تركع بجواري، (192) ولمس جبهتينا، وهو واقف بيننا، وباركنا (قائلا): (193) «لم يكن أوتنابشتيم من قبل سوى واحد من أبناء البشر، (194) فليشبهنا نحن الآلهة من الآن؛
أوتنابشتيم وزوجه! (195) وليسكن أوتنابشتيم
بعيدا عند فم الأنهار!» (196) ثم أخذوني وأسكنوني بعيدا عند فم الأنهار، (197) لكن من يجمع لك (شمل) الآلهة الآن، (198) لتعثر على الحياة (الخالدة) التي تبحث عنها؟
47 (199) هيا أسلم نفسك للنوم، ستة أيام وليال سبع!» (200) لما جلس على الأرض، (201) لمسه النوم (لمس) الضباب. (202) قال لها أوتنابشتيم، قال لزوجته: (203) «انظري إلى الرجل الذي طلب الحياة (الخالدة)! (204) إن النوم يلمسه (لمس) الضباب!» (205) قالت له زوجته، قالت لأوتنابشتيم: (206) «المس الرجل لكي يستيقظ، (207) ليرجع بسلام على الطريق الذي جاء منه، (208) وليعد إلى وطنه ويدخل من الباب الذي خرج منه!» (209) قال لها أوتنابشتيم، قال لزوجته: (210) «خداعون هم البشر، وسوف يخدعك أنت أيضا، (211) هيا انهضي، اخبزي له أرغفة (و) ضعيها عند رأسه، (212) والأيام التي نامها، أشري علامتها على الجدار.» (213) خبزت له أرغفة، وضعتها عند رأسه، (214) والأيام التي نامها (أثبتت) علامتها على الجدار. (215) صار رغيفه الأول يابسا، (216) وانكمش الثاني، وبقي الثالث رطبا، (217) والرابع أبيض (لونه)، (وهو)
رغيفه المحمر ، (وأما) الخامس فقد
حال لونه ، والسادس قد
خبز
لتوه، (218) ومع السابع، لمسه فاستيقظ (من نومه). (219) قال له جلجاميش، قال لأوتنابشتيم البعيد: (220) «لم يكد النوم ينسكب
48
علي، (221) حتى عاجلتني بلمسة أقضت مضجعي!» (222) قال له أوتنابشتيم، قال لجلجاميش: (223) «تعال وعد يا جلجاميش ، عد أرغفتك، (224) ولتعرفك العلامات المرسومة على الجدار!
49 (225) إن رغيفك الأول قد تيبس، (226) والثاني
انكمش ، والثالث
لم يزل
رطبا،
والرابع، وهو رغيفك المحمر، قد ابيضت (قشرته)، (227) والخامس
حال لونه ، والسادس
خبز لتوه ، (228) ومع السابع، استيقظ (من النوم).» (229) قال له جلجاميش، قال لأوتنابشتيم: (230) «آه! ماذا أعمل؟ وإلى أين أوجه وجهي؟ (231) (
والمختطف) الثاكل
طوق
أعماقي (وتمكن مني)؟
50 (232) في مخدعي يقيم الموت، (233) وحيث وضعت القدم، يواجهني الموت!»
51 (234) قال له أوتنابشتيم، قال لأورشنابي الملاح: (235) «أورشنابي! فينبذك المرسى
وليزدريك موضع العبور! (236) ولتزهد فيك (وتبرأ منك)،
السواحل التي تمشيت عليها.
52 (237) (أما) الرجل الذي جئت به إلى هنا،
فجسده مغطى بالأوساخ، (238) وجمال أعضائه قد شوهته جلود الحيوان. (239) خذه يا أورشنابي، قده إلى موضع الاغتسال، (240) حتى ينظف وسخه بالماء، (ويصبح) كالثلج، (241) وينفض عنه جلود الحيوان فيحملها البحر (بعيدا).
