مقدمة
1 - الاستكشاف والكشف
2 - التعرف بالمكان وتعيين الزمان
3 - بعض الماضي المعروف
4 - المكشوف على ضوء المعروف
5 - نظم الجماعة في قمران وقوانينهم وعقائدهم
6 - الجماعة والنصارى
مقدمة
1 - الاستكشاف والكشف
2 - التعرف بالمكان وتعيين الزمان
3 - بعض الماضي المعروف
4 - المكشوف على ضوء المعروف
5 - نظم الجماعة في قمران وقوانينهم وعقائدهم
6 - الجماعة والنصارى
مخطوطات البحر الميت وجماعة قمران
مخطوطات البحر الميت وجماعة قمران
تأليف
أسد رستم
مقدمة
لا أذكر تماما متى بدأ اهتمامي بنصوص العهد القديم، ولكني أذكر أنني عندما قرأت نص الذيالوغوس الذي دار في القرن الثاني بين القديس يوستينوس الشهيد وبين تريفون اليهودي في أفسس لفت نظري ادعاء تريفون أن الآباء بدلوا في نصوص العهد القديم؛ لإثبات ما ذهبوا إليه، وكنت أكتفي آنئذ بالقول: إن الكلمة المتجسد لم يكن في أي وقت في الأوقات بحاجة إلى التبديل في النصوص لإثبات رسالته، وأنه لا بد أن يكون اليهود قد قرءوا النصوص نفسها التي أشار إليها السيد، وقرأها الرسل ورسل الرسل والآباء، ولا يخفى أن أقدم النسخ العبرية كانت آنئذ لا تزال من مخلفات القرن العاشر، وأن بردية ناش وما شاكلها التي عادت إلى ما قبل الميلاد كانت نتفا صغيرة من النصوص لا يجوز الاعتماد عليها كثيرا، وأما الترجمات اليونانية واللاتينية كالكودكس السينائي والكودكس الفاتيكاني، فإنها ترجمات مسيحية لا تفيد في البت في أمر التبديل، وهي متأخرة نسبيا لا تعود إلى ما قبل القرن الرابع بعد الميلاد. أما الآن وقد وجدنا «مكتبة» دينية عبرية كاملة تعود إلى القرنين الأخيرين قبل الميلاد، والقرنين الأولين بعد الميلاد، بفضل ما كشفه العلماء في جوار البحر الميت، فإننا أصبحنا أقرب بكثير إلى البت في أمر التبديل مما كنا عليه بالأمس.
ولكن ما كاد العلماء ينفضون الغبار عن دروج هذه المكتبة ويبدءون بقراءة نصوصها، ويطلعون على تراث اليهود الذين عاصروا السيد والرسل، حتى أطلق بعض المتسرعين العنان لأنفسهم، فركبوا سجية رءوسهم واختاروا لأنفسهم ما وافق فلسفتهم المادية أو ما طلبوا من شهرة مستعجلة. فقالوا: «إنه كان لأصحاب هذه الدروج «معلم صالح»، وإن هذا المعلم قاسى الصلب، ومات وقام من بين الأموات، وإنه ليس من جديد في سيرة المسيح»! وتاه مع هؤلاء في شعاب الباطل بعض التجار من رجال الصحف والنشر، فزينوا وزوقوا ابتغاء البيع والربح، وافتروا على علماء الكنيسة، واتهموهم بالجبن والخوف، وقالوا: إن بضاعة هؤلاء كالثياب المتداعية، كلما حيصت من جانب تهتكت من آخر! ولكن العلماء من رجال الكنيسة، ولا سيما آباء مدرسة علوم الكتاب في المدينة المقدسة، لم يعبئوا بشيء من هذا، بل شمروا عن ساعد الجد، واشتركوا في أعمال الكشف وفي إثبات النصوص المكشوفة واثقين جريئين.
وتكاثرت الكتب والمصنفات في موضوع دروج البحر الميت، حتى بلغت في عشر سنوات (1948-1958) ثلاثة آلاف أو أكثر، وظهرت في جميع لغات الغرب، ولكن شيئا من نوعها لم يظهر بالعربية قبل السنة 1957. ومع أننا لا ننكر على القس جايمس ولبي والسيد إبراهيم مطر والدكتور أنيس فريحة فضلهم في الكراس الذي نشروه في هذه السنة عينها عن «مخطوطات البحر الميت وجماعة قمران»، فإننا لم نجد فيه ما يروي ظمأ المؤمن والعالم في آن واحد.
وكان صديقنا العلامة الأب جورج فاخوري البولسي، مدير مجلة «المسرة» يرقب هذا الأمر نفسه، فلا يغفله طرفة عين ويحصي على رجال الإلحاد أنفاسهم ويتتبع عثراتهم، فشجعنا على كتابة هذه الرسالة، وتبرع بنشرها هدية لقراء المسرة، فشكرنا له وللرهبانية البولسية يقظتهم، واشتركنا معهم في ذكر يوستينوس الفيلسوف الشهيد ممجدين معه، بعد ألف وثمانمائة سنة، المسيح الذي لا يموت ملكنا وإلهنا، مؤكدين أن تريفون وأعقابه اليوم كانوا ولا يزالون على ضلال مبين.
بيروت، في عيد القديس يوحنا الدمشقي
4 من كانون الأول 1959
أسد رستم
فريق من العلماء من رجال الدين والدنيا اجتمعوا من بلدان متعددة للبحث في مخطوطات وادي القمران (في متحف القدس).
منظر عام للخرائب يرى بعدها البحر الميت ثم جبال مؤاب.
الفصل الأول
الاستكشاف والكشف
محمد الذيب وقطيعه
نحن في ربيع السنة 1947، عند شاطئ البحر الميت الغربي. وفي المكان الذي ينتهي أو يبدأ فيه وادي قمران، وعلى بعد كيلومترين ونصف الكيلومتر عن مياه البحر الميت، وأريحا ليست بعيدة عنا فهي إلى شمالينا، والمسافة بيننا وبينها لا تتجاوز الاثني عشر كيلومترا.
وقد جاء شاب ينتمي إلى عشيرة التعامرة الضاربة بين البحر الميت وبيت لحم، اسمه محمد الذيب، يرعى قطيعا من المعزى، والمعزى عندنا نفور كثير الحركة، يأبى الحبس في الزرائب، ويؤثر الانفراد في طلب الكلأ. وشردت ماعزة وتباعدت وتسلقت الصخور في طلب العشب الرطب؛ فتأثرها ذيبنا خشية التطوح والهلاك، وتسلق الصخور لأجلها، ولهث إعياء فجلس يستريح في ظل أحد الصخور الناتئة، والتفت يمنة ويسرة، فألفى فوهة فوق رأسه، فالتقط حجرا وقذف به إلى الداخل وأصغى، فإذا به يسمع خزفا يتكسر! فلاح له أنه رزق حسن يربحه بلا كد أو تعب، فأعاد الكرة فسمع الصوت نفسه، فأمسك بحافة الفوهة بأطراف أصابعه، وأطل بنفسه إلى الداخل، فإذا هو أمام كهف مملوء جرارا!
ومالت الشمس نحو المغيب، فعاد الذيب والماعزة إلى القطيع، وعاد القطيع إلى الحظيرة، وعاد محمد في المساء إلى الأهل والخلان، وتحدث إليهم عما شاهد في الكهف فلم يصدقوه، وفي الصباح التالي جاء أحدهم يقول لمحمد: أرني ما رأيت، فذهبا توا إلى الكهف ودخلا إليه، فوجدا عددا من الجرار سالمة، وعددا كبيرا منها مكسرا، فكشفا عن السالم منها، فإذا بعضه فارغ والبعض الآخر يحتوي على دروج من الرق، وبعض هذه مغلف بقماش من الكتان قديم.
1
والدرج قرطاس طويل يكتب فيه ويلف.
وأخذا بعض هذه الدروج، وصعدا بها إلى بيت لحم، وعرضاها على أحد أشياخها، فوجدها غير عربية، فأشار عليهما أن يعرضاها على المعلم إسكندر خليل تاجر العاديات في بيت لحم، فابتاعها «كندو» منهما وأبقاها في حانوته زمنا يسيرا، ثم أخذها إلى القدس، وأطلع عليها أحد أفراد ملته، ملة السريان القدماء، المعلم جرجس شعيا. فأشار هذا بالاتصال بمطران الطائفة إثناسيوس يشوع صموئيل في دير مار مرقس في شارع النبي داود، والدير قائم، في عرف السريان، في المحل نفسه الذي قام فيه «بيت مريم أم يوحنا الملقب مرقس» حيث كان الرسل والمؤمنون يجتمعون؛ ليصلوا بعد القيامة.
حمل كندو درجا كبيرا، وذهب ورفيقه جرجس، وعرضه على المطران صموئيل، فألفاه المطران مكتوبا بالعبرية. وبعد أن أحرق قطعة صغيرة منه ثبت له أن الدرج مكتوب على رق، فقال إنه يبتاع الدرج وغيره من نوعه. وفي السبت الأول من تموز عاد التعامرة إلى بيت لحم؛ ليبيعوا منتجات قطعانهم، وعاد معهم أصحاب الدروج، فهتف كندو إلى المطران في دير ما مرقس ينبئه بقدومهم وبوصول دروج جديدة، فأجاب المطران: «أرسلهم»، فلما وصلوا إلى الدير لم يسمح لهم بالدخول، فعادوا إلى بيت لحم، ومنها إلى مضاربهم. ويرى بعض رجال الاطلاع أن التعامرة باعوا دروجهم هذه أو بعضها، قبل خروجهم من بيت المقدس إلى تاجر عاديات يهودي، فاستقرت في الجامعة العبرية.
المطران صموئيل ينشر درجا.
وبعد ذلك بمدة يسيرة عاد التعامرة إلى سوق السبت في بيت لحم، فاقتادهم كندو إلى بيت المقدس واتصل بجرجس، وذهب الجميع إلى الدير وقابلوا المطران، فابتاع منهم دروجا خمسة بمبلغ يعادل مائة وخمسين دولارا أميركيا. ونزل جرجس إلى وادي قمران وزار الكهف، ونزل بعده الأب يوسف أحد رهبان دير مار مرقس، وشاهد جرة سليمة قائمة، ولكنه لم ينقلها إلى الدير نظرا لوزنها وصعوبة المسلك وحرارة الجو. وشاور المطران في أمر هذه الدروج من رأى فيهم الاستعداد للبت في أمرها، فاعتبرها أحد موظفي دائرة الآثار الفلسطينية، أسطفان أسطفان، مزورة لا قيمة لها، أما الأب فان در بلويغ
Van der Ploeg
الهولندي، فإنه رأى في أحد هذه الدروج نص نبوة أشعيا. وفي أوائل أيلول أخرج المطران الدروج إلى سورية، وأم حمص المقر البطريركي السرياني، فأشار عليه البطريرك بعرضها على أستاذ اللغات السامية في جامعة بيروت الأميركية، فاتجه المطران شطر بيروت، ولكن الدكتور أنيس فريحه كان لا يزال في مصيفه، فعاد المطران صموئيل إلى القدس، وعاد إليها من الولايات المتحدة الدكتور سوكينيك
Sukenik
أستاذ الآثار في الجامعة العبرية، وما كاد يعلم هذا بما جرى في أثناء غيابه حتى تيقظ للأمر، وعرضت عليه بضعة دروج وجرتان، فابتاعهما للجامعة العبرية.
وفي ذلك اليوم نفسه اتخذت هيئة الأمم المتحدة قرارها بتقسيم فلسطين، فاضطرب حبل الأمن في البلاد، وتطورت الأحوال من سيئ إلى أسوأ، وبدأت المواصلات تتعذر في القدس نفسها، فاحتار المطران في أمره، ولكن سريانيا آخر، كيراز، هب لمعونة المطران، فأطلع الدكتور سوكينيك على درج نبوة أشعيا، وكان سوكينيك آنئذ واحدا من شرذمة ضئيلة من العلماء الذين يرجع إليهم في الكتابات العبرية القديمة، وكان قد عني مدة من الزمن في درس أسماء الموتى التي وردت على توابيت اليهود في أوائل النصرانية في فلسطين، وما إن اطلع على خط الدروج المكشوفة حتى تيقن أنها تعود إلى حوالي بدء التاريخ المسيحي، ولكن اكتشافه هذا جاء في أثناء الاضطرابات الدامية، فلم يجد نفعا من حيث التيقظ والسعي لإنقاذ هذه الآثار من يد العابثين.
وفي شهر شباط من السنة 1948 حاول المطران صموئيل الاتصال برجال المدرسة الأميركية للبحث والتنقيب في القدس؛ ليأخذ رأيهم فيما لديه من المخطوطات، وكان مديرها العام لتلك السنة الأستاذ ميلر بوروز
Miller Burrows
غائبا في بغداد، فنظر في أمر الدروج المعروضة أحد المقيمين المساعدين - الدكتور يوحنا تريفر
John Trever - وكان لحسن الحظ حديث العهد في البحث والتنقيب، فلم يعبه شك الخبراء المتقدمين في السن، وكان لديه نسخ فوتوغرافية عن بردية ناش
Nassh
أقدم الآثار الخطية العبرية التي يعود عهدها إلى القرنين الأخيرين قبل الميلاد، فلمس تشابها شديدا في الخط بين دروج المطران وبين هذه البردية! فصور بعض مقاطع من درج نبوة أشعيا، وأرسلها إلى الدكتور وليم أولبرايت
Albright
أحد رجال الاختصاص في آثار فلسطين في الولايات المتحدة، فأجاب أولبرايت، في الخامس عشر من آذار السنة نفسها، أن ما شاهد من الدروج هو أقدم من بردية ناش، فدخل بذلك درس هذه الدروج في دور جديد.
مطاردة في اليهودية
وتنسمت مديرية الآثار الفلسطينية وقائع هذه الدروج، وعلمت بما قاله فيها سوكونيك وآلبرايت، فراحت تسعى بدورها للتعرف بالمكان الذي وجدت فيه الدروج، وبالأشخاص الذين عثروا عليها واتجروا بها، وكانت الأزمة السياسية وما رافقها من اضطرابات تشتد وتتحرج. وانسحب البريطانيون من البلاد وأنهوا الانتداب عليها، فضاعت هيبة الحكم، وقل نفوذ مديرية الآثار ، وكاد معينها ينضب، وبالرغم من هذا كله فإن المدير الإنكليزي جورج هاردنغ
Harding
الذي كان لا يزال في منصبه، بذل مع معاونيه جهودا جبارة للقيام بالواجب الإداري والعلمي، وفي أوائل السنة 1949 تعرفوا «بكندو» في بيت لحم، وابتاعوا منه ما تبقى لديه من فتات الدروج بمعدل ليرة إنكليزية عن كل سنتيمتر مربع، فقبض كندو في صفقة واحدة ألف ليرة إنكليزية، وشاع آنئذ أن المطران صموئيل الذي كان قد حمل الدروج إلى الولايات المتحدة يتطلب مليونا من الدولارات مقابل ما حمل!
السمسار كندو.
وأوفدت هيئة الأمم المتحدة لجنة لمراقبة سير الأمور في فلسطين، فكان بين أعضائها نقيب بلجيكي اسمه فيليب ليبنس
Lippens ، وكان هذا النقيب قد درس في معهد العلوم الشرقية في جامعة لوفان قبل التحاقه بالجيش، فصمم أن يغتنم فرصة وجوده في فلسطين؛ ليخدم العلم في قضية مخطوطات البحر الميت، فاتصل باللواء أشتون في جيش الأردن، واستعان بالأنفار البدو وغيرهم للتعرف بالضبط بالمكان الذي وجد فيه محمد الذيب دروجه، فتم له ذلك في أيام معدودة، وتيسر لمديرية الآثار وللعلماء الوقوف على تفاصيل الكشف عن هذا المخبأ، والتثبت من صحة قدمه.
وقامت في شهر كانون الثاني من السنة 1949 لجنة رسمية مؤلفة من مدير الآثار، ومن رئيس معهد أبحاث الكتاب المقدس الدومينيكي في القدس، الأب دي فو
R. de Vaux ، وغيرهما، وما إن أطلوا على الكهف حتى أسفوا لما شاهدوه من آثار العبث والتخريب اللذين قام بهما التعامرة، ورسل المطران وعملاؤه! فإن هؤلاء كانوا قد شقوا مدخلا جديدا للكهف، ونشروا ترابه في كل مكان، وألقوا إلى الخارج بكل ما نبذوا! وأكب العلماء على التفتيش عما تبقى، فجمعوا ألف فتيتة من الرق والبردي وكميات من فتائت الخزف، وسراجا رومانيا، و«لفافة» سجاير، وقطعا من الكتان الذي كان قد استعمل في لف الدروج لوقايتها، وتبين بعدئذ أن لفافة السجاير كانت لجبرا أحد رجال المطران، فتيقن العلماء أن دروج المطران تمت بصلة إلى هذا الكهف عينه.
وبينما كان رجال العلم يسعون للتثبت مما جرى كان التعامرة يفتشون عن كهوف أخرى لعلهم يغنمون بشيء جديد، وكانوا يعرفون «برية اليهودية» معرفة تامة؛ لانتشارهم في وديانها ومنعطفاتها يوما بعد يوم في طلب الكلأ للماشية، فكشفوا مخبأ في خربة المرد في وادي المربعات بعيدا عن الكهف الأول إلى الجنوب، ثم كشفوا كهفا آخر بالقرب من الكهف الأول، وظل التعامرة سباقين في غالب الأحيان، وظل العلماء مدة من الزمن لاحقين متأخرين متهافتين، يشترون ما يجده التعامرة، ولكنهم ثابروا على التفتيش، وساروا به سيرا علميا منتظما، فكشفوا بدورهم كهوفا أخرى، وعند السنة 1956 بلغ عدد كهوف المخطوطات المكشوفة في ساحل خربة قمران وحدها أحد عشر كهفا، وغير واحد في وادي المربعات، وخربة المرد.
نموذج من الجرار التي وجدت فيها الدروج.
كهوف قمران ومحتوياتها
وقد رقم العلماء هذه الكهوف تسهيلا لتعيينها؛ فالكهفان الأول والثاني يقعان في الصخور بين وادي الدبابير ووادي غوفات زبين. وقد وجد في الكهف الأول درج كامل لنبوة أشعيا، وشرح على حبقوق ونظام جماعة قمران. وقد عني بنشرها جميعها، بين السنة 1950 و1951، أساتذة المعهد الأميركي للأبحاث الشرقية.
2
ووجد أيضا في هذا الكهف نفسه درج نظام الحرب المعروفة بحرب أبناء النور ضد أبناء الظلمة، ومجموعة من الترانيم، وشيء من نبوة أشعيا. وقد أعدها جميعها للنشر الدكتور سوكنيك
Sukenik
الأستاذ في الجامعة العبرية، فنشرت بعد وفاته في السنة 1955.
3
ومن محفوظات هذا الكهف أيضا شرح بالآرامية لفصول سفر التكوين الخمس عشرة الأولى، وهو مخروم بال. وقد بدأ بنشره الأستاذان أفيجاد
Avigad
ويادين
Yadin
بالعبرية والإنكليزية في السنة 1956.
4
أما الفتائت التي وجدت منثورة هنا وهنالك في هذا الكهف الأول، فإنها تعد بالمئات. وقد عني بها الأبوان «برتلماوس وميليك»، ونشراها مع غيرها من شتى الآثار في المجلد الأول من سلسلة أوكسفورد في السنة 1955.
5
وكشف التعامرة الكهف الثاني في شباط السنة 1952 بالقرب من الكهف الأول، ولحقهم العلماء إليه، فلم يجدوا فيه سوى فتائت منثورة من نوع ما وجد في الكهف الأول.
6
سلسلة الصخور التي تقع فيها الكهوف.
وحز سبق التعامرة في صدور العلماء، فقاموا بين العاشر والثاني والعشرين من آذار سنة 1952 بحملة منظمة اشتركت فيها مدرسة الأبحاث الكتابية
Ecole Biblique
الفرنسية، ومدرسة الأبحاث الأميركية، وإدارة المتحف الفلسطيني، فمشط العلماء جميع الصخور المطلة على البحر في جبهة طولها ثمانية كيلومترات امتدت من رأس الفشخة في الجنوب حتى حجر السباع في الشمال، وأسفر هذا الجهد المضني عن كشف عشرين كهفا قديما مشحونة بالخزف خالية من المخطوطات، ولم يوفق العلماء إلا إلى كهف واحد في أقصى الشمال هو ذو الرقم الثالث، فيه درجان من النحاس مخطوطان بالحروف العبرية المربعة.
7
والدرجان النحاسيان يحملان تعليمات عن كنوز معينة خبئت في زمن مجهول في أماكن معينة؛ فقد جاء في العمود الأول وفي السطر 6-8 أنه يوجد في الصهريج الكبير في وسط الدار الخارجية 900 مثقال، ويوجد في الصهريج عند أسفل الحصن، في الجهة الشرقية، في مكان محفور في الصخر 600 سبيكة من الفضة (ع2س-10-12)، ويوجد تحت زاوية الرواق الجنوبية عند قبر صدوق وتحت الفلستر آنية بخور من خشب الصنوبر، وآنية بخور من خشب الأكاسية (ع11 س1-4)، ولو أحصينا جميع كميات الذهب والفضة الواردة في هذين الدرجين النحاسيين لبلغلت مئتي طن.
8
ويشك العلماء في هل تنبئ هذه المعلومات بأخبار كنوز حقيقية أو لا.
وفي أواخر صيف السنة 1952 التف لفيف من التعامرة حول أحد شيوخهم يتسامرون، ويتبادلون أطراف الحديث حول هذه الآثار القديمة التي درت عليهم أرباحا بغير حساب، فذكر الشيخ أنه منذ زمن بعيد حين كان لا يزال في مقتبل العمر اتفق له أن طارد حجلا جريحا، ففر من أمامه، واختفى فجأة في ثقب في الصخر لا يبعد كثيرا عن خربة قمران، وأنه تأثره فوجد بعد جهد جهيد أن الثقب مدخل لكهف قديم، فالتقط الحجل وحمل معه سراجا قديما مصنوعا من الخزف، وتلقى الشبان التعامرة هذا الحديث بلهفة وشوق زائدين، ولحظوا بدقة الأماكن التي أشار إليها الشيخ في حديثه، ثم تحركوا آخذين معهم كيسا من القنب وحبالا ومشاعل قاصدين قمران، وما إن وصلوا إلى الهدف حتى تدلوا بالحبال ودخلوا الكهف وبدءوا يحفرون أرضه، وما إن أزاحوا عدة أمتار مكعبة من التراب الذي تراكم في أرض الكهف حتى عثروا على ألوف من فتائت المخطوطات، وبدأ التعامرة بعد ذلك يتوافدون على المؤسسات العلمية في المدينة المقدسة يعرضون ما وجدوا، ويضللون فيما أبدوا من معلومات عن الأماكن التي وجدوا فيها بضاعتهم الجديدة.
ولكن أعين زملائهم كانت قد تفتحت، وكان الحسد قد أخذ من هؤلاء كل مأخذ، فعلم العلماء أين وجدت البضاعة بالضبط. وفي الثاني والعشرين من أيلول سنة 1952 زار الأبوان دي في وميليك كهف الحجل فأطلقا عليه الرقم أربعة، وأمسى الكهف الرابع، وهو لا يبعد كثيرا عن خربة قمران، بل يطل عليها من الصخور الجنوبية الغربية، وعمل العالمان في أرضه زهاء أسبوع كامل بالتعاون مع مديرية الآثار والمتحف، فعثروا على بضع مئات من الفتائت، ثم أدى التفتيش في الصخور المجاورة إلى الكشف عن كهف جديد دعي الكهف الخامس، وإلى العثور على اثنتي عشرة مخطوطة جديدة، وكشف أيضا عن كهف جديد في أسفل المضيق نفسه دعي الكهف السادس، وعثر فيه على وسقة جديدة من الفتائت.
واستمسك التعامرة بما وجدوا في الكهف الرابع، وضنوا به طالبين أسعارا مرتفعة غير عارضين للبيع سوى بعض ما وجدوا بين آونة وأخرى. واستمر العرض حتى صيف السنة 1956، واشتدت المساومة، وشعر العلماء المحليون أنه لا بد من الاستعانة بأموال من الخارج لإرضاء التعامرة، فناشدوا المؤسسات العلمية في العالم أجمع وطلبوا المعونة المالية منها بعد اعترافهم بفضل الحكومة الأردنية، وإنفاقها الذي كان أكثر مما تسمح به ظروفها، فلبت النداء كل من جامعة ماغيل
McGill
الكندية وجامعة مانشستر البريطانية وجامعة هيدلبرغ الألمانية وكلية ماكورميك
McCormik
اللاهوتية في شيكاغو ومكتبة الفاتيكان، فوجد المال المطلوب، وباع التعامرة البضاعة، فتجمعت كلها في متحف فلسطين في بيت المقدس.
وكان لا بد من التعاون العلمي الفني أيضا لإظهار ما حوته هذه الآثار الجديدة، فتألف فريق علمي جديد من الأسقف سكيهان
Skehan
الأستاذ في جامعة واشنطون الكاثوليكية، والدكتور كروس
Cross
الأستاذ في كلية ماكورميك اللاهوتية، والدكتور أليغرو
Allegro
الأستاذ المساعد في جامعة مانشستر، والأب ستاركي
Starcky
من مركز الأبحاث العلمية في باريز، والأستاذ ستروغنل
Strugnell
من كلية يسوع في جامعة أوكسفورد، والأستاذ هونزنغر
Hunzinger
مندوب جامعة غوتنغن
Gottengen ، والأب ميليك من مركز الأبحاث العلمية في باريز، وأسند إلى كل من هؤلاء عمل يقوم به ليتم النشر على أكمل وجه. وستظهر أبحاثهم جميعا في سلسلة من الدراسات تدعى اكتشافات في برية اليهودية
Discoveries in the Judaean Desert
تعنى بها مطبعة جامعة أوكسفورد.
