مکاید الحب فی قصور الملوک
مكايد الحب في قصور الملوك
ژانرها
وبعد أيام زفت جان إلى روان (الكردينال) بشرى وعد الملكة أن تقابله سرا تحت ستار الظلام في حديقة قصر فرسايل. ففاضت كأس بهجته وسعادته، وكاد لبه أن يطير من شدة الجذل، وأخذ يعد الساعات، بل الدقائق والثواني. وفي الوقت المعين دخل الحديقة، وطفق يروح فيها ويجيء وفؤاده يوشك أن يقفز خارجا من فمه من شدة الهياج والاضطراب، وبعد دقائق ظنها ساعات وأياما جاءته الكونتس وأسرت إليه قائلة: «أسرع، فإن الملكة في انتظارك!» والتفت حوله فرأى سيدة في حلة بيضاء قادمة نحوه مستذرية بظل سور الحديقة. فجثا على إحدى ركبتيه وانحنت السيدة فوقه بقامتها الطويلة الرشيقة، ووضعت في يده وردة، وقالت له بلهجة سحرت لبه: «ما أظنك تجهل معنى هذا.» وقبلما تمكن من جمع شمل أفكاره المشتتة فارقته بسرعة وغموض لا مزيد عليهما، ولبث وحده يمطر العشب الذي وطئته قدماها بقبلات شوق أحر من الجمر.
وفي مساء ذلك اليوم كتب إلى ماري أنطوانيت يقول: «إن تلك الوردة الساحرة مغروسة في قلبي. وسأحتفظ بها كل حياتي؛ لأنها تحيي في ذكرى أسعد ساعة في عمري.» ثم سلم الرسالة إلى الكونتس. وبعدما تلتها على انفراد وأوغلت في الضحك والاستهزاء بكاتبها، جعلتها طعام النار. وفي تلك الساعة نفسها كانت الآنسة ليغاي جالسة في أحد المطاعم تراجع في أفكارها الفصل المضحك الذي أجادت تمثيله، والأجرة الكبيرة التي نالتها عليه.
ولم يبق عند الكردينال أقل شك في شغف الملكة بمحاسنه وفوزه بصداقتها، بل بتملكه قلبها. ولشدة سروره وابتهاجه، أعطى الكونتس مبلغ خمسين ألف فرنك، ثم مبلغ مائة ألف فرنك، مصدقا قولها له إن الملكة في أشد احتياج إليهما.
وبعدما قبضت جان هذين المبلغين ذهبت هي وزوجها إلى حيث كانا عندما اقترنا، وهناك قضيا أياما وعاشا عيشة تبذير وإسراف لم يرو التاريخ أشد منها؛ إذ كانا ينفقان المال على الولائم والمراقص جزافا بلا تدبر ولا حساب، حتى لم يبقيا على شيء من المائة وخمسين ألف فرنك، وعادا إلى باريس ينصبان فخاخ المكر والاحتيال.
واتفق حينئذ أن المسيو بومر أحد جوهريي البلاط، كان قد قضى سنين في البحث عمن يشتري قلادة من أنفس الألماس وأغلاه، وهي تكاد تعد نادرة في جمال صنعها وإتقان ترصيعها. وقد أنفق عليها كل ما عنده من المال، ولكنه لم يستطع أن يجد من يقدرها قدرها ويشتريها ويدفع له ثمنها مليونا وستمائة ألف فرنك، وقد عرضها على جميع قصور الملوك في أوروبا وعاد منها كلها بخفي حنين. وبذل جهده في إغراء الملكة ماري أنطوانيت بابتياعها فلم يظفر، فلما ألح مرة على جلالتها قالت له: «لا أجهل أن الملك لا يبخل علي بثمنها، ولكني لا أروم شراءها. فخذها ولا تعرضها بعد الآن.»
فاشتمله اليأس من جراء حبوط مساعيه، ولم يكن يشأ أن يحل عقد نظامها ويبيعها حجارة كلا منها على حدة، ولم يسعده الحظ بلقاء من يريد أو يقدر أن يبتاعها كما هي. وكان كل سنة يتحمل فيها خسارة سبعين ألف فرنك ربا ثمنها. ولم يبق أمامه سوى شعاع أمل ضعيف بإمكان بيعه لهذه القلادة، فكان قد سمع بالكونتس دي لامرت وما بينها وبين الملكة من الصداقة الوثيقة العرى، وقال في نفسه إن كان في استطاعة أحد أن يحمل الملكة على شراء القلادة فإنما هو صديقتها هذه. وبناء عليه ذهب بالقلادة إلى الكونتس راجيا أن تسعى في تحويل الملكة عما عزمت عليه، وإقناعها بوجوب ابتياع هذه الحلية النفيسة.
لكنها قابلت رجاءه بالرفض والامتناع، وأبت المداخلة في هذا الأمر، فعرض عليها رشوة مقدارها ألف فرنك، وإذا بها استشاطت غيظا وحنقا، وأوسعته تأنيبا وتوبيخا، وصرفته من عندها محتقرا مهانا. لكنه تحمل ذلك كله وجاءها مرة بعد مرة. وفي المرة الثالثة آنس بعض علامات الرضا والانقياد، ولم يفتأ يلح ويلمح حتى فاز بحملها على الرضا والقبول، فقالت له: «سأبذل جهدي في السعي، فإن نجحت فعلت ذلك عفوا بلا توقع أقل جزاء. ولكن سواء نجحت أم أخفقت لا أروم أن يرد ذكر اسمي في هذه المسألة.»
وبعد خروجه من عندها زورت كتابا من ماري أنطوانيت إلى روان، وكان حينئذ خارج باريس، تطلب إليه أن يرجع حالا إلى العاصمة؛ لأنها في حاجة شديدة إلى مساعدته على قضاء أمر ذي شأن. وختمت الكتاب بقولها: «فإن شئت أن تفوز بمحبتي فلا تتأخر عن المجيء.» وعلى الفور أسرع الكرة عائدا إلى باريس. ومن الكونتس صديقة الملكة وكاتمة أسرارها اطلع على ما تروم جلالتها قضاءه؛ ألا وهو شراء القلادة لها.
قالت له الكونتس برزانة وحزم: «إن جلالة الملكة تروم إجراء المفاوضات بشأن شراء القلادة بما لا مزيد عليه من التكتم، ولو في الوقت الحاضر، مخافة أن يطلع الملك على ذلك ويغضب. ولما كانت جلالتها لا تستطيع الآن دفع الثمن نقدا، فهي ترغب في أن نيافة الكردينال يضمن الدفع.»
فطابت نفس روان بهذه الثقة الكبرى التي لجلالتها به، وعد ذلك أوضح دليل على تعلق قلبها به. وتم شراء القلادة بمبلغ 1600000 فرنك بضمان الكردينال، مقسطا أربعة أقساط في مدة سنتين بمقتضى صك ممضى بخط الملكة. وتسلمت الكونتس القلادة لكي تعطيها للملكة بيدها. ولا حاجة للقول إنها لم تلبث أن انتزعت حجارة الألماس من القلادة وأعطت أكثرها لزوجها، فباعها في سوق الجوهريين بمبلغ يكفيهما أن يعيشا في سعة ورخاء مدة الحياة الباقية.
صفحه نامشخص