[مُقَدِّمَة الْكتاب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا إلَى الْإِيمَانِ بِهِدَايَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ وَوَفَّقَنَا لِمُدَاوَمَةِ الصَّلَاةِ بِعِنَايَتِهِ الْعَلِيَّةِ وَأَطْلَعَنَا عَلَى الْأُصُولِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا مِنْ الْمَسَائِلِ الْحَنَفِيَّةِ وَفَرَضَ عَلَيْنَا الزَّكَاةَ لِإِزَالَةِ الْوَسَخِ عَنْ الْأَمْوَالِ الْبَهِيَّةِ وَشَرَّفَنَا بِالصَّوْمِ وَالْحَجِّ فَإِنَّهُمَا مُكَفِّرَانِ لِلذُّنُوبِ وَكَاشِفَانِ عَنْ ظُلَمِ الْمَعَاصِي وَغَيَاهِبِ الرُّيُوبِ حَمْدًا لَا يَكْتَنُّهُ كُنْهُهُ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ وَهُوَ مِرْقَاةُ الْأُصُولِ وَمِعْرَاجُ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ هُوَ اللَّهُ لَا إلَهَ سِوَاهُ وَلَا مُنَازِعَ لِمَا عَدَلَهُ وَسَوَّاهُ وَالصَّلَاةُ عَلَى أَشْرَفِ الْخَلَائِقِ الْإِنْسِيَّةِ وَمَجْمَعِ الْخَلَائِقِ الْإِنْسِيَّةِ وَطَوْرِ التَّجَلِّيَاتِ الْإِحْسَانِيَّةِ وَمَهْبِطِ الْأَسْرَارِ الرَّوْحَانِيَّةِ وَتُرْجُمَانِ لِسَانِ الْقِدَمِ وَمَنْبَعِ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ وَالْحِكَمِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الَّذِي وَسَمَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَرَسَمَ الْإِحْلَالَ وَالْإِحْرَامَ عِلْمًا لِلدِّينِ الْمُبِينِ وَإِمَامًا لِلْحُكَّامِ وَمُوَطِّدًا لِلْمِلَّةِ وَمُمَهِّدًا لِلْإِسْلَامِ صَلَاةً مَمْدُودَةً مَدَاهَا بَاقِيَةَ الْوُصُولِ إلَى مُنْتَهَاهَا وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ هُمْ قَاطِعُوا دَابِرِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَقَالِعُوا عِرْقِ أَهْلِ الْغَوَايَةِ وَالْجَهَالَةِ مَا تَجَلَّتْ وُجُوهُ الْإِسْلَامِ بِغُرَرِ التَّدْقِيقِ وَتَجَلَّتْ صُدُورُ الْأَحْكَامِ بِدُرَرِ التَّحْقِيقِ.
(وَبَعْدُ) فَيَقُولُ الْمُفْتَقِرُ إلَى الْمَلِكِ الْمَنَّانِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَدْعُوُّ بِشَيْخِ زَادَهْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُسْنَى وَزِيَادَةً وَغَفَرَ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ وَأَحْسَنَ إلَيْهِمَا وَإِلَيْهِ إنَّ الْكِتَابَ الْمُسَمَّى بِمُلْتَقَى الْأَبْحُرِ بَحْرٌ زَاخِرٌ وَغَيْثٌ مَاطِرٌ وَإِنْ كَانَ صَغِيرَ الْحَجْمِ وَوَجِيزَ النَّظْمِ لَكِنَّ جَمِيعَ الْوَاقِعَاتِ مِنْ الْمَسَائِلِ
1 / 2
قَدْ يُوجَدُ فِي قَعْرِهِ أَوْ فِي السَّاحِلِ وَهُوَ أَنْفَعُ مُتُونِ الْمَذْهَبِ وَأَجَلُّ وَأَتَمُّهَا فَائِدَةً وَأَكْمَلُ خَالٍ عَنْ الزَّوَائِدِ الْمُمِلَّةِ وَالِاخْتِصَارَاتِ الْمُخِلَّةِ وَشُهْرَتُهُ فَوْقَ الْأَطْنَابِ فِي مِدْحَتِهِ رَحِمَ اللَّهُ مُؤَلِّفَهُ وَتَغَمَّدَهُ بِمَغْفِرَتِهِ وَقَدْ شَرَحَهُ بَعْضٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَكَشَفَ عَنْ حَقَائِقِهِ الْمُسْتَجِنَّةِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ إلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَطْنَبَ بِلَا فَائِدَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَزَ بِلَا رَبْطٍ وَلَا قَاعِدَةٍ لَا يُرَى فِيمَا قَالُوا شِفَاءً لِعَلِيلٍ وَلَا رِوَاءً لِغَلِيلٍ بَلْ لَا يَخْلُو مِنْ زَيَغَانِ الْأَبْصَارِ عَلَى النَّاظِرِينَ وَالتَّخَالُجِ فِي بَالِ أَكْثَرِ الْمُتَأَمِّلِينَ فَأَرَدْت تَبْيِينَ مَكْنُونِهِ عَنْ كُلِّ مُحْكَمٍ وَغَامِضٍ وَتَحْقِيقَ لُبِّهِ مِنْ كُلِّ حُلْوٍ وَحَامِضٍ مِنْ غَيْرِ إطْنَابٍ مُمِلٍّ وَإِيجَازٍ مُخِلٍّ وَأَلْحَقْت بِهِ كَثِيرًا مِنْ الْفَوَائِدِ الْجَمَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْمُهِمَّةِ مُتَوَغِّلًا فِي تَخْلِيصِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ وَتَمْيِيزِ الْقِشْرِ عَنْ اللُّبَابِ مَعَ قِلَّةِ الْبِضَاعَةِ وَكَثْرَةِ الْهُمُومِ وَالْآلَامِ وَاشْتِعَالِ نِيرَانِ شَدَائِدِ الطَّرِيقِ فِي اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ وَاخْتِلَالِ الْحَالِ وَتَرَاكُمِ بَوَاعِثِ الْمَلَالِ.
(وَسَمَّيْته بِمَجْمَعِ الْأَنْهُرِ فِي شَرْحِ مُلْتَقَى الْأَبْحُرِ) رَاجِيًا مِنْ الْمُنْصِفِ إذَا نَظَرَ فِيهِ بِعَيْنِ الرِّضَا وَوَجَدَ الْخَطَأَ أَنْ يُصَحِّحَ عَلَى مَا اُشْتُهِرَ فِيمَا بَيْنَهُمْ اللَّئِيمُ يَفْضَحُ وَالْكَرِيمُ يُصْلِحُ؛ لِأَنَّ نَوْعَ الْإِنْسَانِ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ وَمَنْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ يَكُونُ عِنْدَ كِرَامِ النَّاسِ مَعْذُورًا وَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ بِلَوْمَةِ لَائِمٍ مَلُومًا مَدْحُورًا بَلْ يَكُونُ السَّعْيُ لَدَيْهِمْ مَشْكُورًا وَالْعَمَلُ الْخَيِّرُ بَيْنَ يَدَيْهِمْ مَقْبُولًا وَمَبْرُورًا وَمُبْتَغِيًا أَنْ يَجْعَلَهُ خَاصًّا لِوَجْهِ اللَّهِ الْغَفَّارِ وَوَسِيلَةً إلَى شَفَاعَةِ نَبِيِّهِ الْمُخْتَارِ وَشَرَعْت مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ الْفَيَّاضِ الْكَرِيمِ وَمُسْتَعِيذًا مِنْ كُلِّ حَاسِدٍ وَلَئِيمٍ وَذَلِكَ فِي يُمْنِ أَيَّامِ دَوْلَةِ السُّلْطَانِ الْأَكْرَمِ عَضُدِ سَلَاطِينِ الْأُمَمِ ظِلِّ اللَّهِ فِي بَسِيطِ الْأَرْضِ عَامِرِ الْمَعْمُورَةِ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ قُطْبِ فَلَكِ السَّلْطَنَةِ الْغَرَّاءِ مَرْكَزِ دَائِرَةِ الْخِلَافَةِ الْعُلْيَا مَالِكِ أَزِمَّةِ أُمُورِ الْعَالَمِينَ حَافِظِ ثُغُورِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ لِنُصْرَةِ الدِّينِ الْمُبِينِ وَالشَّرْعِ الْمُطَهَّرِ الْمَتِينِ الْمَنْصُورِ بِالتَّأْيِيدَاتِ الْفَائِضَةِ مِنْ السَّمَاءِ الْمُظَفَّرِ بِوُرُودِ الْجُنُودِ الْغَيْبِيَّةِ عَلَى الْأَعْدَاءِ الْمُؤَيَّدِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْوَهَّابِ بِالتَّوْفِيقِ الْمُسَدَّدِ بِنَصْرِ اللَّهِ الْفَتَّاحِ عَلَى التَّحْقِيقِ آمِرِ الْعِبَادِ بِإِقَامَةِ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ الْمَخْصُوصِ بِتَشْرِيفِ ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ﴾ [فاطر: ٣٩] أَنْوَرَ مِنْ بَدْرِ الدُّجَى فِي هَالَةِ الْبَرَايَا أَظْهَرَ مِنْ شَمْسِ الضُّحَى فِي الْعَدَالَةِ بَيْنَ الرَّعَايَا مَلَاذِ أَرْبَابِ الْحَاجَاتِ وَالْعُلَمَاءِ مَعَاذِ كَافَّةِ الْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ حَامِي حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ مُرَوِّجِ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ بِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ ضَابِطِ أَقْطَارِ الْأَمْصَارِ بِالْقُوَّةِ الْقَاهِرَةِ رَابِطِ أَطْرَافِ الْآفَاقِ بِالدَّوْلَةِ الْبَاهِرَةِ نَاصِبِ رَايَاتِ النَّصَفَةِ بَعْدَ انْدِرَاسِهَا مُظْهِرِ آثَارِ الْعَدَالَةِ عَقِيبَ انْطِمَاسِهَا مُؤَسِّسِ مَبَانِي الْإِنْصَافِ
1 / 3
قَالِعِ قَوَاعِدِ الْإِجْحَافِ مَالِكِ مَمَالِكِ الْآفَاقِ وَارِثِ سَرِيرِ السَّلْطَنَةِ بِالِاسْتِحْقَاقِ خَادِمِ الْحَرَمَيْنِ الْمُعَظَّمَيْنِ مَالِكِ أَمَاجِدِ الْمَشْرِقَيْنِ.