دعه
يبلل
جسده الجميل، (242) ويجدد عصابة رأسه، (243) وليرتد ثوبا يستر عريه، (244) وإلى أن يرجع لمدينته، (245) ويهتدي إلى طريقه، (246) ليبق ثوبه جديدا، ليبق جديدا
ولا يناله البلى .» (247) أخذه أورشنابي وقاده إلى موضع الاغتسال، (248) غسل أوساخه بالماء، (فأصبح نظيفا) كالثلج، (249) خلع عنه جلد الحيوان ليحمله البحر بعيدا، (250)
وبلل
جسده الجميل. (251) استبدل بعصابة رأسه عصابة جديدة، (252) وارتدى ثوبا يستر عريه، (253) وإلى أن يرجع لمدينته، (254) ويهتدي إلى طريقه، (255) ينبغي أن لا يبلى وأن يبقى جديدا، جديدا. (256) ركب جلجاميش وأورشنابي السفينة، (257)
أنزلاها فوق الأمواج
ومضيا (في طريقهما)، (258) (وعندها) قالت له زوجته، قالت لأتنابشتيم البعيد: (260) «ماذا تراك ستعطيه (ليحمله معه) وهو عائد إلى وطنه؟» (261) كان جلجاميش قد رفع المجداف،
53 (262) وقرب السفينة من الشاطئ، (263) فقال له أوتنابشتيم، قال لجلجاميش: (264) «لقد جئت إلى هنا يا جلجاميش وأضنيت نفسك وأتعبتها، (265) فماذا أعطيك (لتعود به) إلى وطنك؟ (266) سأكشف لك، يا جلجاميش، عن (سر) خفي، (267) وسأنبئك
بأمر مجهول ؛ (268) هنالك نبتة
تشبه
الشوك، (269) وهي كالوردة يخز شوكها يدك، (270) إذا توصلت يداك لهذه النبتة،
وجدت الحياة (الخالدة)!» (271) ما إن سمع جلجاميش هذا القول ... (272) حتى ربط بقدميه أحجارا ثقيلة، (273) ولما شدته إلى الآبسو،
54 (274) أخذ النبتة التي وخزت يده، (275) وفك قدميه من الأحجار الثقيلة، (276) فألقاه
اليم
على الشاطئ. (277) قال له جلجاميش، قال لأورشنابي الملاح: (278) «هذه النبتة تشفي من
الاضطراب ،
55 (279) وبفضلها يستعيد الإنسان حياته. (280) سأحملها معي إلى أوروك الحمى، وأعطيها (للناس) ليأكلوا منها، وبذلك أجربها. (281) إن اسمها هو «عودة الشيخ إلى شبابه»، (282) ولسوف آكل منها ليرجع إلي شبابي.»
56 (283) بعد عشرين ساعة مضاعفة تناولا القليل من الزاد، (284) وبعد ثلاثين ساعة مضاعفة توقفا لقضاء الليل، (285) وعندما رأى جلجاميش بئرا باردة بالماء ، (286) نزل فيها ليغتسل (بالماء). (287) شمت أفعى شذا النبتة، (288)
فتسللت
خارجة من الماء وأخذتها، (289) وعند عودتها غيرت جلدها. (290) هنالك جلس جلجاميش وأخذ يبكي، (291) جرت الدموع على وجهه، (292)
وكلم
أورشنابي الملاح قائلا: (293) «لمن، يا أورشنابي، كل ذراعي؟ (294) ولمن قد نزف القلب دماه؟ (295) لم أجن لنفسي خيرا، (296) بل قدمت الخير لأسد الترب!
57 (297) الآن يرتفع اليم مسافة عشرين ساعة مضاعفة، (298) وقد تركت الأداة (؟) تسقط (مني) عندما فتحت قناة صغيرة، (299) فكيف لي بمثلها،
لأضعها إلى جانبي ؟
ليتني انسحبت وتركت السفينة على الشاطئ!»
58 (300) بعد عشرين ساعة مضاعفة تناولا القليل من الزاد، (301) وبعد ثلاثين ساعة مضاعفة توقفا لقضاء الليل،
ولما وصلا إلى أوروك المنيعة، (302) قال له جلجاميش، قال لأورشنابي الملاح: (303) «أي أورشنابي!
اصعد
سور أوروك، تمش عليه، (304)
تفحص
قواعده
وانظر
إلى لبناته.
أولم تصنع من آجر مفخور؟ (305) أولم يضع الحكماء السبعة أسسه؟ (306) شار واحد للمدينة، وشار واحد لبساتين النخل،
وشار لسهل الري،
59
بالإضافة إلى المكان (
المقدس ) لمعبد عشتار؛ (307) بهذا
يضم (السور) ثلاثة شارات،
بجانب الموقع (المقدس) لأوروك.»
تذييل : اللوح الحادي عشر من «هو الذي رأى كل شيء.» من سلسلة جلجاميش، تم نسخه طبق الأصل وحقق: مكتبة (قصر) آشور بانيبال، ملك العالم، ملك آشور.
