ملامتیه، صوفیه و اهل فتوه
الملامتية والصوفية وأهل الفتوة
ژانرها
بل قال: «الفتوة والصدق بخراسان.» (2) نشأة الملامتية بنيسابور
ظهر مما ذكرناه من العلاقة الوثيقة بين رجال الملامة والصوفية وأصحاب الفتوة أن الملامتية لم تنشأ طفرة بنيسابور وبمعزل عن حركة التصوف العامة التي انتشرت في معظم أنحاء العالم الإسلامي في القرنين الثاني والثالث. كما أنها لم تقف بعد نشأتها عند الحدود الجغرافية التي ظهرت فيها، بل استمدت عناصرها من أصول سبقتها في تاريخ التصوف، فألبست هذه الأصول ثوبا خاصا وتعمقت في معانيها وجعلتها أساسا لتعاليمها، ثم شقت طريقها بعد نشأتها إلى أوساط أخرى صوفية وغير صوفية.
لذلك يجدر بالباحث في تاريخ مدرسة الملامتية بنيسابور أن يلم بحركة التصوف في خراسان عامة: كيف ظهرت هذه الحركة، ومن هم القائمون بها، وما صلة هذه الحركة بالاتجاهات الصوفية التي هي أقدم منها عهدا، ليحدد على سبيل التقريب مركز مدرسة نيسابور من مدرسة خراسان أولا، ومن مدارس التصوف الإسلامي الأخرى في نهاية الأمر. ثم لا بد له - من ناحية أخرى - من أن يلم بالحركات الصوفية التي ظهرت في القرن الرابع وما بعده ليتبين مدى تزاوج الأفكار الصوفية والملامتية خارج البيئة النيسابورية.
على أن نشأة الملامتية بنيسابور لم تتصل بالحركات الصوفية التي سبقتها في خراسان أو خارج خراسان فحسب، بل اتصلت - فيما أعتقد - بحركة أخرى ليست لها صبغة صوفية ولا دينية، وهذه هي حركة الفتوة التي لا تزال غامضة كل الغموض من هذه الناحية. بل ربما أتى كلام الصوفية عن الفتوة التي يعقد لها القشيري بابا خاصا في رسالته، نتيجة لهذه الصلة التي توثقت بين تعاليم الملامتية وتعاليم الفتوة في نيسابور قبل أن تحتل من تعاليم الصوفية خارج نيسابور محلا هاما. وهذه مسألة أعقد من سابقتها؛ لأن علمنا بالفتوة وأساليبها - بالرغم من كثرة ما كتب عنها - لا يزال ضئيلا. وهي حركة من أكثر الحركات في الإسلام خطرا، جديرة بأن يفرد لها الباحثون مؤلفا خاصا يوضح نواحيها التاريخية والاجتماعية والسياسية والصوفية.
لا نعرف من الوثائق التاريخية حركة صوفية في خراسان سابقة على حركة إبراهيم بن أدهم العجلي (المتوفى سنة 160ه) الذي تلقى أصول تصوفه عن أساتذة كلهم من رجال البصرة. ولا يعنينا في هذا الموضوع الذي نحن بصدده إبراهيم بن أدهم بقدر ما يعنينا أتباعه الذين عادوا بعد موته بالشام إلى مدينة بلخ وقاموا فيها بحركة واسعة، ونشروا عن طريق الوعظ والقصص الديني تعاليم أستاذهم في قبائل خراسان في النصف الثاني من القرن الثاني. وإنك لتجد أهم مميزات المدرسة البصرية في التصوف واضحة في مدرسة بلخ هذه؛ ففيها المبالغة في الزهد والعبادة والخوف، وفيها التزام آداب الفقر واعتبار التصوف أمرا باطنيا بحتا لا يؤبه فيه بالمظاهر الخارجية، كما تجد فيها محاربة الطقوس الدينية والتقاليد التي عظم أهل الشام من أمرها.
نعم لم يزد إبراهيم بن أدهم على تعاليم صوفية البصرة كثيرا، ولكنه تعمق - كما يقول الأستاذ ماسنيون - في بعض معانيهم: كالمراقبة التي أخذت معنى أدق من مجرد التأمل أو التفكير في النفس، وكالكمد الذي أحله ابن أدهم محل الحزن، وكالخلة التي أصبح معناها رضا الله الدائم عن العبد. ولكن تلامذة إبراهيم هم الذين أضافوا - تحت تأثير عوامل محلية إن صح هذا التعبير - كثيرا على ما قال به أستاذهم وما قالت به مدرسة البصرة، وأضافوا في شرح بعض الأفكار التي لم تكن قبل سوى قواعد بسيطة للسلوك في الطريق، إفاضة رفعت هذا الشرح إلى مستوى البحوث النظرية، فنرى شقيقا البلخي المتوفى سنة 194ه، وهو من أفضل تلامذة ابن أدهم، يفيض في الكلام عن التوكل الصوفي والرجوع إلى الله في كل شيء. نعم قال ابن أدهم وقال غيره بالتوكل على الله، والتوكل على الله من الأمور التي طالب الإسلام بها وحض عليها، ولكن شقيقا البلخي درس أسبابه وعلة تشريعه وما يترتب عليه من أثر في تنظيم سلوك المريدين، وانتهى من درسه إلى نتيجة ذات أثر بالغ في التصوف الخراساني عامة، وفي تصوف بعض ملامتية نيسابور بوجه خاص. إن قصة إبراهيم بن أدهم التي يبسطها أبو نعيم في ترجمة طويلة، هي قصة رجل راعى «التوكل» في كل خطوة خطاها، وإن تطوافه في العراق والشام طلبا للرزق الحلال الخالي من الشبهات لدليل قاطع على ثقته بالله وتوكله عليه. ولكن للتوكل الذي تكلم عنه تلميذه شقيق البلخي معنى آخر.