هُوَ الْمَلِيكُ الَّذِي مَا زَالَ بَدْرَ هُدًى ... يُطِيعُهُ الْخَلْقُ مِنْ عَرَبٍ وَمِنْ عَجَمِ
فَمُذْ أَقَامَ بِأَمْرِ اللَّهِ قَدْ حُرِسَتْ ... جَوَانِبُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنْ الثُّلَمِ
سُلْطَانِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَالرُّومِ وَالْخَاقَانِ السُّلْطَانِ الْغَازِي مُحَمَّد خَان بْنِ السُّلْطَانِ إبْرَاهِيم خَان بْنِ السُّلْطَانِ أَحْمَد خَان أَسْبَغَ اللَّهُ ظِلَالَ سَلْطَنَتِهِ عَلَى مُفَارِقِ الْعَالَمِينَ وَوَسَّعَ سِجَالَ نَوَالِ عَاطِفَتِهِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَلَا زَالَتْ سَمَاءُ دَوْلَتِهِ بِكَوَاكِبِ الْإِقْبَالِ مُزَيَّنَةً وَآيَاتُ أُبَّهَتِهِ عَلَى صَفَحَاتِ الْكَائِنَاتِ مُبَيَّنَةً وَأَقْمَارُ دَوْلَتِهِ ثَابِتَةً عَلَى بُرُوجِ الْكَمَالِ وَنُجُومُ عَظَمَتِهِ ثَاقِبَةً عَلَى ذَوِي الْإِقْبَالِ نَائِيَةً عَنْ سَمْتِ الزَّوَالِ
مَلِيكُ النَّدَى رُكْنُ الْهُدَى كَعْبَةُ الْعُلَى ... قَرِينُ التُّقَى وَالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ أَجْمَعَا
إلَهِي بِدَمْعِ الْوَارِدِينَ لِزَمْزَمَ ... وَمَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَمَنْ سَعَى
أَطِلْ عُمْرَهُ وَاشْرَحْ بِفَضْلِك صَدْرَهُ ... وَعَامِلِهِ بِالْإِنْعَامِ يَا سَامِعَ الدُّعَا
اعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ افْتَتَحَهُ بِاسْمِ اللَّهِ وِفَاقًا لِكِتَابِ اللَّهِ وَاقْتِفَاءً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَاقْتِدَاءً بِالْمُؤَلِّفِينَ الْعَارِفِينَ بِاَللَّهِ مَعَ إشَارَةٍ إلَى أَدَاءِ بَعْضِ مَا عَلَيْهِ مِنْ مَحَامِدِ الْكَرِيمِ فَقَالَ
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) الْبَاءُ حَرْفُ مَعْنَى وَلَهَا مَعَانٍ وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهَا سِيبَوَيْهِ إلَّا مَعْنَى الْإِلْصَاقِ وَالِاخْتِلَاطِ وَذَكَرُوا أَنَّهَا لِلِاسْتِعَانَةِ وَقِيلَ لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ ابْتِدَائِي كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَصْرِيُّونَ وَقَدَّرَ الْكُوفِيُّونَ بَدَأْتُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ مُتَأَخِّرًا عَنْ التَّسْمِيَةِ وَالِاسْمُ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ بِالْوَضْعِ عَلَى مَوْجُودٍ فِي الْأَعْيَانِ إنْ كَانَ مَحْسُوسًا وَفِي الْأَذْهَانِ إنْ كَانَ مَعْقُولًا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ بِهَيْئَتِهِ لِلزَّمَانِ هُوَ مِنْ السُّمُوِّ وَهُوَ الْعُلُوُّ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَصْرِيُّونَ أَوْ مِنْ الْوَسْمِ، وَهُوَ الْعَلَامَةُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ وَكُسِرَتْ الْبَاءُ لِتَشَابُهِ حَرَكَتِهَا عَمَلَهَا وَطُوِّلَتْ لِتَدُلَّ عَلَى الْأَلِفِ الْمَحْذُوفَةِ وَلَمْ تُحْذَفْ إلَّا مَعَ اسْمٍ وَاَللَّهُ اسْمٌ لِلذَّاتِ مِنْ حَيْثُ هِيَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِلذَّاتِ وَالصِّفَةِ مَعًا، وَهُوَ لَفْظٌ عَرَبِيٌّ عَلَمٌ لِمُوجِدِ الْعَالَمِ وَلَيْسَ بِمُشْتَقٍّ عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَالرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ صِفَتَانِ مُشَبَّهَتَانِ مِنْ رَحِمَ بَعْدَ نَقْلِهِ إلَى فَعُلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ الْمُشَبَّهَةَ لَا تُشْتَقُّ إلَّا مَعَ فِعْلَ لَازِمٍ، وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي بَابِ الْمَدْحِ مِثْلُ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ وَبَدِيعُ السَّمَوَاتِ، وَفِي الرَّحْمَنِ مِنْ الْمُبَالَغَةِ مَا لَيْسَ فِي الرَّحِيمِ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَبَانِي لِزِيَادَةِ الْمَعَانِي وَهِيَ إمَّا بِحَسَبِ شُمُولِهِ لِلدَّارَيْنِ وَاخْتِصَاصِ الرَّحِيمِ بِالدُّنْيَا كَمَا وَقَعَ فِي الْأَثَرِ يَا رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمَ الدُّنْيَا وَإِمَّا بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْمَرْحُومِينَ وَقِلَّتِهِمْ كَمَا وَرَدَ يَا رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمَ الْآخِرَةِ وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ جَلَالَةِ النِّعَمِ وَدِقَّتِهَا وَبِالْجُمْلَةِ فَفِي الرَّحْمَنِ مُبَالَغَةٌ فِي مَعْنَى الرَّحْمَةِ
1 / 4
لَيْسَتْ فِي الرَّحِيمِ فَقَصَدَ بِهِ رَحْمَةً زَائِدَةً بِوَجْهٍ مَا فَلَا يُنَافِيهِ مَا يُرْوَى مِنْ قَوْلِهِمْ يَا رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمَهُمَا لِجَوَازِ حَمْلِهِمَا عَلَى الْجَلَائِلِ وَالدَّقَائِقِ وَاشْتِقَاقِهِمَا مِنْ الرَّحْمَةِ بِمَعْنَى الرِّقَّةِ وَالْعَطْفِ وَهُوَ مِنْ أَوْصَافِ الْأَجْسَامِ فَإِطْلَاقُهَا عَلَيْهِ - تَعَالَى - إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْغَايَاتِ الَّتِي هِيَ أَفْعَالٌ دُونَ الْمَبَادِي الَّتِي هِيَ انْفِعَالَاتٌ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِنْعَامِ أَوْ إرَادَتِهِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَبَّبٌ عَنْ رِقَّةِ الْقَلْبِ وَالِانْعِطَافِ فَيَكُونُ مَجَازًا مُرْسَلًا مِنْ إطْلَاقِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى
(الْحَمْدُ) هُوَ الثَّنَاءُ لِتَعْظِيمِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ بِمَعْنَى الْمَدْحِ لَكِنَّهُ أَخَصُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْحَمْدَ يَكُونُ بِمَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ الْخِصَالِ الْجَمِيلَةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَالْمَدْحُ بِمَا فِيهِ وَمِنْهُ بِاخْتِيَارِهِ وَبِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ تَقُولُ حَمِدْته لِعِلْمِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَمَدَحْته لِطُولِ قَامَتِهِ وَصَبَاحَةِ وَجْهِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ [البقرة: ٢٤٧] وَأَعَمُّ مِنْ الشُّكْرِ؛ لِأَنَّ الشُّكْرَ لَا يُقَالُ إلَّا فِي مُقَابَلَةِ النِّعْمَةِ وَالْحَمْدُ يُقَالُ فِي مُقَابَلَةِ النِّعْمَةِ وَغَيْرِهَا نَقُولُ: حَمِدْته لِإِحْسَانِهِ إلَيَّ وَحَمِدْتُهُ لِعِلْمِهِ وَشَكَرْته لِإِحْسَانِهِ إلَيَّ فَكُلُّ شُكْرٍ حَمْدٌ، وَلَيْسَ كُلُّ حَمْدٍ شُكْرًا وَكُلُّ حَمْدٍ مَدْحٌ وَلَيْسَ كُلُّ مَدْحٍ حَمْدًا كَمَا فِي الْكَوَاشِيِّ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ أَيْ حَمِدَهُ - تَعَالَى - أَوْ حَمِدَ مُحِبِّيهِ أَوْ لِلِاسْتِغْرَاقِ أَوْ الْجِنْسِ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْوُصُولِ أَنَّ الْعَهْدَ مُقَدَّمٌ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (لِلَّهِ) وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ أَيْ الْحَمْدُ مُخْتَصٌّ بِهِ - تَعَالَى - الْحَمْدُ هَا هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ أَيْ كُلُّ حَامِدِيَّةٍ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ - تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ كُلُّ مَحْمُودِيَّةٍ قَائِمَةٌ بِهِ تَعَالَى، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى عَلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ أَيْ كُلُّ مَا يَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْحَمْدِ فَحِينَئِذٍ يَشْمَلُ كُلًّا مِنْ مَعْنَيَيْهِ فَيُوَفَّى حَقُّ الْمَقَامِ
(الَّذِي وَفَّقَنَا) التَّوْفِيقُ: جَعْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِعْلَ عِبَادِهِ مُوَافِقًا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَقِيلَ هُوَ اسْتِعْدَادُ الْإِقْدَامِ عَلَى الشَّيْءِ وَقِيلَ هُوَ مُوَافَقَةُ تَدْبِيرِ الْعَبْدِ لِتَقْدِيرِ الْحَقِّ وَقِيلَ هُوَ الْأَمْرُ الْمُقَرِّبُ إلَى السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ وَالْكَرَامَةِ السَّرْمَدِيَّةِ وَقِيلَ هُوَ جَعْلُ الْأَسْبَابِ مُوَافِقَةً لِلْمُسَبِّبَاتِ (لِلتَّفَقُّهِ) الْفِقْهُ: هُوَ الْإِصَابَةُ وَالْوُقُوفُ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ وَهُوَ عِلْمٌ مُسْتَنْبَطٌ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَمُحْتَاجٌ إلَى النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى اللَّهُ فَقِيهًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ وَاخْتَارَ التَّفَقُّهَ لِلْإِشَارَةِ إلَى مُوَافَقَةِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْ فِي الدِّينِ» وَإِلَى مَا فِي صِيغَةِ التَّكْلِيفِ مِنْ أَنَّ حُصُولَ عِلْمِ الْفِقْهِ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بَلْ شَيْئًا فَشَيْئًا (فِي الدِّينِ) الدِّينُ وَالْمِلَّةُ مُتَّحِدَانِ بِالذَّاتِ مُخْتَلِفَانِ بِالِاعْتِبَارِ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تُطَاعُ تُسَمَّى دِينًا وَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَجْمَعُ تُسَمَّى مِلَّةً وَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا تُرْجَعُ إلَيْهَا تُسَمَّى مَذْهَبًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الدِّينَ مَنْسُوبٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ وَضْعٌ إلَهِيٌّ يَدْعُو أَصْحَابَ الْعُقُولِ إلَى قَبُولِ مَا هُوَ مِنْ عِنْدِ الرَّسُولِ، وَالْمِلَّةُ
1 / 5
إلَى النَّبِيِّ، وَالْمَذْهَبُ إلَى الْمُجْتَهِدِ (الَّذِي) الْمَوْصُولُ مَعَ صِلَتِهِ صِفَةٌ لِلدِّينِ (هُوَ) أَيْ الدِّينُ (حَبْلُهُ) وَوَصَفَ الْحَبْلَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْقُوَّةِ وَالْمَتَانَةِ بِقَوْلِهِ (الْمَتِينُ) أَيْ الصُّلْبُ الشَّدِيدُ (وَفَضْلُهُ) الْفَضْلُ ابْتِدَاءُ إحْسَانٍ بِلَا عِلَّةٍ (الْمُبِينُ) أَيْ الْمُوَضَّحُ (وَمِيرَاثُ) مَجَازٌ عَنْ الِانْتِقَالِ (الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ) فَالرَّسُولُ مَنْ بَعَثَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - لِتَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ مَلَكًا كَانَ أَوْ آدَمِيًّا وَكَذَا النَّبِيُّ إلَّا أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْإِنْسِ عَلَى الْأَشْهَرِ، وَهُمَا إمَّا مُتَبَايِنَانِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ فَالرَّسُولُ جَاءَ بِشَرْعٍ مُبْتَدَأٍ، وَالنَّبِيُّ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ وَإِنْ أُمِرَ بِالْإِبْلَاغِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْله تَعَالَى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى﴾ [الحج: ٥٢] فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي غَيْرِهِ مَجَازًا، أَوْ مُتَرَادِفَانِ عَلَى مَا هُوَ الْعَادَةُ فِي الْخُطْبَةِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا مَنْ بُعِثَ لِلتَّبْلِيغِ، أَوْ الرَّسُولُ أَخَصُّ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ (وَحُجَّتُهُ) أَيْ دَلِيلُهُ وَبُرْهَانُهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحُجَّةِ وَالْبَيِّنَةِ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِهِ الدَّعْوَى مِنْ حَيْثُ إفَادَتُهُ الْبَيَانَ يُسَمَّى بَيِّنَةً، وَمِنْ حَيْثُ الْغَلَبَةُ عَلَى الْخَصْمِ بِهِ يُسَمَّى حُجَّةً (الدَّامِغَةُ) الْقَاهِرَةُ الْمُذِلَّةُ لِلْخَصْمِ مِنْ الدَّمْعِ، وَهُوَ مِنْ الشِّجَاجِ الَّتِي بَلَغَتْ أُمَّ الدِّمَاغِ (عَنْ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ) أَكَّدَهُ عَلَى وَجْهِ التَّعْمِيمِ لِلْمُبَالَغَةِ أَوْ لِرِعَايَةِ السَّجْعِ (وَمَحَجَّتُهُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْحَاءِ وَالْجِيمِ جَادَّةُ الطَّرِيقِ وَهِيَ الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ (السَّالِكَةُ) أَيْ الرَّاقِيَةُ الْمُوَصِّلَةُ (إلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ) أَيْ أَعْلَى مَكَان فِي الْجَنَّةِ (وَالصَّلَاةُ) بِالرَّفْعِ بِالِابْتِدَاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَيَجُوزُ الْجَرُّ بِالْعَطْفِ عَلَى الِاسْمِ أَيْ بِالصَّلَاةِ وَإِنَّمَا كُتِبَتْ بِالْوَاوِ مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ الْمُفَخَّمِ فَالْمَعْنَى الْعَطْفُ لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ - تَعَالَى الرَّحْمَةُ وَإِلَى الْمَلَكِ الِاسْتِغْفَارُ، وَإِلَى الْمُؤْمِنِينَ الدُّعَاءُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا فِي الدُّعَاءِ حَقِيقَةٌ وَفِي غَيْرِهِ مَجَازٌ (وَالسَّلَامُ) أَيْ السَّلَامَةُ عَنْ الْآفَاتِ وَسُمِّيَتْ الْجَنَّةُ دَارَ السَّلَامِ لِهَذَا وَتَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى بِهِ لِتَنَزُّهِهِ عَنْ النَّقَائِصِ وَالرَّذَائِلِ وَتَعْرِيفُهُمَا كَتَعْرِيفِ الْحَمْدِ (عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ) أَيْ أَفْضَلِ مَخْلُوقِهِ (مُحَمَّدٍ) أَشْهَرِ أَسْمَائِهِ الشَّرِيفَةِ وَهِيَ أَلْفٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَقِيلَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَقِيلَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهِ لِلْإِلْهَامِ بِذَلِكَ وَالْمَعْنَى ذَاتٌ كَثُرَتْ خِصَالُهَا الْمَحْمُودَةُ أَوْ كَثُرَ الْحَمْدُ لَهُ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ أَوْ كَثُرَ حَمْدُهُ تَعَالَى لَهُ (الْمَبْعُوثُ) إلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بِالْإِجْمَاعِ وَإِلَى الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْخِلَافِ (رَحْمَةً) نُصِبَ عَلَى الْحَالِيَّةِ أَوْ الْمَفْعُولِ لَهُ (لِلْعَالَمِينَ) وَالْعَالَمُ اسْمٌ لِمَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى غَلَبَ مِنْهُ الْعُقَلَاءُ وَقِيلَ اسْمٌ لِذَوِي الْعِلْمِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَتَنَاوُلُهُ لِغَيْرِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِتْبَاعِ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ النَّاسُ وَفِيهِ تَلْمِيحٌ إلَى قَوْله تَعَالَى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧] (وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ) فِي الْآلِ اخْتِلَافٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ مَنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ وَالصَّحْبُ جَمْعُ صَاحِبٍ وَهُوَ كُلُّ مُسْلِمٍ رَأَى النَّبِيَّ أَوْ رَآهُ النَّبِيُّ ﵊ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ وَعَنْ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ خِلَافُ ذَلِكَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ
وَلَمَّا كَانَ الدُّعَاءُ بِلَفْظِ الصَّلَاةِ مُخْتَصًّا بِالْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
1 / 6
تَعْظِيمًا لَمْ يَدْعُ بِهِ لِغَيْرِهِمْ إلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ لَهُمْ (وَالتَّابِعِينَ) هُوَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الصَّحَابَةَ فِي آثَارِهِمْ (وَالْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ) مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْمُؤَلِّفِينَ وَغَيْرِهِمْ (وَبَعْدُ) مِنْ الظُّرُوفِ الْمَبْنِيَّةِ الْمُنْقَطِعَةِ عَنْ الْإِضَافَةِ أَيْ بَعْدَ الْحَمْدِ وَالصَّلَاةِ (فَيَقُولُ الْفَقِيرُ إلَى رَحْمَةِ رَبِّهِ الْغَنِيِّ) وَالْفَاءُ فِي فَيَقُولُ إمَّا عَلَى تَوَهُّمِ أَمَّا، وَإِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ مَهْمَا مَحْذُوفَةً مِنْ الْكَلَامِ وَالْوَاوُ عِوَضٌ عَنْهَا (إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْحَلَبِيُّ) كَانَ إمَامًا وَخَطِيبًا بِجَامِعِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ بِمَدِينَةِ الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْمَحْمِيَّةِ وَمُدَرِّسًا بِدَارِ الْقِرَاءَةِ الَّتِي بَنَاهَا سَعْدِيٌّ أَفَنْدِي وَمَاتَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ عُمَرُهُ رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ وَزَادَ فِي أَعْلَى غُرَفِ الْجِنَانِ فَتَوَجَّهَ (قَدْ سَأَلَنِي) أَيْ طَلَبَ مِنِّي (بَعْضُ طَالِبِي) جَمْعٌ مُضَافٌ إلَى (الِاسْتِفَادَةِ) .