وفي ربيع السنة 1955 اهتدى العلماء الباحثون المنقبون إلى كهوف أربعة أخرى (السابع حتى العاشر) وذلك في الصخور المطلة على خربة قمران، ولكنهم لم يجدوا فيها سوى بعض فتات من الخزف تحمل بعض الألفاظ ونزر يسير من فتائت المخطوطات. وفي مطلع السنة 1956 عثر التعامرة على كهف في أقصى الشمال هو الحادي عشر، يوازي في أهمية محتوياته الكهفين الأول والرابع؛ فقد ظهر فيه درج صغير جميل يحتوي على جزء من كتاب اللاويين، ومقطوعات كبيرة من رؤيا أوروشليم الجديدة، ودرج من المزامير ونص لسفر أيوب بالآرامية.
9
كهوف المربعات
ولم ينفرد وادي قمران بالكهوف التاريخية؛ فقد عثر العلماء على عدد منها في وادي المربعات أيضا. ووادي أو «درجة» المربعات يقع على بعد خمسة وعشرين كيلومترا عن أوروشليم، إلى الجنوب منها، وعلى بعد خمسة عشر كيلومترا عن خربة قمران وواديها، إلى الجنوب الغربي منهما، وهو ينفتح على وادي التعامرة وينفذ معها إلى البحر في مضيق من الصخر كوادي قمران ووادي النار. وكان التعامرة قد حملوا إلى المؤسسات العلمية في بيت المقدس، في صيف السنة 1951، شيئا من المخطوطات من كهف في وادي المربعات، فأعد العلماء العدة لحملة علمية صغيرة، وقاموا إلى وادي المربعات في مطلع السنة 1952، فإذا بهم هذه المرة ينقبون في مجموعة من الكهوف تعلو سطح البحر الميت، وتعلو أيضا كهوف قمران، وتوازي بارتفاعها سطح البحر المتوسط، وهي تطل على واد سحيق ينخفض تحتها إلى عمق مائتين وخمسين مترا. وكهف المربعات الرئيسي وعر المسلك لما تساقط من سقفه وتهدم من جوانبه، طوله ستون أو سبعون مترا، وعرضه ثلاثة أو أربعة أمتار، وارتفاع سقفه ثلاثة أمتار، وأدى تساقط الصخور من سقف الكهف الثاني إلى سد مدخله، وقل الأمر نفسه عن الثالث وغيره.
وأشرف على أعمال هذه البعثة العلمية كل من المستر جيرالد هاردنغ
Gerald Harding
مدير العاديات آنئذ في شرق الأردن، والأب رولان دي فو رئيس مدرسة الأبحاث الكتابية الفرنسية في بيت المقدس، وأول ما لفت الأنظار من الناحية الأثرية صهريج للماء عند مدخل الكهف الأول يعود إلى العهد الروماني، ولكن أعمال الحفر في ركام هذا الكهف أظهرت بوضوح أنه آوى الإنسان منذ العصر الحجري الخالكوليثي؛ أي: منذ الألف الرابع قبل الميلاد (4000-3000ق.م.). فقد عثر المنقبون على فئوس وسكاكين ومكاشط وسهام حجرية، ومثاقب عظمية، وما هو أهم من هذه وتلك، على أدوات خشبية قلما تبقى شيء منها من هذا العصر البعيد في أي مكان آخر، وأهم هذه الأدوات الخشبية مساس حمار قد يظنه الناظر إليه لأول وهلة أنه أعد بالأمس، ومقبض مقشر لا يزال خشبه لماعا، ولا تزال سيوره الجلدية التي كانت تشد نصله الحجري محفوظة مرتبطة به، وعثر المنقبون في الكهف الثاني على إبرتين برونزيتين، وعل قارورة من الألبصطر الشفاف، وعلى خنفسة من الحجر الثمين تحمل زخرف عصر الرعاة؛ أي: زخرف القرنين الثامن عشر والسابع عشر قبل الميلاد.
مقبض المقشر وسيوره.
وكشفت أعمال الحفر في كهوف المربعات الأول والثاني والثالث عن آثار تعود إلى العصر الحديدي في القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد مما يدل على استمرار لجوء الإنسان إليها حتى ذلك العصر. ودلت كثرة الآثار الرومانية الباقية في هذه الكهوف على أن سكانها، في عهد الرومان، كانوا أكثر عددا من ذي قبل، وأنهم استمروا في الإقامة فيها مدة طويلة، فكسرات الفخار والخزف الرومانية كثيرة جدا، والسرج الباقية تعود بوضوح إلى أواخر القرن الثاني بعد الميلاد، والأدوات والأواني المعدنية كثيرة أيضا، بينها رءوس ومعاول ورماح برونزية، ورءوس حراب حديدية، إحداها بشكل ورق الغار، وعدد كثير منها مثلث الحدود، وبين الأدوات سكاكين ومنجل ومبسط ومسامير وإبر عديدة ومفتاح متعدد الزوايا، وتنوعت الآثار الخشبية: فهنالك الكئوس والصحون والأمشاط والأزرار والملاعق، ومما عثر عليه في هذه الكهوف بقايا أقمشة مزركشة بدقة وخفاف من النعل، ووجدت في هذه الطبقة عينها مجموعة من النقود يعود معظمها إلى زمن ثورة اليهود الثانية (132-135) بعد الميلاد.
ومعظم آثار المربعات الخطية وجد في كهفها الثاني. وقد سلم بعض هذه الآثار، ولكن معظمها عبثت به حيوانات الكهف ولا سيما جرذانه؛ فإن هذه لم تعبأ بقدسية الدروج ولا بفائدتها العلمية، فراحت تبطن وكورها بقطع من رقوق المخطوطات وبرديها. وأمست أعمال الكشف في دور من أدوارها تفتيشا وتنقيبا عن وكور هذه الجرذان لاستعادة ما نقل إليها على مر العصور من أجزاء المخطوطات. وكانت قد تراكمت في أرض هذا الكهف الثاني كميات من سماد الطيور والحيوانات الصغيرة، فنقلها التعامرة إلى الأسواق المجاورة لبيعها، ولا يستبعد أن يكون اليهود قد سمدوا بياراتهم في ضواحي بيت لحم بمخطوطات عظيمة الأهمية لهم قبل غيرهم، فجاءت زراعتهم خاسرة.
والمدهش بين آثار المربعات الخطية هو بردية حملت كتابتين عبريتين، إحداهما تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد؛ أي: إلى مائتي سنة قبل الكتابة على كسرة لاخش
Lachish ، وعلى الرغم من محاولة إزالة هذه الكتابة القديمة لترقيم بعض الأسماء المستحدثة، فإن بعض الكلمات القديمة لا تزال مقرية، تدل على أنها تحية من رسائل القرن الثامن! وعثر المنقبون على عدد من الكتابات الوجيزة بالعبرية أو اليونانية على كسرات من الخزف، كما وجدوا على برديتين يونانيتين عقد زواج، ومصالحة بين زوجين هما «إلياس» و«صالومة». وقد جاءت هذه المصالحة مؤرخة في السنة السابعة لحكم أدريانوس؛ أي: في السنة 124 بعد الميلاد. وهنالك أيضا سند دين ناقص يعود إلى عهد الإمبراطور كومودوس (180-192)، ومما وجد في هذا الكهف عينة تسجيلات مدنية وعسكرية مكتوبة على الرق تتضمن أسماء يهودية شائعة آنئذ «كيوسيفوس ويشوع وشاوول وسمعان» تقابلها أرقام وعلامات معينة.
ويظهر من كيفية تأريخ بعض الرسائل التي وجدت في هذا الكهف وغيره من كهوف وادي المربعات الظرف الذي أدى لسكنى هذه الكهوف في القرن الثاني بعد الميلاد: فبعض هذه الرسائل مؤرخ في «زمن خلاص إسرائيل بخدمات سمعان بن كذبة أمير إسرائيل»، والإشارة هنا، هي بلا ريب، إلى ثورة اليهود الثانية في السنوات 132 إلى 135 بعد الميلاد، وسمعان بن كذبة نفسه أصدر اثنتين من هذه الرسائل، فقال في إحداهما: «سمعان بن كذبة إلى يشوع بن جلجلة والرجال الذين بمعيتك، سلام، لتشهد السموات على أنه إذا قام أحد من الجليليين الذين تحمي بما يزعج، فإني سأقيد قدميك كما قيدت ابن أفلول» (سمعان بن كذبة).
10
ونصوص الأسفار التي وجدت في المربعات جميعها مسور
Massoretic
أي: مضبوط بالشكل العبري المعروف. وقد آثرنا هذا اللفظ العربي للتدليل على معنى اللفظ العبري «مسورة»، ولعل الأصل واحد في الحالتين: فالسور عندنا هو اللفظ الدال في القضية المنطقية على كمية أفراد الموضوع، والقضية المسورة هي عندنا عكس القضية المهملة. وورود هذه النصوص مسورة يدل على أن تسوير النصوص العبرية على هذا الشكل كان قد أصبح متفقا عليه معمولا به عند السنة 132 بعد الميلاد. وأكمل هذه النصوص درج يتضمن النبوات الاثنتي عشرة. وقد أثرت فيه الرطوبة طوال العصور، فاسود وأمسى لا يقرأ إلا على ضوء الأشعة دون الحمراء.
وعثر المنقبون أيضا على مقاطع من أسفار التكوين والخروج والتثنية ونبوة أشعيا، وكانت هذه جميعها مرمية في زاوية مهملة من زوايا الكهف الثاني. وهنالك شقة صغيرة تحمل الآيات الرابعة إلى التاسعة من الفصل السادس من سفر التثنية، وكانت تكتب وحدها بهذا الشكل لتصبح حجابا أو تعويذة. وهنالك أيضا مخطوطات أخرى متأخرة بينها بعض رسائل عربية كتبت على ورق قطني، تعود إلى القرن العاشر بعد الميلاد.
11
وحمل التعامرة من هذه المنطقة نفسها، منطقة وادي المربعات، إلى بيت المقدس في منتصف تموز في السنة 1952 مخطوطات أخرى لا يمكن تعيين المكان الذي وجدت فيه بالضبط، وتضمنت هذه المجموعة رسائل تجارية وشرعية بالعبرية والنبطية.
12
تعود إلى أيام الثورة الثانية أيضا، 135 بعد الميلاد، وهاك تعريب إحداها بالضبط:
في العشرين من أيار في السنة الثالثة لتحرير إسرائيل في كفر ببايو، قال هدر بن يهوذا الكفربباي إلى أليعازر بن أليعازر الساكن معه في المكان نفسه: لقد بعتك اليوم بإرادتي بيتي الذي يتصل من الشمال بداري؛ لتتمكن من جعله يتصل ببيتك، وليس لك أي حق علي في الدار المذكورة . وقد بعتك بمبلغ قدره ثمانية دنانير توازي تتزا دراخمتين هما كامل الثمن؛ ولأليعازر كل الحق في شراء هذا البيت حجارته وخشبه وأثاثه وكل ما فيه ... وأرضه. وحدود هذا البيت الذي تشتريه يا أليعازر هي شرقا ملك يوناتان، وشمالا الدار، وغربا وجنوبا ملك البائع. وليس لك أي حق علي في داري وأنا هدر لا أدخل ولا أخرج منذ اليوم أبدا.
وأنا صالومة بنت سمعان وزوجة هدر لا أعترض على بيع البيت المذكور أبدا، وأن ما نملكه اليوم وفي المستقبل سيكون ضمانا لك.
مرة واحدة، وهؤلاء هم الموقعون: كتبه هدر بن يهوذا. كتبته صالومة بنت سمعان، أليعازر بن متائيا، سمعان بن يوسف شاهد، أليعازر بن يوسف شاهد، يهوذا بن يهوذا شاهد.
13
والدرج اليوناني الذي يتضمن أجزاء من النبوات الاثنتي عشرة المشار إليه أعلاه ذو أهمية كبرى لتاريخ الترجمة السبعينية، وموقف اليهود والنصارى منها ولا سيما وأن هذا الدرج يعود، بدليل نوع خطه، إلى نهاية القرن الأول بعد الميلاد، وهو يتضمن أشياء من نبوات ميخا ويونان ونحوم وحبقوق وصفنيا وزكريا. وقد عني بهذا الدرج الأب برتلماوس، فقابله بالنصوص السبعينية مقابلة دقيقة كاملة، وأعاد درسه على ضوء المحاورة بين القديس يوستينوس وتريفون اليهودي التي تعود إلى القرن الثاني بعد الميلاد، فتبين له أن يوستينوس كان على حق فيما ذهب إليه من أن اليهود أهملوا السبعينية بعد أن أخذ بها النصارى، وأن السبعينية كما عرفتها الكنيسة كانت في القرن الأول لا تزال محترمة في الأوساط اليهودية.
14
خربة المرد
وسبق التعامرة العلماء إلى خربة المرد أيضا، فتسربوا في صيف السنة 1952 إلى كهف تحت الأرض في خربة المرد، وحملوا منه مخطوطات عرضوها للبيع في بيت المقدس، وخربة المرد هذه هي مردة
Marda
الروم وقسطلهم
Kastellion ، ومردة بالآرامية هي القسطل باليونانية أو القلعة، وهي هيركنيون
Hyrcanion
الآشمونيين، وقلعتهم الشهيرة لا تبعد أكثر من خمسة كيلومترات عن دير مار سابا.
وكان النقيب البلجيكي فيليب ليبنس الذي اشترك في أعمال الاستكشاف في السنة 1949 قد عاد إلى وطنه، وتولى التدريس في جامعة لوفان، وكان لا يزال يتابع أخبار قمران ومخطوطاتها، فأقنع إدارة جامعته، وأطل في السنة 1953 وزميله الأب دي لانغ
de Langhe ، فتوليا أمر التنقيب في خربة المرد، فتبين لهما أن هذه الخربة حوت ركام دير مسيحي قام على أطلال قلعة هيركانية في القرن الخامس، واستمر عامرا حتى القرن التاسع بعد الميلاد، فهنالك أرض كنيسة غشيت بالفسيفساء، وآثار عدد من الصوامع وقبور الرهبان. أما الأسفار الخطية التي وجدت في هذه الخربة فإنها جاءت باليونانية وبلهجة آرامية تعرف باللهجة الفلسطينية المسيحية. وهي أجزاء من سفر يشوع وإنجيلي متى ولوقا وسفر الأعمال، ورسالة بولس إلى أهل كولوسي. وهذه هي المرة الأولى التي ترد فيها بعض هذه الأسفار بالآرامية. وهنالك رسائل عادية بالآرامية والعربية إحداها لشخص يدعى جبرائيل وجهها في القرن السابع إلى رئيس هذا الدير والأسياد والآباء فيه، وإليك تعريبها:
من المبارك بالرب والخاطئ جبرائيل إلى رئيس دير أسيادنا وآبائنا: إني أرجو أن ترفع الصلوات لأجلي؛ لأنجو من العشيرة التي يرتجف منها قلبي. سلام لكم من الآب والابن والروح القدس، آمين.
15
خربة قمران
وكان من الطبيعي أن يربط العلماء بين الكهوف التي كشفوا في صخور قمران وبين ركام قديم قام في السهل عند أسفل هذه الكهوف على بعد 750 مترا عنها، فعادوا يستقصون أخبار هذه الخربة، وينظرون فيما قاله فيها العلماء الباحثون، فوجدوا أن دي ساسي الذي زارها في السنة 1851 اعتبرها آثار عامورة، وأن كليرمون غافو الذي أطل عليها في السنة 1873 رآها رومانية، وكذلك دالمان في السنة 1920، ثم اعتبرها مرتينوس نوث مدينة الملح التي ورد ذكرها في سفر يشوع (15 : 62)، وكانت قبورها العديدة التي اتجهت شمالا قد استرعت نظر كليرمون غانيو، فأكد أنها تقدمت ظهور الإسلام، فرأى هاردينغ ودي فو في السنة 1949 أن يكشفا عن بعض هذه القبور، فوجداها بسيطة جدا خالية من أي زخرف أو مجوهرات، ووجدا الهياكل ملقاة على الظهر متجهة نحو الشمال مصلبة الأيدي، فافترضا أن سكان هذه الخربة كانوا من أهل الزهد مرتبطين بقوانين وتقاليد معينة.
محبرة من الخزف.
وألح عدد من العلماء على الكشف عن هذه الأخربة؛ لاستيضاح أمر المخطوطات في الكهوف المجاورة، فعاد هاردنغ ودي فو إلى الحفر والتنقيب في خريف السنة 1951، وشرعا في عمل علمي فني منظم استغرق مدة من الزمن، واستوجب متابعة العمل أربعة فصول متتالية بين السنة 1953 والسنة 1956، وأدى أيضا إلى الكشف عن خريبة أخرى تقع إلى الجنوب من قمران بالقرب من عين الفشخة.
16
وتشغل أخربة قمران بمجموعها مساحة من الأرض تقدر على وجه التقريب بثمانين مترا في ثمانين، وهي تتألف من بناء رئيسي وأجنحة ومقابر، والبناء الرئيسي يتألف من صحن مفتوحة من أعلاها تحيط بها من جهاتها الأربع أبنية متفاوتة الشكل والارتفاع. وأول ما يلفت النظر من هذه برج ذو دورين يقوم عند الزاوية الشمالية الغربية، ويتصل به من الجنوب، ويشغل ما تبقى من الضلع الغربي من البناء الرئيسي قاعة كبيرة بمقاعد ملاصقة لجدرانها، ويتصل بهذه القاعة من الشرق قاعة أخرى طولها ثلاثة عشر مترا وعرضها أربعة، أهم ما فيها موائد للكتابة مصنوعة من الآجر ومطلية بالجص. وهنالك موائد أخرى تحمل مغاسل لغسل الأيدي قبل البدء بالكتابة. وقد وجد على موائد الكتابة محابر من البرونز والخزف لا تزال تحفظ في قعرها بقايا ناشفة من الحبر الأسود.
ويلاصق البرج من الشرق بناء خصص للمطابخ، وفيه المواقد وغيرها مما يلزم لإعداد الطعام. أما مغاسل الثياب ونحوها والمصابغ فإنها تقع في أبنية قائمة في الضلع الشرقي من هذا البناء الرئيسي، بالقرب من صهريج كبير؛ بل بين صهريجين كبيرين، أحدهما في الضلع الشرقي والآخر في الضلع الجنوبي. ويقوم إلى الجنوب من الصهريج الجنوبي بناء طوله اثنان وعشرون مترا، وعرضه أربعة أمتار ونصف المتر. وهو في نظر رجال الاختصاص قاعة الاجتماع تتلى فيها النصوص المقدسة والشروح عليها، وتقام الأدعية والصلوات وتقدم وجبة الطعام المقدسة. وقد عثر في زاوية هذه القاعة الجنوبية الغربية على صحون مكسرة استعملت قبيل الخراب، ووجد أيضا في غرفة ملاصقة أكثر من ألف صحن محفوظة للاستعمال عند الحاجة.
وأهم ما في الأجنحة التابعة لهذا البناء الرئيسي الصهاريج التي كانت تحفظ ما يتدفق من مياه الشتاء لاستعماله في أيام القيظ. وهنالك أيضا مصانع ومشاغل كان لا بد من الاعتناء بها.
17
الفصل الثاني
التعرف بالمكان وتعيين الزمان
خرائب قمران
والأفضل أن يقال: خرائب قمران لا خربة قمران؛ لأن ما تبقى من بنيان فيها يعود إلى عصرين مختلفين؛ فالمداميك السفلى من الزاوية الشمالية الغربية من البناء الرئيسي تختلف في حجم حجارتها وسماكة بنائها عن سائر ما تبقى من جدران قائمة. وهذا الطراز من البناء هو طراز القرون الثامن إلى السادس قبل الميلاد، وهو يتفق وما تبقى من آثار هذه القرون في وادي البقيعة فوق قمران. وعثر على هذا النوع من البناء أيضا في الجناح الغربي حوالي الصهريج المستدير، ومما يؤيد هذا الرأي أيضا وجود قطع من الخزف تعود هي أيضا إلى القرون الثامن إلى السادس قبل الميلاد.
ويجوز القول والحالة هذه أن القديم القديم من خرائب قمران هو بقية باقية من «مدينة الملح» التي يرد ذكرها في سفر يشوع (15 : 62)؛ فقد امتحن الأب ميليك والدكتور كروس، في صيف السنتين 1954 و1955، ما تبقى من آثار في سهل البقيعة إلى الشمال الغربي من قمران، فوجدا أن هذه الآثار تعود هي أيضا إلى القرون الثامن إلى السادس قبل الميلاد، ورأيا فيها البقية الباقية من مدين وسكاكة ونبشان المدن الثلاث الأخرى الواردة في الفصل نفسه من سفر يشوع (15 : 61)، ورأيا أيضا أن تكون هذه المدن هي الأبراج ومدن الخزن التي أمر يوشافاط بإنشائها في يهوذا عندما تقدم وعظم أمره، كما جاء في سفر أخبار الأيام الثاني (17 : 2 1)، وأن تكون هي نفسها المشار إليها في الفصل السادس والعشرين من هذا السفر نفسه «الأبراج التي بناها عزيا في البرية؛ لأنه كان محبا لأعمال الأرض».
1
وقد ارتأى مرتينوس نوث أن يكون وادي البقيعة هو وادي عكور الذي رجم فيه عاكان وبنوه وبناته وحميره وغنمه وأحرقوا بالنار، (يشوع 7 : 24).
2
ويجد العلماء المنقبون في التفتيش عن النقود في الآثار الباقية، لعلهم يهتدون بواسطتها إلى تحديد الزمن الذي تعود إليه هذه الآثار. وقد وجد المنقبون في خرائب قمران عددا كبيرا من النقود. وقد جاء في تقرير لهم عن أعمالهم، في أثناء السنة 1953، أنهم وجدوا ثلاث قطع من النقود الفضية التي سكها أنطيوخوس السابع في السنوات 136 و130 و129 قبل الميلاد، ووجدوا أيضا أربع عشرة قطعة من مسكوكات يوحنا هيركانوس (135-104) قبل الميلاد، وثمانيا وثلاثين قطعة من مسكوكات ألكسنذروس بن يوحانان (103-76) قبل الميلاد، وخمس عشرة قطعة حشمونية، واثنتين من إصدار أنتيغونوس متتياس (40-37) قبل الميلاد، وقطعة فضية واحدة من مسكوكات صور في السنة 29 قبل الميلاد، وست قطع من إصدار أرخيلاوس (4ق.م.-6ب.م.) وثلاثين قطعة رومانية من مسكوكات أوغوسطوس وطيباريوس وكلوديوس ونيرون (6-67) بعد الميلاد، وإحدى عشرة قطعة تعود إلى السنة الثانية من الثورة الأولى (67-68) بعد الميلاد، وقطعتين تعودان إلى السنوات (67-73) بعد الميلاد، وثلاثا تعود إلى زمن الثورة الثانية (132-135) بعد الميلاد، وخمس قطع بيزنطية عربية وجدت على وجه الأرض. ثم جاءت أعمال التنقيب في السنوات 1954 إلى 1956 تؤيد هذه النسبة نفسها في القلة والكثرة من مسكوكات هذه العصور نفسها.
دير قمران كما يظهره الترميم.
وفوجئ المنقبون والعمال والتعامرة، في مطلع السنة 1955، بكنز مدفون حوى خمسمائة وخمسين قطعة من الفضة من مسكوكات مدينة صور الصادرة عنها في القرن الأول قبل الميلاد قبل السنة التاسعة، وكان قد دفن في جرات ثلاث في أرض غرفة صغيرة من غرف أحد الأجنحة، فعنيت به إدارة المتحف في بيت المقدس، ونظفت القطع مما علاها من الصدأ، وعرضتها كما عثر عليها، فضة براقة تتدفق من جرات قديمة.
وهكذا فإن قطع الدراهم التي وجدت في خرائب قمران عديدة ومتنوعة. ولولا كثرتها وتنوعها لما تمكنا من الاستعانة بها لتعيين الزمان الذي قامت فيه هذه الأخربة آهلة بالسكان؛ فمجرد العثور على ليرة ذهبية عثمانية في خربة ما في لبنان مثلا لا يدل دلالة منطقية سليمة على أن الخربة قامت آهلة بالسكان في الزمان الذي سكت فيه هذه الليرة؛ فإننا لا نزال في لبنان نتداول الليرات العثمانية الذهبية التي سكت في عهد عبد الحميد ومحمد رشاد حتى ساعتنا هذه، وبعد مرور نصف قرن على صدورها وعلى خروج الأتراك من ربوعنا . ولكن العثور على كثرة من النقود الواحدة في خربة معينة تدل على أن سكان هذه الخربة عاشوا في العصر الذي كثرت فيه هذه النقود وكثر التداول بها.
ولما كانت النقود التي سكت في عهد الإسكندر بن يوحانان
Alexander Jannaeus
الحشموني كثيرة في خرائب قمران، وكان هذا الإسكندر قد حكم من السنة 103 حتى السنة 76 قبل الميلاد، جاز القول: إن خرائب قمران كانت قائمة آهلة بالسكان في هذه الحقبة من تاريخ فلسطين.
وإذا استثنينا أمر الكنز الذي وجد مدفونا في إحدى الغرف، جاز لنا القول: إن الخرائب خلت من نقود تعود إلى عهد هيرودوس الكبير (37-4) قبل الميلاد. ولعلها خلت من السكان أيضا؛ لأن الجدران والسلالم والصهاريج لا تزال تحمل آثار زلزال كبير حل بها في عهد هيرودوس نفسه في السنة 31 قبل الميلاد؛ فالدرجات التي تؤدي إلى أحد الصهاريج مشقوقة من أسفلها حتى أعلاها. وقد انخسف أحد شقيها مقدار ثلاثين سنتيمترا عن الآخر. وجدران البرج الكبير مشققة أيضا، وعتبة من أعتاب غرفه مكسورة، وكذلك جدران بعض الأبنية الأخرى. ونحن نعلم نقلا عن يوسيفوس أن أرض فلسطين زلزلت في عهد هيرودوس في السنة 31، وأنه كان، وقت الإرجاف، على رأس جيشه في أريحا بالقرب من قمران، وأن جنوده تطايروا فزعا، ولكنه وفق إلى جمعهم والسير بهم عبر الأردن لمقابلة عدوه.