هوامش
اللوح الثاني عشر
[من المرجح أن تكون الصيغة الأصلية للملحمة قد تمت مع ختام اللوح الحادي عشر الذي تستعيد نهايته بداية اللوح الأول - قارن السطور من 16 إلى 19 في اللوح الأول مع السطور من 303 إلى 305 من اللوح الحادي عشر - وإذا صح هذا الفرض يكون اللوح الثاني عشر في صورته الحالية قد أضيف إلى الملحمة على هيئة «ملحق» لا يتصل بها اتصالا عضويا ، لا من حيث المبنى ولا من حيث المعنى، بل إن بدايته التي نفهم منها أن أنكيدو لا يزال حيا تتناقض مع اللوح السابع الذي عرفنا منه قصة مرضه وموته ... ثم إن أنكيدو يموت في اللوح السابع الذي عرفنا منه قصة مرضه وموته ... ثم إن أنكيدو يموت في اللوح السابع كما يموت سائر البشر، فتبلغ الملحمة ذروتها المأسوية بثورة جلجاميش على الموت ورعبه منه، وانطلاقه بحثا عن الخلود المستحيل، أما في اللوح الثاني عشر فيحكم عليه بالبقاء في عالم الموتى السفلي بسبب خروجه على نظمه ومحرماته بعد أن نزل إليه حيا لإحضار أداتي سيده جلجاميش اللتين سقطتا فيه وهما البوكو والموكو؛ أي الطبلة والعصا أو المضرب الذي تدق به، ويؤكد ذلك الفرض أيضا أن اللوح الثاني عشر لا يخرج عن كونه ترجمة أكدية شبه حرفية للقسم الأخير من إحدى القصص السومرية التي تروى عن مغامرات جلجاميش وأنكيدو كما عرضناها في «التمهيد»، وهي قصة جلجاميش وأنكيدو والعالم السفلي، فضلا عن أن أنكيدو يقوم فيه بدور التابع والخادم لا بدور الصديق والأخ الوفي الذي شاهدناه على مدار الملحمة، مما حدا ببعض الترجمات الحديثة أن تستبعد هذا اللوح تماما! ...
وربما يساعد على تأكيد الفرض أن ألواح الملحمة الإحدى عشر لم تترجم عن أصول سومرية، وإنما هي خلق بابلي مستقل وأصيل؛ ولذلك يصعب حتى الآن أن نعثر على إجابة شافية عن هذين السؤالين: لماذا أضيف هذا اللوح إلى الملحمة ومتى أضيف؟ وهل يكفي أن يصور اللوح السابع أهوال العالم السفلي وأحوال الموتى فيه (انظر العمود الرابع من هذا اللوح) ليسوغ ذلك إضافة اللوح الثاني عشر للملحمة، وكأنه نوع من التوضيح لمصير أنكيدو بعد موته ونزوله إلى أرض اللاعودة (بالأكدية: ارصه - اشار - لاتارى)، أم أن قلق جلجاميش من الموت وانشغاله المهموم بمصيره يبرر الإسهاب في وصف العالم السفلي الذي سينتهي إليه، ومن ثم إضافة هذا اللوح؟! ويزيد الأمر تعقيدا كما يزيدنا حيرة أن حذف القسم الأول من القصة السومرية التي ذكرناها قد ضاعف من صعوبة فهم هذا اللوح، وإن كان بعض العلماء (مثل شوت وفون سودين) لا يستبعدون أن تكون الأجزاء الناقصة أو المشوهة من الملحمة قد ذكرت نبأ «البوكو والموكو» المفقودين، بحيث كان المستمع البابلي الذي تروى عليه الملحمة على علم بالأجزاء الناقصة من النسخ والشذرات التي بين أيدينا اليوم، وفي هذه الحالة أيضا لا ينسجم مضمون هذا اللوح المحير مع مضمون الملحمة وسياقها العام، ولا مع مضمون اللوح السابع بوجه خاص! وأيا كان الأمر فلا غنى عن تقديم هذا اللوح، والقارئ حر في أن يعده جزءا مكملا للملحمة أو إضافة غير ضرورية إليها ...] (1) «ليتني تركت
الطبلة (البوكو) في بيت النجار، (2) (إذن لكانت) زوجة النجار التي هي مثل أمي ... (3) وابنة النجار التي هي مثل أختي الصغرى ... (4) من يحضر لي الآن
طبلتي
من الأرض؟ (5) من يحضر لي
مضرب طبلتي (الموكو) من العالم السفلي؟» (6، 7)
قال له خادمه أنكيدو : (8) «سيدي، ماذا يبكيك، ولماذا يتوجع قلبك؟ (9) اليوم سآتيك
بطبلتك
من الأرض، (10) وسآتيك
بمضرب طبلتك
من العالم السفلي.» (11) قال له جلجاميش، قال
لخادمه
أنكيدو:
1 (12) «إذا أردت أن تنزل إلى العالم السفلي، (13) فعليك أن تأخذ بنصيحتي جيدا:
2 (14) لا تلبس ثوبا نظيفا، (15) وإلا عرفوا
3
أنك غريب (هناك). (16) لا تضمخ (جسدك) بالزيت الطيب (من العلبة)، (17) وإلا تجمعوا حولك بمجرد أن يشموا (رائحته). (18) لا ترم العصا (الخشبية) على الأرض، (19) وإلا تحلق حولك الذين ضربوا بها. (20) لا تحمل في يدك هراوة، (21) وإلا
ارتجفت
الأرواح أمامك. (22) لا تضع نعلا في قدميك. (23) لا تحدث جلبة في العالم السفلي. (24) لا تقبل زوجتك التي أحببت، (25) ولا تضرب زوجتك التي كرهت. (26) لا تقبل طفلك الذي أحببته، (27) ولا تضرب طفلك الذي سخطت عليه، (28) حتى لا يطبق عليك عويل الأرض.