وَلَوْ قَالَ بَعْضُ الْمُسْتَفِيدِينَ لَكَانَ أَوْلَى (أَنْ أَجْمَعَ لَهُ كِتَابًا يَشْتَمِلُ) صِفَةُ: كِتَابًا (عَلَى مَسَائِلِ الْقُدُورِيِّ وَالْمُخْتَارِ وَالْكَنْزِ وَالْوِقَايَةِ بِعِبَارَةٍ سَهْلَةٍ) الْمُرَادُ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْأَخْذُ بِالسُّهُولَةِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْفِكْرِ وَالدِّقَّةِ (غَيْرِ مُغْلَقَةٍ) أَيْ غَيْرِ مُشْكِلَةٍ (فَأَجَبْتُهُ) الْفَاءُ فَصِيحَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سَبَبِيَّةً أَيْ أَعْطَيْته جَوَابًا بِأَنْ أَقُولَ قَبِلْت إيفَاءَ مَسْأَلَتِك (إلَى ذَلِكَ) أَيْ سُؤَالِ الْبَعْضِ.
(وَأَضَفْت إلَيْهِ بَعْضَ مَا يَحْتَاجُ) أَيْ يَفْتَقِرُ (إلَيْهِ مِنْ مَسَائِلِ الْمَجْمَعِ وَنُبْذَةً) عِبَارَةٌ عَنْ الشَّيْءِ الْقَلِيلِ وَلَا يُنَافِيهِ مَا فِي آخِرِ الْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُ زَادَهُ مَسَائِلَ كَثِيرَةً مِنْ الْهِدَايَةِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَسَائِلَ كَثِيرَةً نَظَرًا إلَى أَنْفُسِهَا نُبْذَةً بِالْقِيَاسِ إلَى مَسَائِلِ سَائِرِ الْكُتُبِ الَّتِي جَمَعَهَا فِي كِتَابِهِ (مِنْ الْهِدَايَةِ وَصَرَّحْت بِذِكْرِ الْخِلَافِ) الْوَاقِعِ (بَيْنَ أَئِمَّتِنَا) الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ الشَّيْبَانِيِّ وَالْإِمَامِ أَبِي يُوسُفَ الرَّبَّانِيِّ وَالْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَعْظَمِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - ثُمَّ اخْتَرَعَ قَاعِدَةً فِي الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ لِيُعْلَمَ مِنْهَا الْأَقْوَى وَالْأَرْجَحُ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى فَقَالَ.
(وَقَدَّمْت مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ مَا هُوَ الْأَرْجَحُ) الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ وَالْمَوْصُولُ مَعَ صِلَتِهِ مَفْعُولُ قَدَّمْت.
(وَأَخَّرْت غَيْرَهُ) أَيْ غَيْرَ الْأَرْجَحِ (إلَّا) الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ قَوْلِهِ غَيْرَهُ (إنْ قَيَّدْته) وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى: غَيْرَهُ (بِمَا يُفِيدُ التَّرْجِيحَ) نَحْوَ قَوْلِهِ الصَّحِيحُ وَالْمُخْتَارُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى فَإِنَّ الْأَرْجَحَ حِينَئِذٍ مَا هُوَ الْمُقَيَّدُ بِهِ لَا الْمُقَدَّمُ.
(وَأَمَّا الْخِلَافُ الْوَاقِعُ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ) مِنْ الْمَشَايِخِ (أَوْ) الْخِلَافُ الْوَاقِعُ (بَيْنَ) أَصْحَابِ (الْكُتُبِ الْمَذْكُورَةِ) الَّتِي جَمَعَ هَذَا الْكِتَابُ مِنْهَا (فَكُلُّ مَا) أَيْ مَسْأَلَةٍ (صَدَّرْته بِلَفْظِ قِيلَ أَوْ قَالُوا إنْ) - وَصْلِيَّةٌ - (كَانَ مَقْرُونًا بِالْأَصَحِّ وَنَحْوِهِ) أَيْ الْمُخْتَارِ وَبِهِ يُفْتَى (فَإِنَّهُ) أَيْ ذَلِكَ الْقَوْلَ الْمُصَدَّرَ بِلَفْظِ قِيلَ أَوْ قَالُوا (مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ) أَيْ مَا لَيْسَ فِيهِ لَفْظُ قِيلَ أَوْ قَالُوا (وَمَتَى) لِلشَّرْطِ هُنَا (ذَكَرْت لَفْظَ التَّثْنِيَةِ) كَقَوْلِهِ خِلَافًا لَهُمَا أَوْ قَالُوا أَوْ عِنْدَهُمَا (مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى مَرْجِعِهِمَا فَهُوَ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ) أَمَّا لَوْ ذَكَرَ مَثَلًا مُحَمَّدًا ثُمَّ ذَكَرَ التَّثْنِيَةَ فَالْمُرَادُ الشَّيْخَانِ (وَلَمْ آلُ) مِنْ الْأَلْوِ وَهُوَ التَّقْصِيرُ (جُهْدًا) بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ الِاجْتِهَادُ وَعَنْ الْفَرَّاءِ الْجُهْدُ بِالضَّمِّ الطَّاقَةُ وَبِالْفَتْحِ الْمَشَقَّةُ وَقَدْ اُسْتُعْمِلَ الْأَلْوُ فِي قَوْلِهِمْ لَا آلُوك جُهْدًا مُتَعَدِّيًا إلَى الْمَفْعُولَيْنِ وَالْمَعْنَى: لَا أَمْنَعُك جُهْدًا أَيْ لَمْ أُقَصِّرْ وَلَمْ أَتْرُكْ اجْتِهَادًا بَلْ اسْتَقْصَيْت (فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الْأَصَحِّ وَالْأَقْوَى وَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى) الصَّحِيحُ مُقَابِلُ الْفَاسِدِ
1 / 7
الْأَصَحُّ مُقَابِلُ الصَّحِيحِ فَإِذَا تَعَارَضَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا الصَّحِيحُ وَالْآخَرُ الْأَصَحُّ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ قَائِلَ الْأَصَحِّ يُوَافِقُ قَائِلَ الصَّحِيحِ أَنَّهُ صَحِيحٌ وَقَائِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَ ذَلِكَ الْحُكْمِ الْآخَرِ فَاسِدٌ.
(وَحَيْثُ) ظَرْفُ مَكَان بِمَنْزِلَةِ حِينَ (اجْتَمَعَ) عَلَى صِيغَةِ الْمَعْلُومِ (فِيهِ) أَيْ فِي الْكِتَابِ الْكُتُبُ الْمَذْكُورَةُ (سَمَّيْته بِمُلْتَقَى الْأَبْحُرِ لِيُوَافِقَ الِاسْمَ الْمُسَمَّى) هَذَا تَعْلِيلُ تَسْمِيَتِهِ كِتَابَهُ بِهَذَا الِاسْمِ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَبْحُرَ الْحَقِيقَةَ لَمَّا كَانَ مَوْضِعُ اجْتِمَاعِهَا مُلْتَقَى جَمِيعِ مَا فِيهَا فَكَذَلِكَ الْأَبْحُرُ الْمَجَازِيَّةُ يُوجَدُ مَا فِيهَا مِنْ الْمَسَائِلِ فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ (وَاَللَّهَ سُبْحَانَهُ) مَفْعُولٌ لِقَوْلِهِ أَسْأَلُ وَإِنَّمَا قُدِّمَ عَلَى الْفِعْلِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ تَعَالَى أَوْ لِلتَّخْصِيصِ أَوْ الْعِنَايَةِ (أَسْأَلُ أَنْ يَجْعَلَهُ) أَيْ جَمْعِي (خَالِصًا لِوَجْهِهِ) أَيْ لِذَاتِهِ الْكَرِيمِ.
(وَأَنْ يَنْفَعَنِي بِهِ) أَيْ بِسَبَبِ تَأْلِيفِهِ ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ﴾ [الشعراء: ٨٨] ﴿إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: ٨٩] تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ وَمِنَّا إنَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَمِيمِ وَخَلَّصَنِي وَإِيَّاهُ بِفَضْلِهِ عَنْ عَذَابِ الْجَحِيمِ آمِينَ بِحُرْمَةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعَيْنِ.
[كِتَابُ الطَّهَارَةِ]
افْتَتَحَ بِكِتَابِ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهَا مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ وَهِيَ مُسْتَحِقَّةٌ لِلتَّقْدِيمِ عَلَى بَاقِي الْعِبَادَاتِ لِكَوْنِهَا عِمَادَ الدِّينِ قِيلَ: هِيَ أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهَا الْعَبْدُ الْكَتْبُ فِي اللُّغَةِ الْجَمْعُ وَمِنْهُ الْكِتَابُ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ الْمَكْتُوبُ تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ عَلَى التَّوَسُّعِ الشَّائِعِ وَاصْطِلَاحًا طَائِفَةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ اُعْتُبِرَتْ مُسْتَقِلَّةً سَوَاءٌ كَانَتْ مُسْتَقِلَّةً فِي نَفْسِهَا كَكِتَابِ اللُّقَطَةِ أَوْ تَابِعَةً لِمَا بَعْدَهَا كَكِتَابِ الطَّهَارَةِ أَوْ مُسْتَتْبِعَةً لِمَا قَبْلَهَا
1 / 8
كَكِتَابِ الصَّلَاةِ أَوْ نَوْعًا وَاحِدَةً كَكِتَابِ اللُّقَطَةِ أَوْ أَنْوَاعًا مِنْهَا كَكِتَابِ الطَّهَارَةِ وَاخْتَارَ لَفْظَ الْكِتَابِ دُونَ الْبَابِ؛ لِأَنَّ اشْتِقَاقَ الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ بِخِلَافِ الْبَابِ وَالْغَرَضُ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الطَّهَارَةِ لَا نَوْعٌ مِنْهَا وَالطَّهَارَةُ لُغَةً مَصْدَرُ طَهُرَ الشَّيْءُ بِضَمِّ الْهَاءِ وَفَتْحِهَا بِمَعْنَى النَّظَافَةِ مُطْلَقًا، وَاصْطِلَاحًا النَّظَافَةُ عَنْ الْحَدَثِ وَالْخُبْثِ وَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءُ مِنْ أَنَّ الطَّهَارَةَ فِي الشَّرْعِ نَظَافَةُ الْمَحَلِّ عَنْ النَّجَاسَةِ حَقِيقَةً كَانَتْ أَوْ حُكْمِيَّةً سَوَاءٌ كَانَ لِذَلِكَ الْمَحَلِّ تَعَلُّقٌ بِالصَّلَاةِ كَالْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَالْمَكَانِ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَالْأَوَانِي وَالْأَطْعِمَةِ وَمَنْ خَصَّهَا بِالْأَوَّلِ فَقَدْ أَخْطَأَ لَيْسَ بِوَارِدٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّهَارَةِ هَا هُنَا الطَّهَارَةُ الْمَخْصُوصَةُ بِالصَّلَاةِ لَا الْكُلِّيَّةُ الشَّامِلَةُ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا، وَإِنَّمَا وَحْدَهَا؛ لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ وَمَنْ جَمَعَهَا فَقَدْ قَصَدَ التَّصْرِيحَ بِأَنْوَاعِهَا
وَسَبَبُ وُجُوبِهَا وُجُوبُ مَا لَا يَحِلُّ بِدُونِهَا كَالصَّلَاةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ قِيلَ سَبَبُ وُجُوبِهَا الْقِيَامُ إلَى الصَّلَاةِ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ ﵊ صَلَّى خَمْسَ صَلَوَاتٍ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ»
وَقِيلَ الْحَدَثُ لِدَوَرَانِهِ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ مَا يَكُونُ مُفْضِيًا إلَى الشَّيْءِ وَالْحَدَثُ رَافِعٌ لَهَا فَكَيْفَ يَكُونُ سَبَبًا لَهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [المائدة: ٦] افْتَتَحَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى تَيَمُّنًا وَإِلَّا فَذِكْرُ الدَّلِيلِ خُصُوصًا عَلَى وَجْهِ التَّقْدِيمِ لَيْسَ مِنْ دَأْبِهِ ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ﴾ [المائدة: ٦] أَيْ إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْمُسَبَّبِ وَإِرَادَةِ السَّبَبَ الْخَاصِّ، فَإِنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ لَا يُوجَدُ بِدُونِ الْإِرَادَةِ كَمَا فِي جَمِيعِ شُرُوحِ الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا فَإِنْ قِيلَ ظَاهِرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يُوجِبُ الْوُضُوءَ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا لِمَا أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ قَطْعًا وَالْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ، وَالْجَوَابُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ الْخِطَابَ خَاصٌّ بِالْمُحْدِثِينَ بِقَرِينَةِ دَلَالَةِ الْحَالِ، وَاشْتِرَاطُ الْحَدَثِ فِي التَّيَمُّمِ الَّذِي هُوَ بَدَلُهُ ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: ٦] الْغَسْلُ هُوَ الْإِسَالَةُ أَيْ أَمِرُّوا عَلَيْهَا الْمَاءَ ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ [المائدة: ٦] الْجُمْهُورُ عَلَى دُخُولِ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْمَغْسُولِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ إلَى بِمَعْنَى مَعَ وَوَاحِدُهَا مِرْفَقٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: ٦] لَا إشْكَالَ عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الرَّأْسِ فَلِلْمُجَاوَرَةِ وَالْإِتْبَاعِ لَفْظًا لَا مَعْنًى، وَفَائِدَةُ صُورَةِ الْجَرِّ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ يَنْبَغِي أَنْ يَغْسِلَ الرِّجْلَ غَسْلًا خَفِيفًا شَبِيهًا بِالْمَسْحِ لِمَا أَنَّهَا مَظِنَّةُ الْإِسْرَافِ.