3
ولا تتكاثر النقود قبل عهد الأباطرة الرومانيين الأولين (6-67) بعد الميلاد. وقد يكون السبب في ذلك أن سكان قمران لم يجرءوا على العودة إليها، ولم يذهب خوفهم من الزلزال إلا بعد مرور ربع قرن عليه. فإنهم لم يرتقوا الشقوق ولم يدعموا الجدران، ولم يحفروا الصهاريج الجديدة إلا في النصف الأول من القرن الأول بعد الميلاد.
وجاءت الثورة الأولى في السنة 66 بعد الميلاد، فعمت فلسطين بكاملها، وشملت قمران، واضطرت رومة أن تقمعها، فأطل فيسباسيانوس بجنوده على أريحا وسهولها. ولعله لقي شيئا من المقاومة في قمران فأحرقها؛ فإن رءوس النبال الرومانية لا تزال منثورة في طبقة من الرماد وغيره من آثار النار. ولمس الرومان أهمية قمران من الناحية الاستراتيجية لنشر الأمن في البلاد، فحولوا برج قمران وبعض مبانيها القريبة من البرج إلى ثكنة عسكرية، وما فتئوا مقيمين فيها حتى نهاية القرن الأول، وعند خروجهم منها أمست خالية من السكان، ولم يعد أحد إليها قبل الثورة الثانية (132-135)، وما إن خمدت هذه حتى عادت قمران إلى سابق وحشتها، وما فتئت حتى يومنا هذا.
4
الآثار المخطوطة
وتعيين الزمن الذي تعود إليه الآثار المخطوطة التي وجدت في كهوف قمران، ووادي المربعات وخربة المرد يوجب تبيان الزمن الذي وضعت فيه الآثار في كهوفها، وتحديد الزمن الذي كتبت فيه، وتعيين زمن تأليفها. ويلاحظ هنا أن اهتمام الجماهير لهذه المخطوطات وإقدام الجرائد والمجلات على نشر أخبارها بدون تبصر أو روية، وما نجم عن ذلك من اختلاف في الرأي وحماس في الجدل، اضطر بعض العلماء إلى إبداء رأيهم قبل اكتمال البحث، فزادوا بذلك الطين بلة. ويلاحظ أيضا أن بعض دور النشر في أميركة وأوروبة لا تزال تنظر إلى أمر هذه المخطوطات من الناحية التجارية فقط، فتدفع إلى واجهات المخازن بكل ما من شأنه أن يثير الخواطر، ويستفز النفوس ليزداد البيع وتتكادس الأرباح.
درج الدروج
والنظر في الزمن الذي درجت فيه هذه الدروج في كهوفها يستوجب الإجابة عن السؤال: لماذا وضعت هذه الدروج في هذه الكهوف؟ وقد تخالف العلماء في هذا الأمر، فأصر سوكينيك العالم اليهودي على أن الكهوف «جنازات» سترت فيها كل نسخة وجب إهمالها، وأشار لهذه المناسبة إلى درج نبوة أشعيا الذي وجد في كهف قمران الأول وإلى الفوارق بين نصوصه والنصوص المألوفة، ووجوب إهماله ووضعه في جنازة. وأضاف أنه لا بد من جنازة أو جنازتين لكل كنيس تحفظ فيهما الأسفار المهملة، وتدفن بكل وقار واحترام بعد تكاثرها. والجنازة في العبرية والعربية واحدة؛ فهي مشتقة من الثلاثي جنز، ومعناه جمع وستر، ولا يخفى أن الجنز في العربية هو البيت الصغير من الطين، وأن أصل المعنى في هذه المادة كلها هو الإخفاء والكنز.
الدرج النحاسي.
وأيد هنري دل ماديكو
Del Medico
البندقي القسطنطيني رأي زميله سوكينيك، فقال: إن الأقمشة التي لفت بها هذه الدروج إنما هي أكفانها، وإن الدروج ألبست هذه الأكفان؛ لأنها اعتبرت كتبا ميتة. وأضاف أن التقليد قضى بدرج الأسفار المشوهة والكتب المنتحلة في جنازات من نوع ما تقدم. وأشار إلى اهتمام المعلم سمعان بن غملائيل في القرن الأول بعد الميلاد لجمع رسائل الأنبياء الكذبة الذين حرضوا اليهود على الثورة الأولى ضد رومة، ولدرجها في مخابئ بعيدة عن متناول القوم، وقال: إن المعلم غملائيل الثاني (92-100) بعد الميلاد أمر بمثل ما تقدم ذكره بعد سقوط أوروشليم وخراب الهيكل. وارتأى دل ماديكو أن تكون هذه هي الظروف التي أدت إلى درج الدروج في كهوف قمران.
5
ورأى معظم العلماء غير ما رآه سوكينيك ودل ماديكو، فقالوا: إن هذه الدروج إنما درجت في كهوفها ضنا بكرامتها وحرصا عليها، وإنها لا بد أن تكون قد خبئت في ظرف عصيب حل بأصحابها كحرب كاسحة أو اضطهاد شديد. ثم اتسعت أعمال الحفر والتنقيب فاتسع أفق العلماء معها، وتبين أن هذه الكهوف حوت مئات المخطوطات، وأن بعضها كالدرجين النحاسيين، كانا من نوع لا يجب تحذير الرجوع إليه. وعثر المنقبون في السنة 1951 في خرائب قمران على جرار من الفخار تتفق كل الاتفاق مع الجرار التي وجدت في الكهوف من حيث الشكل والصنع. ووجد العلماء مع هذه الجرار نقودا تعود إلى أواخر القرن الأول قبل الميلاد وإلى النصف الأول من القرن الأول بعد الميلاد. ودقق الدكتور أولبرايت
Albright
الأميركي في طينة الجرار فوجدها رومانية. فاضطر العلماء الباحثون أن يعتبروا الجرار التي وجدت فيها الدروج من النوع الذي كان يصنع في فلسطين في القرن الأول بعد الميلاد، واضطر من كان يقول بهلينية الجرار وأنها تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد إلى التراجع عما ذهب إليه.
وأخذ الدكتور كلسو
Kelso ، مدير المدرسة الأميركية للأبحاث الشرقية، قطعة من القماش الذي لفت به الدروج إلى الولايات المتحدة، ووضعها تحت تصرف العالم النووي الدكتور لبي
Libby ، الأستاذ في جامعة شيكاغو، وطلب إليه أن يحللها تحليلا كيماويا نوويا للتعرف بعمرها. فجاء جواب هذا العالم أن هذه القطعة من الكتاب تعود إلى مدة حدها الأقصى 167 قبل الميلاد، وحدها الأدنى 233 بعد الميلاد؛ وتعليل ذلك أن هنالك نوعا من الكاربون وزنه الذري 14 بدلا من 12، وأن هذا الكاربون ذا الرقم 14 يتولد باستمرار في أعلى طبقات جو الأرض من جراء تعرض ذرة النيتروجين ذي الرقم 14 إلى أشعة كونية. ويختلط الكاربون ذو الرقم 14 بالأوكسوجين فيولد نوعا خصوصيا من أكسيد الكاربون يختلف عن أكسيد الكاربون العادي، ولكنه يمتزج فيه. وهكذا فإن جميع النباتات الحية والحيوانات تتنشق الكاربون 14 فيبقى فيها بنسبة معينة. وهذه النسبة هي واحد على تريليون من الكاربون 14 فيبقى فيها بنسبة معينة. وهذه النسبة هي واحد على تريليون من الكاربون 14 في الغرام الواحد إلى غرام واحد من الكاربون 12، وعند الوفاة ينقطع دخول الكاربون 14 إلى الأجسام والنباتات، ويبدأ انحلال الموجود منه فيها. ويتم هذا الانحلال ببطء، ولكن بمعدل لا يتغير، ونصف مدة الكاربون 14 هذه تساوي 5500 سنة. وهكذا فيصبح الغرام الواحد منه نصف غرام بعد مرور 5500 سنة على موت الحي، ويصبح أيضا ربع غرام في ال 5500 سنة التالية. وهكذا دواليك.
ويتضح مما تقدم أنه إذا تمكنا من معرفة الكاربون 14 الباقية في جسم لفظ أنفاسه عرفنا الزمن الذي مر على هذا الجسم بعد انقطاعه عن الحياة. ويحرق عندئذ نموذج منه حتى يمسي كربونا نقيا. ويصار إلى تحديد كمية الكاربون 14 الباقية بمقياس إشعاعي حساس جدا على مثال عداد غيغر
Geiger . وتعين النتيجة بعدد انحلالات الكاربون 14 في الدقيقة الواحدة والغرام الواحد. وهذه النتيجة تكون 3، 15 في مادة الجسم المعاصر، وتكون 65، 7 في جسم انقطع عن التنفس منذ 5508 سنوات، وتكون 83، 3 لنموذج انقطع عن التنفس منذ 1163 سنة، ويحسب رجال الاختصاص في هذا العمل الدقيق حساب الخطأ، فيفسحون مجالا له يقدرونه بخمسة إلى عشرة في المائة.
ومع أن الكاربون 14 موجود في جميع الأجسام التي تتنفس، فإن بعضها أقرب لهذه المعالجة العلمية الإشعاعية من غيره. وهذا البعض هو النباتات على أنواعها، ومنها كتان الأقمصة التي لفت بها دروج البحر الميت، والفحم والأصداف والقشور، وقرون الحيوان والعظم المحروق والزبل والجذور.
وقد أجريت تجارب من هذا النوع على آثار مادية تاريخية معينة، فجاءت النتائج مدهشة، فقد أحرقت قطعة من خشب سقف بيت وزير فرعوني، يعود، في عرف علماء الآثار، إلى ما بين السنة 3100 والسنة 2800 قبل الميلاد، فجاءت نتيجة امتحان الكاربون 14 تدل على أن هذا الخشب قطع في السنة 2933 قبل الميلاد، مع إمكانية خطأ يقدر بمائتي سنة قبل هذا الرقم أو بعده. وامتحن علماء الإشعاع خشب قارب ينسب إلى الفرعون سيسوسترس الثالث الذي توفي في السنة 1849 قبل الميلاد بموجب تقدير علماء الآثار، فجاءت نتيجة الامتحان تحدد سنة قطع هذا الخشب بالرقم نفسه تقريبا. وهكذا فإنه بإمكاننا أن نقول بشيء كثير من الضبط العلمي أن الكتان الذي صنعت منه أقمصة الدروج في كهوف قمران قطع وامتنع عن التنفس بين السنة 167 قبل الميلاد والسنة 233 بعد الميلاد.
6
وهكذا فإنه لم يبق مجال للتردد؛ فالدروج درجت في الكهوف عند خراب قمران بين السنة 66 والسنة 70 بعد الميلاد حرصا عليها، وضنا بكرامتها وقدسيتها. هذا ما يقول جمهرة العلماء، ولا سيما الأب دي فو والدكتور باروز.
7
نسخ الدروج
وإذا كان استنساخ أحدث الدروج عهدا تم قبل السنة 70 بعد الميلاد، سنة درج الدروج في كهوفها، فما هو الزمن الذي تم فيه استنساخها بالضبط؟
يلاحظ في الإجابة عن هذا السؤال أن الكشف عن آثار قمران دل على أن سكان هذه الخرائب كانوا يعنون باستنساخ الأسفار المقدسة وغيرها، وأنهم أفرزوا لهذه الغاية قاعة معينة فأقاموا فيها الموائد والمقاعد للكتابة، وأنشئوا المغاسل للتطهير قبل البدء بالعمل نظرا لقدسية ما يفعلون. ويلاحظ أيضا أن بعض محابرهم لا تزال باقية حتى يومنا هذا، وأن حبرها لا يزال راسبا في قعورها، وأن هذا الحبر هو من نوع الحبر الذي كتبت به الدروج، وهو مزيج من الكاربون التجاري غير النقي ومن شيء من الماء ومادة صمغية، خال من المواد المعدنية كما أبان ذلك الدكتور مارولد بلندر لايت
العالم الخبير في المتحف البريطاني. وهكذا فإنه يجوز القول: إن بعض الدروج استنسخ في قمران نفسها ، يوم كانت آهلة بالمتزهدين المتعبدين؛ أي: بين أواخر القرن الثاني قبل الميلاد والسنة 70 بعد الميلاد.
8
وإذا كان بعض هذه الدروج قد استنسخ في قمران في الزمن الذي ذكرنا، فمتى تم استنساخ البعض الآخر؟ ولا بد من أخذ هذه الإمكانية بعين الاعتبار؛ لأنه ليس هنالك ما يثبت أن زهاد قمران امتنعوا عن ادخار ما لم يستنسخوا في قمران نفسها. وفي الإجابة عن هذا السؤال لا بد من التدقيق في هذه الدروج من ناحيتها الفنية الخطية؛ أي: من الناحية الباليوغرافية
. ورب معترض يقول: وهل لدى العلماء عدد كاف من نماذج الخطوط العبرية في العصور القديمة يخولهم سلامة الاستنتاج في تعيين زمن الكتابة؟ فنجيب: إنه ليس هنالك ما يكفي لتحديد زمن الكتابة بالضبط، ولكن هنالك ما يكفي للقول بأن كتابة ما قد تمت في أثناء قرن معين أو نصف قرن معين. وقد يكون هنالك ما يكفي للقول: إن كتابة ما تمت في أثناء خمس وعشرين سنة محددة.
وليس لدينا مخطوطات «مؤرخة» تعود إلى القرن الأول بعد الميلاد أو إلى القرن الأول قبل الميلاد، فتصلح للمقابلة مع خطوط هذه الدروج لتعيين تأريخها بالضبط، ولكن هنالك نقوشا كتابية تعود إلى النصف الأول من القرن الأول بعد الميلاد، ونقوشا أخرى تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد يمكن اعتمادها واتخاذها مدارا للتطبيق. وبعض هذه النقوش من النوع الغرافيتي الذي لا يختلف كثيرا عن الكتابة بالحبر على رق أو ورق بردي. والإشارة هنا إلى أسماء الأموات التي خطت بسرعة بزاوية إزميل على النواويس الحجرية لدى درج الجثث فيها. ومعظم هذه النقوش الغرافيتية يعود إلى النصف الأول من القرن الأول بعد الميلاد.
9
ولدينا من نقوش تل الجزر ما يفيدنا عن ميزات الخط العبري في القرن الأول قبل الميلاد، ومن نقوش حصن طوبيا في شرق الأردن ما يمثل خط القرن الثاني قبل الميلاد. وهنالك بردية ناش
Nash
التي تعود في الراجح الأرجح إلى هذا القرن نفسه.
10
وأقدم من هذه وتلك برديات إدفو وأسوان. وإليك الآن نموذجا يبين تطور حرف الميم في شكليه المتوسط والنهائي:
ويلاحظ من رجال الاختصاص في تطور الخط العبري أمورا أخرى تفيدهم في تعيين زمن الكتابة، منها محاولة ربط الحروف بعضها ببعض التي راجت في بعض الحقب دون سواها أو بين جماعات دون سواهم، ثم انقرضت في أثناء القرن الأول بعد الميلاد. ومنها أيضا صلة الألفاظ المكتوبة بخط أفقي يقع تحتها أو فوقها، فتأتي الحروف إما مرتكزة إليه إذا كان تحتها وإما متعلقة به إذا كان فوقها.
وتتآلف الأدلة الباليوغرافية من جميع هذه الأنواع التي ذكرنا، فتدل على أن دروج قمران كتبت بين السنة 300 قبل الميلاد والسنة 68 أو 70 بعد الميلاد.
11
وكما تتآلف الألحان فتشكل مجموعا موسيقيا شائقا كذلك الأدلة التاريخية الفنية، فإنها إذا ما عبرت عن الحقيقة الراهنة تتآلف بعضها مع بعض، فتتناصر على البطل وتلمع لمعان الحق.
ولا يجوز الأخذ بفروقات النصوص بين ما وجد في قمران وبين ما يعتبر النص المسور لتعيين زمن كتابة الدروج، كما لا يجوز اعتبار الاتفاق بين هذه النصوص جميعها دليلا على الزمن الذي استنسخت فيه دروج قمران. فمجرد الاتفاق في النص بين الدروج وبين المسور لا يدل في حد ذاته على أن الدروج نسخت بعد تسوير النص. فالنص المسور لم يكن في استنباط المسورين. وكذلك الفروقات بين نصوص الدروج والنص المسور ليست دليلا في حد ذاتها على أن نصوص الدروج سابقة للنص المسور.
12
ولكن هنالك فرقا في اللغة بين نص بعض هذه الدروج وبين النص المسور. فالنص المسور الذي سور ما بين القرن الرابع والقرن العاشر بعد الميلاد جاء أوروشليميا في اللهجة، بينما نص نبوة أشعيا في درج دير القديس مرقس جاء بلهجة عبرية أخرى تختلف عن النص المسور في قواعد اللغة وفي التهجئة. وقد تكون بعض المخالفات في التهجئة في درج القديس مرقس ناشئة عن جهل الكاتب أو عن قلة اعتنائه وتيقظه. وقد تكون ناشئة عن انتماء النص بكامله إلى عصر غير العصر الممثل في النص المسور. وأهم الاختلافات في التهجئة ناشئ عن محاولة قام بها كاتب نص الدرج لضبط لفظ الألفاظ بحروف العلة. وهنا يصح التساؤل: هل كانت هذه المحاولة سابقة لضبط النص المسور بالشكل أم لاحقة له؟ وقد ذهب بعض العلماء إلى أن مثل هذا الضبط بحروف العلة يعود إلى زمن أمست فيه اللغة العبرية لغة كلاسيكية غير محكية، وأنها لو كانت لا تزال محكية لما شعر القراء بحاجة إلى هذا النوع من الضبط.
ويرى آخرون أن حصر التهجئة بالحروف الساكنة الصحيحة وعدم ضبطها بالشكل أو بحروف العلة يحير القارئ، ولو كان من أبناء اللغة التي يقرأ، وأن اللجوء إلى ضبط النصوص بأحرف العلة سابق لضبطها بالشكل كما جاءت في النص المسور. وهكذا فإن ظاهرة الاختلاف في تهجئة الكلمات لا تعين الباحث على تعيين الزمن الذي كتبت فيه هذه الدروج. وهنالك اختلافات في مد حروف العلة، واختلافات تحريك أواخر الضمائر تومئ إلى عصر سابق لعصر النص المسور. ولكنه لا يجوز البت في شيء من هذا قبل التثبت من إحصاء كل ما لدينا من نوعه.
13
وليس بإمكاننا أن نحدد الزمان الذي صنفت فيه بعض الدروج؛ لأنه ليس في أخبارها المروية ما يعيننا على ذلك، وليس في مقدماتها أو خواتمها ما ينص على شيء من هذا. فلو أخذنا درج التعليق على حبقوق، وهو ذو صبغة قمرانية هامة، لوجدناه خاليا من الإشارة إلى المعلق وخلوا من أي تاريخ معين، وأخباره المروية جاءت خالية من الإشارة إلى وقائع معينة أو أسماء معروفة يمكن التعويل عليها في تحديد زمن التصنيف؛ فهي من نوع إشارة دانيال (11) إلى «ملك الجنوب» و«ملك الشمال». ولعل المعلق تعمد الإبهام لينجو بذلك من المراقبة والاضطهاد. وأوضح الإشارات في درج حبقوق ذكر أعمال شعب معين هو شعب «كتيم». ولكن ما جاء عن هذا الشعب لا يفسح المجال لأي استنتاج منطقي سليم؛ فشعب كتيم «سريعون أشداء في الحرب» وهم «لا يؤمنون بشرائع إله إسرائيل، يحيكون الشر وينفذون الخطط بدهاء وغش، يدوسون الأرض بخيولهم وحيواناتهم، يأتون من أماكن بعيدة من شواطئ البحر؛ ليلتهموا الشعوب كالطيور الجوارح.» وليس في مثل هذا القول كله ما يعين المؤرخ على التحديد والتعيين. وأوضح ما جاء عن شعب كتيم أنهم يقدمون الذبائح لأعلامهم، ويسجدون لأسلحتهم، وليس في هذا أيضا ما يعيننا على سلامة الاستنتاج وطمأنينة العقل.
14
الفصل الثالث
بعض الماضي المعروف
الدروج والجرار
وليس في درج الدروج في جرار معينة ما يثير الدهشة والاستغراب؛ فالبابليون ومن جاورهم حفظوا لوحاتهم الكتابية في جرار في الألف الثالث قبل الميلاد. والنبي أرميا أوصى تلميذه باروك في السنة 588 قبل الميلاد قائلا (32 : 14): «خذ هذين الصكين: صك الابتياع المختوم، والصك المفتوح، واجعلهما في إناء من خزف ليدوما أياما كثيرة.» وجاء في نص يعود إلى أيام رعمسيس الثالث (1198-1166) قبل الميلاد ما يشير إلى مثل هذا. ويقول القديس أبيفانيوس أسقف سلامينة في قبرص في القرن الرابع بعد الميلاد أن نص العهد القديم اليوناني الخامس وجد في جرة بالقرب من أريحا في السنة 217 بعد الميلاد، وإن النص اليوناني السادس وجد في جرة في نيكوبوليس على شاطئ بلاد اليونان الغربي.
1
وتيموثاوس الأول بطريرك النساطرة (780-823) كتب إلى سرجيوس أسقف عيلام من سلفكية طيسفون يقول: إن بعض المهتدين من اليهود الذين وثق بكلامهم أخبروه أن كتبا وجدت بالقرب من أريحا في كهف في الصخور، وأن راعيا عربيا شاهد كلبه يدخل إلى هذا الكهف ولا يخرج منه، فتبعه إليه فإذا به أمام مجموعة من الكتب، فصعد إلى أوروشليم وأخبر اليهود فيها، فنزل كثيرون منهم إلى الكهف فوجدوا كتبا من العهد القديم وغيرها، وأكد المهتدون اليهود أنه وجد بين هذه الكتب ما يؤيد موقف النصارى من نصوص العهد القديم في جدلهم مع اليهود.
2
واهتم المسورون في القرن التاسع لأمر الأسفار الخمسة التي وجدت في أريحا. ولعلها وجدت في كهف من الكهوف في هذه المنطقة نفسها التي نبحث، والجدير بالذكر لهذه المناسبة أننا لا نجد اعتراضا مدونا في اعتماد هذه النسخة في عمل التسوير والضبط.
ويذكر المؤرخ اليهودي القرقساني، وهو من أعيان القرن العاشر، في كتابه تاريخ الفرق اليهودية «المغايرة» فيقول: إنهم عرفوا بهذا الاسم لأنهم وجدوا كتبهم في مغارة. ويضيف أنهم وجدوا الأسفار الإسكندرية وكتاب المعارف، وأن الباقي لم يكن ذا أهمية. وكان قد سبقه إلى ذكر المغايرة بهذا الاسم نفسه بنيامين النهاوندي وهو من أعيان القرن التاسع.
وكتب حسداي بن شيروت قبل السنة 961 بعد الميلاد: «من قرطبة إلى ملك الخزر اليهودي في جنوب روسية، إن اليهود خبئوا كتبهم في كهف عندما استولى الكلدانيون على فلسطين في السنة 586 قبل الميلاد، وإنهم علموا أولادهم أن يصلوا في هذا الكهف في كل مساء وكل صباح، ثم نسوا، ولكنهم واظبوا على ممارسة الصلاة في هذا الكهف. وبعد أيام عديدة قام يهودي يحاول أن يعرف السبب في ذلك، فجاء الكهف ووجده مملوءا من الكتب فأخرجها منه.»
3
وفي السنة 1878 عرض جماعة من البدو على شابيرا
Shapira ، تاجر الآثار في بيت المقدس، نسخة قديمة من سفر التثنية مكتوبة بخط يقرب من الفينيقي، وقالوا إنهم وجدوها في كهف من الكهوف، فحملها شابيرا إلى لندن ودقق فيها كليرمون غانيو واعتبرها مزورة، فانتحر شابيرا في السنة 1884 وضاعت نسخته. وقد تكون مزورة وقد لا تكون، ولا سيما بعد ما جرى منذ السنة 1947؛ ولذا فإن مدير الآثار في إسرائيل صموئيل يافين
Yievin
يعنى الآن بصور نسخة شابيرا الفوتوغرافية التي لا تزال محفوظة في المتحف البريطاني، وعثر العلامة شختر
Schechter
في السنة 1896، في جنازة كنيس في القاهرة يعود إلى العصور الوسطى، على مخطوطتين قديمتين تعودان إلى القرنين العاشر والحادي عشر أو الثاني عشر، وتعرفان بالمخطوطة الدمشقية أو المخطوطة الصدوقية أو مخطوطة القاهرة الصدوقية.
4
وتقع الأولى منهما في ثماني وريقات والثانية في وريقة واحدة، وهما تمتان بصلة وثيقة إلى مخطوط وجد في كهف قمران السادس.
5
وقد جاء في هاتين المخطوطتين أن جماعة من اليهود ممن شعروا بذنوبهم وتلمسوا طريقهم مدة من الزمن غنموا بمعلم صلاح أقامه الله عليهم. وقد خرجوا من إسرائيل وهارون؛ أي: من الشعب والكهنة، وعرفوا بأبناء صادوق (صموئيل الثاني 8 : 17). وقد اتفقوا أن يبتعدوا عن الأشرار، وألا ينهبوا الفقراء، ويحفظوا السبت ويحبوا بعضهم بعضا، وهي أمور اتفق عليها أبناء «العهد الجديد» في أرض دمشق ، وفي هذا كله اتفاق عجيب مع ما جاء في درج القوانين والأنظمة في كهوف قمران، ومع ما وجد بصورة خصوصية في الكهف السادس كما أشرنا.
الخرائب وسكانها
وجاء في موسوعة بلينيوس الأكبر (24-79) بعد الميلاد أن جماعة من اليهود عاشوا في ساحل البحر الميت الغربي بعيدين عن جوه المضر، وأنهم كانوا ميالين للوحدة غريبين في أمورهم أكثر من غيرهم في العالم أجمع؛ فإنهم عاشوا بدون نساء، نابذين كل شهوة جنسية، متحرزين من النقود، عائشين بين أشجار النخل؛ وعلى الرغم من هذا فإن عددهم لم يهبط، بل تجدد يوما فيوما؛ فإن كثيرين ممن أتعبهم بحر الحياة الخضم كانوا يجرون مع تيارهم فينضمون إليهم جماعات جماعات. وهكذا فإنهم خلدوا نوعهم عبر آلاف العصور، على الرغم من أن واحدا منهم لم يولد فيه، وأغنتهم توبة الغير وتخشعهم. وتقع عين جدي تحتهم، ولم تأت ثانية في الماضي إلا بعد أوروشليم، وذلك بخضب أرضها وبساتين نخلها. أما الآن فإنها ليست سوى قبر من القبور، ثم تأتي حسادة وهي حصن على صخر، وكهذه التي ذكرت لا تبعد عن البحر الميت.