يرى شقيق أن التوكل معناه «طمأنينة النفس إلى موعود الله.» فإذا أردت أن تعرف مقدار صدق الزاهد في توكله فانظر بأي الأمرين يأخذ: أبما وعده الله، أم بما وعده الناس؟ وإذا كان الرجل لا يستطيع أن يزيد في حياته أو يغير من طبعه، فكيف يستطيع أن يزيد في رزقه؟ ولماذا يتعب الرجل نفسه في اقتناص أشباح زائلة، أو يتكالب على المكاسب التي قلما تخلص من الشبهات؟ أدت هذه الفكرة العميقة في «الجبرية» بشقيق إلى القول بالتسليم المطلق لإرادة الله والإذعان التام لقضائه وقدره، والتعطيل التام للإرادة الإنسانية، والرضا التام بما هو مقدر في علم الله. وكان من نتائجها قولان كان لهما أثرهما البالغ في تطور التصوف بعد عصر شقيق: أولهما ترك الكسب لأن كل المكاسب مسممة، وثانيهما تفضيل الفقر على الغنى. قال شقيق: «إذا صار الفقير يخاف من الغنى كما يخاف من الفقر فقد تم زهده.»
50
وقد أصبحت المقالة الأولى - مقالة ترك الكسب - من أهم مبادئ التصوف الخراساني منذ عهد شقيق، وعمل على نشرها من بعده تلميذه حاتم الأصم (237ه) وأحمد بن خضرويه (240ه) ومحمد بن الفضل البلخي (243ه). وممن عمل على نشرها في نيسابور أبو حفص الحداد الملامتي (264ه) وأحمد بن حرب (234ه). ويظهر أن المركز الصوفي القوي الذي اشتهرت به بلخ حقبة قصيرة من الزمن انتقل في النصف الثاني من القرن الثالث إلى نيسابور التي ظهر فيها رجال الملامتية الأولون. وقد كان لهؤلاء الرجال - كما سيتضح لك فيما بعد - صلة غير منقطعة بمشايخ مدرسة بلخ وبعض مشايخ بغداد عن طريق التلمذة أو الصحبة أو الزيارة، مما لا يدع مجالا للشك في وجود الاتصال الفكري بين رجال هذه المدارس كلها.
ولئن أراد السلمي وغيره من مؤرخي التصوف أن يرجعوا نشأة الملامتية إلى رجل بعينه كأبي حفص النيسابوري أو حمدون القصار (271ه) أو إلى الاثنين معا باعتبار أنهما واضعا الأسس الأولى لأصول هذه الفرقة، فإنني أرى أن من العبث أن نحاول رد جميع هذه الأصول إلى ما نعرفه من أقوال هذين الرجلين وحدهما، سواء في ذلك الأقوال التي رواها السلمي نفسه لهما في رسالته أو التي أوردها لهما غيره من مؤلفي كتب التصوف أو كتب طبقات المشايخ. بل من العبث محاولة رد جميع هذه الأصول إلى هذين الرجلين وإلى غيرهما من مشهوري رجال الملامتية الذين أخذوا عنهما مثل عبد الله بن منازل (329ه) وأبي عمرو بن نجيد (361ه) وأبي علي محمد بن عبد الوهاب الثقفي (328ه) ومحفوظ بن محمود النيسابوري (303ه) ومحمد بن أحمد الفراء (370ه) وغيرهم؛ فإن لأصول الملامتية التي استخلصها السلمي في رسالته صلة لا يمكن إنكارها بمقالات لغير هؤلاء الرجال أخذوها عنهم وفسروها في ضوء نظريتهم العامة. بل إن السلمي نفسه لم يدع أنه استمد أصول الملامتية من عبارات الملامتية وحدهم، بدليل أنه يذكر من متصوفة القرن الثالث يحيى بن معاذ الرازي وشاه الكرماني وسهل بن عبد الله التستري، إلى جانب أبي حفص النيسابوري وحمدون القصار وأبي عثمان الحيري، ويذكر من متصوفة القرن الرابع أبا بكر الواسطي وأبا عمرو الدمشقي وأبا بكر محمد بن علي الكتاني، إلى جانب ملامتية القرن الرابع أمثال أبي عمرو بن نجيد وابن منازل وأبي محمد عبد الله بن محمد الرازي وغيرهم. بل إنه ليكثر من ذكر أقوال أبي يزيد البسطامي، ويستشهد بها على أصول الملامتية حتى يخيل للقارئ أن أبا يزيد كان واحدا منهم.
صفحه نامشخص