(فَفَرْضُ الْوُضُوءِ) الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ وَالْفَرْضُ لُغَةً الْقَطْعُ وَالتَّقْدِيرُ يُقَالُ: فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ إذَا قَدَّرَهَا وَاصْطِلَاحًا مَا ثَبَتَ لُزُومُهُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَحُكْمُهُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْعِقَابَ تَارِكُهُ وَيُكَفَّرَ جَاحِدُهُ وَالْوُضُوءُ بِالْوُضُوءِ بِالضَّمِّ اسْمُ مَصْدَرٍ سُمِّيَ بِهِ الْفِعْلُ الْمَخْصُوصُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْوَضَاءَةِ وَهِيَ الْحُسْنُ وَالنَّقَاوَةُ
1 / 9
وَبِالْفَتْحِ اسْمٌ لِمَا يُتَوَضَّأُ بِهِ، وَالْإِضَافَةُ بِمَعْنَى اللَّازِمِ
(غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ) مَرَّةً يَعْنِي الْوَجْهَ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ قَيَّدَ الْأَعْضَاءَ بِالثَّلَاثَةِ مَعَ أَنَّهَا خَمْسٌ؛ لِأَنَّ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ جُعِلَا فِي الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ عُضْوَيْنِ كَمَا فِي الدِّرَايَةِ.
(وَمَسْحُ الرَّأْسِ) مَرَّةً الْمَسْحُ الْإِصَابَةُ سَوَاءٌ كَانَ الْإِصَابَةُ بِالْيَدِ أَوْ بِغَيْرِهَا حَتَّى لَوْ أَصَابَ رَأْسَهُ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ قَدْرُ الْمَفْرُوضِ أَجْزَأَهُ مَسْحُهُ بِالْيَدِ أَوْ لَمْ يَمْسَحْهُ.
(وَالْوَجْهُ مَا بَيْنَ قِصَاصِ الشَّعْرِ) هَذَا بِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْوَجْهِ فِي الطُّولِ مِنْ مَبْدَأِ سَطْحِ الْجَبْهَةِ إلَى الذَّقَنِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ شَعْرٌ أَوْ لَا قَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَغَيْرُهُ.
وَفِي الدِّيوَانِ قِصَاصُ الشَّعْرِ بِفَتْحِ الْقَافِ وَضَمِّهَا بِمَعْنًى، وَهُوَ مُنْتَهَى مَنْبَتِهِ مِنْ الرَّأْسِ وَغَايَتُهُ انْتَهَى، وَفِيهِ كَلَامٌ؛ لِأَنَّ قِصَاصَ الشَّعْرِ فِي اللُّغَةِ مُنْتَهَى مَنْبَتِهِ مُطْلَقًا لَا مُنْتَهَى مَنْبَتِهِ فِي الرَّأْسِ إلَّا أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْ الشَّعْرِ شَعْرُ الرَّأْسِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّقْيِيدُ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْإِرَادَةِ لَا عَلَى اللُّغَةِ.
(وَأَسْفَلِ الذَّقَنِ) هَذَا حَدُّهُ طُولًا وَالذَّقَنُ بِالتَّحْرِيكِ مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ جَمْعُهُ أَذْقَانٌ.
(وَشَحْمَتَيْ الْأُذُنَيْنِ) هَذَا حَدُّهُ عَرْضًا الشَّحْمَةُ مُعَلَّقُ الْقُرْطِ، وَإِنَّمَا زَادَ لَفْظَ الشَّحْمَةِ إدْخَالًا لِمَا بَيْنَ الْعِذَارِ وَشَحْمَةِ الْأُذُنِ فِي حَدِّ الْوَجْهِ مُطْلَقًا وَوَقَعَ فِي عِبَارَة الْهِدَايَةِ وَفِي غَيْرِهَا وَإِلَى شَحْمَتَيْ الْأُذُنِ، وَمَا قَالَهُ الْبَاقَانِيُّ.
وَفِي إفَاضَةِ الشَّحْمَتَيْنِ إلَى الْأُذُنِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ أُذُنٍ شَحْمَتَانِ لَيْسَ بِوَارِدٍ؛ لِأَنَّ الْأُذُنَ اسْمُ جِنْسٍ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ فَصَارَتْ إضَافَتُهَا إلَى الْأُذُنَيْنِ تَقْدِيرًا إلَّا أَنَّ الْأُذُنَ وَاحِدٌ حَتَّى يَرِدَ السُّؤَالُ (فَيُفْرَضُ غَسْلُ مَا بَيْنَ الْعِذَارِ وَالْأُذُنِ) عِنْدَ الطَّرَفَيْنِ لِعَدَمِ السَّاتِرِ بِخِلَافِ مَا تَحْتَ الشَّعْرِ فِي الْعِذَارِ لِاسْتِتَارِهِ بِالشَّعْرِ فَكَأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ وَجْهًا (خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ)؛ لِأَنَّ الْبَشَرَةَ الَّتِي تَحْتَ الشَّعْرِ فِي الْعِذَارِ إذَا لَمْ يَجِبْ غَسْلُهَا فَمَا وَرَاءَهَا أَوْلَى وَإِنْ كَانَ أَمْرَدَ أَوْ كَوْسَجَ أَوْ أَثَطَّ فَغَسْلُهُ وَاجِبٌ اتِّفَاقًا
(وَالْمِرْفَقَانِ وَالْكَعْبَانِ يَدْخُلَانِ فِي الْغَسْلِ) خِلَافًا لِزُفَرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْغَايَةِ عَدَمُ الدُّخُولِ فِي الْمُغَيَّا كَاللَّيْلِ فِي الصَّوْمِ وَلَنَا أَنَّ ضَرْبَ الْغَايَةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَائِدَةٍ، وَهِيَ إمَّا مَدُّ الْحُكْمِ إلَيْهَا أَوْ إسْقَاطُ مَا وَرَاءَهَا، وَالْأَوَّلُ يَحْصُلُ هُنَا بِدُونِهِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ اسْمٌ لِذَلِكَ الْعُضْوِ إلَى الْإِبْطِ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، وَمُوجِبُهُ دُخُولُ الْغَايَةِ تَحْتَ الْمُغَيَّا فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ فِي دُخُولِ الْمِرْفَقَيْنِ وَالْكَعْبَيْنِ فِي الْغَسْلِ شَكٌّ، وَاحْتِمَالٌ فَكَيْفَ يَثْبُتُ الْفَرْضُ فِيهِمَا أُجِيبُ بِأَنَّ الِاحْتِمَالَ قَدْ زَالَ بِفِعْلِهِ
1 / 10
﵊ وَلَمْ يُنْقَلْ تَفْوِيتُهُ، وَلَوْ كَانَ تَرْكُهُ جَائِزًا لَفَعَلَهُ مَرَّةً تَعْلِيمًا لِلْجَوَازِ
وَالْمِرْفَقُ هُوَ مُجْتَمَعُ الْعَضُدِ وَالسَّاعِدِ وَالْكَعْبُ هُوَ الْعَظْمُ النَّاتِئُ الْمُتَّصِلُ بِعَظْمِ السَّاقِ مِنْ طَرَفَيْ الْقَدَمِ لَا مَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ الْمِفْصَلُ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ؛ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ رِجْلٍ وَاحِدٌ كَالْمِرْفَقِ فِي الْيَدِ وَقَدْ ثَنَّى الْكَعْبَ فِي الْآيَةِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْنَا، وَإِلَّا لَمْ يَظْهَرْ لِلْعُدُولِ فَائِدَةٌ وَهَذَا بَحْثٌ طَوِيلٌ فَلْيُطْلَبْ مِنْ شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِابْنِ كَمَالٍ الْوَزِيرِ
(وَالْمَفْرُوضُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ قَدْرُ الرُّبُعِ) فِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ وَالْكَرْخِيِّ عَنْ الْإِمَامِ أَيْ الْمُقَدَّرِ بِطَرِيقِ الْفَرْضِيَّةِ لَكِنْ لَا بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ بَلْ بِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ الِاجْتِهَادِيِّ فَلِذَلِكَ لَمْ يُكَفَّرْ جَاحِدُهُ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْفَرْضَ عَلَى نَوْعَيْنِ قَطْعِيٍّ وَاجْتِهَادِيٍّ، الْقَطْعِيُّ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ لَا شُبْهَةَ فِيهِ كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ إذَا لَمْ يَلْحَقْهَا تَخْصِيصٌ أَوْ تَأْوِيلٌ، وَالِاجْتِهَادِيُّ مَا يَفُوتُ بِفَوْتِهِ وَلَا يُجْبَرُ بِجَابِرٍ، وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ الثَّانِي.
(وَقِيلَ: يُجْزِئُ وَضْعُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ)؛ لِأَنَّا مَأْمُورُونَ بِالْمَسْحِ بِالْيَدِ وَالْأَصَابِعِ أَصْلُهَا وَالثَّلَاثُ أَكْثَرُهَا وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ وَذَكَرَ فِي الظَّهِيرِيَّةِ هُوَ الصَّحِيحُ لَكِنَّ الْمُصَنِّفَ أَوْرَدَهُ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَفِيهَا يُعْتَبَرُ عَيْنُ مَا قُدِّرَ بِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مُقَدَّرٌ بِأَقَلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ مَسْحِ الرَّأْسِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى شَعْرَةٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ مَسْحُ الْجَمِيعِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَكْثَرُ الرَّأْسِ.
(وَلَوْ مَدَّ بِإِصْبَعٍ أَوْ إصْبَعَيْنِ) يَعْنِي لَوْ وَضَعَ إصْبَعًا أَوْ إصْبَعَيْنِ عَلَى رَأْسِهِ فَمَدَّهَا مِقْدَارُ رُبُعُ الرَّأْسِ (لَا يَجُوزُ) عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ لَهُ أَنَّ الْمَاءَ لَا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ مَا دَامَ فِي مَحَلِّهِ، وَجَمِيعُ الرَّأْسِ مَحَلُّهُ فَيَجُوزُ وَلَنَا أَنَّ الْمَسْحَ حَصَلَ بِوَضْعِ الْإِصْبَعِ وَبِمَدِّهَا انْفَصَلَتْ الْبَلَّةُ عَنْ الْمَحَلِّ الْمَمْسُوحِ حُكْمًا فَصَارَ مُسْتَعْمَلًا فَالْمَسْحُ بَعْدَهُ يَكُونُ بِمَاءٍ غَيْرِ طَاهِرٍ كَذَا فِي ابْنِ مَلَكٍ.
وَلَوْ مَسَحَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ وَمَدَّهَا حَتَّى اسْتَوْعَبَ الرُّبُعَ صَحَّ كَمَا فِي أَكْثَرِ الْمُعْتَبَرَاتِ لَكِنْ فِيهِ كَلَامٌ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ بِمَدِّ الْأَصَابِعِ الثَّلَاثِ عَلَى التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا مُسْتَعْمَلٌ فَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا فِي الْأُولَى مَعَ أَنَّهُ يَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ فَلْيُتَأَمَّلْ وَمَحَلُّ الْمَسْحِ مَا فَوْقَ الْأُذُنِ عَلَى أَيِّ جَانِبٍ كَانَ.
(وَيُفْرَضُ مَسْحُ رُبُعِ اللِّحْيَةِ فِي رِوَايَةٍ وَالْأَصَحُّ مَسْحُ مَا يُلَاقِي الْبَشَرَةَ) قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ أَمَّا اللِّحْيَةُ فَعِنْدَ الْإِمَامِ مَسْحُ رُبُعِهَا فَرْضٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ غَسْلُ مَا تَحْتَهَا مِنْ الْبَشَرَةِ صَارَ
1 / 11
كَالرَّأْسِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ كُلُّهَا فَرْضٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ غَسْلُ مَا تَحْتَهَا أُقِيمَ مَسْحُهَا مَقَامَ مَسْحِ مَا تَحْتَهَا فَيُفْرَضُ مَسْحُ الْكُلِّ بِخِلَافِ الرَّأْسِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ عَارِيًّا عَنْ الشَّعْرِ لَا يَجِبُ غَسْلُ كُلِّهِ، وَلَا مَسْحُ كُلِّهِ وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّبُعِ رُبُعُ مَا يُلَاقِي بَشَرَةَ الْوَجْهِ؛ إذْ لَا يَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى مَا اُسْتُرْسِلَ مِنْ الذَّقَنِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ.
وَفِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ مَسْحُ مَا يَسْتُرُ الْبَشَرَةَ فَرْضٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ الْمُخْتَارُ انْتَهَى وَقَالَ ابْنُ الْكَمَالِ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ مَرْجُوعٌ عَنْهَا
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهَا؛ لِأَنَّ الْبَشَرَةَ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَجْهًا لِعَدَمِ الْمُوَاجَهَةِ لِاسْتِتَارِهَا بِالشَّعْرِ وَصَارَ ظَاهِرُ الشَّعْرِ الْمُلَاقِي إيَّاهَا ظَاهِرُ الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ الْمُوَاجَهَةَ تَقَعُ بِهِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ ﵀ فَقَالَ: وَإِنَّمَا مَوَاضِعُ الْوُضُوءِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَالظَّاهِرُ هُوَ الشَّعْرُ لَا الْبَشَرَةُ فَيَجِبُ غَسْلُهُ.
(وَسُنَنُهُ) أَيْ الْوُضُوءِ السُّنَّةُ مَا وَاظَبَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ ﵊ مَعَ تَرْكِهَا أَحْيَانَا فَإِنَّ الْمُوَاظَبَةَ إنْ كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ الْعِبَادَةِ فَسُنَنُ الْهَدْيِ وَفِي فِعْلِهَا الثَّوَابُ وَتَرْكِهَا الْعِتَابُ لَا الْعِقَابُ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ فَسُنَنُ الزَّوَائِدِ وَتَرْكُهَا لَا يَسْتَوْجِبُ إسَاءَةً، وَالْإِضَافَةُ بِمَعْنَى اللَّازِمِ قَالَ صَاحِبُ الْفَرَائِدِ فِي شَرْحِهِ الظَّاهِرُ: إنَّهَا عَلَى صِيغَةِ الْإِفْرَادِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَفَرْضُ الْوُضُوءِ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ أَيْضًا انْتَهَى، وَفِيهِ كَلَامٌ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّ الْفُرُوضَ وَإِنْ كَثُرَتْ فَهِيَ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ حَيْثُ يَفْسُدُ بَعْضُهَا عِنْدَ فَوَاتِ الْبَعْضِ الْآخَرِ بِخِلَافِ السُّنَّةِ فَإِنَّ أَحْكَامَهَا وَدَلَائِلَهَا مُسْتَقِلَّةٌ؛ إذْ كُلٌّ مِنْهَا بَعْدُ فَضِيلَةٌ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْأُخْرَى وَالتَّنْظِيرُ لَيْسَ بِمَحَلِّهِ (غَسْلُ الْيَدَيْنِ إلَى الرُّسْغَيْنِ ابْتِدَاءً) الرُّسْغُ الْمِفْصَلُ الَّذِي بَيْنَ السَّاعِدِ وَالْكَفِّ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ لِلْمُسْتَيْقِظِ لِئَلَّا يَلْزَمَ كَوْنُ تِلْكَ السُّنَّةِ مُخْتَصَّةً بِالْمُسْتَيْقِظِ؛ إذْ هُوَ مَسْنُونٌ لِكُلِّ مَنْ يَشْرَعُ فِي الْوُضُوءِ ابْتِدَاءً هُوَ الْمُخْتَارُ وَقَيْدُ الِاسْتِيقَاظِ الْوَاقِعُ فِي الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا اتِّفَاقِيٌّ.
(وَالتَّسْمِيَةُ) وَهِيَ سُنَّةٌ فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ مُطْلَقًا هَذَا اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ وَالْقُدُورِيِّ وَذَهَبَ أَحْمَدُ إلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ شَرْطٌ فِي الْوُضُوءِ لِقَوْلِهِ ﵊ «لَا صَلَاةَ لِمَنْ
1 / 12
لَا وُضُوءَ لَهُ وَلَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى» هَذَا دَلِيلُ مَالِكٍ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْبَدَائِعِ
وَدَلِيلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الزَّاهِدِيُّ عَلَى فَرْضِيَّةِ التَّسْمِيَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْفَضِيلَةِ كَقَوْلِهِ ﵊ «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» وَقَوْلُهُ ﵊ «مَنْ تَوَضَّأَ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ طَهُورًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ وَمَنْ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ طَهُورًا لِمَا أَصَابَهُ الْمَاءُ» وَاخْتُلِفَ فِي لَفْظِهَا وَالْأَفْضَلُ بَعْدَ التَّعَوُّذِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيُسَمِّي قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ وَبَعْدَهُ لَا مَعَ الِانْكِشَافِ أَوْ غَسْلِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ (وَقِيلَ) التَّسْمِيَةُ (مُسْتَحَبَّةٌ)
قَالَ صَاحِبُ الْفَرَائِدِ وَالْأَصَحَّ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَإِنْ سَمَّاهَا فِي الْكِتَابِ سُنَّةً؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ مَا وَاظَبَ عَلَيْهَا ﵊ وَلَمْ يَشْتَهِرْ مُوَاظَبَتُهُ عَلَيْهَا أَلَا تَرَى أَنَّ عَلِيًّا وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - حَكَيَا وُضُوءَهُ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمَا التَّسْمِيَةُ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ انْتَهَى وَفِيهِ كَلَامٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَ النَّقْلِ عَنْهُمَا لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ السُّنِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هَا هُنَا يَعْنِي فِي ثُبُوتِ السُّنَّةِ الْمُوَاظَبَةُ مَعَ التَّرْكِ أَحْيَانًا إعْلَامًا بِعَدَمِ الْوُجُوبِ لَا الْمُوَاظَبَةُ بِدُونِ التَّرْكِ؛ لِأَنَّهَا دَلِيلُ الْوُجُوبِ عَلَى قَوْلٍ عِنْدَ سَلَامَتِهِ عَنْ مُعَارِضٍ؛ وَلِهَذَا أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ
(وَالسِّوَاكُ) أَيْ اسْتِعْمَالُهُ؛ لِأَنَّ السِّوَاكَ اسْمٌ لِلْخَشَبَةِ الْمُرَّةِ الْمُتَعَيِّنَةِ لِلِاسْتِيَاكِ أَوْ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ فَحِينَئِذٍ لَا حَاجَةَ إلَى التَّقْدِيرِ، وَالْأَصْلُ فِي سُنِّيَّتِهِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ ﵊ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَيْهِ وَعِنْدَ فَقْدِهِ يُعَالِجُ بِالْإِصْبَعِ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ ﵊ قَالَ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ» وَمَا فِيهِ مِنْ التَّرْغِيبِ مَعَ مَا مَرَّ مِنْ حَدِيثِ الْمُوَاظَبَةِ مِنْ التَّأْكِيدِ أَفَادَ السُّنِّيَّةَ، وَيُسْتَحَبُّ فِي كَيْفِيَّةِ أَخْذِهِ أَنْ تَجْعَلَ الْخِنْصِرَ مِنْ يَمِينِك أَسْفَلَ السِّوَاكِ تَحْتَهُ وَالْبِنْصِرَ وَالْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةَ فَوْقَهُ وَالْإِبْهَامَ أَسْفَلَ رَأْسِهِ وَلَا نَقْبِضَ الْقَبْضَةَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُورِثُ الْبَاسُورَ، وَلَا يُسْتَاكُ بِطَرَفِي السِّوَاكِ وَلَا تُمَصُّ فَإِنَّهُ يُورِثُ الْعَمَى وَيُكْرَهُ مُضْطَجِعًا؛ لِأَنَّهُ يُورِثُ كِبَرَ الطِّحَالِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَّخَذَ مِنْ الْأَشْجَارِ الْمُرَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُطَيِّبُ النَّكْهَةَ وَيَشُدُّ الْأَسْنَانَ وَيُقَوِّي الْمَعِدَةَ وَيَكُونُ فِي غِلَظِ الْخِنْصِرِ بِطُولِ الشِّبْرِ وَيُسْتَاكُ عَرْضًا لَا طُولًا وَأَقَلُّهُ ثَلَاثٌ بِثَلَاثٍ مِيَاهٍ وَيَبْتَدِأُ مِنْ جَانِبِ الْأَيْمَنِ.
(وَغَسْلُ الْفَمِ بِمِيَاهٍ وَالْأَنْفُ بِمِيَاهٍ) وَإِنَّمَا قَالَ بِمِيَاهٍ وَلَمْ يَقُلْ ثَلَاثًا لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمَسْنُونَ التَّثْلِيثُ بِمِيَاهٍ جَدِيدَةٍ، وَإِنَّمَا كَرَّرَ قَوْلَهُ بِمِيَاهٍ لِيَدُلَّ عَلَى تَجْدِيدِ الْمَاءِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ قَالَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ: هُمَا فَرْضَانِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ لِمُوَاظَبَتِهِ ﵊ عَلَيْهِمَا وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُوَاظَبَةَ لَيْسَتْ دَلِيلَ الْفَرْضِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ سُنَّتَانِ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْغُسْلِ عَنْ الْجَنَابَةِ يَتَعَلَّقُ بِالظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، وَعِنْدَنَا سُنَّتَانِ فِي الْوُضُوءِ وَفَرْضَانِ فِي الْغُسْلِ
1 / 13
لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْوُضُوءِ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ وَمَسْحُ الرَّأْسِ وَدَاخِلُ الْأَنْفِ وَالْفَمِ لَيْسَ مِنْ الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ اسْمٌ لِمَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ بِكُلِّ حَالٍ بِخِلَافِ الْجَنَابَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ تَطْهِيرُ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِالْمُبَالَغَةِ فَيَجِبُ غَسْلُ مَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ
وَقَالَ الْبَاقَانِيُّ وَفِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ أَنَّهُمَا سُنَّتَانِ مُؤَكَّدَتَانِ فَإِنْ تَرَكَهُمَا أَثِمَ عَلَى الصَّحِيحِ، قِيلَ: لَا يَخْفَى أَنَّ الْإِثْمَ مَنُوطٌ بِتَرْكٍ لِوَاجِبٍ وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ لِمَا قَالُوا: أَنَّ السُّنَّةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قُوَّةِ الْوَاجِبِ، وَدَلِيلُ سُنِّيَّتِهِمَا الْمُوَاظَبَةُ مَعَ التَّرْكِ أَحْيَانَا انْتَهَى هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا قَالَهُ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ السُّنَّةِ فَإِنْ كَانَتْ الْمُوَاظَبَةُ مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ، فَهِيَ دَلِيلُ السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ قَالَ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَضْمَضَةَ لَيْسَتْ غَسْلَ الْفَمِ، وَكَذَا الِاسْتِنْشَاقُ لَيْسَ غَسْلَ الْأَنْفِ بَلْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ إدَارَةِ الْمَاءِ فِي الْفَمِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ جَذْبِ الْمَاءِ بِالنَّفَسِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي فَصْلِ الْجَنَائِزِ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ فَمَنْ بَدَّلَهُمَا بِغَسْلِ الْفَمِ وَالْأَنْفِ لَمْ يُصِبْ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْفَرَائِدِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ غَسْلَ الْفَمِ وَغَسْلَ الْأَنْفِ غَيْرُ مُجَرَّدِ حُصُولِ الْمَاءِ فِي الْفَمِ، وَغَيْرُ مُجَرَّدِ حُصُولِ الْمَاءِ فِي الْأَنْفِ بَلْ لَا يُمْكِنُ غَسْلُ الْفَمِ إلَّا بِإِدَارَةِ الْمَاءِ فِي الْفَمِ، وَلَا يُمْكِنُ غَسْلُ الْأَنْفِ إلَّا بِجَذْبِ الْمَاءِ بِالنَّفَسِ إلَى الْأَنْفِ فَيَلْزَمُ لِإِدَارَةِ الْمَاءِ غَسْلُ الْفَمِ وَلِجَذْبِ الْمَاءِ إلَى الْأَنْفِ غَسْلُ الْأَنْفِ انْتَهَى وَفِيهِ كَلَامٌ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ اسْتِلْزَامَ غَسْلِ الْفَمِ لِإِدَارَةِ الْمَاءِ بَلْ يُمْكِنُ غَسْلُ الْفَمِ بِدُونِ الْإِدَارَةِ وَلَئِنْ سُلِّمَ فَلَفْظُ الْمَضْمَضَةِ حَقِيقَةٌ فِي إدَارَةِ الْمَاءِ وَاسْتِعْمَالُ غَيْرِ الْفَمِ لِإِدَارَةِ الْمَاءِ مَجَازٌ فَبَيَانُهُ بِالْحَقِيقِيِّ أَوْلَى مِنْ الْمَجَازِ.
(وَتَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ وَالْأَصَابِعِ هُوَ الْمُخْتَارُ)؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ ﵊ أَمَرَ النَّبِيَّ ﵊ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ لِوُجُودِ الصَّارِفِ، وَهُوَ عَدَمُ تَعْلِيمِهِ ﵊ الْأَعْرَابِيَّ.
(وَقِيلَ هُوَ فِي اللِّحْيَةِ فَضِيلَةٌ عِنْدَ الْإِمَامِ وَمُحَمَّدٍ)؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ تَكُونُ لِإِكْمَالِ الْفَرْضِ مَحَلَّهُ، وَدَاخِلُ اللِّحْيَةِ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِإِقَامَةِ فَرْضِ الْغُسْلِ فَيُحْمَلُ مَا رُوِيَ عَلَى الْفَضِيلَةِ
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ سُنَّتَانِ وَدَاخِلُ الْفَمِ لَيْسَ بِمَحَلِّ الْفَرْضِ فِي الْوُضُوءِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْفَمَ وَالْأَنْفَ مِنْ الْوَجْهِ مِنْ وَجْهٍ؛ إذْ لَهُمَا حُكْمُ الْخَارِجِ مِنْ وَجْهٍ، وَالْوَجْهُ مَحَلُّ الْفَرْضِ.