6
ويقول يوسيفوس مؤرخ القرن الأول بعد الميلاد (37-100)، في كتابه حروب اليهود (2-8) إنه كان عند اليهود في عصره فرق فلسفية ثلاث: «الفريسيون والصدوقيون والحاسيون»
7 - أو الآسيون أو الآسينيون - وأن هؤلاء ولدوا يهودا وتحابوا أكثر من غيرهم، وأنهم اعتبروا لذات الجسد شرورا وذنوبا، واعتزوا بالعفة والتعفف، وجعلوا من التغلب على الشهوات فضيلة. وهم يهملون الزواج وينتقون من أولاد غيرهم من يعتبرونهم منهم فيقبلونهم صغارا، بنين ذوي قابلية للتعلم ويطبعونهم بطبائعهم. وهم لا ينكرون صوابية الزواج وحفظ النسل، وإنما يحذرون سلوك النساء الفاسق مقتنعين أن ليس بينهن واحدة تحافظ على أمانتها لرجل واحد.
وهؤلاء الرجال يحتقرون الثروة والغنى، ويميلون جدا للتآلف والمشاركة، وليس بينهم من عنده أكثر من غيره؛ فالقانون بينهم يقضي بأن يقدم الداخل في زمرتهم ما عنده للجماعة، فلا ترى بينهم ظاهرة فقر ولا ظاهرة غنى، بل اختلاطا بين ملك الفرد وملك الآخرين، بحيث يتراءى لك أن هنالك إرثا واحدا لجميع الإخوة. وهم يرون في الزيت وسخا. وإذا مسح أحد به بدون موافقته مسح عنه مسحا، ويعتبرون عرق الجسم خيرا وكذلك ارتداء الأبيض، ولهم وكلاء خرج يعنون بشئونهم المشتركة، وليس لأحد منهم مصلحة خصوصية، وإنما العمل لمصلحة الكل.
وليس لهم مدينة معينة يقيمون فيها؛ فالكثيرون منهم يقيمون في كل مدينة. وإذا جاءهم أحد من فرقتهم من أماكن أخرى وضع ما عندهم تحت تصرفه كأنه له وبدأ هو في العمل كأنه يعرفه منذ زمن بعيد. وهكذا فإنهم لا يحملون شيئا معهم عند انتقالهم إلى أماكن بعيدة إلا أسلحتهم؛ خوفا من تعدي اللصوص. ولهم في كل مدينة يقيمون فيها واحد يعين للاعتناء بالغرباء يقدم لهم ألبسة ولوازم أخرى. ولكن عاداتهم الجسدية وسياسة أجسامهم تشبه أعمال الصغار الذين يخشون أسيادهم، ولا يستبدلون ألبستهم أو أحذيتهم إلا بعد أن تصبح خرقا بالية أفناها الزمن، ولا يبيعون شيئا ولا يشترون شيئا من بعضهم، بل يعطي كل منهم إلى غيره ما يحتاج إليه مما عنده، ويأخذ منه ما يوافق حاجته. ومع أنه ليس هنالك أي تعويض عما يؤخذ، فإنه يحق أن يأخذوا ما يحتاجون إليه من أي شخص آخر.
وخوف الله عندهم فوق العادة؛ فإنهم لا ينطقون بكلمة واحدة تتعلق بأمور الدنيا قبل شروق الشمس، بل يرفعون صلوات ورثوها عن آبائهم كأنهم يضرعون بها أن تشرق عليهم. وبعد هذا ينفذون بأمر نظارهم كلا إلى ممارسة العمل الذي يجيد، فيعملون بكل نشاط حتى الساعة الخامسة، ثم يجتمعون في مكان واحد ويستترون بنقاب أبيض، ويستحمون في الماء البارد. وبعد الانتهاء من هذا التطهير يجتمعون في مكان واحد لا يجوز لغيرهم الدخول إليه وينتقلون منه إلى قاعة الطعام أنقياء، كأنهم يؤمون هيكلا مقدسا فيجلسون صامتين، فيأتي الخباز ويضع أمامهم أرغفة الخبز بالترتيب، ثم يقدم الطاهي لونا واحدا من الطعام في صحن واحد أمام كل منهم، ويصلي كاهن قبل الطعام، ولا يجوز لأحد منهم أن يذوق الطعام قبل هذه الصلاة. ثم يصلي هذا الكاهن نفسه بعد الانتهاء من الطعام. وهم يشكرون الله في البداية والنهاية لما أنعم به من طعام عليهم، وبعد هذا يخلعون ثيابهم البيضاء ويعودون إلى أعمالهم حتى المساء، ثم يعودون لتناول العشاء بالطريقة نفسها. وإذا كان من غرباء بينهم فإنهم يجلسون معهم، ولا يعلو الضجيج بينهم أبدا لينجس بيتهم، فإنهم يفسحون المجال لكل واحد منهم أن يتكلم بدوره. ويرى الغرباء في هذا السكوت سرا عظيما، ولكن الواقع أنهم يمارسون الاعتدال باستمرار، فيتناولون دائما الكمية نفسها من المأكل والمشرب، وهي أكثر من أن تكون كافية.
وهم، والحق يقال، لا يفعلون شيئا في الأمور الأخرى إلا بموجب تعليمات نظارهم. وهم ليسوا أحرارا إلا في أمرين؛ في مساعدة المحتاج وفي الرحمة، ولهم أن يعاونوا من يشاءون ممن يستحق ذلك، وأن يعطوا الطعام إلى البائسين، ولكن ليس لهم أن يفعلوا ذلك بعضهم مع بعضهم الآخر بدون موافقة النظار. وهم يصرفون غضبهم بعدل ويمسكون عن شهواتهم. وقد اشتهروا بالأمانة والمسالمة، وقولهم أثبت من القسم، وهم يتحاشون إعطاء اليمين ويعتبرونه أسوأ من الحنث، فإنهم يقولون: «إن من لا يصدق إلا بعد اليمين يستحق الدينونة قبلها.» ويبذلون جهدا عظيما في درس كتب القدماء وينتقون منها أعظمها فائدة لنفوسهم وأجسادهم، ويفتشون عن جذور الأعشاب والحجارة ذوات الخصائص الطبية ليعالجوا بها أمراضهم.
وإذا شاء أحد أن يلتحق بفرقتهم لا يقبل فورا، بل يؤمر باتباع طريقهم في المعيشة سنة كاملة دون أن يعتبر واحدا منهم، ويعطى فأسا صغيرة والمنطقة المذكورة سابقا والثوب الأبيض، وبعد أن يعطي الدليل في تلك المدة على مقدرته في الاعتدال يقرب من أسلوبهم في العيش، فيشترك معهم في مياه التطهير، ولكنه يظل ممنوعا عن الاشتراك في العيش معهم. وبعد إثبات صبره على هذا الشكل تمتحن سجاياه سنتين أخريين، فإذا وجد لائقا ألحق بالجماعة. وقبل أن يسمح له بلمس طعامهم يستحلف على يمين شديدة بأن يخشى الله أولا، وأن يعدل بين الناس، وألا يلحق ضررا بأحد لا طوعا ولا إكراها، وأن يكره الشر دائما، وأن يتعاون مع الصلح، وأن يبقى أمينا لجميع الناس، ولا سيما أولي الأمر؛ لأنه لا يصل أحد إلى الحكم بدون معونة الله، وألا يسيء استعمال السلطة في حال وصوله إلى الحكم، وألا يحاول أن يفوق رعاياه بالبذخ والزينة، وأن يحب الصدق على الدوام ويؤنب الكاذبين، وألا يلطخ يديه بالسرقة ونفسه بالأرباح غير المشروعة، وألا يخفي عن أبناء فرقته أو يفشي بعقائدهم إلى الآخرين، ولو اضطره الأمر إلى المخاطرة بحياته. وكان عليه بالإضافة إلى ما تقدم أن يقسم أنه لا ينقل العقائد إلى أحد إلا بالطريقة نفسها التي تسلم هذه العقائد بها، وأنه يمتنع عن السرقة، ويحافظ على كتب الفرقة وأسماء الملائكة. هذه هي الأقسام التي ربطوا بها الداخلين في فرقتهم.
ومن يقع في الخطايا الشائنة يطرد من بين الجماعة، فيموت بائسا؛ لأنه يكون قد ارتبط بما أقسم، وبالعادات التي اعتادها، فلا يأكل ما يجد، بل يضطر أن يأكل العشب فيضعف جسمه حتى الهلاك، ويشفق عليه الجماعة فيعتبرون ما حل به من بؤس كفارة كافية عما ارتكب من خطايا، فيعيدونه إليهم في الرمق الأخير.
ويدققون كل التدقيق فيما يصدرون من أحكام، ويعدلون، ولا يصدرون حكما بتصويت محكمة يقل عدد أعضائها عن المائة. وما يحدد بهذا العدد يصبح غير قابل للتغيير، وما يحترمونه بعد الله كل الاحترام هو اسم مشترعهم، ومن يجدف عليه يحكم بالإعدام. ويستحسنون طاعة شيوخهم ورأي الأكثرية، فإذا اجتمع عشرة منهم لا يتكلم أحدهم إذا علم أن التسعة الآخرين لا يتفقون معه في الرأي. ويمتنعون عن البصق فيما بينهم وإلى يمينهم. وهم أشد حرصا على حفظ السبت من أي يهود آخرين، ولا يكتفون بإعداد طعامهم في اليوم السابق؛ كي لا يضطروا إلى إيقاد النار، بل إنهم لا يزيحون آنية من محلها ولا يتغوطون، وليس ذلك فقط؛ بل إنهم في الأيام الأخرى يحفرون برفش، تعطى لدى دخولهم في الجماعة، حفرة عمقها قدم، ويسترون أنفسهم بالثوب؛ كي لا يهينوا أشعة النور الإلهي، ويريحون أنفسهم في هذه الحفرة ثم يعيدون التراب الذي حفر منها إليها، وحتى هذا أيضا لا يفعلونه إلا في الأماكن المنفردة التي ينتقونها لهذه الغاية. ومع أن إراحة الجسد هذه أمر طبيعي، فإنهم يوجبون بالقانون غسل أنفسهم بعدها كأنها تنجسهم.
وبعد انقضاء مدة الامتحان الإعدادي يقسمون إلى أصناف أربعة، ويظل المستجدون دون المتقدمين رتبة، فإذا ما لمس المستجدون المتقدمين اضطر هؤلاء إلى الاغتسال كأنهم اختلطوا بغرباء. وهم يعمرون بحيث إن كثيرين منهم يعيشون أكثر من مائة عام؛ ويعود السبب في ذلك إلى بساطة طعامهم، لا بل إلى محافظتهم على النظام في أمور المعيشة. وهم يحتقرون بؤس الحياة ويترفعون عن الألم؛ لاتساع عقولهم. أما الموت فإنه كان في سبيل مجدهم فإنهم يؤثرونه على الاستمرار في الحياة. وقد سجلت حربنا ضد الرومانيين أدلة وافرة على عظمة نفوسهم في المحنة؛ فإنهم على الرغم من تعذيبهم وتشويههم وإحراقهم وتقطيعهم إربا، وعلى الرغم من تعريضهم إلى جميع أنواع العذاب؛ ليجدفوا على مشترعهم أو ليأكلوا ما حرم عليهم، فإن معذبيهم لم يفلحوا في إكراههم على أحد هذين الأمرين حتى ولا مرة واحدة، ولو كانت لإكرام المعذبين، ولم تتساقط دمعة واحدة، بل ابتسموا في آلامهم، وهزئوا بمن عذبهم، وأسلموا أرواحهم برغبة شديدة، كأنهم انتظروا تسلمها مرة ثانية.
والسبب في ذلك أن عقيدتهم هي هذه: أن الأجساد قابلة الفساد، وأنها لا تدوم، وأن النفوس خالدة مستمرة إلى الأبد، وأن هذه النفوس تأتي من الهواء الرقيق جدا؛ لتتحد بأجسادها اتحاد السجن فيها، وتجتذب إليها بتشويق طبيعي معين. ولكن عندما تحرر من قيود الجسد تحرر الإفلات من العبودية تبتهج فتصعد إلى فوق.
وبينهم من يحاول أن يتنبأ بما سيحدث بمطالعة الأسفار المقدسة وباللجوء إلى أنواع متعددة من التطهر. وبما أنهم يجيدون معرفة أقوال الأنبياء، فإنهم لا يخطئون في تنبؤاتهم إلا نادرا.
وهنالك فرقة أخرى من الحاسيين تتفق وسائر الحاسيين في المعيشة والعادات والشرائع، ولكنها تختلف عنهم في أمر الزواج؛ فإن أفرادها يرون أن الامتناع عن الزواج يقضي على القسم الرئيسي من الحياة البشرية، على إمكانية التسلسل، وإنه إذا قال الجميع بعدم الزواج قضي على الجنس البشري. وعلى كل حال فإن هؤلاء يمتحنون أزواجهم ثلاث سنوات، فإذا وجدوهن من ذوات الحيض ثلاث مرات تزوجوا منهن فعلا، ولكنهم لا يساكنونهن إذا كن حاملات ليبرهنوا على أنهم لا يتزوجون لمجرد اللذة؛ بل لأجل التوالد، والنساء يذهبن إلى الحمامات لابسات بعض أثوابهن والرجال يتمنطقون. تلك هي عادات هذه الفرقة من الحاسيين.
وجاء لهذا المؤرخ المعاصر نفسه في كتابه التاريخ القديم (13 : 5) ما محصله: «وكان بين اليهود في هذا الزمان فرق ثلاث اختلفوا في موقفهم من أعمال الإنسان؛ وهم الفريسيون والصدوقيون والحاسيون. فقال الفريسيون بأن بعض الأفعال مقدرة لا كلها، وأن بعضها يقع تحت سلطتنا، وأن هذا البعض معرض لمفعول القدر، ولكنه ليس مسببا عنه. أما الحاسيون فإنهم أكدوا أن القدر يتحكم في جميع الأمور، وأن شيئا لا يحدث للبشر إلا بموجب سابق لتصميمه وتحديده. وأبطل الصدوقيون القدر وقالوا إنه غير موجود، وإن حوادث البشر ليست تحت تصرفه. وافترضوا أن جميع أفعالنا هي تحت مطلق سلطتنا، وأننا نحن نسبب الخير ونقبل الشر بطيش منا.»
وقال يوسيفوس أيضا في كتابه التاريخ القديم (18 : 1): «إن عقيدة الحاسيين هي هذه: إن لله مرد الأمور، وإن النفوس خالدة، وإن السعي لنيل جزاء الصلاح واجب. وعندما يرسلون بما يكرسون لله إلى الهيكل لا يقدمون الذبائح؛ لأن لديهم من التطهير ما هو أنقى وأفضل؛ ولهذا فإنهم يمنعون من الوصول إلى صحن الهيكل فيقدمون ذبائحهم بأنفسهم.»
ويضيف يوسيفوس في هذا الكتاب نفسه (15 : 10) أنه قام بين الحاسيين رجل كان يدعى مناحيم، وأنه سار سيرة ممتازة، وأن الله منحه موهبة التنبؤ، وأن هذا الرجل شاهد هيرودوس حينما كان لا يزال ولدا ذاهبا إلى المدرسة، فحياه ملكا على اليهود، ولم يلتفت هيرودس آنئذ إلى ما قاله مناحيم؛ لأنه لم يكن لديه أي رجاء في هذا التقدم، ولكنه لما أسعده الحظ وتقدم إلى رتبة الملك وأصبح في الطليعة استدعى مناحيم وسأله كم يدوم ملكه، فلم يقل له مناحيم عن مدى ملكه شيئا، فسأله هل يملك عشر سنوات أم لا؟ فأجاب: «عشرين، لا بل ثلاثين»، ولكنه لم يحدد انتهاء الملك، فسر هيرودس من هذه الأجوبة وأعطى مناحيم يده وأمره بالخروج، ومنذ ذلك الحين استمر في احترام الحاسيين.
وفيلون الإسكندري الذي صنف في حوالي السنة 20 بعد الميلاد ذكر الحاسيين في الإسكندرية، وفرق بينهم وبين الثيرابغتيين (الآسيين)، فجعل من هؤلاء فرقة متأملة ومن أولئك فرقة عاملة، وجعل عددهم أربعة آلاف، وقال: إنهم ينبذون الاسترقاق ويبتعدون عن القسم، ويعنون بالناحية الأدبية من شرائع آبائهم، ويؤثرون التأويل، ويعيشون جماعات جماعات بصندوق واحد مشترك ووجبات واحدة من الطعام، وإنهم اشتهروا بالاقتصاد والتواضع والمحبة والأخوة.
8
أخبار الزمان
وكان ما كان من أمر الإسكندر وداريوس في إسوس وغوغملة. ودالت دولة الفرس واستولى الإسكندر عليها، فدخلت فلسطين في طاعته في السنة 332 قبل الميلاد. فأبقى الإسكندر الحاكم الفارسي في منصبه في السامرة، وعين أنذروماخوس المقدوني قائدا إلى جانبه. ولم يذهب إلى أوروشليم ولم يقدم الذبائح في هيكلها كما شاع فيما بعد.
9
ثم قضى الإسكندر في بابل في السنة 323، فنشب عراك هائل لم يكن يخمد قليلا إلا لينشب من جديد، اضمحلت في أثنائه أسرة الإسكندر ووالدته معها، وقامت بين الطامعين حروب دامية، فانقسمت مملكة الإسكندر إلى ثلاثة أقسام في أوروبة وآسية وأفريقية، ورأس كل قسم منها أحد قواده أو خلفائه، فاستولى على مقدونية أنتيغونوس حفيد أنتيغونوس القائد الكبير، وكان نصيب القائد سلوقوس معظم ما كان يعرف قبلا بمملكة الفرس في آسية، ونصيب بطليموس أدهى قواد الإسكندر بلاد مصر في أفريقية، وتنازع السلاقسة والبطالسة حكم سورية الجنوبية «المجوفة» ومنها فلسطين، فحكمها البطالسة قرنا كاملا من الزمن هو القرن الثالث قبل الميلاد. وتساهل البطالسة وتسامحوا، فأحبهم اليهود وأموا عاصمتهم الإسكندرية وتكاثروا فيها، وأقبلوا على تعلم اللغة اليونانية وآدابها وبرع بعضهم بها، وتناسوا العبرية فاضطروا إلى نقل أسفارهم المقدسة إلى اليونانية، فكانت الترجمة السبعينية في عهد بطليموس فيلادلفوس في أواسط القرن الثالث قبل الميلاد (285-246).
السلاقسة واليهود
واستغل أنطيوخس الثالث العظيم ظروف البطالسة الداخلية، فاكتسح سورية الجنوبية «المجوفة» بأكملها، وأدخل، في حوالي السنة 198 قبل الميلاد، فلسطين في طاعته، وخلفه سلوقوس الرابع (187-175) فأنطيوخوس الرابع (175-164)، ومضى هذا في سياسة التهلين التي اختطها الإسكندر نفسه، وحاول تطبيقها كثيرون من خلفائه في الشرق، فحض على التخلق بأخلاق اليونان، وعلى اقتباس الكثير من عاداتهم وعلومهم وفنونهم، وعلى احترام آلهتهم. وحاول تهلين اليهود في فلسطين، «فخرج من هؤلاء أبناء منافقون، فأغروا كثيرين قائلين: هلموا نعقد عهدا مع الأممم حولنا، فإنا منذ انفصلنا عنهم لحقتنا شرور كثيرة»، فحسن هذا الكلام في عيون البعض، وبادروا يصنعون بحسب أحكام الأمم.
10
ونسي أنطيوخوس درجة تمسك اليهود بسننهم وتقاليدهم ودينهم، وفاته ما قاله هامان لأحشوروش الملك الفارسي أنهم على انتشارهم وتفرقهم لا يحفظون سنن الملك.
11
فلما كتب أنطيوخوس إلى أوروشليم ومدن يهوذا أن يبتنوا مذابح وهياكل ومعابد للأصنام، وأن يذبحوا الخنازير والحيوانات النجسة، ويتركوا بنيهم قلفا، ويعذروا نفوسهم بكل نجاسة
12
خرج متتيا بن يوحنا بن سمعان من أوروشليم وسكن في مودين، ثم قدم إلى مودين من أرسلهم الملك السلوقي؛ ليجبروا الناس على الذبح للآلهة، وأقبل رجل يهودي على عيون الجميع ليذبح على المذبح الذي في مودين، فوثب عليه متتيا الكاهن وقتله على المذبح، وقتل رجل الملك أيضا، وصاح بصوت عظيم قائلا: «كل من غار للشريعة وحافظ على العهد فليخرج ورائي»، وهرب هو وبنوه، يوحنا كديس وسمعان بطسي ويهوذا المكابي وأليعازر أواران ويوناثان أفوس إلى الجبال، فبدأت بذلك ثورة المكابيين
13 (165-135) قبل الميلاد، وتزعمها أبناء متتيا يهوذا فيوناثان فسمعان، وشغلت السلوقيين مشاغل أخرى، فتمكن سمعان من تحرير فلسطين وشعبها.
هكذا يعمل العلماء لجمع القطع المتناثرة.
وفي السنة الثانية لزعامة سمعان (142-135) نادى اليهود به كاهنا أعظم وقائدا عاما وأميرا يورث حقوقه وصلاحياته لأبنائه وأحفاده من بعده، فأسس سمعان بذلك الأسرة الحشمناوية؛ أي: أسرة بني حشمناي. ويلاحظ هنا أن هؤلاء لم يكونوا من سلالة داود من حيث الملك، ولم يتحدروا من هارون من حيث الكهنوت. وعرف اليهود هذين الأمرين حق المعرفة، فاحتاطوا وجعلوا ملك هؤلاء محدودا حتى الزمن الذي يظهر فيه نبي أمين؛ أي: حتى الزمن الذي يتدخل فيه رب العالمين.
ولم يرض جميع اليهود عن هذا التدبير لخروجه على التقليد، وازداد عدد هؤلاء المعارضين بتغافل الحشمناويين وقلة اكتراثهم للناموس، فإنهم ما كادوا يستوون على دست الحكم حتى رغبوا في الدنيا واستبدوا في الناس، فأعلن الفريسيون استياءهم منذ أيام يوحنا هيركانوس بن سمعان المؤسس، وذلك بين السنة 135 والسنة 104 قبل الميلاد، وما فتئوا متنكرين حتى عهد ألكسندرة الملكة (76-67) قبل الميلاد.
وراقب السلوقيون تطور الموقف، فعاد أنطيوخوس السابع (138-129) إلى الميدان قبل وفاة سمعان المؤسس وأكره ابنه يوحنا هيركانوس، في السنة 135، على دفع الجزية وعلى هدم أسوار أوروشليم، ثم خلف أنطيوخوس سلوقي ضعيف هو ألكسنذروس الثاني زبيناس (128-123)، فاستعاد يوحنا هيركانوس استقلاله ووسع سلطانه، وأنشأ جيشا من المرتزقة، وتصرف تصرف أمير زمني بكل معنى الكلمة، فزاد الفريسيين غضبا وكرها، وجاء ابنه أرسطوبولوس بعده فأظهر التكبر والتجبر، ولبس التاج فقنط الفريسيون وتقلص ظل آمالهم. وكان أرسطوبولوس قد قيد أخاه ألكسنذروس وأمه، فلما توفي نزع الجند عن أخيه القيد، وأخرجوه من الحبس، فتولى الملك بعد أخيه. ولما استقام له الأمر (103-76) تشوف إلى المطامع البعيدة، وأحب النزال والقتال، فكان لا ينتهي من حرب حتى يبدأ بغيرها، فاغبر الجو بينه وبين الفريسيين، وتقوضت دعائم المودة. وحل عيد المظال ودخل ألكسنذروس إلى أوروشليم، وصعد إلى المذبح في وقت القربان، فابتدأ قوم من اليهود يلعبون بسعف النخل ورمي الترنج، وهو نوع من الليمون، فأصابت ترنجة الملك ألكسنذروس، فغضب أصحابه وقالوا للفريسيين: كيف جسرتم على الملك بهذا؟! فقالوا: «ما فعلنا ذلك تهاونا به ولا جرى منا بالقصد. وهذا اللعب هو سنة العيد والمقصود به الفرح والابتهاج.» فلم يقبل الملك وأصحابه هذا الاعتذار لما في نفوسهم من عداوة للفريسيين، وتردد الكلام بينهم إلى أن شتم بعضهم ألكسنذروس وأسمعه القبيح، فغضب الملك وأمر بالفريسيين فقتل منهم في ذلك اليوم ستة آلاف رجل، وأمر ألكسنذروس بعد ذلك أن يبنى حائط يقطع ما بين المذبح والصحن، وألا يقترب من المذبح سوى الكهنة وخواص الأمة، فتأصلت العداوة بين الفريسيين والصدوقيين، وعضد ألكسنذروس الملك الصدوقيين، واتصل النزاع بينهم ست سنين، قتل فيها من الفريسيين خمسون ألف رجل، ثم حاول ألكسنذروس أن يؤلف بينهم ويصلح أحوالهم فلم يتمكن، حينئذ طلب الفريسيون معونة السلوقيين، فسار ديمتريوس الثالث أفكيروس
Eukairos - المالك آنئذ في دمشق - في جيشه مع من انضاف إليه من اليهود، إلى أن نزلوا على شكيم (نابلس)، فخرج إليه ألكسنذروس فهزمه ديمتريوس في حوالي السنة 91 قبل الميلاد، وقتل أكثر رجاله، فهرب ألكسنذروس إلى بعض التلال، وجاء إليه كثيرون من اليهود الذين مع ديمتريوس، فلما صار في عسكر كبير سار إلى ديمتريوس، فرده إلى سورية، ثم عادت الحروب بين ألكسنذروس وبين الفريسيين، فهزمهم وقتل كثيرا منهم، وأخذ من كبراء الفريسيين ووجوههم ثمانمائة رجل، فقتلوا وصلبوا بين يديه، واستولى بعد ذلك على جميع اليهود وقهرهم.
