ملك في منفى العمر

صلاح هلال d. 1450 AH
34

ملك في منفى العمر

ملك في منفى العمر

ژانرها

الخطة التي وضعها لحياته كانت تحمل شعار: الانطلاق في خطوط مستقيمة وليست متعرجة. •••

أشعر وأنا أصف زيجة فاشلة وكأني أقوم بكنس قش مبتل، ولكن يبدو أن والدي قد نجحا لفترة في التوصل إلى حلول وسطى لتحقيق بعض السلام الروحي؛ إذ لم يعودا يتعاركان، وعندما رزقا بالأطفال أصبح هناك شيء من التوازن في العلاقة رغم كل التوترات. كانت أمي سعيدة بالأطفال الذين جاءوا على التوالي، وتطورت محاولات أبي أن يكون زوجا جيدا إلى بذل جهد كبير كي يصبح أبا جيدا، وتكلل جهده بالنجاح، وأمكنهما تقاسم السعادة مع الأطفال، إلا أن وجود الحب بينهما في هذه الزيجة كان أمرا مستحيلا، وأبعدت المشاعر المختلفة كلا منهما عن الآخر وكأنهما يزدادان تماديا في موقفهما العنيد. عندما يفكر الناس بصورة متباينة تماما إلى هذا الحد تأتي لحظة يصل فيها المرء إلى قناعة بعدم جدوى النقاش أو تقديم التنازلات.

سارت الأمور في البداية بين جنبات البيت الكبير على التل في مسارها العادي إلى حد بعيد، وعشنا وكأننا أسرة عادية، فقد كنا نمضي ساعات طويلة يوميا في عزف الموسيقى، وبعد الغداء كان الأطفال الذين أصبحوا قادرين على التعرف على ورق اللعب يلعبون لنصف ساعة لعبة «الكنستة» مع والديهم. وقبل الغداء كان الأطفال يذهبون إلى ميدان الكنيسة أسفل التل لينتظروا هناك أباهم القادم من المكتب ليقضي ساعتين في البيت، وحينها كانت القرية كلها تبدو ألطف وأرق، ورائحة الطعام تتخلل الحدائق والشوارع؛ لأن الطعام كان يقدم تقريبا في كل البيوت في وقت الظهيرة تماما، وكان أبي يجلس أحد الأطفال في صندوق الحقائب وآخر على الدراجة وبقية الأطفال كانوا يمشون بجوارها. وبعد ظهر أيام السبت كان يأخذ الأطفال معه إلى ملعب كرة القدم، كذلك كان يخرج للتنزه معهم أيام الأحد.

ومن ملجأ الأطفال في مدينة بريجينتس، كان الفتى توني يأتي ليقضي عندنا العطلات كلها. وكان أبي يشرف على حديقة خضراوات وحديقة توت، وكان يصنع المشروبات. وعندما قالت أمي إنها لم تعد قادرة على الإشراف على أربعة أطفال وهم يسبحون في نفس الوقت في البحيرة، وإن على أبي أن يصحبها المرة القادمة، قام أبي ببناء حمام سباحة في حديقة البيت.

في البداية فكر في خطة متهورة؛ وهي بناء حمام السباحة فوق سطح مرأب السيارات، وأن يصل بينه وبين الشرفة الخارجية للمنزل بجسر معلق. وكان عنده من مثل هذه الأفكار دائما ما يكفي.

بالرغم من فارق السن بين والدي لم يكن أبي يقوم بدور السيد والمدير في البيت، بل كان يسعد كثيرا عندما لا يسأل عن رأيه؛ لم يكن ذا شخصية حازمة وصارمة. كانت أعمال البيت هي الشيء الوحيد الذي لم يكن يساعد فيه، مع أن زوجته عادت سريعا إلى وظيفتها؛ وذلك لأنه كان مقتنعا تمام الاقتناع بأن هناك - بموجب الدين والقانون - عملا للرجال وآخر للنساء. فالتنظيف كان عمل النساء، عدا تنظيف الحديقة، والطرق بالمطرقة عمل الرجال، عدا الطرق على اللحم لترقيقه.

وكان البيت منطقة عمل دائمة بسبب عمليات الإضافة أو التغيير المستمرة؛ إذ لم يتوقف أبي قط عن التفكير في التحسينات الممكن إدخالها على البيت أو الحديقة، وكان بوسعنا أن نحصل على كل ما نريد فيما يتعلق بهذا الجانب. إذا كان يحتاج أحدنا إلى غرفة إضافية، فلا ضير في ذلك؛ فهكذا ينشأ مكان إضافي للمعيشة، ومساحة إضافية ليقوم بأعمال التشطيبات اللازمة لها.

ودفع الشغف باكتشاف «العالم» أمي إلى تأجير غرف في بيتنا كل صيف، مع تفضيل الضيوف الألمان والهولنديين الذين يتمتعون بذكاء استراتيجي جعلهم يختارون هذا المكان بين بحيرة بودينزيه وغابة بريجينتس لقضاء عطلتهم. بعدما استكمل أبي بناء سطح بيتنا أصبحنا نؤجر غرفا على مدار العام كله؛ سواء لمعلمات زميلات لأمي، أو لشباب ليست لديهم متطلبات عالية.

في عام 1977 جاء «العالم» إلى أمي. كان لدينا مستأجر اسمه بيش، وكان اسمه الذي يعني سوء الحظ مناسبا له، كان شعره أسود، وكان يحب ارتداء اللون الأسود، ولم يعرف أحد عمله على وجه التحديد، ولكنه كان لطيفا وودودا. وكنا نحن الأطفال نأكل سكر الشعير الخاص به كلما تركه. عندما كنا نذهب إلى القداس ويطلب منا إحضار مجلات قديمة كان الآخرون يحضرون مجلة «فرنزيه تسايتونج» أو مجلة «شتادت جوتيس»، وكنا نحضر مجلتي «شتيرن» و«شبيجل» الألمانيتين؛ حيث كان السيد بيش يلقي بهما تحت الدرج مع الأوراق القديمة، وكنا نعود ومعنا المجلات من الكنيسة.

ذات يوم نزل بيش من غرفته أعلى المنزل وقال إنه سيضطر إلى الانتقال إلى سكن آخر، وأنه لا يملك ما يكفي لدفع قيمة آخر إيجار؛ لذا سيترك لنا المذياع والموقد. وافق أبي على العرض، وغادر المستأجر، وبعد أيام حضرت الشرطة للسؤال عنه للاشتباه في انتمائه لمنظمة «الجيش الأحمر» الإرهابية، فأخبرناهم بأنه قد رحل.

صفحه نامشخص