مجموعة مختارات رسائل الجاحظ
رسائل الجاحظ
پژوهشگر
عبد السلام محمد هارون
ناشر
مكتبة الخانجي، القاهرة
سال انتشار
1384 ه - 1964 م
ژانرها
وكذلك العرب لم يكونوا تجارا ولا صناعا، ولا أطباء ولا حسابا ولا أصحاب فلاحة، فيكونوا مهنة، ولا أصحاب زرع، لخوفهم صغار الجزية. ولم يكونوا أصحاب جمع وكسب، ولا أصحاب احتكار لما في أيديهم، وطلب لما عند غيرهم، ولا طلبوا المعاش من ألسنة الموازين ورءوس المكاييل، ولا عرفوا الدوانيق والقراريط، ولم يفتقروا الفقر المدقع الذي يشغل عن المعرفة، ولم يستغنوا الغناء الذي يورث البلدة، والثروة التي تحدث الغرة، ولم يحتملوا ذلا قط فيميت قلوبهم، ويصغر عندهم أنفسهم. وكانوا سكان فياف، وتربية العراء، لا يعرفون الغمق ولا اللثق، ولا البخار ولا الغلظ، ولا العفن، ولا التخم. أذهان حديدة، ونفوس منكرة. فحين حملوا حدهم، ووجهوا قواهم إلى قول الشعر، وبلاغة المنطق، وتشقيق اللغة، وتصاريف الكلام، وقيافة البشر بعد قيافة الأثر، وحفظ النسب، والاهتداء بالنجوم ، والاستدلال بالآثار، وتعرف الأنواء، والبصر بالخيل والسلاح وآلة الحرب، والحفظ لكل مسموع، والاعتبار بكل محسوس، وإحكام شأن المناقب والمثالب، بلغوا في ذلك الغاية، وحازوا كل أمنية. وببعض هذه العلل صارت نفوسهم أكبر، وهممهم أرفع، وهم من جميع الأمم أفخر، ولأيامهم أذكر.
وكذلك الترك، أصحاب عمد، وسكان فياف، وأرباب مواش. وهم أعراب العجم، كما أن هذيلا أكراد العرب، لم تشغلهم الصناعات ولا التجارات، ولا الطب والفلاحة والهندسة، ولا غراس ولا بنيان، ولا شق أنهار، ولا جباية غلات، ولم يكن همهم غير الغارة والغزو والصيد، وركوب الخيل، ومقارعة الأبطال، وطلب الغنائم، وتدويخ البلاد. وكانت هممهم إلى ذلك مصروفة، وكانت لهذه المعاني والأسباب المسخرة، ومقصورة عليها وموصولة بها، أحكموا ذلك الأمر بأسره، وأتوا على آخره، وصار ذلك هو صناعتهم وتجارتهم، ولذتهم في الحرب وفخرهم، وحديثهم وسمرهم.
صفحه ۲۱۷