14
ثم اعتل ألكسنذروس بحمى الربع، فدامت عليه ثلاث سنين، فنهكت جسمه. ولما بلغه أن بعض المدن التي تحت طاعته عصت عليه سار لمحاربتها وهو عليل، وحمل معه امرأته ألكسنذرة وكل حشمه وجواريه، فنزل على راجب بين جرش والأردن وحاصرها، وقويت عليه علته وقرب منه أجله، فنصح إلى زوجته أن تخفي موته إلى بعد فتح المدينة، وأن تعود إلى أوروشليم، وتحمل جثته إلى قصره سرا، وتستدعي وجوه الفريسيين وتكرمهم وتخاطبهم بالجميل وتقول إنها عالمة بعداوته لهم وبما فعله بهم، ولكنها لهم من بعده تفعل كما يختارون ولا تخالفهم بشيء. ومات ألكسنذروس «76» وفعلت ألكسنذرة كما أوصاها، فأجاب الفريسيون بالجميل ودفنوا زوجها مع آبائه، فاستمالوا القوم إلى ألكسنذرة، وأشاروا أن يملكوها بعده، فاستقام أمرها حتى السنة «67» قبل الميلاد بمعاونة الفريسيين.
وأطلقت ألكسنذرة جميع من كان من الفريسيين في السجون، وردت إليهم تدبير الناس، وتمسكت بمذهبهم، وجعلت ابنها الأكبر هيركانوس كاهنا أعظم؛ لأنه كان متواضعا وديعا خيرا، وجعلت أخاه أرسطوبولوس، وهو الأصغر، صاحب الجيش، ولما قوي أمر الفريسيين جاءوا إلى ألكسنذرة، ومعهم ابنها هيركانوس، وطلبوا إطلاق يدهم في قتل رؤساء الصدوقيين؛ لأن ما حل بهم من الأذى في عهد ألكسنذروس كان برأي هؤلاء، وهم الذين حملوه على قتل ثمانمائة شيخ فريسي وصلبهم، فقالت: افعلوا، فقبضوا على كبير الصدوقيين اسمه ذياخبيس، وكان هو الذي حمل ألكسنذروس على قتل الفريسيين، فقتلوه مع جماعة أخرى. فجاء الصدوقيون إلى ألكسنذرة ومعهم ابنها أرسطوبولوس، وقالوا: «أنت تعلمين ما لقينا من الشدائد مع زوجك، فكيف تناسيتنا! إننا لا نصبر على إذلال الفريسيين لنا، فإما أن تكفيهم عنا، وإما أن تطلقي لنا الخروج من المدينة والتفرق في الضياع البعيدة»، فقالت: «اخرجوا»، فخرجوا وتفرقوا ثم توفيت في السنة 67 قبل الميلاد.
15
ولما مرضت ألكسنذرة وأيس منها أرسطوبولوس ابنها الأصغر خرج من أوروشليم، واستنهض الصدوقيين إلى نصرته ومعونته على أخذ الملك، ففعلوا وجاء إليه من جبل لبنان وجبل الخليل وغيرهما من اليهود رجال كثيرون، فنزل بهم على الأردن فخرج إليه هيركانوس بجيش الفريسيين، فتحاربا فانهزم هيركانوس فأصبح أرسطوبولس الملك باسم أرسطوبولوس الثاني، وأمسى هيركانوس كاهنا أعظم.
ثم أفسد أنتيباتروس بين هيركانوس وأخيه، وكان أنتيباتروس قد تولى أدوم في عهد ألكسنذروس، وتزوج امرأة من أهل أدوم ولدت له من البنين أربعة: فزائيل وهيرودوس وفيروراس ويوسف. وقد اختلف في أصله، فمنهم من قال: إنه من يهود بابل، ومنهم من قال: إنه كان عسقلانيا لا عبرانيا. وكان ذا عقل ورأي وشجاعة وبأس ودهاء وحيلة ومال. فلما مات ألكسنذروس عزلته ألكسنذرة، فأقام في أوروشليم ونشأت مودة بينه وبين هيركانوس، فحرضه على أخيه أرسطوبولوس الملك قائلا إنه يسعى لهلاكه، وأشار عليه أن يخرج ويمضي إلى الحارث ملك الأنباط، فرحب الحارث بالضيفين، ومشى معهما على رأس خمسين ألفا قاصدا أرسطوبولوس، فلما التقوا في السنة 64 قبل الميلاد استأمن كثيرون من رجال أرسطوبولوس إلى أخيه، فهرب هذا، ودخل أوروشليم وامتنع فيها، فقام الحارث وهيركانوس وأنتيباتروس إلى أوروشليم فنازلوا المدينة، فاتصلت الحروب وعظمت الفتن، فانتقل كثيرون من أهل الخير والسلام إلى مصر.
وفي هذه الآونة، في عهد أرسطوبولوس الثاني (67-63) قبل الميلاد، أطلت رومة بشخص قنصلها بومبايوس تتدخل تدخلا فعليا في شئون السلاقسة واليهود، فلصوص البحر كانوا قد غشوا البحر المتوسط بأكمله، وكانت القحة قد بلغت بهم أن ظهروا عند مصب التيبر ينهبون ويحرقون ويخطفون بعض موظفي الحكومة في الطريق، على مسافة بضعة كيلومترات من رومة نفسها، واستولوا على الحنطة الواردة إلى رومة من مصر وأفريقية، فظهر بومبايوس غرب البحر المتوسط في أربعين يوما، ثم أبحر إلى الشرق، فاستأصل في سبعة أسابيع شأفة اللصوص في بحر إيجه، وخرب حياض سفنهم وحصونهم، وكان بعضهم قد اتخذ من بعض تعاريج شواطئ السلاقسة نقاط انطلاق للقرصنة، ومن هذه رأس الشقعة بين البترون وطرابلس. فرأى بومبايوس أن يحتل هذه الشواطئ وما جاورها احتلالا نهائيا، فضرب في السنة 67 متراداتس ملك البونط في شرق آسية الصغرى ضربة قاضية. وفي السنة 66 تغرانوس ملك الأرمن، ثم اتجه شطر سورية وفلسطين. ووصل أحد قواده سكوروس
Scaurus
إلى دمشق في مطلع السنة 63 قبل الميلاد، ثم تبعه بومبايوس في ربيع هذه السنة نفسها.
وكان اليهود قد عرفوا الرومان، وفاوضوهم في شئونهم منذ عهد يهوذا المكابي ويوحنا هيركانوس، واعتبروهم أصدقاء وحلفاء؛ فقد جاء في سفر المكابيين الأول في حوالي السنة 100 قبل الميلاد، بعد وصف قوة رومة وبطشها، أن الرومانيين حفظوا المودة لأوليائهم والذين اعتمدوا عليهم، وأن يهوذا فاوضهم ليثبتوه في جملة مناصريهم، فحسن كلامه لديهم، وأرسلوا إليه كتابا دونوه على ألواح من نحاس؛ ليكون عند يهوذا وشعبه تذكارا للمسالمة والمناصرة (8 : 12-23)، فلما سمع اليهود بوصول سكوروس إلى دمشق أرسل كل من هيركانوس وأرسطوبولوس وفدا يفاوض في طلب المعونة. ولدى دخول بومبايوس إلى دمشق وصل وفد يمثل الشعب اليهودي راجيا إنهاء حكم الحشمناويين وإعادة السلطة إلى يد الكهنة، فأشار بومبايوس بالانتظار ريثما يكون قد قضي على الأنباط، ولكن أرسطوبولوس احتار في أمره ولم ينتظر، فزحف بومبايوس على أوروشليم واستولى عليها عنوة في السنة 63، وأدخل فلسطين في ولاية حاكم سورية، وأمسى هيركانوس كاهنا أعظم، وقسم فلسطين إلى خمس مقاطعات، وجعل على رأس كل منها مجلسا يهوديا، ولكنها ظلت مضطربة غير مستقرة.
وجاءت الحرب الأهلية الرومانية في السنة 49 قبل الميلاد، وقتل بومبايوس في السنة التالية، فأيد هيركانوس وأنتيباتروس يوليوس قيصر، فجعل يوليوس هيركانوس أميرا على فلسطين وأنتيباتروس حاكما على اليهودية ذا سلطة على اليهود وغير اليهود، وأصبح هو حاكم البلاد الحقيقي، فجعل ابنه أفزائيل مدبرا لشئون اليهودية وابنه هيرودوس حاكما على الجليل. وكان ما كان من أمر يوليوس قيصر واغتياله في السنة 44 قبل الميلاد، فاستولى الفرت على فلسطين ثلاث سنوات، وأنزلوا هيركانوس من رئاسة الكهنوت، وجدعوا أذنيه ليظل مشوها غير صالح للكهنوت، ونادوا بأنتيغونوس بن أرسطوبولوس ملكا، فحكم البلاد من السنة 40 حتى السنة 37 قبل الميلاد.
وعاد الرومان إلى الحكم، فجعلوا هيرودوس بن أنتيباتروس ملكا، فحكم فلسطين ثلاثا وثلاثين سنة (37-4ق.م.)، وكان هماما نشيطا مدبرا منظما مواصلا مداهنا، فعظم أمره واتسع سلطانه وازدهر ملكه، فلقب بالكبير. وهو الذي أمر بذبح الأطفال، وفي عهده ولد السيد المسيح في بيت لحم. وجاء بعده ابنه أرخيلاوس، فحكم اليهودية والسامرة وأدوم بدون لقب ملك، وانتهى حكمه الفاسد في السنة 6 بعد الميلاد بناء على طلب الشعب، ونفي، وأصبحت فلسطين ولاية رومانية عادية، وما فتئت كذلك حتى السنة 41 بعد الميلاد، وفيها أصبح أغريبا ملكا على اليهود، فدام ملكه حتى السنة 44.
وشق اليهود الطاعة على رومة في السنة 66 بعد الميلاد، وامتنعوا في أوروشليم، فدكت رومة حصون المدينة في السنة 70 ودمرتها تدميرا، ثم عاد اليهود إلى العنف في السنة 132 بقيادة باركوزينة، ثم استسلموا صاغرين في السنة 135 بعد الميلاد، وما فتئوا مشتتين حتى وعد بلفور في الحرب العالمية الأولى.
هذه لمحة خاطفة من تاريخ اليهود في القرنين الأخيرين قبل الميلاد. وفي القرن الأول بعده، وهي في حد ذاتها كافية لإظهار تفكك اليهود في هذه الحقبة من تاريخهم، وتبيان درجة التشويش والفوضى في صفوفهم، وكيف تعارضت أهواؤهم وتشعبت آراؤهم وتباينت مذاهبهم، فأصبحوا لا تجمعهم جامعة ولا يستقيمون على وجه يعتمدون عليه، وخاب رجاء الصالحين منهم وأخفقت آمالهم، ولم يبق لهم في البشر رجية، فباتوا ينتظرون عملا إلهيا، مسيحا يوطد أركان ملكوت الله على الأرض، وأمست نبوات الأنبياء ولا سيما أشعيا وحبقوق أحب ما في الأسفار إليهم.
الفصل الرابع
المكشوف على ضوء المعروف
خرائب أخوية منظمة
وليست خرائب قمران خرائب قرية فلسطينية عادية تتألف من عدد كبير أو قليل من المساكن العائلية والأبنية العمومية والأسواق والباحات والأزقة، وإنما هي بقايا مؤسسة جماعية لها شبكة مياه متعددة الفروع، ولكنها منسقة مرتبة ومعدة لتأمين المياه لعدد كبير من الأفراد في وقت واحد. فهنالك الخزانات والصهاريج والأقنية والأحواض والأجران المختلفة، وجميعها مربوط بعضه ببعض معد لعمل مشترك. وهنالك المشاغل لصنع الأواني وإعداد ما يلزم لجماعة من الناس منكفئة على نفسها منعزلة عن الغير، مواخير ومصانع لتطريق النحاس وللحدادة، ومطاحن وأفران ومخازن للإعاشة. وهنالك المغاسل المشتركة والمطبخ وغرفة الطعام وغرفة الكتابة وقاعات الاجتماع. وفي المقبرة ما يؤيد هذه الحياة الأخوية المشتركة، فهي تختلف عن سائر مقابر هذه الفترة، وفيها ما يدل على اتباع خطة معينة في التكفين والتوجيه والدفن.
وفي موقع هذه الخرائب ما يتفق كل الاتفاق مع ما جاء في كلام بلينيوس الأكبر عن جماعة من الحاسيين أقاموا في هذا المحل نفسه في عصر بلينيوس؛ أي: في القرن الأول بعد الميلاد. فما يقوله عن هؤلاء لا ينطبق إلا على أخوية قمران. فليست هنالك أية خرائب أخرى بين عين جدي وأريحا تصح عنها ملاحظاته سوى خرائب قمران. وقد أوردنا ما قاله في فصل سابق فليراجع في محله.
الكهوف مساكن ومخابئ
وليس في خرائب قمران مساكن أو غرف للنوم، فلا بد والحالة هذه من مساكن وغرف يأوي إليها أفراد هذه الأخوية. وقد تبين مما تبقى في الكهوف المجاورة من أدوات ما يدل على أنها كانت في زمن الأخوية مساكن يلجأ إليها هؤلاء النساك، ولا يمنع هذا القول وجود خيام أو أنواع أخرى من المساكن بالإضافة إلى الكهوف.
ولا يرى رجال الاختصاص رأي سوكينيك العالم اليهودي، فلا يعتبرون هذه الكهوف «جنازات» حفظ فيها ما أهمل من الأسفار؛ فإن ما وجد فيها كثير جدا يفوق عدده ما يهمل فيحفظ. وفيها أيضا من المخطوطات ما لا علاقة له بالأسفار، وما لا يستوجب الإهمال والاستيداع والتجنيز. وهم يرجحون أن الدروج والمخطوطات حملت إلى هذه الكهوف، وخبئت بها لدى خروج اليهود على الرومان وإعلان ثورتهم الكبرى في السنة 66 بعد الميلاد.
دروج التوراة
وربع ما وجد من المخطوط كتابي يتضمن الأسفار التي اعتبرها يهود فلسطين مقدسة قانونية منذ القرن الأول بعد الميلاد، ولا ينقصها سوى سفر أستير. وهنالك نسخ متعددة من نبوة أشعيا والمزامير والأنبياء الصغار وتثنية الاشتراع تربي على العشرة. وبعض ما وجد من هذه النسخ قريب في عمره من النسخ الأم كدرج دانيال (ق4) الذي يعود إلى نصف قرن فقط بعد ظهور السفر (164ق.م.). وما وجد من سفر الجامعة في (ق4) لا يبعد من حيث تاريخ نسخه أكثر من مائة سنة عن زمن ظهور هذا السفر. وهذا التقارب في العهد بين ما وجد من نسخ وبين الأمهات التي نقلت عنها أمر نادر بعيد الوقوع حتى في برديات مصر.
ومما يلفت النظر ويثلج الصدر، ولا سيما صدر القديس الفيلسوف يوستينوس النابلسي، عثور المنقبين على مقاطع من نصوص الأسفار الخمسة، تؤيد يوستينوس في محاورته الشهيرة مع تريفون اليهودي في منتصف القرن الثاني بعد الميلاد؛ فقد عثر المنقبون في كهف قمران الرابع على نص من سفر الخروج يقرب كثيرا من النص السبعيني؛ فالنفوس الخارجة من صلب يعقوب في مصر في هذا النص خمس وسبعون، لا سبعون فقط كما في توراة اليهود «المسورة»، وهي خمس وسبعون في خطاب أسطفانوس الشهيد الأول (أعمال 7 : 14). وما لا نجده من نشيد موسى، في العدد الثالث والأربعين من الفصل الثاني والثلاثين، من سفر تثنية الاشتراع مما جاء في النص السبعيني نجد معظمه في نص من نصوص التثنية الذي وجد في كهف قمران الرابع.
1
أسفار النبوات الأولى
وما وجد من أسفار يشوع والقضاة وصموئيل وأخبار الملوك في كهوف قمران الأول والرابع والخامس والسادس، مستمد جميعه من أصل تحدرت منه الترجمة السبعينية أيضا، ومما تجدر إليه الإشارة هنا هو أن نص سفر صموئيل الذي وجد في كهف قمران الرابع، الذي يشار إليه ب (ق4 صموئيل ب)، الذي يعتبر في نظر الثقات أقدم نصوص العهد القديم خطا، هو أيضا أقرب بكثير إلى نص الترجمة السبعينية منه إلى نص التوراة المسور.
2
أسفار النبوات المتأخرة
ونبوات أشعيا وأرميا وحزقيال والاثني عشر ممثلة جميعها تمثيلا حسنا في كهوف قمران، فقد وجد المنقبون درجين كاملين لنبوة أشعيا. وبينما نرى نص الدرج الثاني (1ق 1ش ب) يمت بصلة قوية إلى النص المسور، وكذلك نصوص المقاطع الاثني عشر التي وجدت في الكهف الرابع القمراني نجد نص الدرج الأول (1ق 1ش 1) يختلف عن النص المسور في أمور؛ أهمها: سهولة قراءته وفروقات في التهجئة، وتركيب الجمل وترتيب النص وتنظيمه. وأهم من هذه وتلك فرق واضح بين نص قديم ونص متأخر يظهر بفراغ من الكتابة عند الانتهاء من الفصل الثالث والثلاثين، وباستعمال رق جديد لما يلي من الفصل الرابع والثلاثين وغيره.
3
ويظهر أثر النص السبعيني في بعض قطع من نبوة أرميا عني بها العلامة الدكتور كروس.
أيوب ودانيال والمزامير
وقد وجد سفر أيوب في نسختين إحداهما بالخط المربع المتأخر، والأخرى بالخط العبري القديم. وإذا كانت النسخ الأمهات قد كتبت بهذا الخط القديم، فإنه سيسهل عندئذ حل بعض مشاكل النص المسور. وقد وجدت أيضا نسختان من سفر دانيال في كهف قمران الأول، وأربع في الكهف الرابع، وواحدة في الكهف السادس، وجميعها يقارب النص المسور، ولكنها تظهر أيضا أثر النص القديم الذي تحدر منه النص السبعيني. وهنالك بقايا نسخ أخرى يظهر فيها الانتقال من النص العبري إلى الآرامي، ومن الآرامي إلى العبري. وهنالك أيضا بقايا دروج عشرة من المزامير، وليس في معظمها سوى نص المزمور المائة والتاسع عشر. وهنالك درج واحد جاءت المزامير فيه بترتيب يختلف عن الترتيب المسور.
4
كتب التلاوة
تسمى أيضا الكتب القانونية الثانية
Deuterocanoniques ، ويعتبرها اليهود دخيلة. إن يهود قمران عرفوا هذه الكتب واقتنوها ورجعوا إليها. ودليلنا على ذلك ما نجده منها بين محتويات الكهوف؛ فهنالك ثلاث نسخ من سفر طوبيا: اثنتان منها بالعبرية، وواحدة بالآرامية يعنى بها الآن الأب ميليك. وهي أقرب في نصوصها إلى الفيتوس اللاتينية
Vetus Latina
منها إلى النص السينائي
Codex Sinaïticus ، ويميل الأب ميليك إلى الاعتقاد بأن بعضها جاء أولا بالآرامية.
5
ويعنى الأب بالي
Baillet
ببعض قطع من الدروج وجدت في كهف قمران الرابع، وهو يرى أن بعضها يعود إلى الفصل السادس من سفر يشوع بن سيراخ، ويرى أن هذا البعض يتفق مع ما وجد من نوعه في جنازة القاهرة، ويضاف إلى هذا كله بعض مقاطع من رسالة أرميا جاءت باليونانية، ووجدت في كهف قمران السابع.
6
وقد وردت في السبعينية مضافة إلى كتاب باروك.
الأسفار المنتحلة الدخيلة
ورجع يهود قمران إلى أسفار نسبت إلى غير مؤلفيها الحقيقيين، فأمست عند اليهود فيما بعد وعند الآباء المسيحيين
أي: منسوبة إلى غير مؤلفيها الحقيقيين، وبالتالي أبوكريفية
apocrypha
أي: من النوع الذي تجب تخبئته. ولا يخفى أن الانتحال في اللغة هو في الأصل عكس ما تقدم. نقول: انتحل فلان شعرا إذا ادعاه لنفسه وهو لغيره، وقولنا: إن هذه الأسفار منتحلة هو في حد ذاته توسع تدفعنا إليه الحاجة إلى اصطلاح يؤدي معنى ال
. وعند القول: إن سفرا من الأسفار هو من نوع الأبوكريفة نحكم بوجوب إبعاده وعدم الرجوع إليه. ومن هنا قولنا: إنه سفر دخيل أي: غير أصيل.
وأهم الأسفار الدخيلة على العهد القديم، في عرف الآباء المسيحيين من شرقيين وغربيين وفي عرف أحبار اليهود، هي سفر اليوبيلات وسفر أخنوخ ورسائل البطاركة، وكتاب اليوبيلات أو «سفر التكوين الصغير» الذي عرفناه فيما مضى بالحبشية واللاتينية نعرفه اليوم بفضل أعمال الكشف في قمران باللغة العبرية، وهو ما يتفق مع النص الحبشي، وبالتالي فإنه خال من أي دس مسيحي عليه. وقد وجد المنقبون قطعا من نسخ متعددة منه في كهوف قمران الأول والثاني والرابع.
7
وهو يبحث في أصل «الشعب المختار» منذ البدء حتى الظهور في سيناء، ويجيء في تسع وأربعين حقبة، تشمل كل واحدة منها أخبار تسع وأربعين سنة، فيصبح يوبيل اليوبيلات نسجا على ما جاء في سفر الأحبار (25 : 11)، وهو يهدف إلى تبيان قدسية الناموس وقدم عهده ورجوعه إلى عهد البطاركة الأولين، لا بل إلى الأزل في القدم إلى الله في السموات. ويرى رجال البحث أنه من تصنيف يهودي محافظ من أعيان القرن الثاني قبل الميلاد.
8
وعاد يهود قمران أيضا إلى سفر أخنوخ؛ فقد عثر المنقبون في كهف قمران الرابع على حوالي عشر قطع مختلفة من هذا المصنف. وقد جاءت بالآرامية. وسفر أخنوخ كما عرفناه قبلا بالحبشية كشكول من الرؤى يعود إلى القرنين الأخيرين قبل الميلاد، ويبحث في أصل الشر والفساد. وفي الملائكة والشياطين، وفي جهنم والنعيم. وقد قسمه العلامة شارل إلى خمسة أقسام مختلفة، فرأى في فصوله الستة والثلاثين الأولى مادة مأخوذة من سفر نوح، وجعل من فصوله السابع والثلاثين حتى الحادي والسبعين قسم الأمثال والتشبيهات، ومن فصوله الثاني والسبعين حتى الثاني والثمانين كتاب الكواكب، ومن فصوله الثالث والثمانين حتى التسعين رؤى الأحلام، ومن فصوله الحادي والتسعين حتى المائة والرابع رؤيا الأسابيع.
9
وهنالك أشياء من القسمين الأول والرابع في خمس قطع من مخلفات الكهف الرابع. وقد جاءت نصوصها الآرامية أضبط مما جاء في قطع أربع أخرى تضمنت أخبار الكواكب، والقطعة العاشرة لا تزال قائمة بذاتها؛ لضآلة ما تبقى منها، ويرى الأب ميليك أن عدم وجود أي أثر من آثار الأمثال والتشبيهات يوجب القول إن واضعه من المسيحيين اليهود من أعيان القرن الثاني بعد الميلاد.
10
ويرى الأب مارتن
Martin
الكاثوليكي والأستاذ لودز
Lods
الإنجيلي والبحاثة الإسكندينافي موفينكل
Mowinckel
أن سفر أخنوخ هو من نتاج اليهود وحدهم.
11
ونحن نرى أنه ليس من العلم بشيء أن نتسرع في الاستنتاج، فنحكم بشيء قبل تناصر الأدلة عليه، والواقع أن الدليل في الحالتين ضئيل يوجب إرجاء البت.
وتوقع العلماء الباحثون، لدى بدء العمل في قمران، أن يعثروا على نص «عهود البطاركة» بالعبرية أو الآرامية نظرا لما لمسوه في النص اليوناني من آثار الحاسيين، وترقبوا وانتظروا فلم يجدوا شيئا مما صوره لهم الظن. وجل ما عثروا عليه حتى الآن هو بعض مراجع يمكن أن يكون واضع «هذه العهود» قد اعتمدها. فهنالك قطعة من مخلفات الكهف الأول، وبعض قطع من مكتشفات الكهف الرابع كتبت بالآرامية ونسبت إلى لاوي. وهذه القطع تتفق مع ما كان قد وجد في جنازة القاهرة قبل نصف قرن، ومما عثر عليه أيضا شيء من صلاة نسبت إلى يعقوب، وبعض التعليمات في تقديم الذبائح، ونص عبري نسب إلى نفتالي.
12
والبطاركة هم أولاد يعقوب الاثنا عشر. والعهود هي ما أوصوا به أولادهم وأحفادهم قبل وفاتهم كما فعل يعقوب نفسه، وعلى غرار ما جاء من كلامه في الفصل التاسع والأربعين من سفر التكوين. وكانت هذه العهود قد حفظت باليونانية وبالأرمينية والسلافية. وكان روبرتوس أسقف لنكولن
Lincoln ، في القرن الثالث عشر عني بهذه العهود بلغتها اليونانية، وأعد نصا لاتينيا لاقى ترحيبا في الأوساط المسيحية آنئذ، ثم ترجم هذا النص إلى الإفرنسية في السنة 1555 ونشر في باريز. وعاد غرابي
Grabe
في القرن السابع عشر إلى النص اليوناني، فنشره في السنة 1698، وقال عنه إنه نص يهودي يعود إلى ما قبل الميلاد، ولكنه يحمل أثر دس مسيحي.
