وأنتم تقولون لا تخن من ائتمنك، فليت شعري إن كانت لك لبانة لازبة، أتقضيها ممن يوجس منك ويستعد لغدرك، أم ممن يطمئن إليك ويثق بك؟
وأنتم تزدرون من لا غيرة له ولا حمية عنده لعرضه، وكأي من لامز فيكم يهمس: هذا فلان العظيم كان يعلم عن زوجه ما يكره، وكان يتغاضى عن الشبهة وإن كانت لتفقأ عينه، طمعا في مسعدة أو اتقاء لمناوأة ... فهو نذل يدنس العظمة ويلوث الرئاسة! ... رويدكم أيها السادة! هلا قلتم إن شغفه بالمجد أكبر من شغفه بزوجه، وإنه أشد على المجد غيرة منه على امرأة؟ وهلا عرفتم أن البصقة تلوث الكوب، ولكن ألف جيفة لا تلوث البحر المتموج اليعبوب؟ وزعمتم أنه نذل مزدرى، فهلا قلتم إنه يزدري العالم حين يترفع عن أحكامه ومصطلحاته، ويستجهل الدنيا حيث يراها تعبد المجد، ثم لا تأنف أن تضع مفاتيحه بعض الأحيان في يد السفاسف والشهوات؟
وكم ذا أفصل لكم أيها الأحياء ما أنتم مليئون بعلمه لو انتبهتم إلي، فاعلموا يا إخوتي أن الحسد والبغض والنفاق والملق والكبرياء والأنانية والقسوة والسرقة والغدر والخيانة والتغاضي عن العورات ألصق بكم، وأقرب إلى طباعكم، وأجدى لكم، من العدل والحق والواجب والضمير، فهلموا بنا نقذف بهذه الأوهام في عرض اليم، ولا تأخذنكم باليم رحمة ... فيطلق القوي يده غير حاسب حسابا ولا متوقع عتابا أو عقابا، ويخلد الضعيف إلى ضعفه فيرضى بالخسف ولا يشكو من العسف، متعللا بالعدل الذي لا يسمع نداء الضعفاء، والحق الذي لا يقوى على كبح جماح الأهواء، متعلقا بالواجب الأعمى والضمير الموسوس. والنفس إذا علمت أن لا مفر لها مما يصيبها، وأن الأقوياء لا يتجاوزون حقهم ولا يخرجون عن حدهم في عدوانهم عليها، وأنه لا مهرب لها من هؤلاء الأقوياء إلا إلى قوة مثل قوتهم لا قبل لها بخلقها، هان عليها احتمال بلائها وصبرت على بغي ظالميها. فاسمعوا أيها الأقوياء: هذه حقوقكم ومزاياكم. واسمعوا أيها الضعفاء: هذه علالتكم وسلواكم. وآمنوا إن كنتم تعقلون.
ولما فرغ الثعلب من خطابه بهت الجمع، فوجموا ساعة لا ينطقون لفرط ما بدهتهم آراؤه المرعبة، فلما ثابوا إلى أنفسهم ضجوا وصخبوا، فعلا التصفيق من جانب، والصفير من جانب، وكادت تكون فتنة، ولبثوا كذلك في اختلاط ولجب حتى هدأت ثائرتهم، فسمعوا القرد يقهقه قهقهة عالية ويقول: لله درك يا ثعالة! ما أدهاك في صراحتك، وأعظم كيدك في نصحك، وأشد محاباتك وتدليسك في إخلاصك! ... لقليل والله عليك أن يجزيك أبو الحارث على هذه الخطبة البليغة بقفص من الدجاج ... وتوجه إلى الجمع وهو يقول: لعلكم تضحكون من تصدي للثعلب وتولي الرد عليه والذب عن الفضيلة، فاضحكوا ما بدا لكم، فما هي بأولى مضحكاتي، وما أنتم عن الضحك بممسكين. ثم ظهر عليه الجد وتهيأ لإلقاء خطاب طويل جليل، فقال ...
خطاب القرد
معشر الأحياء:
ليس بأهل لعظيم من الحظ ولا يسير من لم يكن عنده من صدق العزيمة وحسن البصيرة ما يلهمه شراء الآجل الكبير بالعاجل اليسير.
ألا وإن الحياة، معشر الأحياء، لا تسلم لمن طلب الحياة فحسب، أما من طلب غاية فوقها فتسلم له الحياة، ويسلم له ما فوق الحياة.
ومن تمسك بالقوة وحدها أضاع القوة وتدلى إلى الضعف، وأما من تطلع إلى أعلى منها، فذلك الذي تدين له القوة، ويدين له ما هو أعلى من القوة.
كذلك، يا قوم، من قنع بالكفاف عز عليه الكفاف، ومن طمع في الغنى ينال الكفاف وينال الغنى.
صفحه نامشخص