مکاید الحب فی قصور الملوک
مكايد الحب في قصور الملوك
ژانرها
أما والدته فظلت إلى آخر ساعة من حياتها تعتقد أن ابنها حي، وقضت سني حياتها الأخيرة تتوقع رجوعه إليها بملء الصبر والتسليم، قائلة لكل من يحاول تعزيتها: «إن ابني حي لم يمت، ولسوف يأتي إلي وتقر عيناي برؤيته قبلما أموت.» وكانت على الدوام تعنى بحفظ غرفه مكنوسة مفروشة ومعدة لنزوله فيها ساعة وصوله، وتعلق مصباحا خارج بوابة القصر لينير طريقه عند مجيئه ليلا. ولكن الغراندوقة المنكودة الحظ ماتت وابنها لم يأت، وجميع الجبليين سكان التيرول يقولون بصوت واحد وبإيمان راسخ وطيد: «سيعود. نعم سيعود بلا أقل ريب.» يقولون هذا وهم دائما على أتم استعداد للاحتفال بقدومه.
ولا يزال في قيد الحياة رجلان على الأقل يظن أنهما يعلمان الحقيقة؛ أحدهما وكيله الدكتور هبرلر الذي يقال إنه يتلقى منه رسائل كل شهر بلا انقطاع، والآخر صديقه البارون فون أباكو الذي كان قائد الحرس الملكي ليلة اختفاء الأرشديوق، ويقال إنه كان مطلعا على الخطة التي رسمها صديقه قبيل سفره. ومنذ عدة سنين انقطع البارون عن العالم وأقام في نيو غينيا الألمانية يشتغل بزراعة ضيعته هناك، ولا يمر لأوروبا ذكر بشفته ولسانه، فإن لم يعد الأرشديوق المختفي إلى عالم الوجود فسره المكتوم في صدر البارون يدفن معه في ضريحه.
ملكة الجمال
من عادة قصور الملوك أن تكون دائما مزدانة بالغيد الحسان اللواتي يسطعن فيها بنور جمال يخلب الأذهان ويكل عن وصفه اللسان، ولكن لم يكن بينهن من بلغت في بشارتها الشائقة وقسامتها الرائقة شأو فرجيني كونتس كستليون، التي طلعت شمس بهائها في أواسط القرن الماضي فبهرت محاسنها العيون، وأسرت ملامحها القلوب.
ولدت فرجيني في أحد قصور فلورنس، وكان أبوها المركيز أولدويني من كبار رجال السياسة في إيطاليا، وكانت والدتها المركيزة من أجمل نساء عصرها، فترعرعت ابنتها في مهد الجمال ورفعة المقام، وشبت وقد زكا فيها غرس الشرف المكتسب والحسن الموروث، فكانت في كليهما غصنا نضيرا مورقا وبدرا منيرا مشرقا.
ولما كانت ابنة اثنتي عشرة سنة صار حسنها مضرب الأمثال بين سكان فلورنس، فإذا صحبت والدتها إلى المسرح اشرأبت إليها الأعناق وحامت حولها الأحداق، وأصبح كل من هناك مدهوشا مسحورا برؤية قامة لم ينسج على منوالها في جمال طولها وحسن اعتدالها، وعينين كان البهاء كل البهاء وقفا عليهما، ووجه لم يقع النظر على أبهج منه صورة وأروع شارة. وفي هذه السن كانت معدودة أجمل فتاة في إيطاليا.