(وَتَثْلِيثُ الْغَسْلِ) لِأَنَّ «النَّبِيَّ ﵊ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً أَيْ غَسَلَ كُلَّ عُضْوٍ مَرَّةً وَقَالَ هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ»، وَالْمُرَادُ بِالْقَبُولِ الْجَوَازُ وَتَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ هَذَا وُضُوءُ مَنْ يُضَاعِفُ اللَّهُ لَهُ الْأَجْرَ أَيْ غَسَلَ كُلَّ عُضْوٍ مَرَّتَيْنِ وَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَقَالَ هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ تَعَدَّى، وَظَلَمَ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: رَتَّبَ عَلَى الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَعِيدًا، وَلَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلٍ، وَهُوَ مَنْ زَادَ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ أَوْ نَقَصَ عَنْهَا
1 / 14
أَوْ زَادَ عَلَى الْحَدِّ الْمَحْدُودِ أَوْ نَقَصَ عَنْهُ أَوْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ مُعْتَقِدًا أَنَّ كَمَالَ السُّنَّةِ لَا يَحْصُلُ بِالثَّلَاثِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، وَقَوْلُهُ: تَعَدَّى يَرْجِعُ إلَى الزِّيَادَةِ وَظَلَمَ يَرْجِعُ إلَى النُّقْصَانِ وَقَوْلُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ: وَالْوَعِيدُ لِعَدَمِ رُؤْيَتِهِ سُنَّةً إشَارَةٌ إلَى اخْتِيَارِ التَّأْوِيلِ الثَّالِثِ يَعْنِي إذَا زَادَ لِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ عِنْدَ الشَّكِّ أَوْ بِنِيَّةِ وُضُوءٍ آخَرَ لَا بَأْسَ بِهِ فَإِنَّ الْوُضُوءَ عَلَى الْوُضُوءِ نُورٌ عَلَى نُورٍ قِيلَ فِيهِ كَلَامٌ؛ لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا أَنَّ تَكْرَارَ الْوُضُوءِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَا يُسْتَحَبُّ بَلْ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِسْرَافِ فَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ وَهُوَ بَعِيدٌ تَدَبَّرْ
(وَالنِّيَّةُ) وَهِيَ الْقَصْدُ وَالْعَزْمُ بِالْقَلْبِ وَالْمُرَادُ هُنَا قَصْدُ رَفْعِ الْحَدَثِ أَوْ عِبَادَةٌ لَا تَسْتَغْنِي عَنْ الطَّهَارَةِ وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ النِّيَّةُ فَرْضٌ فِي الْوُضُوءِ كَالتَّيَمُّمِ، وَلَنَا أَنَّهُ ﵊ عَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ الْجَاهِلَ الْوُضُوءَ وَلَمْ يُعَلِّمْهُ النِّيَّةَ، وَلَوْ كَانَ فَرْضًا لَعَلَّمَهُ، وَأَنَّ الْوُضُوءَ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ كَسَائِرِ شُرُوطِهَا، وَافْتِقَارُ التَّيَمُّمِ إلَى النِّيَّةِ لِيَصِيرَ الصَّعِيدُ مُطَهِّرًا لَا يُوجِبُ افْتِقَارَ الْوُضُوءِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مُطَهِّرٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: ٤٨] وَالتُّرَابُ لَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا فِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ لَكِنْ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ نَظَرٌ فَلْيُتَأَمَّلْ.
وَفِي الْكِفَايَةِ النِّيَّةُ شَرْطٌ فِي التَّوَضُّؤِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ أَوْ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ كَالتَّيَمُّمِ.
(وَالتَّرْتِيبُ الْمَنْصُوصُ) وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: ٦] الْآيَةَ وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَسْلَ الْوَجْهِ عَقِيبَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ بِلَا مُهْمَلَةٍ فَيَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى سَائِرِ الْأَرْكَانِ فَيَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي الْبَاقِي أَيْضًا؛ إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَصْلِ، وَلَنَا أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ حَرْفُ الْوَاوِ، وَهِيَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ لَا لِلتَّرْتِيبِ، وَأَمَّا الْفَاءُ فَإِنَّهَا دَاخِلَةٌ عَلَى الْمَجْمُوعِ حَقِيقَةً كَأَنَّهُ قِيلَ: إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا الْأَعْضَاءَ الثَّلَاثَةَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ [الجمعة: ٩] وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ ﵊ نَسِيَ مَسْحَ رَأْسِهِ فَتَذَكَّرَهُ بَعْدَ فَرَاغِهِ فَمَسَحَهُ بِبَلَلِ كَفِّهِ» وَلَوْ كَانَ التَّرْتِيبُ وَاجِبًا لَأَعَادَ الْوُضُوءَ.
(وَاسْتِيعَابُ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ) مَرَّةً وَقَالَ الشَّافِعِيُّ السُّنَّةُ التَّثْلِيثُ بِمِيَاهٍ مُخْتَلِفَةٍ اعْتِبَارًا بِالْمَغْسُولِ لَنَا «أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تَوَضَّأَ وَغَسَلَ أَعْضَاءَهُ ثَلَاثًا وَمَسَحَ رَأْسَهُ مَرَّةً، وَقَالَ: هَذَا وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ ﵊» وَاَلَّذِي يُرْوَى فِيهِ مِنْ التَّثْلِيثِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّثْلِيثِ بِمَاءٍ وَاحِدٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْ الْإِمَامِ وَكَيْفِيَّتُهُ أَنْ يَبُلَّ كَفَّيْهِ وَأَصَابِعَ يَدَيْهِ وَيَضَعَ بِطُولِ ثَلَاثِ أَصَابِعَ مِنْ كُلِّ كَفٍّ عَلَى مُقَدَّمِ الرَّأْسِ وَيَعْزِلَ السَّبَّابَتَيْنِ وَالْإِبْهَامَيْنِ، وَيُجَافِيَ كَفَّيْهِ وَيَجُرَّهُمَا إلَى مُؤَخَّرِ الرَّأْسِ ثُمَّ يَمْسَحَ الْفُؤَادَيْنِ بِالْكَفَّيْنِ إلَى مُقَدَّمِ الرَّأْسِ وَيَمْسَحَ ظَاهِرَ الْأُذُنَيْنِ بِبَاطِنِ الْإِبْهَامَيْنِ وَبَاطِنَ الْأُذُنَيْنِ بِبَاطِنِ السَّبَّابَتَيْنِ وَيَمْسَحَ رَقَبَتَهُ بِظَهْرِ الْيَدَيْنِ حَتَّى يَصِيرَ مَسْحُهُمَا بِبَلَلٍ لَمْ يُسْتَعْمَلْ؛ لِأَنَّ الْبَلَّةَ لَمْ تُسْتَعْمَلْ
1 / 15
مَا دَامَتْ عَلَى الْعُضْوِ وَإِذَا انْفَصَلَتْ تَصِيرُ مُسْتَعْمَلَةً بِلَا خِلَافٍ كَمَا عَرَفْت آنِفًا وَبِذَلِكَ ظَهَرَ ضَعْفُ مَا قِيلَ وَكَيْفِيَّةُ أَنْ يَضَعَ كَفَّيْهِ وَأَصَابِعَهُ عَلَى مُقَدَّمِ الرَّأْسِ وَيَمُدَّهُمَا إلَى قَفَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ الرَّأْسِ وَيَمْسَحَ أُذُنَيْهِ بِإِصْبَعَيْهِ، وَلَا يَكُونُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا تَدَبَّرْ
(وَقِيلَ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ) أَيْ النِّيَّةُ وَالتَّرْتِيبُ وَاسْتِيعَابُ الرَّأْسِ (مُسْتَحَبَّةٌ) وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقُدُورِيِّ وَاخْتِيَارُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ كَوْنَهَا سُنَّةً جَمِيعًا وَجَعَلَ صَاحِبُ الْمُخْتَارِ اثْنَيْنِ مِنْهَا سُنَّةً، وَهُمَا النِّيَّةُ وَالتَّرْتِيبُ وَجَعَلَ اسْتِيعَابَ الرَّأْسِ مُسْتَحَبًّا (وَالْوِلَاءُ) بِكَسْرِ الْوَاوِ وَالْمَدِّ بِمَعْنَى التَّتَابُعِ، وَحَدُّهُ الْمُعْتَبَرُ هُوَ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ الْمُتَوَضِّئُ بَيْنَ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ بِعَمَلٍ لَيْسَ مِنْهُ وَهُوَ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِمَالِكٍ ﵀ لَهُ أَنَّهُ ﵊ وَاظَبَ عَلَيْهِ وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُوَاظَبَةَ لَيْسَتْ دَلِيلَ الْفَرْضِ.
(وَمَسْحُ الْأُذُنَيْنِ بِمَاءِ الرَّأْسِ) أَيْ بِمَاءِ مَسْحِ الرَّأْسِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِمَاءٍ جَدِيدٍ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ ﵊ أَخَذَ لِلْأُذُنَيْنِ مَاءً جَدِيدًا» وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ ﵊ اغْتَرَفَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ وَمَسَحَ بِهَا رَأْسَهُ وَأُذُنَيْهِ» فَيُحْمَلُ مَا رَوَاهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَبْقَ فِي كَفِّهِ بَلَّةٌ.
(وَمُسْتَحَبُّهُ) أَيْ الْوُضُوءِ (التَّيَامُنُ) الْمُسْتَحَبُّ مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَلَا يُلَامُ عَلَى تَرْكِهِ التَّيَامُنُ أَيْ الشُّرُوعُ مِنْ جَانِبِ الْيَمِينِ لِقَوْلِهِ ﵊ «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى التَّنَعُّلِ وَالتَّرَجُّلِ» التَّرَجُّلُ امْتِشَاطُ الرَّجُلِ شَعْرَهُ فَإِنْ قُلْت قَدْ وَاظَبَ النَّبِيُّ ﵊ عَلَى التَّيَامُنِ فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ السُّنَنِ
قُلْت إنَّمَا وَاظَبَ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي السُّنِّيَّةِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى سَبِيلِ الْعِبَادَةِ (وَمَسْحُ الرَّقَبَةِ) لَا الْحُلْقُومِ فَإِنَّ مَسْحَهُ بِدْعَةٌ كَمَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ وَلَيْسَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ حَصْرَ مُسْتَحَبَّاتِهِ فِيمَا ذَكَرَهُ؛ لِأَنَّ لَهُ مُسْتَحَبَّاتٍ كَثِيرَةً وَعَبَّرَ عَنْهَا بَعْضُهُمْ بِالْآدَابِ فَقَالُوا: وَمِنْ آدَابِهِ أَيْ بَعْضِ آدَابِهِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ عِنْدَ الْوُضُوءِ وَدَلْكُ أَعْضَائِهِ، وَإِدْخَالُ خِنْصِرِهِ صِمَاخَ أُذُنِهِ وَتَقْدِيمُهُ عَلَى الْوَقْتِ لِغَيْرِ الْمَعْذُورِ وَتَحْرِيكُ خَاتَمِهِ الْوَاسِعِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا يَجِبُ نَزْعُهُ أَوْ تَحْرِيكُهُ، وَعَدَمُ الِاسْتِعَانَةِ بِالْغَيْرِ وَعَنْ الْوَبَرِيِّ لَا بَأْسَ بِصَبِّ الْخَادِمِ، وَعَدَمُ التَّكَلُّمِ بِكَلَامِ النَّاسِ، وَالْجُلُوسُ فِي مَكَان مُرْتَفِعٍ احْتِرَازًا عَنْ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ نِيَّةِ الْقَلْبِ وَفِعْلِ اللِّسَانِ، وَالتَّسْمِيَةُ عِنْدَ كُلِّ عُضْوٍ وَالدُّعَاءُ بِالْمَأْثُورَاتِ مِنْ الْأَدْعِيَةِ عِنْدَ غَسْلِ كُلِّ عُضْوٍ بِأَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ " اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَعَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك " وَعِنْدَ الِاسْتِنْشَاقِ " اللَّهُمَّ أَرِحْنِي رَائِحَةَ الْجَنَّةِ " وَعِنْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ " اللَّهُمَّ بَيِّضْ وَجْهِي يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ " وَعِنْدَ غَسْلِ يَدِهِ الْيُمْنَى " اللَّهُمَّ أَعْطِنِي كِتَابِي بِيَمِينِي وَحَاسِبْنِي حِسَابًا
1 / 16
يَسِيرًا " وَعِنْدَ يَدِهِ الْيُسْرَى " اللَّهُمَّ لَا تُعْطِنِي كِتَابِي بِشِمَالِي، وَلَا مِنْ وَرَاءَ ظَهْرِي وَلَا تُحَاسِبْنِي حِسَابًا عَسِيرًا " وَعِنْدَ مَسْحِ رَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ " اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ " وَعِنْدَ مَسْحِ عُنُقِهِ " اللَّهُمَّ أَعْتِقْ رَقَبَتِي مِنْ النَّارِ " وَعِنْدَ غَسْلِ رِجْلِهِ الْيُمْنَى " اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قَدَمِي عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزُولُ فِيهِ الْأَقْدَامُ " وَعِنْدَ غَسْلِ رِجْلِهِ الْيُسْرَى " اللَّهُمَّ اجْعَلْ سَعْيِي مَشْكُورًا وَذَنْبِي مَغْفُورًا وَعَمَلِي مَقْبُولًا مَبْرُورًا وَتِجَارَةً لَنْ تَبُورَ بِفَضْلِك يَا عَزِيزُ يَا غَفُورُ " وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ ﵊ بَعْدَ الْوُضُوءِ وَأَنْ يَقُولَ " اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ الْمُتَطَهِّرِينَ " وَأَنْ يَشْرَبَ بَعْدَهُ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قَائِمًا قَالُوا: لَمْ يَجُزْ شُرْبُ الْمَاءِ قَائِمًا إلَّا هُنَا وَعِنْدَ شُرْبِ زَمْزَمَ وَيُكْرَهُ لَطْمُ الْوَجْهِ بِالْمَاءِ وَالْإِسْرَافُ فِيهِ وَتَثْلِيثُ الْمَسْحِ بِمَاءٍ جَدِيدٍ.
