مکاید الحب فی قصور الملوک
مكايد الحب في قصور الملوك
ژانرها
ولما كانت لا تزال في إبان طراءتها ونضارتها وريعان زخرفها وبشارتها وعلى جانب من الغنى والثروة، فليس عجيبا أن نراها باسطة رواق سلطانها على كبار رجال لندن، وهي مستعبدة لقلوبهم ومستأسرة لنفوسهم. ولم يمض عليها بضعة أسابيع حتى أجمع كل من في لندن على تلقيبها بملكة جمال بارع رائع ليس لها فيها منازع، وبات أكبر الأغنياء والعظماء والأمراء يتسابقون إلى خطبة ودها وانتجاع رضاها. ولكنها كانت ترد جميع خطابها يتعثرون بأذيال الخيبة قائلة إنها اختبرت حظها من الحياة الزوجية غير مرة ولم يبق لها أقل ميل إلى تكرار التجربة والاختبار، على رغم ما تراه من المغريات المشوقات. وهي في حالتها الحاضرة ناعمة بظلال الراحة والهناء لا تجد مسوغا لمحاولة التبديل والتغيير.
ومع ظهور ولي العهد في طليعة خطابها وطالبي الاقتران بها، ظلت مصرة على عزمها، ولم تتزحزح عنه قيد شعرة. وغير معلوم لدينا أين التقى ولي العهد والأرملة الحسناء وكيف تعارفا. فالبعض يزعمون أنه لقيها في رتشموند، ويظن آخرون أنها بهرت عينيه بحسنها حين رآها في لوج اللادي سفتون في الأوبرى. ومن المحقق أنه لم يلبث بعد مشاهدته لها أن صار في مقدمة أسراها العانين لها والمشغوفين بها. ومما ينبغي ذكره ولا يصح إغفاله أن ولي العهد جوج كان من أجمل الشبان طلعة وأنبههم شأنا وأسلمهم ذوقا وأحسنهم تناولا. وكان معدودا في عصره ملك الثقافة والتأنق في استطراف الملابس والظهور في كل مظهر مستملح مستظرف.
هكذا كان الشخص الذي ظهر على مسرح التمثيل في حياة عقيلة فتزهربرت، وقدر له أن يمثل منها أعظم فصل انتهى بخاتمة مفعمة بالحزن والأسى. على أن أرملة فتزهربرت لم تواجه هيامه بها بشيء من التشويق والتشجيع، بل قابلته بالفتور والجفاء؛ لأنها لم تكن من النساء اللواتي يحملهن النزق والطيش على الاستسلام إلى هوى الأمراء والكبراء مهما يكن جمالهم بديعا ومقامهم رفيعا، والتعرض لما قد يكون في ذلك من خطر سوء الصيت وخبث الأحدوثة. ومما زادها حذرا واحتراسا أنه كان أصغر منها سنا وشديد التعرض للتقلب والتحول. ولكن إعراضها عنه ونفورها منه لم يكونا إلا ليزيدا نار هيامه احتداما واضطراما.
وفي كتبها إليه بينت موقفها تجاهه بما لا مزيد عليه من الوضوح والصراحة، فأجابته مرة حين سألها أن توافيه بعد الخروج من حفلة رقص قائلة: «أوافيك؟ كيف أوافيك؟ بل كيف تطلب إلي ذلك أنت ولي العهد المشهور في كياسته وسلامة ذوقه؟ أيصح في شرعك أن أقدم على لقاء كهذا أو أخاطر بما لي من حسن الصيت وطيب الأحدوثة؟» وكتبت إليه مرة تقول: «لماذا تقصر اهتمامك علي؟ فالنساء اللواتي هن أجمل مني لا يحصين عددا. اختر لنفسك منهن من تشاء ودع مرغريت المسكينة وشأنها.»
وقد بذل ما يستطيعه من الجهد في سبيل استمالتها إليه فلم يظفر بطائل، ولما هددته بفصم عرى صداقتها له إن لم يكف عن إعناتها وإزعاجها، صاح بصوت اليائس الجازع: «آه! ليتني كنت قادرا أن أهدم سياج التفوق الذي يفصلني عنك! إذن لتمكنت حينئذ من الوقوف أمام والدتي الملكة ومعي زوجة تضارعها في الفضائل، وأنا وشعبي في أشد احتياج إلى الاقتداء بمثالها والنسج على منوالها. ولكن آه من غرور الحياة وأباطيلها! إني شاعر باستحالة ما أروم، وآسف على ذلك من صميم فؤادي. فلا تحرميني التمتع بصداقتك، وهبي من لدنك عزاء لقلب حزين كسير.»