روي عن الكونت كستليون أنه ذهب إلى لندن سنة 1854 وكان في فجر صباه، فحضر اجتماعا في قصر الدوقة إنفرنس، وبعدما أجال طرفه في السيدات الحسان اللواتي كن هناك التفت إلى صديقه الكونت والسكا الجالس بجانبه، وقال له: «أظنك تجهل سبب مجيئي إلى لندن؟ إني قادم للبحث عن زوجة.» فأجابه الكونت: «إذا كان هذا مرادك فقد ارتكبت خطأ فاحشا بمغادرة إيطاليا. عد على الفور من حيث أتيت، واسع في التعرف للمركيزة أولدويني واخطب ابنتها، فتفز بأجمل زوجة في أوروبا.» فعمل الكونت كستليون بموجب نصيحة صديقه ورأى فرجيني أبهى مما وصفها له الكونت والسكا، وراعه حسنها المنقطع النظير. فخطبها وأفلح سعيه في اتخاذها زوجة له، ولكن هذه الفتاة عندما مدت يدها إلى الكونت مشيرة إلى رضاها أن تصير قرينته لم تمد إليه قلبها مع يدها بل أبقته بعيدا منه. وقالت له بصراحة لا مزيد عليها: «سأقترن بك لأن والدتي تروم ذلك. ولكن تذكر ولا تنس أني لا أحبك، ولن أحبك، وسأظل دائما غير مكترثة لك ولا مبالية بك.»
وعلى هذا الوجه تم الاحتفال بزفاف فرجيني على غير رضاها واختيارها إلى الكونت كستليون؛ الشاب الجميل الغني، ولكنه لسوء الحظ كان خائر العزم ضعيف الإرادة وفاسد الأخلاق. ومعلوم أن شابا كهذا لا يسعه أن يظفر بالمحبة والاحترام من لدن فتاة مطبوعة على عزة النفس وقوة الإرادة وبراعة الجمال. وقبل انقضاء شهر العسل عصفت بينهما رياح النزاع والشقاق، فقد سألها غير مرة بملء الخشوع والضراعة أن تصحبه في زيارة والدته حسب العادة المرعية، لكنها أبت ذلك إباء مطلقا. ولما خابت مساعي الرجاء والاستعطاف عمد إلى الحيلة. فدعاها ذات يوم أن تخرج للتنزه معه في المركبة، وأمر السائق سرا أن يذهب بهما إلى بيت والدته، فأجابته إلى ذلك ولم يخامرها ريب، حتى بلغت بهما المركبة جسر النهر في الطريق المؤدي إلى منزل حماتها، فما كذبت أن خلعت حذاءها وألقت به في الماء، ثم التفتت إلى زوجها وقالت له بلهجة الفوز والانتصار: «عد بي إلى القصر لأني لا أستطيع أن أزور والدتك حافية!» فعاد بها يجر ذيل الخيبة والإخفاق.
ولقد تفنن كثيرون في وصف جمال فرجيني، وكان كل منهم بعدما يسهب ما شاء في وصف محاسنها من قمة رأسها إلى أخمص قدمها يختم كلامه بقوله: «إن وصف جمالها النادر المثال معجزة الكتاب والشعراء.» ولم تكن منقطعة النظير في إيطاليا فقط، بل في أوروبا كلها، وكانت جواذب الملاحة والاستحسان في نباهة شأنها وشدة توقد ذهنها وسرعة خاطرها ورشاقة حركاتها لا تقل عن جواذب الروعة والبهجة في جمالها الطبيعي. ومع أنها زوجة ربة بعل كانت على الدوام محاطة بالعشاق الهائمين برؤية وجهها القسيم الوسيم، وفي مقدمتهم الملك فكتور عمانوئيل الذي كان أشدهم انشغافا بها وانجذابا إليها. وكأني بها مولودة ملكة وعرشها القلوب، وفيها جميع المعدات التي تؤهلها للجلوس على هذا العرش الساخر بأشرف العروش.
وكان كافور وزير فكتور عمانوئيل أول من رأى في هذه الكونتس مواهب أخرى فائقة غير موهبة الحسن والجمال، فإنه بشدة فراسته تبين فيها قوة ذكاء خارقة على استئسار القلوب واستعباد النفوس. فهي والحالة هذه خير من يصلح لمعالجة الشئون السياسية. فاقترح أن تذهب إلى باريس وتستخدم قوتها هذه في استمالة نبوليون، وإحراز معونته على تحرير إيطاليا، وصادف هذا الاقتراح هوى في نفس الكونتس الطامحة إلى الشهرة. وعلى الفور قبلته وبرحت إيطاليا إلى فرنسا حيث يتسع لها مجال الفوز والانتصار.
صفحه نامشخص