(وَالْمَعَانِي النَّاقِضَةُ لَهُ) أَيْ لِلْوُضُوءِ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْوُضُوءِ فَرْضِهِ وَسُنَّتِهِ وَمُسْتَحَبِّهِ بَدَأَ بِمَا يُنَافِيهِ مِنْ الْعَوَارِضِ؛ إذْ رَفْعُ الشَّيْءِ يَكُونُ بَعْدَهُ وَأَرَادَ بِالْمَعَانِي الْعِلَلَ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ وَالنَّقْضُ مَتَى أُضِيفَ إلَى الْأَجْسَامِ يُرَادُ بِهِ إبْطَالُ تَأْلِيفِهَا وَمَتَى أُضِيفَ إلَى غَيْرِهَا يُرَادُ بِهِ إخْرَاجُهُ عَمَّا هُوَ الْمَطْلُوبُ
وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْوُضُوءِ اسْتِبَاحَةُ مَا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ بِدُونِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِصَلَاةٍ أَوْ مَسِّ الْمُصْحَفِ أَوْ غَيْرِهِمَا (خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ) مُعْتَادًا كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ أَوْ غَيْرَ مُعْتَادٍ كَالدُّودَةِ وَإِنْ خَرَجْت مِنْ الْإِحْلِيلِ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهَا إلَّا فِي رِوَايَةٍ وَبِهَذَا ظَهَرَ فَسَادُ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الدُّودَةَ الْخَارِجَةَ مِنْ الْإِحْلِيلِ لَا تَنْقُضُ اتِّفَاقًا إنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي الْخَارِجَةِ مِنْ الدُّبُرِ (سِوَى رِيحِ الْفَرْجِ وَالذَّكَرِ)؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ نَجِسَةٍ لِعَدَمِ الِانْبِعَاثِ عَنْ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ إلَّا أَنْ يَتَّحِدَ فَرْجُهَا مَعَ دُبُرِهَا فَحِينَئِذٍ الْمُنْتِنَةُ نَاقِصَةٌ دُونَ غَيْرِهَا.
(وَخُرُوجِ نَجَسٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ عَيْنُ النَّجَاسَةِ (مِنْ الْبَدَنِ إنْ سَالَ بِنَفْسِهِ) أَيْ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ لَا بِالْعَصْرِ (إلَى مَا يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ) فِي الْوُضُوءِ أَوْ الْغُسْلِ وَعَنْ هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا إذَا نَزَلَ مِنْ الرَّأْسِ إلَى قَصَبَةِ الْأَنْفِ نُقِضَ الْوُضُوءُ لِتَجَاوُزِهِ إلَى مَوْضِعٍ يَجِبُ تَطْهِيرُهُ فِي الْغُسْلِ بِخِلَافِ الْبَوْلِ إذَا نَزَلَ إلَى قَصَبَةِ الذَّكَرِ لِعَدَمِ تَجَاوُزِهِ إلَى مَوْضِعٍ يَجِبُ تَطْهِيرُهُ فِيهِ
وَالْمُرَادُ مِنْ حُكْمِ التَّطْهِيرِ الْوُجُوبُ وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْ ذَلِكَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ
1 / 17
حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ إلَى مَوْضِعٍ يَجِبُ تَطْهِيرُهُ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا فِي الْإِصْلَاحِ وَغَفَلَ عَنْ هَذَا صَاحِبُ الْفَرَائِدِ حَيْثُ قَالَ أَيْ يَلْحَقُهُ حُكْمٌ هُوَ التَّطْهِيرُ وَهُوَ مِنْ إضَافَةِ الْجِنْسِ إلَى النَّوْعِ كَقَوْلِهِ عِلْمُ الطِّبِّ فَلْيُتَأَمَّلْ وَحَدُّ الْخُرُوجِ الِانْتِقَالُ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ وَذَلِكَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالسَّيَلَانِ عَنْ مَوْضِعِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ ظَهَرَتْ النَّجَاسَةُ رَأْسَ السَّبِيلَيْنِ، وَإِنْ لَمْ تَسِلْ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ.
وَقَالَ زُفَرُ الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ يَنْقُضُهُ كَمَا خَرَجَ سَالَ أَوْ لَمْ يَسِلْ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَنْقُضُهُ سَالَ أَوْ لَمْ يَسِلْ.
(وَالْقَيْءُ مِلْءُ الْفَمَ) وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَا لَا يُقْدَرُ عَلَى إمْسَاكِهِ وَقِيلَ لَا يُمْكِنُ الْكَلَامُ بِهِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا فِي التَّبْيِينِ وَقَالَ زَفَرٌ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ.
(وَلَوْ طَعَامًا أَوْ مَاءً أَوْ مِرَّةً أَوْ عَلَقًا) الْمِرَّةُ بِالْكَسْرِ إحْدَى الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَالْفُقَهَاءُ يُرِيدُونَ مَا يَعُمُّ الصَّفْرَاءَ وَالسَّوْدَاءَ
وَالْمُرَادُ هَا هُنَا الصَّفْرَاءُ فَقَطْ بِمُقَابَلَةِ الْعَلَقِ مِنْ الرَّأْسِ بِهِ هُنَا السَّوْدَاءُ؛ وَلِذَا اُعْتُبِرَ فِيهِ مِلْءُ الْفَمِ (لَا بَلْغَمًا مُطْلَقًا) أَيْ نَازِلًا مِنْ الرَّأْسِ أَوْ صَاعِدًا مِنْ الْجَوْفِ مَلَأَ الْفَمَ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ لِلُزُوجَتِهِ لَا تَتَدَاخَلُهُ النَّجَاسَةُ يَعْنِي أَنَّ اللُّزُوجَةَ الْقَائِمَةَ بِالْبَلْغَمِ تَمْنَعُهُ عَنْ قَبُولِ النَّجَاسَةِ فَأَشْبَهَ السَّيْفَ الصَّقِيلَ بِخِلَافِ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ فَيَخُصُّهُ تَأْثِيرُ الْمُجَاوَرَةِ، وَيَتَّصِلُ بِهِ قَلِيلٌ، وَالْقَلِيلُ فِي غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ غَيْرُ نَاقِضٍ (خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ فِي الصَّاعِدِ مِنْ الْجَوْفِ)؛ لِأَنَّهُ يَتَنَجَّسُ فِي الْمَعِدَةِ بِالْمُجَاوِرَةِ بِخِلَافِ النَّازِلِ مِنْ الرَّأْسِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلِّ النَّجَاسَةِ وَبِهَذَا ظَهَرَ ضَعْفُ مَا قِيلَ: إنَّ الْبَلْغَمَ نَجَسٌ مُطْلَقًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ إحْدَى الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ حَتَّى إنَّ مَنْ صَلَّى وَمَعَهُ خِرْقَةُ الْمُخَاطِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَاخْتُلِفَ فِي كَوْنِ نَجَاسَةِ الْقَيْءِ مُخَفَّفَةً أَوْ مُغَلَّظَةً وَاخْتَارَ صَاحِبُ الِاخْتِيَارِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ أَنْ تَكُونَ مُغَلَّظَةً، وَقَالُوا: كُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مُوجِبًا لِلتَّطْهِيرِ فَنَجَاسَةٌ غَلِيظَةٌ كَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالدَّمِ وَالصَّدِيدِ وَالْقَيْءِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَكَذَا الْمَنِيُّ وَأَلْحَقُوا مَاءَ فَمِ النَّائِمِ إذَا صَعِدَ مِنْ الْجَوْفِ أَصْفَرَ أَوْ مُنْتِنًا، وَهُوَ مُخْتَارُ أَبِي النَّصْرِ وَلَوْ نَزَلَ مِنْ الرَّأْسِ فَطَاهِرٌ اتِّفَاقًا وَفِي التَّنْجِيسِ أَنَّهُ طَاهِرٌ كَيْفَ مَا كَانَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
(وَيُشْتَرَطُ فِي الدَّمِ الْمَائِعِ) وَالْقَيْحِ (مُسَاوَاةُ الْبُزَاقِ لَا الْمِلْءُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ) قَيَّدَ بِالْمَائِعِ؛ لِأَنَّ الْعَلَقَ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مَا لَمْ يَمْلَأْ الْفَمَ
اعْلَمْ أَنَّ الدَّمَ الْوَاقِعَ فِي الْفَمِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَحْصُلَ فِي الْفَمِ أَوْ يَنْزِلَ مِنْ الرَّأْسِ أَيْ يَصْعَدُ مِنْ الْجَوْفِ، وَالْأَوَّلُ نَاقِضٌ عِنْدَ الْغَيْبَةِ وَعِنْدَ الْمُسَاوَاةِ احْتِيَاطًا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ لَا يَنْقُضُ وَالثَّانِي نَاقِضٌ اتِّفَاقًا، وَإِنْ قَلَّ لِوُجُودِ السَّيَلَانِ مِنْ الْجُرْحِ الَّذِي وَقَعَ فِي الرَّأْسِ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالثَّالِثُ نَاقِضٌ عِنْدَهُمَا إنْ سَالَ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ لَا بِقُوَّةِ الْبُزَاقِ.
وَعِنْدَ الْغَلَبَةِ تَحَقُّقُ
1 / 18
السَّيَلَانِ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يُنْقَضُ حَتَّى يَمْلَأَ الْفَمَ اعْتِبَارًا لِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْقَيْءِ وَالْمُرَادُ هُنَا هُوَ الصَّاعِدُ مِنْ الْجَوْفِ بِدَلَالَةِ تَعْلِيلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ الْمَعِدَةَ لَيْسَتْ بِمَوْضِعِ الدَّمِ وَبِهَذَا ظَهَرَ فَسَادُ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ لَا يَظْهَرُ حَمْلُهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأَقْسَامِ.
(وَهُوَ) أَيْ مُحَمَّدٌ (يَعْتَبِرُ اتِّحَادَ السَّبَبِ لِجَمْعِ مَا قَاءَ قَلِيلًا قَلِيلًا) أَرَادَ بِالسَّبَبِ الْغَثَيَانَ، فَإِنْ كَانَ بِغَثَيَانٍ وَاحِدٍ يُجْمَعُ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ إضَافَةُ الْفِعْلِ إلَى سَبَبِهِ، وَمِعْيَارُ الِاتِّحَادِ فِي الْغَثَيَانِ أَنْ يَقِيءَ ثَانِيًا قَبْلَ سُكُونِ النَّفْسِ فَإِنْ سَكَنَتْ ثُمَّ قَاءَ فَهُوَ غَثَيَانٌ آخَرُ (وَأَبُو يُوسُفَ) يَعْتَبِرُ لِجَمْعِ مَا قَاءَ قَلِيلًا قَلِيلًا (اتِّحَادَ الْمَجْلِسِ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِغَثَيَانٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ اتِّحَادَ الْمَجْلِسِ جَامِعٌ لِلْمُتَفَرِّقَاتِ كَمَا أَنَّ تِلَاوَاتِ آيَةِ سَجْدَةٍ تَتَّحِدُ بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ.
وَفِي شَرْحِ الْوَافِي الْأَصَحُّ قَوْلُ مُحَمَّدٍ
اعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ دُونَ السَّبَبِ، أَوْ السَّبَبُ دُونَ الْمَجْلِسِ أَمَّا إذَا اتَّحَدَا فَيُجْمَعُ اتِّفَاقًا أَوْ تَعَدَّدَا فَلَا يُجْمَعُ اتِّفَاقًا (وَمَا لَيْسَ حَدَثًا لَيْسَ نَجَسًا) فَيَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ كَوْنِهِ حَدَثًا انْتِفَاءُ كَوْنِهِ نَجَسًا فَالدَّمُ إذَا لَمْ يَسِلْ عَنْ رَأْسِ الْجُرْحِ طَاهِرٌ وَكَذَا الْقَيْءُ الْقَلِيلُ وَهَذَا لَا يَنْعَكِسُ كُلِّيًّا؛ لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ حَدَثٌ لَيْسَ بِنَجَسٍ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْبَدَنِ فَيَكُونَ مُنْعَكِسًا، وَالْمَذْكُورُ هُنَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ لِكَوْنِهِ أَرْفَقَ خُصُوصًا فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْقُرُوحِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلسَّيَلَانِ فِي النَّجَاسَةِ فَإِذَا كَانَ السَّائِلُ نَجَسًا فَغَيْرُ السَّائِلِ يَكُونُ كَذَلِكَ
وَقَالَ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ فِي حِلِّ هَذَا الْمَحَلِّ وَمَا لَيْسَ بِحَدَثٍ يَعْنِي لِقِلَّتِهِ لَيْسَ بِنَجَسٍ فَلَا نَقْضَ بِالْجُرْحِ الْقَائِمِ وَالرُّعَافِ الدَّائِمِ، قَالَ الْفَاضِلُ الشَّهِيرُ بِقَاضِي زَادَهْ: بَقِيَ هَا هُنَا شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ عَيْنَ الْخَمْرِ مَثَلًا لَيْسَ بِحَدَثٍ مَعَ أَنَّهُ نَجَسٌ فِي الشَّرْعِ بِلَا رَيْبٍ فَيَلْزَمُ أَنْ تُنْقَضَ بِمُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ وَقَدْ دَفَعَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالُوا: الْكَلَامُ فِيمَا يَبْدُو مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ؛ إذْ غَيْرُهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا، وَقَدْ يَكُونُ نَجَسًا كَالْخَمْرِ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْفَرَائِدِ بَقِيَ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ تِلْكَ الْقَاعِدَةَ، وَإِنْ حُمِلَتْ عَلَى مَا يَبْدُو مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ يُشْكِلُ بِمَا إذَا شَرِبَ إنْسَانٌ خَمْرًا أَوْ بَوْلًا فَقَاءَهُمَا فِي الْحَالِ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنْ لَا يُنْتَقَضَ الْوُضُوءُ بِهِ لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ فِيمَا دُونَ مِلْءِ الْفَمِ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فَإِذَا لَمْ يَنْقُضْ الْوُضُوءَ لَا يَكُونُ حَدَثًا مَعَ أَنَّ الْبَوْلَ وَالْخَمْرَ نَجَسَانِ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ فَلَا فَتَفَكَّرْ فِي جَوَابِهِ انْتَهَى وَجَوَابُهُ أَنَّ الْخَمْرَ وَالْبَوْلَ نَجَسَانِ قَبْلَ شُرْبِهِمَا فَإِنْ قَاءَهُمَا فِي الْحَالِ قَاءَ نَجَسًا بِعَيْنِهِمَا لَا بِالْمُجَاوَرَةِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ تَدَبَّرْ (وَالْجُنُونُ) هُوَ سَلْبُ الْعَقْلِ وَإِنَّمَا كَانَ نَاقِضًا لِعَدَمِ تَمْيِيزِهِ الْحَدَثَ
1 / 19
عَنْ غَيْرِهِ.