إلى هذا الحد بلغ اليأس والقنوط بولي العهد حين أخفقت مساعيه وخابت آماله، فهددها غير مرة ببخع نفسه والقضاء على حياته إن أصرت على رفض طلبه. وزاد عليه أن أخرج تهديده ذات يوم إلى حيز الفعل محاولا الانتحار. وخلاصة ذلك نقلا عن اللورد ستورتن: «جاء يوما الجراحي كيث واللورد أنسلو واللورد سوثمبتن والمستر إدورد بدفري مسرعين إلى منزل عقيلة فتزهربرت قائلين إن ولي العهد طعن نفسه بخنجر، وإن حياته في خطر لا ينقذه منه إلا إسراعها في الذهاب إليه. ومع شدة إلحافهم عليها في الذهاب أصرت على الامتناع. ولما تمادوا في اللجاج وأسرفوا في التوسل والاستعطاف، أجابت طلبهم مشترطة عليهم أن تصحبها سيدة ذات مقام رفيع؛ لأنها كانت موجسة خوف الوقوع في مكيدة تجر عليها العار والشنار. فانتدبوا دوقة ديفونشر وأخذوها معهم. ولما وصلت أرملة فتزهربرت وجدت الأمير مضرجا بالدماء وعلى وجهه صفرة الموت، فراعها منظره وكاد يغشى عليها من شدة الجزع والاضطراب. وقال لها الأمير إنه لا شيء يثنيه عن عزمه على تجرع كأس الموت إلا أن تعده أن تصير زوجة له، وتأذن له أن يضع خاتما في إصبعها. وأظن أن الخاتم الذي استخدم حينئذ في هذه الغاية لم يكن من عند الأمير بل استعير من دوقة ديفونشير. وسألتها عقيلة ديفونشير بعد ذلك ألا تظن أنهم احتالوا عليها بما لفقوه لها من حكاية محاولة الانتحار، وأن ما رأته على ولي العهد لم يكن دما؟ فأجابت سلبا وقالت إنها رأت بعينيها غير مرة أثر الجرح، وإنها عندما ذهبت إليه يوم طعن نفسه شاهدت قرب سريره قليلا من الكونياك ممزوجا بالماء.»
لكنها بعدما عادت إلى منزلها وخلت بنفسها وراجعت تفاصيل هذه الحادثة ناظرة إليها بعين التأمل والتدبر، اتضح لها فساد ما سبقت واعتقدت صحته، وتحققت أنها أخذت بحيلة سافلة، وأن شعيرة الزواج التي حصلت (إي إلباسها الخاتم) أضحوكة لا قيمة لها. فساءها ذلك وأضرم في قلبها نار الغيظ والحنق، وكتبت إلى اللورد سوثمبتن توسعه تقريعا وتوبيخا على ما بدا منه ومن رفقائه من الخداع الشائن المعيب. وفي اليوم التالي برحت إنكلترة وهامت على وجهها في عواصم أوروبا محاولة تناسي هذه الإهانة والهرب من وجه محبها.
وحينما بلغ الأمير جورج فرارها تنازعه عاملا حزن وغضب كادا يذهبان بصوابه. وقد وصفته عقيلة فوكز للورد هولند بقولها: «زارنا يشكو إلي وإلى زوجي تباريح هجر حبيبته له، فرأينا في بكائه وانتحابه، وفي كل حركة أبداها وكلمة نطق بها دليلا واضحا على شدة محبته لها وشغفه بها. وقد أقسم ليهجرن وطنه وتاجه وكل غال عزيز عنده ويتبعنها ولو إلى أقاصي الأرض.»
ولكنه كان غير قادر أن يبرح إنكلترة بلا إذن أبيه الملك، وقد رفض أبوه أن يأذن له في ذلك على رغم ما بذله من التوسل وما ذرفه من الدموع. وكان الملك جورج الثالث قد لقي من طيش أخويه وانبعاثهما في العشق والغرام ما أحرج صدره وأذهب صبره، ولم يترك عنده أقل جلد لتحمل شيء من هذا من ابنه ولي عهده ووارث عرشه من بعده.
فاستعان جورج بالرسل فانتشروا في عواصم أوروبا وأمهات مدنها يفتشون ويبحثون عن حبيبته الشاردة. ولما وجدوها في هولندة أخبروه، فكتب إليها رسائل مطولة يبثها فيها شوقه وغرامه، ويصف لها ما يعانيه في نواها من العذاب الأليم، ويتضرع إليها أن ترأف به وتعطف عليه وتسرع في العودة إليه، وإلا عرض نفسه للردى وذهب شهيد حبها وغرامها.
صفحه نامشخص