4 (29) إن تلك التي تضطجع هناك، أم (الإله) نينازو التي تضطجع هناك، (30) لا يغطي كتفيها الناصعين رداء، (31) وثدياها عاريان مثل
وعائين (مجوفين).»
5 (32) لم يأخذ أنكيدو نصيحة سيده مأخذ الجد؛ (33) ارتدى ثوبا نظيفا؛ (34) فعرف (الموتى) أنه غريب هناك. (35) ضمخ نفسه بالزيت الطيب (من العلبة)؛ (36) فتزاحموا حوله بمجرد أن شموا رائحته. (37أ) رمى العصا الخشبية على الأرض؛ (38) فتجمع حوله الذين ضربوا (بهذه) العصا. (39) حمل هراوة في يده؛ (37ب)
فارتجفت
الأرواح أمامه. (40) وضع نعلين في قدميه، (41) وأحدث جلبة في العالم السفلي. (42) قبل زوجته التي أحبها، (43) وضرب زوجته التي كرهها، (44) قبل طفله الذي أحب، (45) وضرب طفله الذي سخط عليه؛ (46) عندئذ أطبق عليه عويل الأرض، (47) تلك المضطجعة هناك، أم (الإله) نينازو، المضطجعة هناك، (48) التي لا يغطي كتفيها العاريتين
6
رداء. (49) وثدياها عاريان، مثل
وعائين (مجوفين). (50) (
في ذلك الزمن القديم ) لم يرجع أنكيدو من الأرض (السفلى)، (51) لم يمسك به نمتار، ولم يمسك بها أساكو،
7 (وإنما) أمسكت به الأرض. (52) لم يطبق عليه حارس نيرجال القاسي،
8
وإنما أطبقت عليه الأرض. (53) لم يسقط في ساحة المعركة كما يسقط الرجال،
وإنما أطبقت عليه الأرض. (54) (في ذلك الزمن القديم) انطلق ابن نينسون
9 (بعيدا)،
وهو يبكي خادمه أنكيدو. (55) ذهب وحده إلى «الإيكور»، معبد إنليل، (وقال):
10 (56) «يا أبت إنليل اليوم سقطت (مني)
الطبلة
في الأرض، (57)
وعصا الطبلة
سقطت مني في الأرض. (58) أنكيدو الذي ذهب ليحضرها لي،
قد أطبقت عليه الأرض. (59) لم يطبق عليه نمتار، لم يطبق عليه أساكو،
بل أطبقت عليه الأرض. (60) لم يطبق عليه زبانية (رسل) نرجال القساة،
بل أطبقت عليه الأرض. (61) لم يسقط في ساحة المعركة كما يسقط الرجال،
بل أطبقت عليه الأرض.» (62) لم يرد عليه إنليل بكلمة (واحدة)،
ذهب وحده إلى معبد (سين):
11 (63) «يا أبتي سين! اليوم سقطت (مني)
الطبلة
في الأرض. (64) (و)
عصا الطبلة
سقطت مني في الأرض. (65) أنكيدو الذي ذهب ليحضرها لي،
قد أطبقت عليه الأرض. (66) لم يطبق عليه نمتار، لم يطبق عليه أساكو،
بل أطبقت عليه الأرض. (67) لم يطبق عليه زبانية نرجال القساة،
بل أطبقت عليه الأرض. (68) لم يسقط في ساحة المعركة كما يسقط الرجال،
بل أطبقت عليه الأرض.» (69) لم يرد عليه الأب «سين» بكلمة (واحدة). (70) ذهب وحيدا إلى معبد «إيا»:
12 «يا أبتي «إيا»! اليوم سقطت مني
الطبلة
في الأرض، (71) وعصا الطبلة سقطت مني في الأرض. (72) أنكيدو، الذي
ذهب
ليحضرها لي،
قد أطبقت عليه الأرض. (73) لم يطبق عليه «نمتار»، لم يطبق عليه «أساكو»،
بل أطبقت عليه الأرض. (74) لم يطبق عليه زبانية (رسل) نرجال القساة،