13
ثم جاء الأب مين
Migne
في السنة 1856، فقال في معجم الأبوكريفه إنه يتراءى له أن هذا النص يعود إلى القرن الأول أو أوائل القرن الثاني بعد الميلاد، وإن واضعه هو يهودي دخل في النصرانية فجعل أبناء يعقوب يقولون ما يؤيد ظهور المسيح. وعالج هذا الموضوع نفسه العلامة الإنكليزي روبرت شارل في أوائل القرن العشرين، فأيد يهودية هذا السفر وحصر الدس المسيحي فيه ببعض العبارات الخريستولوجية.
وظهر في السنة 1953 كتاب يونغ
Jonge
الهولندي، وجاء مؤيدا لما كان قد ذهب إليه الأب مين وناقض شارل، فقال بأن عهود البطاركة من آثار يهودي متنصر اعتمد نصوصا يهودية قديمة، فجعل منها سفرا جديدا يؤيد به دينه الجديد.
14
ورأى الأب ميليك رأيه، فقال: إن صاحب عهود البطاركة كصاحب سفر أخنوخ اعتمد عهد لاوي أو عهد نفتالي أو ما شابههما، فصنف عهود البطاركة، وهو مؤلف واحد للعهود جميعها كما نعرفها في نصها اليوناني بدليل وحدة التخطيط. فلكل عهد من هذه العهود مقدمة تاريخية، وباب فيه حض على الفضيلة، وخلاصة تتوقع مجيء مسيح واحد «لا مسيحين» وتتضمن رؤيا.
15
ويؤثر دوبون صومر
Dupont-Sommer - الأستاذ الفرنسي - القول بأن هذه العهود هي من آثار الحاسيين لوجود ما يماثلها في كهوف قمران، وفي وثيقتي دمشق ولا سيما وأن في هاتين الوثيقتين ما يشابه عددا كبيرا من سائر عهود البطاركة كزبلون ودان ويوسف وبنيامين.
16
ولكنه لا ينكر إمكانية دس مسيحي متأخر.
17
أسفار منتحلة أخرى
ومن مخلفات كهف قمران الأول درج آرامي محزوم ضاعت فصوله الأربعة الأولى، وهو فيما يظهر توسع في الفصول الخمسة عشر الأولى من سفر التكوين. ومن هنا تعريفه بالتكوين المنتحل. وقد عني به أفيغاد
Avigad
ويادين
Yadin ، فنشرا ما تيسر منه في العبرية والإنكليزية في السنة 1956.
18
ومن الأسفار القمرانية المنتحلة سفر ينسب إلى أرميا تبقت منه بقايا مختلفة، ولا يمكن ربطه لا بأرميا نفسه ونبوته، ولا بأمين سره باروك. وهنالك أيضا بقايا من سفر يدعى ترانيم يشوع وسفر آخر يعرف برؤيا عمران أبي موسي وهارون، ولا تزال هذه جميعها قيد الدرس والبحث يعنى بها الأبوان ميليك وستاركي.
19
ومن هذه الأسفار القمرانية المنتحلة أيضا صلاة نبونيدوس:
كلمات الصلاة التي صلاها نبونيدوس الملك العظيم ملك أشور وبابل عندما أصيب بأمر الله بورم شديد، وهو في مدينة تيماء: أصبت سبع سنوات، وأبعدت عن الناس، ولكن لما اعترفت بآثامي وخطاياي أرسل الله إلي نبيا يهوديا ممن أبعدوا إلى بابل، ففسر وكتب أن يمجد اسم الله العلي، وكتب هكذا: «لما أصبت بورم شديد بأمر العلي في مدينة تيماء صليت سبع سنوات إلى الآلهة المصنوعة من الفضة والذهب والبرونز والخشب والحديد والحجر والطين ... من الآلهة ...»
20
وفي هذا كله شيء من التشابه مع ما ورد في سفر دانيال عن المرض الذي ألم بنبوخذنصر.
21
مخطوطة دمشق
لقد سبقت الإشارة إلى هذه المخطوطة، وهي بدون أي ريب من مخلفات جماعة قمران؛ فقد عثر المنقبون في الكهوف القمرانية، الرابع والخامس والسادس على قطع يتفق نصها وما جاء في الوريقات «ألف» من مخطوطة دمشق، وفيها أيضا ما يكمل نصوص هذه الوريقات. وقد تبين أيضا من درس النصوص القمرانية أن المصنف الذي بقيت عنه هذه القطع جاء في جزئين أولهما يبين خطة الخلاص الإلهية (الفصول 1-8)، والثاني يظهر النظم التي وجب اتباعها على الإخوان، وهكذا فإنه لم يبق أي مجال للقول إن الجزأين يمثلان مصنفين مختلفين.
22
قانون الجماعة
هو ما أسماه بعضهم قانون الانضباط.
23
وقد وجدت منه نسخة تكاد تكون كاملة في كهف قمران الأول وتسع قطع من نسخ أخرى في كهف قمران الرابع. ونص هذه أصح من نص النسخة الكاملة وأوضح وأسلم. وقد تعين كثيرا في تحري النص الأصلي والمجيء بلفظه كما أخرجه واضعه «معلم الصلاح». وبعد العنوان والمقدمة يأتي وصف طقس الانتماء إلى الجماعة، ثم الكلام عن «أمير النور» و«ملاك الظلام»، فقوانين الجماعة، فمزمور الختام.
24
قانون الجهاد
ومن مخلفات كهف قمران الأول درج جهاد أبناء النور ضد أبناء الظلام. وقد بقي منه تسعة عشر عمودا وجميع هذه العواميد محزومة عند أسفلها، وهي لا تمثل سوى القسم الأول من قانون الجهاد.
25
وسنعود إلى محتويات هذا الدرج عند الكلام على انتظام الجماعة وعقائدهم.
مزامير الشكر
هي الحديات كما جاء في العبرية. وحدا يحدو في العربية رفع صوته بالحداء. وحدى القارئ يحدي تردد إلى قدام وخلف وهو يقرأ جالسا، ودرج «الحديات» من دروج كهف قمران الأول. وقد جاء محزوما في أماكن عديدة، ولم يبق منه سوى ثمانية عشر عمودا وعدد كبير من القطع الصغيرة يربو عددها على الستين، وعدد المزامير المحفوظة عشرون. ولعلها كانت أكثر بكثير من هذا العدد.
26
وتبدأ هذه المزامير بالعبارة: «إني أقدم لك الشكر يا الله.» ومن هنا القول: إنها مزامير الشكر.
وناظم هذه المزامير بموجب نصوصها هو «المعلم الذي يعلم، والأب الذي يعتني، ومصدر المياه الحية، مشيد بنيان الجماعة، وبستاني البستان الأبدي»، ومن أجدر بهذا كله من «معلم الصلاح» نفسه.
27
قانون الأخلاق
وهنالك قطع كثيرة من مخلفات الكهف القمراني الرابع تتضمن نتفا من قانون الأخلاق الذي يرتكز إلى نصوص الأسفار الخمسة. وهو يوجب درجة من الانضباط أشد وأضيق مما ينص عليه قانون السلوك عند الفريسيين.
28
تفسير الأسفار
الدرج الكامل لسفر أشعيا (ص33 و34).
والتفسير عند أئمة قمران هو التأويل على ضوء ظروف الجماعة. فهو ليس مجرد التعبير عن شيء بلفظ أسهل وأيسر من لفظ الأصل، وإنما هو رجوع إلى الأسفار لتأييد العقيدة، وفهم الماضي والحاضر على ضوئها. وهكذا فإن ما تبقى من تفاسيرهم هو واحد من ثلاثة: إما تفسير على ضوء ما تأتى للجماعة في الماضي كتفسير حبقوق وميخا والمزامير، وإما تفسير على ضوء علاقة الجماعة بشعب معين معاصر كتفسير نحوم، وإما تفسير يتعلق بانقضاء العالم وواجب الجماعة كتفسير أشعيا.
29
معلم الصدق
وتكثر الإشارة في أدب الجماعة إلى شخصين لهما علاقة وثيقة فيما يظهر بتأسيس الجماعة، فهنالك معلم الصدق أو معلم «الوحدة» أي: الجماعة. وهنالك الكاهن الراسع أي: الفاسد، ويدعى أحيانا الكاهن الكاذب. وقد تسرع بعضهم وتترعوا فرأوا في مخلفات قمران إشارة إلى عذاب أليم أنزل بمعلم الصدق كآلام يسوع. وبين النصوص التي يستشهد بها هؤلاء لتأييد استنتاجاتهم هذه تعليق قمراني على قول حبقوق: «ويل لمن يسقي صاحبه»، هذا نصه: «هذا يشير إلى الكاهن الكاذب الذي تعقب مفسر الناموس الصادق حتى مكان عزلته ليشوش عليه أموره بالتظاهر بالغضب الشديد الذي عاد فظهر بينهم، لمناسبة يوم الكفارة، بأبهة كاملة ليختلط عليهم أمرهم، ويسقطوا في زلة يوم الصوم يوم الراحة السابع.»
30
وليس في هذا كله أي تعذيب حل بمعلم الصدق على غرار صلب السيد المسيح، وإن هي إلا إشارة إلى زيارة رسمية قام بها كاهن أوروشليم الأعظم إلى قمران مقر معلم الصدق؛ ليحرج بها المعلم وتلاميذه وجماعته.
31
وفي الأناجيل من أخبار الفريسيين والصدوقيين وأحاديثهم مع يوحنا السابق، ومع السيد نفسه ما يدل دلالة واضحة على لجوء أولئك إلى مثل هذه المناورات.
وليس في النصوص الأخرى التي يتذرع بها القائلون بالتشابه بين معلم الصدق القمراني، وبين السيد المخلص ما يزيد ما يذهبون إليه؛ فالتعليق القمراني على الآية: «ألا يقوم بغتة من يعضونك» (حبقوق 2 : 7) هو ما يلي بالضبط: «إن معنى هذه الكلمات يشير إلى الكاهن الذي عصى وخالف تعاليم الله، فسلمه الله إلى أيادي أعدائه، وأذله هؤلاء، وأذاقوه عذابا مرا لما اقترف من طغيان ونفاق، وأنزلوا به عناء مخيفا منتقمين منه بجسده.»
32
ولما كان القسم الأول من هذا الكلام يشير بصورة واضحة إلى الكاهن الكاذب، فإنه لم يبق أي مجال للقول بأن ما يتبع يشير إلى معلم الصدق، ولا سيما وأن عددا من النصوص الأخرى تنطق بغضب الله على هذا الكاهن الفاسد.
33
وأن معلم الصدق بموجب التعليقات القمرانية هو الوارد ذكره في المزمور السابع والثلاثين الذي: «لا يتركه الرب في يده ولا يؤثمه في قضائه». والواقع أنه ليس هنالك أي نص قمراني يثبت قتل معلم الصدق قتلا أو صلبه صلبا، وفي مخطوط دمشق ما يشير إلى وفاته وفاة طبيعية، فإنه «ينضم إلى قومه»
34
انضماما كما انضم إبراهيم من قبله وإسحاق وغيرهما من البطاركة.
35
ولا تزال أخبار معلم الصدق غامضة ضئيلة، وجل ما يمكننا أن نقوله اليوم هو أنه كان كاهنا ومؤسسا لمنظمة قمران.
36
وأن هذه المنظمة تفرعت عن الحسيديين «ذوي البأس في إسرائيل» الذين خرجوا مع يهوذا المكابي، وأنزلوا نقمتهم بالقوم الذين خذلوهم الذين أيدوا ألكيموس صديق أنطيوخوس أبيفانس.
37
وإذا صح الافتراض أن كتاب الترانيم «المزامير» الذي وجد في كهوف قمران
38
هو من مخلفات معلم الصدق تمكنا من القول: إن الله خص هذا المعلم منذ نعومة أظفاره بنعمه، وحل محل والديه.
39
وأن المعلم لبى هذه الدعوة فأصبح معلما لمن حوله.
40
وأن الله أنار سبيله فأبصر السر الإلهي.
41
ووهب غيره مما أخذ رغم ما حل به من اضطهاد دل على نقيض هذه المقدرة:
لقد أنرت بواسطتي كثيرين، وأظهرت قوتك التي لا قياس لها، وهيأت لي أن أعرف أسرارك الغامضة، وأن تتمجد بي إتماما لتدبير لا يدرك.
42
وأبعد المعلم ولكن الله أسكن العاصفة وخلص نفسه.
43
فعاد بخبرته أبا للأتقياء.
44
ويستدل مما جاء في عهود البطاركة الاثني عشر، ومما جاء في عهد لاوي في نصه اليوناني.
45
ومن التعليق على نبوة حبقوق.
46
أن السبب الذي أدى إلى انفصال جماعة قمران كان خروج الكهنة على الناموس والتقليد بالجشع والتنعم ومماشاة المتهلنين، وأن معلم الصدق هدف إلى إنشاء شعب إسرائيلي جديد يسلك سبيل الخلاص الذي أعده الله وأعلنه بواسطة الأنبياء، وأنه أوجب على من اختاره الله؛ ليكون في عداد الشعب الجديد العودة، إلى طرق الآباء الذين قضوا في الصحراء أربعين عاما قبل دخولهم أرض الميعاد، كما أوجب الابتعاد عن العالم والتعاون معا في عيشة مشتركة مقدسة تقوي النفوس في مقاومة الشر، وتجعلها تتذوق الحياة الملائكية منذ انقضاء الدهر، وأنذر أن لا بد من دخول قوى النور في حرب طاحنة ضد قوى الظلام.
47
من هو معلم الصدق؟
ولا ندري من هو معلم الصدق، فمخلفات قمران خالية من ذكر اسمه، وكذلك مخطوط دمشق والأدب المعاصر. ولا يجوز والحالة هذه القطع بشيء من أمر هويته. وقد استسرت على العلماء معرفته، فذهبوا في تعيين شخصه مذاهب لا فائدة من استعراضها جميعها، ويكفي ذكر أهمها وأقربها إلى قواعد المنطق وحدود الاجتهاد.
فالأب ميليك يبدأ بالتعرف بشخصية الكاهن الكاذب لعله يستدل بذلك على شخصية معلم الصدق، فيقول: «إن نصوص قمران تذكر بوضوح أن الكاهن الكاذب سجن ولاقى عذابا أليما على يد أعدائه؛ لأنه تظلم معلم الصدق وجماعته، فأذله أعداؤه حتى الموت.
48
وأنه أضل كثيرين فشيد مدينة بالدم وأنشأ جماعة بالنفاق.»
49
وتذكر هذه النصوص أيضا أن الكاهن الكاذب اشتهر أولا بالصدق، فلما تولى الحكم في إسرائيل تجبر وابتعد عن الله وأخلف، فخان عهد الله طامعا في المال، فجمعه كالأشرار فصادر أملاك الشعب مكدسا فوق رأسه جزاء الذنوب.
50
وهكذا فإن هذا الكاهن الكاذب يبدو في نصوص قمران كاهنا حاكما محاربا مصادرا مشيدا يقع في النهاية في يد أعدائه، فيلقى عذابا أليما ويموت موتا. وهي أخبار لا تنطبق على سيرة شخص بقدر ما تتفق مع أخبار يوناثان المكابي (160-142) خامس أبناء متتيا وخلف يهوذا، فإن يوناثان خرج من المحنة التي حلت باليهود بعد موقعة بير زيت حيث لقي يهوذا حتفه وتمكن بغزواته في شرق الأردن. وفي البقاع من جمع مقادير من الأموال، ثم قضت ظروف ديمتريوس الملك الهليني بأن يتقرب من يوناثان، فأذن له أن يجمع جيوشا ويتسلح بالأسلحة، فأقام يوناثان في أوروشليم، وطفق يبني ويجدد المدينة.
وسمع الإسكندر بن بالاس خصم ديمتريوس بالمواعيد التي عرضها ديمتريوس على يوناثان، فكتب إلى يوناثان يقيمه كاهنا أعظم في أمته، وأرسل إليه أرجوانا وتاجا من ذهب (152)، ثم قائدا وشريكا (150-149).
51
وهكذا فإن يوناثان ظل حتى السنة 150 قبل الميلاد متبعا سياسة والده وأخيه محافظا على استقلال إسرائيل، ساعيا لإقامة الحق وتطبيق الناموس وإعادة الملك لله، ثم غرر بنفسه فتدخل في سياسة الدولة السلوقية المجاورة، وطمع في استغلال ظروفها الداخلية الحرجة، فقبل رئاسة الكهنوت من يد ديمتريوس الملك الوثني، وحاكمية سورية من يد أنطيوخوس السادس، فأمسى في نظر المقدسين المتزمتين من اليهود خارجا على التعاليم السماوية، متخليا عن الإله العلي، جاحدا. ووجد يوناثان من أيده في سياسته الزمنية غير الدينية التي أفسد بها الهدف المقدس، فهب الأتقياء المقدسون يقاومون خدام الدنيا وأباطيلها وأعمال الخداع والخيانة.
52
وتزعم هذا الاستياء الشديد جماعة من الكهنة أغاظهم تحول الكاهن الأعظم إلى قائد مأجور، وقام أحدهم «معلم الصدق» يوجب مقاطعة الخونة، ويؤكد أن تحقيق الهدف الرباني لا يمكن أن يتم إلا بالابتعاد والانفصال عن الجاحدين الأثمة، وعندئذ تم الخروج الذي ورد ذكره في مخطوط دمشق، واستقر «المعلم» وأتباعه في قمران معتزلين متنسكين، واهتم يوناثان لهذا التصدع في الصفوف وهذه المقاومة السلبية، فنزل هو نفسه إلى قمران لتسوية الأمور ولم الشعث. ولعله هدد وتوعد ولكنه لم يفلح. وفي السنة 143 قبل الميلاد تمكن تريفون القائد، يمين ألكسندروس بالاس ومؤيد ابنه أنطيوخوس السادس، من القبض على يوناثان في عكة ونقله إلى أنطاكية حيث أمر به فقتل.
53
ويرى هذا الرأي نفسه الأب فرمس
Vermès ، ولكنه يجعل من سمعان خلف يوناثان كاهنا كاذبا يزور قمران.
54
وقد يكون وقد لا يكون، ولكن الإشارة الرابعة في العهود
Testimonia
قد تكون إلى يوناثان وإلى سمعان معا.
55
وقد جاء في سفر المكابيين الأول (10 : 10) أن يوناثان: «أقام في أوروشليم، وطفق يبني ويجددها»، وجاء أيضا (14 : 37) أن سمعان: «أسكن فيها رجالا من اليهود وحصنها لصيانة البلاد والمدينة، ورفع أسوار أوروشليم.»
ويستبعد أن يكون هيركانوس الثاني هو الكاهن الكاذب، فإنه على الرغم من وقوعه في يد الفرت أسيرا في السنة 40 قبل الميلاد، وعلى الرغم من شنقه بأمر هيرودوس في السنة 30 قبل الميلاد، فإنه لم يعد صالحا للكهنوت بعد شرم أذنيه!
وقد اختلف العلماء في تعيين الكاهن الكاذب ومعلم الصدق وتشعبت آراؤهم. ولعل السبب في هذا التباين أن مخلفات قمران محدودة، وأن نصوصها التي تتعلق بهذا الموضوع مبهمة غامضة ومخرومة ناقصة، وأن المراجع التاريخية المعاصرة قليلة في عددها، عمومية في مواضيعها، خالية من التفاصيل الدقيقة اللازمة لأجل البت في أمر الكاهن والمعلم. ومن أهم أسباب هذا الاضطراب والشقاق أن معظم الباحثين في هذا الموضوع هم لغويون لا مؤرخون، ولم يسبق لهم أن تدربوا في النقد التاريخي وسلامة الاستنتاج، وجميع ما يقع تحت علم المصطلح. ومما يلفت النظر أن هؤلاء الباحثين يصرفون معظم وقتهم في تهديم ما يقوله غيرهم، ولا ينتقلون من النقد السلبي إلى العمل الإيجابي. فتتعارض أهواؤهم قبل تباين آرائهم. ومن هنا اعتمادنا أبحاث الأبوين دي فو وميليك والأستاذ بوروز وتقديم آرائهم على افتراضات غيرهم.
وليس لنا أن نذكر هنا جميع هذه الافتراضات والآراء، ولو فعلنا لاضطررنا أن نفرد لها كتابا خصوصيا. وقد يكفي أن نلخص بعضها لتبيان تباينها. فهنالك من يجعل الظرف التاريخي الذي ظهر فيه الكاهن الكاذب ومعلم الصدق سابقا لعهد المكابيين، فيرى معلم الصدق في شخص أوقيا الثالث الكاهن الأعظم معاصر أنطيوخوس الرابع أبيفانس (175-164)، ويرى الكاهن الكاذب في شخص منلاوس، وبعض من يقول هذا القول يفرق بين صاحب الكذب وبين الكاهن الفاسد، فيرى الأول في شخص أنطيوخوس، والثاني في شخص منلاوس. وأضعف ما في هذا القول كله أنه ليس فيما نعلم عن أونيا ما يخول جعله معلم الصدق، وأنه ليس في نصوص قمران ما يخولنا التفريق بين صاحب الكذب والكاهن الفاسد.
56
وهنالك من يجعل الظرف الذي ظهر فيه معلم الصدق ظرف الثورة المكابية، وهؤلاء يرون في الألفاظ العبرية التي تشير إلى معلم الصدق معنى غير معنى «المعلم». فهذا المؤسس هو الموجه لا المعلم، وعندئذ يصبح القول في نظرهم بأن هذا الموجه هو إما متتيا المكابي أو ابنه يهوذا، والكاهن الكاذب الفاسد هو في نظر هؤلاء ألكيموس، الذي طمع أن يصير كاهنا أعظم، فأمسى كافرا، في نظر المقدسيين من إسرائيل.
57
ويكون المعلم الصادق، والحالة هذه، أحد أولئك الحسيديين الذين أوقع ألكيموس بهم.
58
وعلى الرغم من أن أرسطوبولس الأول (104-103) أظهر التكبر والتجبر، واستصغر تاج الكهنوت ومات ميتة شنيعة، فإن أحدا من العلماء الباحثين لم يربط بينه وبين الكاهن الكاذب، ولكن عددا منهم يرون في شخص أخيه ألكسندروس ينايوس (103-76) ما يتفق وشخصية الكاهن الكاذب، فهو الطامح الطامع الداعر الفاسق الذي نكل بالفريسيين وقتل وجوههم واعتل بحمى الربع، فدامت عليه ثلاث سنوات ونهكت جسمه. ويرى هؤلاء أن معلم الصدق هو إما أليعازر أو يهوذا الذي أنب يوحنا هيركانوس، واستهدف غضب ألكسندروس ينايوس.
59
وذهب دوبون صومر
Dupont-Sommer
وغيره إلى أن أرسطوبولوس الثاني (68-63) هو الكاهن الكاذب، وأن أونيا الصديق الذي أمر به أرسطوبولوس في السنة 65 قبل الميلاد، فقتل هو المعلم الصادق، وأن الظرف الذي تمت فيه هذه الحوادث هو ظرف الفتح الروماني على يد بومبيوس. ويشير هؤلاء العلماء إلى الذل الذي حل بأرسطوبولوس عندما حمله بومبيوس معه مقيدا إلى رومة كما يشيرون إلى وفاته مسموما في بلد من بلدان سورية، كما جاء في حروب اليهود ليوسيفوس، وأغرب ما في موقف دوبون صومر مداعبته لأحد النصوص في التعليق على حبقوق؛ ليخلص إلى أن معلم الصدق «ظهر لجماعته بعد قتله ككائن إلهي»!
60
فليس في اللفظ الوارد ما يوجب هذا الاستنتاج؛ أي القول بظهور إلهي. وقد يكون الشخص الذي ظهر لهذه المناسبة الكاهن الكاذب لا معلم الصدق!
61
وعثر تيخر
Teicher ، الأستاذ في جامعة كايمبردج الإنكليزية، على اللفظ «أبيونيم» في التعاليق القمرانية، واطلع على ما كتبه مرغوليوث منذ خمسين عاما عن مخطوط دمشق.
62
وعلى ما ذهب إليه زيتلن الألماني
63
فقال: إن جماعة قمران كانوا من الآبنيين
Ebionites
المسيحيين الأولين الذين استمسكوا بالناموس، فعارضوا بولس وغيره ممن أحب أن تكون الرسالة عالمية لا يهودية فقط!
والواقع أن الثلاثي العبري «أبن» هو كالثلاثي العربي نفسه، يدل على مجرد الافتقار والزهد . وليس كل زاهد فقير آبني! ثم إن القول بآبنية قمران يستوجب القول مع الأستاذ تيخر بأن مخلفات قمران تعود إلى ما بعد القرن الأول بعد الميلاد، وأن أزمة العنف التي أدت إلى درج الدروج في الكهوف هي عاصفة الاضطهاد الشديد التي أثارها الإمبراطور ذيوقليتيانوس في السنة 303 بعد الميلاد، وهي أقوال لا تتفق مع معطيات أعمال التنقيب الفنية في خرائب قمران والكهوف المجاورة. والقول مع تيخر بآبنية الدروج وغيرها من المخلفات يقضي بالقول معه بأن «المعلم» هو السيد المسيح، وبأن الكاهن الكاذب هو بولس الرسول! وهو قول مردود في أساسه للفارق الكبير بين تعاليم السيد المخلص وتعاليم معلم الصدق كما سنرى؛ ولأنه يضطرنا إلى القول بأن بولس كان كاهنا يهوديا وهو لم يكن.
64
ورأى روث
Roth - الأستاذ في جامعة أوكسفورد - في السنة 1957 أن القمرانيين كانوا من «الغيورين» الجليليين الذين قاوموا رومة في السنة 66 بعد الميلاد، فمهدوا بثورتهم إلى خراب المدينة المقدسة في السنة 70، وأن الكاهن الكاذب هو أليعازر بن حنانيا، وأن معلم الصدق هو مناحيم بن يهوذا الذي قتل في تلك السنة نفسها على قلة عوفل.
65
ثم رأى الأستاذ روث أن النصوص القمرانية لا تجيز الاستنتاج بأن «المعلم» قتل، فاقترح في رسالة أخرى أن يكون المعلم الصادق أليعازر نسيب مناحيم وخلفه في قيادة الغيورين، ووافقه في هذا زميله الدكتور درايفر
Driver .
