وكأننا أيها الرفاق قد وصلنا من هذا التعليل إلى نتيجتنا التي نكررها وندعمها، وهي أن الفرق بين الرجل والمرأة أصيل مستسر يبدأ منذ سن الطفولة الأولى، ولئن قلنا فيما مضى إن مزايا الرجل لم يظهر لها في التشريح خواص بدنية محسوسة، فالآن يسوغ لنا أن نقول إن هذه إحدى خواصها الباطنية التي تبين لنا أن الرجل يتغذى بالحزم والشجاعة ورباطة الجأش في طعامه؛ وأن المرأة لا تكتسب مزايا الرجولة أو تستطيع أن تهتدي بنيتها إلى وجوه النماء وترشد غذاءها إلى مجاريه في عروقها، وأن القدرة التي خلقت الرحم في جوف المرأة هي القدرة التي خلقت العقل والبأس في رأس الرجل ونفسه، وبثت الهمة والاستعداد لكفاح الحياة في جسمه.
ولو لم نصل إلى هذه النتيجة من هذا الباب لوصلنا إليها من كل باب سواه، فما نظن عاقلا يتصور أن الاختلاف بين الرجل والمرأة في التركيب لا يستلزم اختلافا بينهما في الاستعداد، من شأنه أن يفرد كلا منهما بعمل مستقل في الهيئة الاجتماعية. هذا ما لا يجوز في العقول، ولله در تنيسون حيث يقول: «خلق الرجل لنيران الوقائع، والمرأة لنيران المواقد، وخلق الرجل للسيف والمرأة للإبرة، وخلق الرجل برأس مدبر والمرأة بقلب عطوف، وخلق الرجل للأمر والمرأة للطاعة. وما عدا ذلك خبط وهراء ...»
فإذا غمت علينا أيها الرفاق مقاصد الطبيعة، وتشابهت علينا الأمور، فلم نعرف في حاضرنا أسائرون على صراط الطبيعة أم ناكبون عنه، فليكن لنا من حالة الرجل والمرأة مقياس لا يغلط ولا يكذب، ولننذر الأمة التي تكون فيها المرأة مرأة والرجل رجلا بأنها ناكبة عن صراط الطبيعة السوي، وأنها حقيقة بأن يحيق بها عقاب الذين ينكبون عن هذا الصراط، وهو الاضمحلال والفناء. •••
والآن وقد فرغنا من حساب المرأة، فلنرجع إلى ما كنتم فيه.
معشر الأحياء:
صدق الأسد حيث يقول إن الواجب الأول والأخير على كل حي أن يكون قويا؛ فهذه حقيقة لا تتغير، سواء أكان العدل هو الغالب على الدنيا أم الجور، وسواء أكانت العاقبة للمتقين أم للظالمين. ولو فرضنا كما يفرض الواهمون أن التقوى عمت هذه البرية حتى أصبحوا لا يستحقر قويهم ضعيفا، ولا يخشى ضعيفهم قويا، فأين من يؤامن غيره باختياره، ممن لا يأمن على نفسه إلا بعفة في غيره.
وصدق القرد حيث يقول إن الأخلاق قوة فوق القوة؛ إذ أي شيء يغل يد القاهر المنتقم عن عدوه بعد أن تتمكن من عنقه، إلا قوة عليا فوق قوته الدنيا؟ أليس العفو والحلم والصبر وما شاكلها من الخصال، هي القوة التي لا يحمد على الخضوع لها إلا القادرون؟ هل يوصف بالعفو والحلم الضعيف؟ كلا، وإنما يوصف بهما القادر الذي تغلب نفسه نفسه، وأي شيء أجمل من أن يكون الإنسان مزيجا من قوتين إحداهما رقيبة على الأخرى؟ فيملك قوته ولا يدعها تملكه فتسخره كالآلة الصماء؟
وصدق الثعلب حيث يقول إن مصالحنا الخاصة أظهر لحواسنا وأقرب إلى أهوائنا من المصالح العامة، ولكنا نقول: إنه حيثما وجد شيء يسمى أمة، فلا بد هناك من شيء يسمى مصلحة الأمة، ولعمري كيف تقوم هذه المصلحة إن لم تقم برعاية أبناء الأمة لها؟ وهل يقال إن هذه المصلحة قائمة إن كان أبناء الأمة يعبثون بمصلحتها كلما عنت لهم فائدة قريبة؟ إذن لا علامة على وجود الأمة قط، وإنما هم آحاد مبعثرون وجسم مفكك لا تدب في عروقه روح مؤلفة، ولا تشده بنية موصولة، ولا تعمل أعضاؤه بإرادة واحدة. وكما أن الرأس إذا أصابته ضربة مؤلمة ارتفعت اليد إليه من تلقاء نفسها لتحمل عنه ألم الضربة، كذلك يجب أن تكون الأمة التي تشبه في مجموعها مجموع أعضاء الجسم الشاعر الصحيح، يجب أن تنغرس في كل فرد من أفرادها غريزة تدعوه إلى تقديم نفسه لاحتمال الأذى متى تعرضت مقاتل الأمة لخطر من الأخطار، ولهذا تكثر الأريحية والمفاداة بالمآرب الخاصة في الأمم الحية القوية، وتكثر الخيانة والجشع وعبادة المنافع في أيام انحلال الدول وتدهورها.
إن الثعلب ينظر إلى الفرد وحده؛ فلو أننا نظرنا مثله بهذه العين الضيقة لغبطنا الرجل على فوزه، ولو وفق إليه بالإسفاف والخداع والاحتيال، ولكنا متى نظرنا بعين الأمة لم نجد قط أمة تغبط أخرى على مصلحتها الضائعة بين مصالح أفرادها المتدابرة، وحياتها التي يزهقها أبناؤها قبل أعدائها، فإن لم نقدر على أن ننظر بهذه العين، فذلك آية على موت روح الأمة فينا، أو على أن الأمة قد شارفت الهلاك، وفي هذه الحالة يجوز لنا أن نسخر من الحق، ونهزأ بالضمير، ونتهكم على العدل، ونقصر في الواجب، فإن الميت لا يأسى على الجراح، والغريق لا يحذر البلل.
وأزيد على ما تقدم أن مبادئ الحق الخالدة متجددة، وأن المصالح بائدة متقلبة. الحق مرتبط بحياة الإنسانية، والمصلحة مرتبطة بحياة الفرد، فلو أننا أخذنا اليوم في استئصال الحق فمحونا مدلولاته من الكتب، وحذفنا أسماءها من اللغات، وحرمنا على الناس تخيلها والتفوه بها، لما لبثوا جيلا أو أجيالا حتى يثوبوا فيخرجوها من حيث أخرجوها أول مرة؛ لأن الإنسانية كلها لا تستغرق نفسها في حزب فذ أو عصر واحد، ولا غنى لها عن ركن تعتصم به على تداول الأحزاب وتقلب العصور.
صفحه نامشخص