بل أطبقت عليه الأرض. (75) لم يسقط في ساحة المعركة كما يسقط الرجال،
بل أطبقت عليه الأرض.» (76) ما إن سمع الأب «إيا» هذا (الكلام)، (77) حتى خاطب نرجال البطل الفحل بقوله: (78) ««نرجال»، أيها البطل الفحل،
استمع إلي : (79) أناشدك أن تفتح ثقبا في الأرض، (80) كي تتسلل منه روح أنكيدو، (81) وينبئ أخاه عن
نظام الأرض .» (82)
امتثل «نرجال» البطل الفحل لطلب «إيا»، (83)
ولم يكد
يفتح ثقبا في الأرض، (84) حتى تسللت روح أنكيدو من الأرض كالريح. (85) تعانقا وجلسا معا، (86) وأخذا يتشاوران
ويعذبان
نفسهما (بهذا الحديث؟): (87) «قل لي يا صديق، قل لي يا صديق. (88) خبرني عن نظام الأرض التي شاهدتها!»
13 (89) - «لن أخبرك بشيء عنها يا صديق،
لن أخبرك بشيء عنها! (90) فلو أخبرتك (بشيء) عن نظام الأرض التي شاهدتها؛ (91) لوجب عليك أن تجلس وتبكي.» (92) - «ها أنا ذا أجلس وأبكي!» (93) - «
جسدي
الذي كنت تلمسه وقلبك مبتهج يا صديق، (94) تلتهمه الحشرات
كثوب
بال. (95)
جسدي
الذي كنت تلمسه وقلبك مبتهج، (96)
شوهه التعفن (والفساد)، وملأه التراب!» (97) عندئذ قال
جلجاميش ، وهو مقع
14
في التراب، (98) عندئذ قال
الملك جلجاميش ، وهو مقع في التراب:
15 (99) «هل رأيت الذي أنجب ولدا واحدا؟»
16 - «نعم رأيته: (100، 101) يبكي عليه ...» (102) - «هل رأيت الذي أنجب ولدين؟» - «نعم رأيته: (103) يأكل الخبز.» (104) - «هل رأيت الذي أنجب ثلاثة أولاد؟» - «نعم رأيته: (105) ... يشرب الماء.» (106) - «هل رأيت الذي أنجب أربعة أولاد؟» - «نعم رأيته: (107) إن قلبه فرح.» (108) - «هل رأيت الذي أنجب خمسة أولاد؟» - «نعم رأيته: (109) مثل ... طيب ... جنبه عار،
17 (110) ... يدخل القصر.» (111) - «هل رأيت الذي أنجب ستة أولاد؟» - «نعم رأيته: ...» (114) - «هل رأيت الذي أنجب سبعة أولاد؟» - «نعم رأيته: ...» (117) - «... الذي ... هل رأيته؟» - «نعم رأيته: (118) كشعار إلهي جميل مفعم بالخير ...»
18 [فجوة من حوالي ستة وعشرين سطرا.] (145) - «هل رأيت الذي
ضربته
صارية سفينة؟» - «نعم رأيته: (146) وما إن هبط إلى العالم السفلي، عن طريق المنزوع ...»
19 (147) - «هل رأيت الذي مات ميتة ...؟»
20 - «نعم رأيته: (148) إنه يرقد في
مضجعه
الليلي ويشرب ماء «
صافيا ».» (149) - «هل رأيت الذي قتل في المعركة؟» - «نعم رأيته: (150) إن أباه وأمه يسندان رأسه،
وزوجته
محنية
عليه.»
21 (151) - «هل رأيت الذي رميت جثته في البرية؟» - «نعم رأيته: (152) إن روحه تهيم قلقة في الأرض.» (153) - «هل رأيت الذي تركت روحه بلا راع (يرعاها)؟»
22 - «نعم رأيته: (154) لقد كتب عليه أن يأكل فضلات الصحون،
وكسرات الخبز الملقاة في الطريق.» (تم بحمد الله وتوفيقه.)
هوامش
صفحه نامشخص