66
ويلاحظ في الرد على الأستاذين الإكسفورديين أن مخلفات قمران، ولا سيما التعليق على المزمور السابع والثلاثين، تجعل من «المعلم» كاهنا، أما مناحيم فإنه بموجب شهادة يوسيفوس بن يهوذا الجليلي مؤسس حركة الغيورين في حوالي السنة 6 بعد الميلاد، ولا إشارة البتة إلى علاقته بالكهنوت أو انتسابه إلى عائلة كهنة. ثم إن أخبار الغيورين تدل على أنهم أرادوا أن يلجئوا إلى العنف والاغتيال لتحرير إسرائيل. هم الإسخريطيون أصحاب الخنازير. هم جماعة من الإرهابيين الذين رأوا في الإرهاب وسيلة للوصول إلى هدف أسمى. أما القمرانيون فإنهم جماعة من التائبين الزاهدين المتواضعين المحبين الذين آثروا أن يبتعدوا عن العالم ليعدوا طريق الخلاص، والحرب عندهم بين أبناء النور وأبناء الظلام هي حرب انقضاء الدهر لا حرب قريبة الوقوع ضد رومة وعمالها. والدرج الذي يحمل أخبار هذه الحرب هو درج سابق لظهور الغيورين، هو أثر من آثار القرن الأول قبل الميلاد.
67
وفي السنة 1957 أصدر حاييم ربين، الأستاذ في الجامعة العبرية، كتابه «الأبحاث».
68
فرأى في جماعة قمران «حابورة» من حابورات الفريسيين التي شاع نظامها في القرن الأول قبل الميلاد. والحابورة في العربية هي «مقعد اليهود في مجامعهم»، ويرى حاييم أن حابورات القرن الأول التي انتظمت لتطبيق الناموس تطبيقا تاما، ولتطهير الجسد والنفس كانت أكثر استمساكا وأشد انضباطا من حابورات العهد الربوني المتأخر، وأن حابورة قمران تعود إلى عصر الانتقال من العهد الفريسي القديم إلى العهد الربوني المتأخر؛ أي: إلى منتصف القرن الأول بعد الميلاد.
وأول ما يؤخذ على حاييم أن استنتاجه لا يتفق من حيث الزمن مع معطيات التنقيب في خرائب قمران، ثم ليس هنالك في أي مرجع من المراجع ما يدل على أي خصام بين الحابورات الفريسية القديمة والحابورات الربونية المتأخرة، وكذلك فإن التقويم القمراني يختلف كل الاختلاف عن التقويم الفريسي.
69
سد الثلمة
وأسفرت أعمال التنقيب في خرائب قمران عن ظهور ثلمة في تاريخ هذه الخرائب تمتد من السنة 31 قبل الميلاد حتى السنة 4 قبل الميلاد. فليس هنالك ما يدل على سكنى هذه الخرائب في هذه الفترة، فكيف نفسر هذه الظاهرة الأثرية على ضوء الماضي المعروف من المصادر التاريخية الأخرى؟ والجواب العلمي هو أنه ليس لدينا أي دليل راهن يمكننا الاسترشاد به؛ فقد يكون السبب في ذلك أن الزلزال الذي حل بقمران في السنة 31 قبل الميلاد أفزع الإخوان فأبعدهم. وقد يكون السبب قحطا حل بالمنطقة، فأدى إلى الجوع فالرحيل. وقد يكون عطف هيرودوس الكبير على الحاسيين وشعور هؤلاء بأنه لم يبق من موجب لاستمرار العزلة أو الإقامة في قمران. وقد يكون السبب وهنا حل بصبر بعض الإخوان، فسئموا الانتظار فخرجوا.
70
ويرى البعض أن الإخوان نزحوا إلى دمشق في هذه الفترة، وأنهم لم يعودوا إلى قمران قبل عهد أرخيلاوس خلف هيرودوس.
والواقع أنه ليس لدينا من المعلومات التاريخية الثابتة الراهنة ما يمكننا من الأخذ بهذا الرأي أو ذاك، وأن هذا هو السبب الأساسي في تفرق رجال الاختصاص في الرأي في أمر هذه المخطوطات. ولو تجردوا وعادوا إلى العقل والمنطق لاضطروا أن يقولوا: «لا ندري»، وأن يقفوا عند هذا الحد منتظرين أدلة جديدة وأفقا أوسع. وقد يفيد القارئ أن يطلع على حجج هؤلاء في تباين آرائهم حول مخطوط دمشق، ووجود جماعة في دمشق وعلاقة هذه الجماعة بقمران وما إلى ذلك.
71
الفصل الخامس
نظم الجماعة في قمران وقوانينهم وعقائدهم
التقيد بالناموس والنبوات
واعتبر الجماعة أنفسهم إسرائيليين حقيقيين مستقيمي الرأي، فانتظموا على غرار السلف الصالح كما جاء في سفر الأعداد، وعلى ما توقع النبيون حدوثه عند انقضاء العالم. وتكتلوا عشائر وألوفا ومئات وعشرات، وتمايزوا طبقات هارونيين ولاويين وشعبا دعي إسرائيل.
1
وخص القانون أحفاد هارون بالاشتراع والقضاء، ولكنه أشرك الشعب في «موشب الأرباب». والموشب: هو الموثب العربي؛ أي: المجلس. والأرباب هنا هم الجمهور لا الأسياد الكهنة. وكان هذا المجلس ينظر في الأمور القضائية والتنفيذية، وبيت فيها بالتصويت.
2
ويستدل من بعض ما جاء في نصوص «الجهاد» على أنه كان يتألف من مائة عضو أو أكثر.
3
وكان للجماعة بموجب مخطوط دمشق زعيمان: الأول كاهن وهو «الكاهن المفتقد»، والثاني من الشعب وهو «مبقر جميع المخيمات»، والمبقر في العربية كالعبرية هو المفتش. نقول: بقر فلان في بني فلان أي: عرف أمرهم وفتشهم، وكانت واجبات المفتقد دينية. أما المبقر فإنه كان القيم على ممتلكات الجماعة، وكان لكل مخيم مبقر يعنى بالمال المنقول وغير المنقول، ويعلم في الوقت نفسه المرشحين للدخول في الجماعة ويقودهم إلى الصلاح.
4
وفي نصوص قمران ما يماثل هذا. فهنالك «المفتقد» و«المبقر».
5
وكان لجماعة قمران، بالإضافة إلى ما تقدم، مجلس الخمسة عشر، وكان هذا المجلس مؤلفا من اثني عشر عضوا من الشعب، وثلاثة من الكهنة، فمثل الاثنا عشر الأسباط الاثني عشر، ومثل الثلاثة فروع لاوي الثلاثة جرشون وقهنات ومراري.
6
أما في مخطوطة دمشق فإن هذا المجلس كان مجلس العشرة مجلس أربعة من اللاويين وستة من الشعب.
7
وفي هذا تقارب من العرف الهليني، فإنه كان لكل بلدة هلينية مجلس عشرة هم العشرة المتقدمون
Decaprotes ، وعشرة الآراميين في جدول التعريفة في تدمر، ومما يؤيد هذا الأخذ عن العرف الهليني التوفيق الوارد في قول فيلون الإسكندري بين «المبقرين» وال
epimelettes
الهيلينيين والتوفيق في قول يوسيفوس بين هؤلاء «المبقرين» وال
Epitrophes
الهلينيين.
8
قارورة من موجودات خرائب قمران.
وجاء في قانون الجماعة وفي مخطوطة دمشق وفي القانون الملحق
9
ما يدل على تقسيم أفراد الجماعة إلى خلايا تألفت كل منها من عشرة من «الشعب» وكاهن، وفي هذا تقارب مما ورد في سفر الأعمال (1 : 15) من أن «عدد الأسماء كان نحو مائة وعشرين»؛ أي: عشرة لكل واحد من الرسل.
ويلاحظ الأب ميليك وغيره من العلماء أن نظام الجماعة في قمران كان شعبيا في أساسه، وأن صبغته الكهنوتية كانت تقليدية شكلية أكثر منها واقعية فعلية؛ فالربون هم الجمهور لا الكهنة، وهم مجلس العموم ولهم صلاحياتهم القضائية والتنفيذية. ومن هنا انتقاء يوسيفوس اللفظ اليوناني
للتعبير عن «الربين» العبرية والأرباب العربية.
10
ومن هنا أيضا انتقاء اللفظ اليوناني
للتعبير عن «الكثيرين» في متى (26 : 28)، وانتقاء اللفظ اليوناني
للتعبير عن الجمهور في سفر الأعمال (15 : 30). ويجب فهم اللفظ
الوارد في الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس (2 : 6) بهذا المعنى نفسه: «يكفي هذا الإنسان ذلك التوبيخ الذي من الأكثرين.»
11
وهنالك ما يشابه هذا النص نفسه في قانون الجماعة القمرانيين.
12
تدريب المبتدئين وقبولهم
ويجوز القول بناء على ما جاء في قانون الجماعة وفي تاريخ يوسيفوس.
13
إنه كان على طالب الالتحاق بالجماعة أن يقضي سنة كاملة مرشحا مختبرا متقيدا بالقانون، وأنه كان يحق له، في أثناء هذه الفترة، أن يترك الجماعة ويعود إلى ما كان عليه سابقا. ولعل يوسيفون يشير إلى هذا الأمر نفسه عندما يتكلم عن خضوعه لتدريب بنوس.
14
وإذا أتم المرشح السنة الأولى بنجاح وطلب الاستمرار في الخبرة دخل في مرحلة ثانية من التجربة دامت سنتين. وكان له عند إنهاء السنة الأولى من هذه المرحلة الثانية أن يشترك مع الجماعة في أمور معينة كالوضوء مثلا. وإذا رضي عنه المدربون المراقبون في أثناء السنة الثانية من المرحلة الثانية اعتبر فردا من أفراد الجماعة، وحق له أن يشترك في «مشقة الربيم»؛ أي: في مسقى الأرباب أو مشروب الجماعة، وكان على الطالب، لدى قبوله وضمه إلى الصفوف، أن يقدم ما ملكت يداه للجماعة، وأن يضع مواهبه تحت تصرفهم، وأن يأكل معهم ويتبارك ويبارك معهم ويتشاور. ومن أخفى شيئا من أمواله وقع تحت القصاص سنة كاملة.
15
ولا يخفى أنه في موت حنانيا وصفيرة الذي ورد ذكره في سفر الأعمال (5 : 1-11) ما يتفق في أساسه مع ما جاء في نبوة حزقيال (18 : 4 و13): «النفس التي تخطأ هي تموت»، ومن يعطي «بالربى ويأخذ ربحا أفيحيا؟ أنه لا يحيا.»
ووجب الاحتفال بدخول الأعضاء الجدد. وفي قانون الجماعة وصف لقبول الجدد في الصفوف. فهنالك اعترافات وتعهدات وأدعية وصلوات وبركات ولعنات، وهناك ارتداء بالأبيض وتطهير وأطعمة موحدة وتوزيع أعمال، ولا يجوز القول بمعمودية؛ لأنه يصعب جدا التفريق بين التطهير والوضوء اليومي، وليس في مقدار المياه المحفوظة في الصهاريج ما يشير إلى معمودية معينة؛ فالجماعة كانوا كثرا وطقوسهم وأعمالهم تطلبت كميات كبيرة من الماء.
16
الطبقات والصفوف
ويبدو مما تبقى من آثار الجماعة أنهم انتظموا طبقات وصفوفا، كهنة وشعبا، وشيوخا وكهولا وفتيانا، وأنهم كانوا يجلسون في الاجتماعات والحفلات حسب رتبهم: الكهنة أولا، ثم الشيوخ، فسائر الأعضاء، وأنهم كانوا لا يقاطعون بعضهم في أثناء البحث؛ بل يتكلمون كل بدوره وبموجب رتبته.
17
وجعل يوسيفوس الحاسيين أربع طبقات على أساس قدم العهد في الجماعة، وقال: إن القدماء بينهم يعتبرون الجدد أحط منهم قدرا، فيتوضئون عند ملامستهم، كأنهم لامسوا غرباء. وبحث إيبوليتوس (170-236) هذا الأمر في ردوده على الهراطقة (9)، فقال: إن الحاسيين كانوا أربع طبقات، وأنهم اختلفوا في تطبيق الناموس، فبعضهم تطرف إلى حد أنهم ترفعوا عن لمس النقود؛ لأنها حملت صورا موجبين الامتناع عن حمل الصور أو النظر إليها أو صنعها، وامتنعوا عن دخول المدن خشية المرور تحت عتبة تحمل تمثالا أو صورة، وقال : إن بعضهم حاول التثبت من اختتان من تكلم عن الله، فإذا ما ثبت أنه لا يزال أغلف أوجبوا اختتانه وهددوه بالقتل، فإن أصر اغتالوه اغتيالا. هؤلاء هم الغيورون والإسخريوطيون، وأضاف أن الجدد اعتبروا أحط قدرا من القدماء، وأن هؤلاء امتنعوا عن ملامستهم، وأنهم توضئوا في حال اضطرارهم إلى الملامسة.
نهار قمران وليلها
وقضى القمراني نهاره يعمل لسد حاجات الجماعة، فإما يعمل في أحد المشاغل منجرا أو محددا أو منحسا، وإما يعمل في الحقل حاصدا، في سهل البقيعة فوق قمران أو في الساحل بينها وبين عين فشخة، وإما يرعى القطيع حيث تسمح الظروف بذلك، ولكن أقدس الأعمال وأشرفها كان الإكباب على الأسفار واستنساخها في قاعة الكتابة.
وفي درج الأنظمة إشارتان إلى أدب الطعام توجب إحداهما الصلاة أو البركة قبل البدء بتناول الطعام، ثم تحصر هذه البركة بالكاهن.
18
وتبحث الثانية في المأدبة الكبرى التي تقام عند انقضاء الدهر بحضور المسيحين معا؛ المسيح الكاهن الأعظم ومسيح إسرائيل الذي يتحدر من نسل داود. وفي هذه أيضا لا يجوز البدء بتناول الطعام قبل البركة من «المسيحين» المسيح الكاهن أولا ثم مسيح إسرائيل.
19
وجاء في مصنفات فيلون الإسكندري ويوسيفوس المؤرخ وصف لوجبة مشتركة عند الحاسيين يتفق مع ما ذكرنا عما كان عند جماعة قمران.
20
ولجأت بعض الأخويات الوثنيات إلى مثل هذه المأدبات المقدسة، ولكن الفارق بين ما مارسه الحاسيون وبين سر الشكر عند المسيحيين ظلا كبيرا جدا؛ فالمسيحيون اتحدوا بالمسيح لتقديس النفس والجسم، أما الحاسيون، فإنهم لم يروا في مأدبتهم سوى نموذج سابق لما توقعوا حدوثه عند انقضاء الدهر.
21
وقضى القمرانيون ليلهم في قراءة الكتاب وتفهم معانيه وأحكامه، فانقسموا أثلاثا، فقرأ كل ثلث منهم ثلث الليل، ثم أفسح المجال لغيره بعده، فأحيوا بذلك الليل كله قارئين مستمعين متعظين مصلين
22
متممين ما قاله الرب إلى يشوع (1 : 8): «لا يبرح سفر هذه التوراة من فيك، بل تأمل فيه نهارا وليلا لتحفظه وتعمل بكل المكتوب فيه، فإنك حينئذ تقوم طرقك، وحينئذ تفلح.»
وقلب آخرون طرفهم في السموات، وسامروا النجوم ورقبوا الكواكب ورعوها ليتبينوا خطة الله فيها، وكتبوا في ذلك ودونوا. فهنالك درج يتضمن أثر النجوم والكواكب في مصير الإنسان جسدا وعقلا. وهنالك ما يبحث في تغييرات الطقس وآثارها في الحوادث الجارية: فبرقة أو رعدة معينة قد تنبئ بوصول غريب إلى قمران أو بوقوع حادث غير عادي.
وكان المصريون منذ أواخر الألف الخامس قبل الميلاد، منذ السنة 4241، قد استعاضوا من السنة القمرية بسنة شمسية مؤلفة من اثني عشر شهرا، كل شهر منها ثلاثون يوما، ومن خمسة أيام تضاف إليها عند النهاية وتعتبر أعيادا. ولا يستبعد أن يكون الإسرائيليون قد أخذوا هذا الحساب عن المصريين بواسطة الفينيقيين في أيام المملكة، وأن يكونوا قد استمروا في استعماله في طقوسهم الدينية حتى عهد خلفاء الإسكندر، ثم جاء أنطيوخوس الرابع، فحاول تغيير «الأزمنة» مع الشريعة (دانيال 7: 25)، وأوجب اعتماد الحساب القمري، فكان ما كان من أمر «الكاهن الكاذب» يوناثان ومن أمر «معلم الصدق»، ونزوح هذا عن أوروشليم وإقامته في قمران.
مقطع من درج قانون جماعة قمران (العمود 10).
وأدى هذا الخروج من مدينة القدس والاعتزال في قمران إلى درس الحساب القديم وإعادة النظر فيه. ومن هنا هذه الوريقات الباقية في موضوع الحساب في الكهف القمراني الرابع. ويستدل من هذه الوريقات وغيرها أن السنة في قمران تألفت من اثني عشر شهرا، وكل شهر من ثلاثين يوما، وأن الجماعة أضافوا أربعة أيام يوما في كل فصل من فصول السنة، فأمست سنتهم اثنين وخمسين أسبوعا، فجاءت تواريخهم في اليوم نفسه من الأسبوع في كل سنة، فبدءوا كل سنة مثلا في يوم الأربعاء، واحتفلوا بالفصح في مساء الثلاثاء من كل سنة. ولا يخفى أن الله خلق الكواكب في اليوم الرابع، وأنه لم يكن هنالك نور، ولم يكن نهار ومساء قبل خلق الكواكب.
23
ولعل في هذا الاختلاف بين الحسابين ما يفسر ظاهرة التفاوت بين نصوص الأناجيل الثلاثة، ونص إنجيل يوحنا فيما يتعلق بفصح اليهود وأسبوع الآلام.
24
شعب جديد وعهد جديد
وليس في أدب قمران عن الله وعن الكون والإنسان ما يناقض الأسس التي قامت عليها أحكام العهد القديم. فالأسفار المقدسة ظلت في نظر الإخوان سيدة الموقف، وخروج اليهود على أحكامها خروجا متتاليا قرب موعد انقضاء الدهر وأوجب التفاف الإخوان حول «المعلم»، وانصياعهم إلى نصائحه والقيام بما فرضه من عزلة وتوبة وشظف عيش.
25
وأمست علاقتهم بالله، عز وجل، هي تلك التي أعلنها أرميا النبي في الفصل الحادي والثلاثين من نبوته:
26
ها إنها تأتي أيام يقول الرب أقطع فيها مع آل إسرائيل وآل يهوذا عهدا جديدا لا كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أخذت بأيديهم لأخرجهم من أرض مصر؛ لأنهم نقضوا عهدي فأهملتهم أنا، يقول الرب. ولكن هذا العهد الذي أقطعه مع آل إسرائيل بعد تلك الأيام، يقول الرب، هو أني أجعل شريعتي في ضمائرهم وأكتبها على قلوبهم، وأكون لهم إلها ويكونون لي شعبا.
وجاء هذا العهد الجديد مربوطا في نظر الإخوان بموهبة خصوصية منحها الله لمعلم الصدق لفهم وعوده، عز وجل، وعهوده، وأمسى الإخوان ينتظرون انقضاء الدهر ويترقبون الرؤى التي كانت تحل على المعلم، وباتت شرائعهم شرائع وقتية لا بد من الاستعاضة عنها عند انقضاء الأجل بالشريعة الجديدة الدائمة.
27
وبان فرق بين تعاليم العهد القديم وتعاليم «المعلم» في شروط الانتماء للشعب الجديد، فلم يكتف المعلم بأن يكون المرشح من شعب الله المختار، بل أوجب على كل مرشح أن يتخذ قرارا لنفسه «ينتدب» به نفسه للشريعة.
28
وافترض في هذا المنتدب أن يكون خاليا من كل عيب جسدي أو أدبي. فقد جاء بين مخلفات الكهف القمراني الرابع
29
نص يكمل ما جاء في مخطوط دمشق من حيث الانتماء إلى الجماعة. فلا البله ولا الحمق ولا الهبل ولا المجانين ولا العمي ولا المقعدون ولا العرج ولا الصم، ولا القصر يدخلون في عداد الجماعة. ولعل في هذا النص ما يوضح ما جاء في إنجيل لوقا (14 : 21)، ويظهر الفرق الظاهر بين رسالة السيد المخلص وبين تعاليم هؤلاء القمرانيين؛ فرسالة السيد المسيح عالمية تشمل جميع خلق الله ورسالة هؤلاء محصورة مقفلة سرية.
30
ثنائية كونية
ورأى الإخوان في قمران نزاعا دائما بين الخير والشر، وقالوا: إن الله خلق روحين: روح الحق وروح الشر، ووزعهما على البشر أجمعين لتقوداهم في أعمالهم، فكل ما هو حق من عالم النور ينبثق، وكل ما شر من آبار الظلمة ينبع، وأبناء الحق في طريق النور يسلكون وأمير الأنوار يتبعون، أما أبناء الشر فإنهم في طرق الظلمة يتيهون ولملوك الظلام يخضعون، والشر والخطيئة بأمره يصنعون.
31
والعالم الأرضي الذي عاشوا فيه كان مملكة بليعال، أما زعيم الصلاح فإنه كان ميخائيل.
وأدت هذه الثنائية إلى القول بحرب نهائية فاصلة بين أبناء النور وأبناء الظلام ينتصر بها القمرانيون على العالم أجمع بقيادة الملاك الرسول الأمين ميخائيل. وإذا كان بإمكاننا أن نجد بعد العناء جذورا للقول بروحين في الأسفار القديمة، فإنه يصعب العثور على ما يحبذ فكرة جهاد مقدس يقوم به أفراد قمران، فيستولون على العالم أجمع، فلا بد والحالة هذه من الاعتراف بأثر بالغ للثنائية الفارسية في تطور الفكر القمراني.
32
وإليك ترجمة أنشودة من أناشيد هذه الحرب كما جاءت في درج النور والظلام.
33
يعود الفضل في نقلها إلى العربية إلى الأستاذ إبراهيم مطر في كتابه مخطوطات البحر الميت وجماعة قمران:
انهض أيها المحارب واحصد أيها الشجاع، وضع يديك على رقاب أعدائك ورجلك على أكوام موتاهم ... اضرب الشعوب المعتدية واضمن المجد واملأ ميراثك بالبركات. فهذا هو اليوم الذي عينه الله لإذلال مملكة الشر، فإنك يا الله ترسل عونك الدائم لمن لهم نصيب في خلاصك على يد ملاكك القوي ورسولك الأمين ميخائيل، ويرسل الله نورا أبديا؛ ليضيء سبيل أبناء النور وينصرهم على أعوان الظلام ويملأهم بالفرح، وكل الذين وضعوا اتكالهم على الله ينالون البركة والسلام.
34
نبي ومسيحان
وعاد أحبار قمران إلى سفر التثنية (18 : 18) وربطوا هذا بما جاء قبله في (5 : 28)، ثم استشهدوا بسفر العدد (24 : 15) وسفر التثنية (33 : 8)، فقالوا بنبي وبمسيحين يعدون طريق الخلاص، ويصلون إلى انقضاء الدهر. والإشارات هنا هي إلى الآيات: «وأقيم لهم نبيا من بين إخوتهم مثلك وألقي كلامي في فيه.» «وقال الرب لي: قد سمعت صوت كلام هؤلاء الشعب.» «يسعى كوكب من يعقوب ويقوم صولجان من إسرائيل فيحطم طرفي موآب ... ويتسلط الذي من يعقوب ويهلك من كل مدينة من بقي.» «واللاوي قال: حقك ونورك يكونان لرجلك التقي الذي امتحنته في ذات المحنة وخاصمته على مياه الخصومة.»
نقول: عاد الأحبار إلى هذه النصوص، فانتظروا نبيا ممهدا، ومسيحين؛ واحدا من هارون، وآخر من إسرائيل.
35
وليس لدينا في أدب قمران ما يعيننا على التعرف بالنبي، ولكننا نجد ما يفيد أن المسيحين كانا شخصين مختلفين:
36
فمسيح هارون هو الكاهن الأعظم الذي يظهر معنى كلام الله الحقيقي وينفذ الشريعة الجديدة؛ ومن هنا لقبه «دارس التوراة» في بعض مخلفات الكهف الرابع. وهو يلقب أيضا بالمعلم الشرعي للتفريق بينه وبين المسحاء والأنبياء الكذبة.
ومسيح إسرائيل هو مسيح يهوذا التقليدي الذي يتحدر من صلب داود؛ ومن هنا اللقب «سمخ داود»، والسمخ في العبرية والعربية واحد هو النوع، وسمخ الزرع بمعنى طلع. ولعل الأحبار عادوا في ذلك إلى نبوة زكريا (6 : 12): «هو ذا الرجل الذي اسمه النبت، إنه ينبت من ذاته ويبني هيكل الرب»، ومسيح إسرائيل في نصوص قمران هو زعيم سياسي فقط.
37
ويلاحظ أن الدولة المنتظرة التي تقوم عند انقضاء الدهر هي، في الأدب القمراني، دولة ثيوقراطية يرأسها كاهن وملك، ويتقدم فيها الأول على الثاني كما جرى لليهود في عهد الفرس وعهد خلفاء الإسكندر، أو على غرار واقع الحال عند قيام الحركة القمرانية!
الفصل السادس
الجماعة والنصارى
إرنست رينان والمسيح
ولا نريد أن نعرف بكتاب أرنست رينان «حياة يسوع». فرينان أمعن في التيه حتى عميت عليه وجوه الرشد، ولم يعد يقام لكتابه وزن ولا يشغل به فكر. وإنما نرغب في ذكر من اقتدى برينان وائتم بهديه وذهب مذهبه، نريد أن نلفت النظر إلى تسرع عالم فرنسي كبير له مكانته في الأوساط العلمية الفرنسية والعالمية، إلى موقف أندره دوبون صومر
André Dupont-Sommer
من أعمال الكشف والاستكشاف في قمران وضواحيها، وإلى كيفية ابتساره لأخبارها واعتسار الكلام فيها اعتسارا.
فإنه ما كاد يطلع على «بعض» النصوص، كما ظهرت في السنة 1949، حتى اختضرها اختضارا، فأكد شدة التشابه بين أخبار معلم الصدق فيها وأخبار السيد المسيح، ورأى هذا التشابه من النوع الذي يفقد الرشد.