(وَالسُّكْرُ وَالْإِغْمَاءُ) وَالسُّكْرُ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي حَدِّ الْإِغْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَرَضٍ، وَحَدُّهُ الْمُعْتَبَرُ أَنْ لَا يُفَرِّقَ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَالْإِغْمَاءُ ذَهَابُ الْحَرَكَةِ وَالْحِسُّ وَبُطْلَانُ الْأَفْعَالِ بِسَبَبِ امْتِلَاءِ بُطُونِ الدِّمَاغِ مِنْ الْبَلْغَمِ الْبَارِدِ وَالْغَشْيُ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِسَبَبِ انْحِلَالِ الْقُوَى الَّتِي فِي الْقَلْبِ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالدِّمَاغِ؛ وَلِهَذَا جَازَ الْإِغْمَاءُ وَالْغَشْيُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَمْ يَجُزْ الْجُنُونُ، وَإِنْ كَانَا نَاقِضَيْنِ لِزَوَالِ الْمَسْكَةِ بِهِمَا.
(وَقَهْقَهَةُ بَالِغٍ) عَمْدًا كَانَتْ أَوْ سَهْوًا وَهِيَ مَا يَكُونُ مَسْمُوعًا لَهُ وَلِجِيرَانِهِ وَسَوَاءٌ ظَهَرَتْ أَسْنَانُهُ أَوْ لَا، وَالضَّحِكُ مَا يَكُونُ مَسْمُوعًا لَهُ دُونَ جِيرَانِهِ، وَيُبْطِلُ الصَّلَاةَ دُونَ الْوُضُوءِ، وَالتَّبَسُّمُ مَا لَا صَوْتَ لَهُ أَصْلًا وَلَيْسَ بِمُبْطِلٍ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لَكِنْ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ بِهِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْبَالِغِ؛ لِأَنَّ قَهْقَهَةَ الصَّبِيِّ لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَلَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ (فِي صَلَاةٍ ذَاتِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ) وَمَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ الْإِيمَاءِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الدَّابَّةِ فَلَا تَنْقُضُ الْقَهْقَهَةُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَلَا فِي سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَإِنْ أَفْسَدَتْهُمَا وَلَا تَنْقُضُ الْقَهْقَهَةُ الْمُغْتَسِلَ فِي الْأَصَحِّ وَلِلشَّافِعِيِّ خِلَافٌ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِالْقَهْقَهَةِ لَنَا قَوْلُهُ ﵇ «أَلَا مَنْ ضَحِكَ مِنْكُمْ قَهْقَهَةً فَلْيُعِدْ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ جَمِيعًا» .
(وَمُبَاشَرَةُ فَاحِشَةٍ) عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَهِيَ أَنْ يُبَاشِرَ امْرَأَتَهُ مُجَرَّدَيْنِ وَانْتَشَرَ آلَتُهُ، وَأَصَابَ فَرْجُهُ فَرْجَهَا وَلَمْ يَرَ بَلَلًا وَكَذَا أَنْ يُبَاشِرَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لَا تَخْلُو غَالِبًا عَنْ الْمَذْيِ فَجُعِلَ الْغَالِبُ كَالْمُتَيَقَّنِ احْتِيَاطًا، وَلَمْ يَشْتَرِطْ بَعْضُهُمْ مُلَاقَاةَ الْفَرْجِ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِمَا ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ.
وَفِي صِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ إشَارَةٌ إلَى انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ كَانَ سَوَاءٌ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَوْ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ (خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ)؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ لَا يَنْتَقِضُ إلَّا إذَا تَبَيَّنَ خُرُوجَ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ فَلَا يَرْتَفِعُ بِالتَّوَهُّمِ، وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ.
(وَنَوْمُ مُضْطَجِعٍ) أَيْ وَاضِعٍ أَحَدَ جَنْبَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ هَذَا إذَا كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ فِيهَا كَالْمَرِيضِ إذَا صَلَّى مُضْطَجِعًا فَفِيهِ اخْتِلَافٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَنْتَقِضُ أَيْضًا (أَوْ مُتَّكِئٍ) بِأَحَدِ وَرِكَيْهِ فَهُوَ كَالْمُضْطَجِعِ لِزَوَالِ الْمُسْكَةِ (أَوْ مُسْتَنِدٍ إلَى مَا لَوْ أُزِيلَ لَسَقَطَ) بِحَيْثُ يَكُونُ مَقْعَدُهُ زَائِلًا عَنْ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِرْخَاءَ يَبْلُغُ غَايَتَهُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الِاسْتِنَادِ إلَّا أَنَّ السَّنَدَ يَمْنَعُهُ عَنْ السُّقُوطِ وَإِنْ لَمْ يَزُلْ لَا يُنْتَقَضُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ اسْتِقْرَارَ الْمَقْعَدِ عَلَى الْأَرْضِ يَمْنَعُ عَنْ الْخُرُوجِ وَعَنْ الطَّحَاوِيِّ وَالْقُدُورِيِّ أَنَّهُ يُنْتَقَضُ لِحُصُولِ غَايَةِ الِاسْتِرْخَاءِ
وَالْجَالِسُ إذَا نَامَ ثُمَّ سَقَطَ إنْ انْتَبَهَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ جَنْبُهُ إلَى الْأَرْضِ لَا يُنْتَقَضُ وَقِيلَ يُنْتَقَضُ بِمُجَرَّدِ ارْتِفَاعِ مَقْعَدِهِ عَنْ الْأَرْضِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ كَمَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ الْأَوَّلُ قَوْلُ الْإِمَامِ، وَالثَّانِي قَوْلُ مُحَمَّدٍ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إنْ اسْتَقَرَّ نَائِمًا بَعْدَ السُّقُوطِ اُنْتُقِضَ وَإِلَّا فَلَا (لَا نَوْمُ قَائِمٍ أَوْ قَاعِدٍ
1 / 20
أَوْ رَاكِعٍ أَوْ سَاجِدٍ) فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي خَارِجِهَا عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ مُطْلَقًا.
وَفِي الْمُحِيطِ إنَّمَا لَا يَنْقُضُ نَوْمُ السَّاجِدِ إذَا كَانَ رَافِعًا بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ جَافِيًا عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَإِنْ مُلْتَصِقًا بِفَخِذَيْهِ مُعْتَمِدًا عَلَى ذِرَاعَيْهِ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ.
(وَلَا خُرُوجُ دُودَةٍ مِنْ جُرْحٍ) وَكَذَا مِنْ أُذُنٍ أَوْ أَنْفٍ؛ لِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ لَحْمٍ طَاهِرٍ وَمَا عَلَيْهَا قَلِيلٌ، وَالْقَلِيلُ غَيْرُ نَاقِضٍ فِي غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ.
(وَلَحْمٌ) بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى خُرُوجُ (سَقَطَ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْجُرْحِ (وَمَسُّ ذَكَرٍ) بِبَاطِنِ الْكَفِّ (وَامْرَأَةٍ) أَيْ مَسُّ بَشَرَتِهَا وَكَذَا مَسُّ الدُّبُرِ وَالْفَرْجِ مُطْلَقًا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الْكُلِّ.
(وَفَرْضُ الْغُسْلِ) وَالْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ أَخَّرَ الْغُسْلَ عَنْ الْوُضُوءِ اقْتِدَاءً بِعِبَارَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّ الْغُسْلَ مَذْكُورٌ مُؤَخَّرًا عَنْ الْوُضُوءِ فِي النَّظْمِ الدَّالِ عَلَيْهِمَا، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْوُضُوءِ أَكْثَرُ فَقَدَّمَهُ اهْتِمَامًا الْغُسْلُ بِضَمِّ الْعَيْنِ اسْمٌ مِنْ الِاغْتِسَالِ، وَهُوَ تَمَامُ غَسْلِ الْجَسَدِ، وَاسْمٌ لِلْمَاءِ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ أَيْضًا وَبِالْفَتْحِ مَصْدَرُ غَسَلَ وَالْفَتْحُ أَشْهَرُ وَأَفْصَحُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَبِالضَّمِّ اسْتَعْمَلَهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَرُكْنُهُ إسَالَةُ الْمَاءِ عَلَى جَمِيعِ مَا يُمْكِنُ إسَالَتُهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ مَرَّةً وَاحِدَةً حَتَّى لَوْ بَقِيَتْ لُمْعَةٌ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ لَمْ يَتِمَّ الْغُسْلُ فَمَا فِي غُسْلِهِ حَرَجٌ كَدَاخِلِ الْعَيْنِ يَسْقُطُ (غَسْلُ الْفَمِ وَالْأَنْفِ) هُمَا فَرْضَانِ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا حَتَّى لَا يُكَفَّرَ جَاحِدُهُمَا وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ غَسْلُهُمَا فِي الْغُسْلِ سُنَّةٌ كَمَا حَقَّقَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ رَجُلٌ اغْتَسَلَ وَنَسِيَ الْمَضْمَضَةَ لَكِنْ شَرِبَ الْمَاءَ إنْ شَرِبَ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْجَنَابَةِ، وَإِنْ شَرِبَ لَا عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ يَخْرُجُ.
وَفِي وَاقِعَاتِ النَّاطِفِي لَا يَخْرُجُ مَا لَمْ يَمُجَّهُ وَهَذَا أَحْوَطُ.
(وَسَائِرُ الْبَدَنِ) مَرَّةً حَتَّى دَاخِلِ الْقُلْفَةِ فِي الْأَصَحِّ وَيَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى أَثْنَاءِ اللِّحْيَةِ كُلِّهَا بِحَيْثُ يَصِلُ إلَى أُصُولِهَا؛ إذْ لَا حَرَجَ فِيهِ كَمَا فِي الْمُحِيطِ وَكَذَا غَسْلُ السُّرَّةِ وَالشَّارِبِ وَالْحَاجِبِ وَالْفَرْجِ الْخَارِجِ وَلَوْ بَقِيَ الْعَجِينُ فِي الظُّفُرِ فَاغْتَسَلَ لَا يَكْفِي وَفِي الدَّرَنِ وَالطِّينِ يَكْفِي؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَنْفُذُ وَكَذَا الصِّبْغُ وَالْحِنَّاءُ (لَا دَلْكُهُ) بَلْ هُوَ سُنَّةٌ فِي رِوَايَةٍ، وَمُسْتَحَبٌّ فِي أُخْرَى وَوَاجِبٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَإِنَّمَا تَعَرَّضَ الْمُصَنِّفُ لِنَفْيِ فَرْضِيَّةِ الدَّلْكِ صَرِيحًا؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْمُبَالَغَةِ مَظِنَّةُ تَوَهُّمِ فَرْضِيَّتِهِ خِلَافًا لِمَالِكٍ (قِيلَ: وَلَا إدْخَالُ الْمَاءِ جِلْدَةَ الْأَقْلَفِ) قَالَ صَاحِبُ فَتْحِ الْقَدِيرِ: إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ؛ لِأَنَّ فِي إدْخَالِهِ حَرَجًا.
وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: لَا يَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى دَاخِلِ الْقُلْفَةِ مَعَ أَنَّهُ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِهِ إذَا نَزَلَ الْبَوْلُ إلَيْهَا فَلَهَا حُكْمُ الْبَاطِنِ فِي الْغُسْلِ وَحُكْمُ الظَّاهِرِ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ انْتَهَى هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ إذْ لَا حَرَجَ فِيهِ وَالْمَقَامُ مَقَامُ الِاحْتِيَاطِ كَمَا فِي الْبَدَائِعِ وَغَيْرِهِ.
(وَسُنَّتُهُ) أَيْ الْغُسْلِ آثَرَ صِيغَةَ الْإِفْرَادِ فَإِنَّهُ لَوْ جَمَعَهَا لَتَبَادَرَ إلَى الْأَفْهَامِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ سُنَّةٌ عَلَى حِدَةٍ ثَبَتَتْ مُوَاظَبَتُهُ ﵊ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ
1 / 21