1
وتناقلت رأيه الجرائد وأذاعته محطات الإذاعة ، فأثار عاصفة من الاحتجاج في الأوساط الكاثوليكية الفرنسية، وانبرى من ناقشه الحساب فأصبح التشابه، في ترجمة كتابه إلى الإنكليزية في السنة 1952، من النوع الذي «يؤثر في الذهن كثيرا».
2
ولكنه لا يزال يتنبل برينان ويوائمه ويحاكيه فيعجب، في كتابه الأخير «آثار الحاسيين الخطية» الذي ظهر في العام الفائت 1959، بسلامة استنتاج رينان في قوله، منذ مائة عام: «إن النصرانية حاسية نجحت نجاحا كبيرا»!
3
النيويوركي والمسيح
واهتمت إدارة جريدة النيويوركي
New Yorker
لما نشرته باريز وأذاعته، فأوفدت أحد كبار المخبرين لديها، السيد إدموند ويلسون، إلى شاطئ البحر الميت لينقل لقرائها الخبر اليقين، فجاء ويلسون إلى فلسطين، واتصل بأهم الرجال ثم تحدث إلى الأستاذ دوبون صومر، فأثر في نفسه فنقل رسالة الأستاذ الفرنسي عبر المحيط إلى العالم الجديد، ونشر في أيار السنة 1955 مقالا ضافيا في موضوع المخطوطات أبان فيه أن ما تميزت به النصرانية نشأ في أوساط يهودية حاسية بين جدران خرائب قمران، وتطور فأخذ شكله المعروف في الأناجيل والرسائل.
وأضاف ويلسون أن الاكتشافات التي تمت في ساحل البحر الميت أقضت مضجع الإكليريكيين الكاثوليكيين وقساوسة البروتستانت وأحبار اليهود في آن واحد؛ فإنها أبانت للمسيحيين من هؤلاء أن ما اعتقدوه منزلا هو في الواقع يهودية متطورة، وأوضحت لليهود منهم أن النصرانية ليست في حد ذاتها خروجا على دين الآباء وإنما هي مذهب من مذاهبهم! وخلص إلى القول بأن من لا دين له أقرب إلى معالجة هذه المخطوطات وأهميتها ممن يقول بدين معين، وأن أفضل رجال العصر للبت في هذه الأمور هو أندره دوبون صومر. ولم يعلم ويلسون، على ما يظهر أن أستاذ السوربون نشأ كاهنا ثم جحد فأنكر.
4
أليغرو والمسيح
ويوحنا بن مرقس بن ألغرو
Allegro
إنكليزي لا يزال في السادسة والثلاثين من العمر، بدأ علومه الجامعية في السنة 1951، وتخصص في اللغات الشرقية في جامعة مانشستر ثم في أوكسفورد، وما كاد ينال شهادة البكالوريوس حتى ألحق في السنة 1952 بجماعة المشتغلين في دروج البحر الميت، ثم عاد بعد سنة واحدة ليشغل كرسي اللغات السامية في جامعة مانشستر. وأدى هذا التقدم السريع، فيما يظهر، إلى شيء من الغرور في النفس والتسرع في الحكم. فإنه في الثالث والعشرين من كانون الثاني سنة 1956 أذاع من محطة لندن أن بعض نصوص قمران التي لم تنشر أظهرت أن «معلم الصدق» صلب على عهد ألكسندروس ينايوس، وأن جسده أنزل عن الصليب ودفن، وأن تلاميذه انتظروا قيامته ومجيئه الثاني، وأن يسوع الناصري لم يكن أول من صلب ودفن وقام!
وما كاد زملاء أليغرو في مدينة القدس يسمعون ما أذاعه أصغرهم سنا، وأحدثهم عهدا حتى بادروا إلى تسطير رسالة مشتركة وجهوها إلى جريدة التايمس الإنكليزية، في السادس عشر من آذار سنة 1956، وأكدوا فيها أنهم عادوا إلى جميع ما وجد من نصوص في كهوف قمران وغيرها، فلم يجدوا فيها ما يؤيد قول أليغرو. وأضافوا أن أليغرو لا بد أن يكون إما قد أساء فهم بعض النصوص، وإما قد بنى استنتاجه في إذاعته على سلسلة من الافتراضات التي لا تؤيدها النصوص.
ونقلت موجات الأثير خطاب أليغرو عبر المحيط إلى الولايات المتحدة؛ فالتقطته الصحف والمجلات، واتجرت به، فأحدث ضجة ليس بعدها ضجة، وظن البعض أن دروج البحر الميت هزت أركان النصرانية هزا! ولم تعبأ بعض دور النشر الشهيرة بالصفعة التي تلقاها أليغرو من زملائه العلماء، فطلبوا إليه إعداد أشياء للنشر ففعل، فجاءت مضللة.
5
داود الموحد
ورأت دار كتاب المنتور
Mentor Book
أن تلقي بدلوها؛ فطلبت إلى بول دافيز
Davies ، قسيس شيعة الموحدين في واشنطون، أن يكتب في هذا الموضوع الدقيق، فصنف كتابا أسماه «معنى دروج البحر الميت.»
6
وضمنه تهجما شديدا على علماء اللاهوت في الولايات المتحدة، فاتهمهم بالمداهنة والخداع والتضليل، وقال إنهم يستعملون مصطلحات تعني أشياء معينة عندهم وأشياء أخرى في صفوف المؤمنين العاديين، ثم قال متحديا: «إن نصوص قمران توجب إعادة النظر في جذور المسيحية، وإن رجال اللاهوت لا يجرءون على شيء من هذا!» ومن هنا العبارة على غلاف الكتاب : «إن في دروج البحر الميت أعظم اعتراض على صحة العقيدة المسيحية منذ أن أعلن دروين نظريته في النشوء والارتقاء!»
7
والموحدون في بريطانيا والولايات المتحدة لا يعترفون بألوهية السيد المسيح.
والواقع إن رجال اللاهوت كانوا ولا يزالون في طليعة من عني بهذه الدروج منذ اللحظة الأولى التي أصبحت فيها هذه الدروج في متناول رجال البحث، وأنهم لا يزالون سباقين إلى الحقيقة العلمية في هذا الموضوع لا يجارون ولا يبارون. وهم يعترفون بأهمية هذه الدروج لفهم الجو اليهودي الذي نشأت فيه نصرانيتهم، ولكنهم لا يزالون يرون فروقا جذرية هامة جدا بين تعاليم قمران وتعاليم الإنجيل.
الراعي الصالح ومعلم الصلاح
وراعينا الصالح الجالس عن يمين الآب هو قطب الدائرة في إيماننا. هو الكلمة الذي صار جسدا. هو أحد أقانيم الثالوث القدوس، به كان كل شيء وبغيره لم يكون شيء مما هو كائن. هو رأس الكنيسة والنصرانية، وبدونه ليس لنا كنيسة ولا وجود. أما معلم الصلاح أو «معلم الصدق» فإنه كان عند الجماعة بشرا كسائر البشر لم يستغث به ولم يبتهل إليه، ولم تحمل الجماعة اسمه، ولم يدعوا به ولم يكن المسيح المنتظر. وجل ما وصل إليه أنه كان مفسر الأسفار «بنعمة من الله».
ولم يصلب معلم الصلاح كما يدعي أليغرو، وليس في النصوص ما يدل على ذلك، وجل ما هنالك تعليق على آية من نبوة نحوم ينص هكذا: «هو الأسد المفترس الذي علق الناس [بشكل لم يحدث] في إسرائيل من قبل»، وما جاء بين المعقوفين هو افتراض لجأ إليه أليغرو ليسد ثلما في المخطوط. ولو صح الافتراض أن المشار إليه هنا هو معلم الصلاح لبقي هنالك فارق كبير بين موت المسيح على الصليب وبين الصلب في هذا التعليق؛ فالمسيح مات فاديا، وليس في نصوص قمران كلها مايشير إلى مثل هذا الفداء؛ فموت معلم الصلاح فيها حادث من حوادث تاريخ الجماعة لا جزء من إيمانهم، أما صلب المسيح وصليبه، فإنهما لا يزالان من صلب الإيمان رغم مر العصور.
8
مقطع من درج تفسير كتاب حبقوق (العمود 11).
وليس هنالك ما يؤيد القول إن معلم الصدق ظهر في الهيكل بعد وفاته كما ادعى بذلك الأستاذ دوبون صومر في كتابه الأول.
9
فالنص الذي يستند إليه جاء في التعليق على حبقوق. وليس فيه ما يبين أن الذي ظهر في الهيكل كان المعلم الصادق لا الكاهن الكاذب. ويرجح رجال الاختصاص، كما سبق وأشرنا، أن المقصود هنا هو الكاهن الكاذب لا المعلم الصادق.
مجلس الاثني عشر والرسل
ومما ذهب إليه أستاذ السوربون دوبون صومر أن معلم الصدق سبق يسوع في النظام والتنظيم، فأقام مجلسا اثني عشريا كما انتقى يسوع رسلا اثني عشر.
10
وإن الكنيسة لم تكن في أوائل عهدها سوى نسخة عن جماعة قمران. ويتيه أتيامبل
Etiemble
في شعاب الباطل؛ فيؤكد أن مسيح الجليل لم يأت بشيء لم يكن معروفا قبله عند الجماعة في قمران، وأنه جاء يعيد تمثيل الدور نفسه الذي كان قد سبقه إليه مسيح أول في عهد أرسطوبولوس الثاني.
11
ومن إعادة تمثيل هذه الرواية انتقاء الرسل الاثني عشر؛ فالقمرانيون خضعوا لمجلس اثني عشري أيضا.
12
وهي حجة واهية باطلة، ولو صح الأخذ بها لاضطررنا أن نقول مع الإرلندي أن الأسماك والبشر من جنس واحد؛ لأن النوعين يخرجان من الماء مبللين. والماء في هذه الحالة هو معين العهد القديم الذي استقى منه القمرانيون والرسل ورسل الرسل، والمسيح نفسه قال (متى 19 : 28): «إن هؤلاء الرسل الاثني عشر، سيجلسون هم أيضا على اثني عشر كرسيا ليدينوا «أسباط إسرائيل الاثني عشر».» واستعارة السيد في هذا هي من العهد القديم. وليس هنالك ما يحتم أنها أخذت من أدب قمران. ولم يبق للكنيسة مجلس اثنا عشري يدير شئونها؛ فإنه بعد انتحار يهوذا الإسخريوطي وانتخاب متيا؛ ليحل محله لم يعد الرسل إلى الانتخاب مرة ثانية، وتوفوا وزالت بوفاتهم الهيئة الاثنا عشرية. وهنالك فرق آخر بين الهيئة الرسولية وبين المجلس القمراني؛ فالأنظمة القمرانية أوجبت وجود ثلاثة من الكهنة في المجلس كما سبق وأشرنا، ولم يكن بين الرسل كهنة من نسل هارون أو غيره.
حنانيا وصفيرة
وباع حنانيا مع صفيرة امرأته ملكا له، واختلس بعض الثمن وامرأته تعلم بذلك، وأتى ببعضه وألقاه عند أقدام الرسل (أعمال 5 : 1-3)، ولم يكن بين النصارى الأولين محتاج ؛ لأن كل الذين كانوا يملكون ضياعا أو بيوتا كانوا يبيعونها ويأتون بأثمان المبيعات ويلقونها عند أقدام الرسل فيوزع لكل واحد على حسب احتياجه (أعمال 4 : 34-35). ولكن هذه الاشتراكية النصرانية اختلفت عما كان سائدا بين الجماعة في قمران في أمرين؛ أولهما أن القمراني لم يضع ملكه الشخصي تحت تصرف الجماعة إلا بعد انتهاء فترة الامتحان والتدريب؛ أي: بعد سنتين من ترشيحه، وكان ذلك إجباريا. والثاني أن الاشتراكية المسيحية لم تدم إلا مدة وجيزة جدا، وكانت تقادمهم اختيارية.
وضوء لا معمودية
وليس في مخلفات قمران، كما سبق وأشرنا، ما يدل على أن الجماعة مارسوا معمودية معينة كمعمودية يوحنا أو معمودية الرسل، وجل ما هنالك وجوب التوضؤ مرارا وتكرارا لمناسبات متعددة.
13
ويوحنا والرسل لم يتطلبوا سوى معمودية واحدة تجري مرة واحدة ولا تتكرر، والسيد المسيح أبطل الوضوء والتطهير الذي مارسه اليهود أجمعين حتى عهده؛ فقد جاء في إنجيل مرقس (7 : 1) أن الفريسيين وقوما من الكتبة اجتمعوا إلى يسوع، فرأوا بعض تلاميذه يأكلون الطعام بأيد نجسة؛ أي: غير مغسولة، فلاموهم، فسألوه: لم تلاميذك لا يجرون على سنة الشيوخ ولكن يأكلون الطعام بأيد نجسة؟ فقال: «لا شيء مما هو خارج عن الإنسان إذا دخله يمكن أن ينجسه، بل ما يخرج من الإنسان هو الذي ينجس الإنسان.» وليس في غسل الأرجل وقت العشاء الرباني ما يفيد بشيء من الوضوء والتطهير الشائعين عند اليهود؛ فإن السيد قال بعد أن غسل الأرجل (يوحنا 13 : 13): «أنتم تدعوني معلما وربا، وحسنا تقولون: لأني كذلك. فإذا كنت أنا الرب والمعلم قد غسلت أرجلكم فيجب عليكم أنتم أن يغسل بعضكم أرجل بعض؛ لأني أعطيتكم قدوة.» ويلاحظ هنا فرق آخر بين ما كان يجري من اغتسال وتطهير ووضوء عند اليهود، وفي قمران من جهة والمعمودية المسيحية من الجهة الأخرى؛ وهو أن الاغتسال في قمران لم يرتبط بشخص معلم الصدق، وأن معمودية يوحنا لم تؤذن بالدخول في منظمة معينة، أما المعمودية فإنها كانت ولا تزال باسم المسيح وله.
14
وهي في النصرانية ذات مفعول ما خطر قط ببال أنها علة جديدة تشرك الإنسان في حياة الله وفي قداسته.
الوجبة المقدسة وسر الشكر
وقد التفت عدد من رجال الاختصاص إلى وجبات الطعام في قمران وأعاروها اهتماما خصوصيا ورأوا فيها ما يوازي سر الشكر عند النصارى، ولا سيما وأن الوثيقة ذات العمودين تذكر وجبة يقدم فيها الخبز والخمر، ويشترك فيها المسيحان الكاهن الأعظم وسليل داود، فيجعلانها ترمز إلى المملكة المسيحية المنتظرة.
15
والواقع أنه ليس بين سر الشكر وهذه الوجبة المقدسة من خصائص مشتركة سوى استعمال الخبز والخمر؛ فالمسيحيون الأولون والمتأخرون يرون في ممارسة سر الشكر، مع بولس الرسول، «إخبارا بموت الرب إلى أن يأتي»، ويرون أيضا مع السيد نفسه أن الخبز الذي يأخذون هو جسد الرب، وأن الكأس التي يشربون هي دمه للعهد الجديد «الذي يهراق عن كثيرين». وليس في الأدب القمراني كله شيء من هذا.
ويشك رجال الاختصاص في أن تكون وجبات الطعام اليومية التي مارسها الحاسيون، كما جاء في تاريخ يوسيفوس وفي كلام فيلون
16
مقدسة؛ فتناول الخبز والخمر فيها كان أمرا عاديا في ذلك العصر، شائعا في جميع الأوساط اليهودية ولمناساب عديدة متنوعة. ويكون عندئذ ورود ذكر الخبز والخمر في الوجبة الكبرى المنتظرة ورودا عرضيا لا جوهريا. ويصبح الأمر المهم في وصف هذه الوجبة تقدم الكاهن الأعظم على المسيح سليل داود.
17
الفوارق العمومية
وهنالك بالإضافة إلى ما تقدم شرحه فوارق عمومية بين النصرانية والقمرانية تجعل منهما حركتين مختلفتين في الجوهر؛ فالقمرانية بقيت مذهبا يهوديا، ولم تخرج من هذا الدور أبدا، أما النصرانية فإنها كانت ولا تزال رسالة عالمية. هكذا أرادها السيد المسيح. وقد عبر عن إرادته قبل ارتفاعه إلى السماء بقوله لرسله وأعقابهم من بعدهم على تعاقب الزمن: «لقد دفع إلي كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها أنا ذا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر.» (متى 28 : 18-20)، وقال لهم أيضا: «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها» (مر 16 : 15). وهكذا فإن الكرز بيسوع شمل اليهود والأمم، فخرجت النصرانية بذلك من دور مذهب يهودي إلى رسالة عالمية كبرى.
ولم تكن مملكة يسوع من هذا العالم (يوحنا 18 : 36) ولم تقم بالسيف؛ لأن كل من يأخذ بالسيف بالسيف يهلك (متى 26 : 52)، وإنما قامت وتقوم بمحبة الله للبشر وبتجسد ابنه الوحيد واعتلائه الصليب، وموته لأجل البشر وقيامته من الموت. أما جماعة قمران فإنهم استعدوا لخوض معركة زمنية بالسيف، ولم يبق بعد تجسد المسيح أي تقدم لأي طبقة على أخرى كما كانت الحال في قمران وبين اليهود أجمعين. «ولو كان بالكهنوت اللاوي كمال، فأية حاجة كانت بعد أن يقوم كاهن آخر على رتبة ملك صادق، فإن ربنا خرج من يهوذا من السبط الذي لم يصفه موسى بشيء من الكهنوت.» •••
ويطيب لنا
18
في هذا الباب، أن ننقل شهادة كبير بين الأدباء ومفكري العالم العربي هو الأستاذ عباس محمود العقاد الذي بعد أن اطلع - بكل ما هو معروف عليه من رصانة في النقد ودقة في التقصي - على ما انتهت إليه بحوث العلماء في شأن مخطوطات البحر الميت أو لفائف وادي قمران، يخرج بهذه الشهادة: «إن الجديد في الأمر لا يزال من عمل السيد المسيح، أو من فتوحه المبتكرة في عالم الروح ... وإن كل مشابهة بين السيد المسيح وبين مذاهب الدين قبل عصره تنتهي عند الظواهر والأشكال، ولا تدل على فضل أسبق من فضله فيما ارتقت إليه عقائد الدين على يديه.»
19
وتوضيحا لحكمه وشهادته ننقل المقطع كله الذي يتعلق بكشوف البحر الميت، قال الأستاذ العقاد:
لقد كنا نقرأ في الصحف والمجلات أن لفائف وادي القمران تشتمل على نسخة كاملة من كتاب أشعيا، ونسخة مقروءة سليمة بعض السلامة من تفسير نبوات حبقوق التي حققتها الحوادث التالية، وشذرات من تفسير كتاب ميخا، وقصة تسمى قصة الحرب بين أبناء النور وأبناء الظلام، وأناشيد منظومة للدعاء والصلاة، ونسخة آرامية من كتاب غير معتمد بين كتب التوراة، وقصاصات متفرقة من كتب شتى تلحق بكتب العهد القديم، ونسخة مفصلة لآداب السلوك المرعية بين جماعة النساك الذين أقاموا زمنا بصومعة وادي القمران. وكلها مودعة في جرار كبيرة يوجد الكثير منها في بعض الكهوف المجاورة. ويبدو من أجل ذلك أنها قد تشتمل على ودائع من هذا القبيل لا تقدر عند العلماء الحفريين، وعلماء المقابلة بين الأديان وجمهرة اللاهوتيين على الإجمال.
ولو أن أحدا أراد أن يحيط بأطراف الكتب والرسائل التي تناولت مسائل البحث في تلك اللفائف خلال السنوات الخمس الأخيرة لما استوعبها جميعا، ولو فرغ لها كل وقته. وحسب القارئ العربي أن يعلم أنها بحثت من كل ناحية تشترك في موضوعاتها الدينية أو اللغوية أو التاريخية أو الحفرية أو الكيماوية أو الصناعية، ولم تخل منها لغة من لغات الحضارة الغربية: فقد تناولت البحوث مسائل الهجاء وقواعد الكتابة، واختلاط اللهجات واللغات، ومواد الورق والجلد والمداد واللصق والتجفيف، كما تناولت أسماء الأعلام وما إليها من الألقاب والصفات وما يقترن بها من تواريخ الشعوب والقبائل، ومواقع الأرض وعوارض الجو والفلك وأصول العقائد وشعائر العبادات في كل فترة على حسب حظها من الأصالة أو الاستعارة، وعلى حسب المصطلحات التي تلازمها ولا تعهد في غيرها، واتسع نطاق البحث إلى غاية حدوده لتحقيق نماذج البناء، وصناعة الآنية الفخارية، وعادات الأكل والشرب، وأزياء الكساء، ومواد الأطعمة، وثمرات النبات. وتراوحت تقديرات الزمن بين القرن الخامس قبل الميلاد والقرن الأول بعد الميلاد. ولم تستقر بعد كل هذا التوسع وكل هذا الإمعان والتدقيق على قرار وثيق.
ومن البديهي أننا لم نستوعب هذا الطوفان الزاخر من الفروض والنقائض، وعلى كل ما في هذه البحوث من مواضع المراجعة والعدول، ومواضع التشكيك والترجيح، بل نحن لم نشعر بضرورة الاستيعاب والاستقصاء؛ لكي نخلص منه إلى القول الجديد في تاريخ السيد المسيح. ولكننا عمدنا إلى نخبة من كتب الثقات التي ألمت برءوس المسائل ولخصت محور الخلاف ومبلغه من الدلالة في كل مسألة منها، وخرجنا منها بالخلاصة المطلوبة فيما يعنينا، فكانت هذه الخلاصة أن الجديد في الأمر لا يزال من عمل السيد المسيح أو من فتوحه المبتكرة في عالم الروح، وأن كل مشابهة بينه، عليه السلام، وبين مذاهب الدين قبل عصره، تنتهي عند الظواهر والأشكال، ولا تدل على فضل أسبق من فضله فيما ارتقت إليه عقائد الدين على يديه.
ولعل أرجح الأقوال التي خلصت إليها أكثر البحوث والمناقشات أن نساك صومعة القمران كانوا زمرة من «الآسيين»، إحدى الطوائف المتشددة في رعايتها للأحكام الدينية، وانتظارها للخلاص القريب بظهور المسيح الموعود. وهذه الطوائف أقرب الطوائف الإسرائيلية إلى التطهر من أدران المطامع والشهوات، وأنهم كانوا ينتظمون في النحلة على ثلاث درجات، وأن أحدهم يقسم مرة واحدة يمين الأمانة والمحافظة على سر الجماعة، ويحرم عليه القسم بالحق أو بالباطل مدى الحياة ... والمادة عندهم مصدر الشر كله، والسرور بها سرور بالدنس والخباثة، وكانوا يتآخون ويصطحبون اثنين في رحلاتهم، وهم مؤمنون بالقيامة والبعث ورسالة المسيح المخلص، معتقدون أن الخلاص بعث روحاني يهدي الشعب إلى حياة الاستقامة والصلاح.
فإذا صح أن زمرة وادي القمران كانت تنتمي إلى الآسيين.
20
وصح أكثر من ذلك أن صومعتهم كانت هي البرية التي كان يلوذ بها السيد المسيح ويوحنا المعمدان؛ فالجديد في هذا الكشف هو توكيد الحاجة إلى رسالة السيد المسيح، أو توكيد فضل الدعوة المسيحية في إصلاح عقائد القوم كما وجدتها على أرقاها وأنقاها بين أتباع النحل اليهودية قبيل عصر الميلاد.
فالكتب الآسينية، أو الآسية، التي وجدت في الصومعة تصف لنا نظام الجماعة وآداب سلوكها وشدة حرصها على الشعائر الموروثة بين قومها، ولكنها لا تزال مصابة بداء القوم الذي انتهى إلى غاية مداه في تلك الفترة، وهو داء الجمود على النصوص والحروف، والانصراف عن جوهر العقيدة ولباب الإيمان. ولا تزال النحلة الآسينية نفسها أدل على الحاجة إلى الإصلاح من النحل المتهمة أو المحاطة بالشبهات؛ لأن النحلة المتهمة تجد إصلاحها عند الراشدين من أبناء الديانة القائمة. وكل نحلة يهودية زائغة عن سوائها تجد من يقومها من العارفين باستقامتها في نطاق الديانة اليهودية. ولكن الحاجة إلى الإصلاح إنما تثبت كل الثبوت إذا بلغت النحلة أرقى ما تبلغه، واستنفدت كل طاقتها تهذيبا وتطهيرا وإخلاصا وتذكيرا، ولم تزل بعد ذلك قاصرة عن تزويد الروح بما تتعطش له وتفتقر إليه.
وكذلك كانت النحلة الآسينية التي كشفت عنها لفائف وادي القمران، أيا كان اسمها، وأية كانت وجهتها، فإنها لم تمهد لرسالة السيد المسيح إلا كما يمهد المريض للعلاج أو يمهد الداء للدواء. ولا شك في أن اللفائف المكشوفة ذخيرة نافعة في بابها، ولكنها لا تضيف إلى معلوماتنا عن حقائق الرسالة المسيحية، ولا تخرجنا بشيء جديد في أمر هذه الرسالة، غير أنها تؤكد لنا فضلها ولزومها في أوانها. فمهما يكن من غرض النحلة الآسينية فهي في أصولها وفروعها بقية محافظة على تراثها متشددة في محافظتها، ناظرة إلى أمسها حتى في التطلع إلى الغد المرجو انتظارا للمخلص الموعود على حسب النبوات الغابرة. ولهذه الآفة الوبيلة، آفة التشدد في عبادة المراسم والنصوص، كانت الدعوة المسيحية رسالة لازمة تعلم الناس ما هم في حاجة إلى أن يتعلموه كلما غرقوا في لجة راكدة من الحروف الميتة والأشكال المتحجرة. تعلمهم أن العقيدة مسألة فكرة وضمير، لا مسألة حروف وأشكال ... وهذه هي رسالة السيد المسيح في ذلك العصر الموبوء بجموده وريائه على السواء؛ لأن الرياء إنما هو في باطنه جمود على وجهه طلاء (حياة المسيح 14-17).
صفحه نامشخص