ولكن ما كدنا نستفيق من هذا المنظر المحزن حتى راعنا منظر آخر أجل منه وقعا وأعظم هولا، فقد رأينا الغريق كأنما جن جنونه فظن أن مخلصه يريد به شرا، وأنه ما أمسك بذراعه إلا وهو يريد أن يهوى به إلى قاع الماء فيعيده سيرته الأولى، فأفلت منه وضربه بجمع يده في صدره ضربة شديدة، ثم أنشب أظافره في عنقه ولفه بساقيه لفة خلنا أن عظامه تئن لها أنينا، فاستيأس الرجل وعلم أنه هالك ما من ذلك بد، فرفع يديه إلى السماء وهتف باسم أظنه اسمك يا ماجدولين، فلم أفهم ماذا يريد ولا من هي تلك التي يريد، ثم ما لبثنا أن هوى الماء بهما، وجرى مجراه فوقهما، فخفقت القلوب، ووجفت الصدور، وخفتت الأصوات، وامتدت الأعناق، وتواثبت الأحشاء، وتزايلت الأعضاء، ومشى اليأس في الرجاء مشي الظلال في الأضواء؛ ومرت على ذلك دقائق لا تضطرب فيها موجة، ولا تهب نسمة، ففزعت إلى أبي ذاهلة حائرة وقلت: أيتعذب الغرقى كثيرا في مصارعة الموت؟ فبكى لبكائي وقال: نعم يا بنية، ولقد يبلغ الأمر ببعضهم أن يدور بيده في قاع الماء يفتش عن حجر يضرب به رأسه ضربة قاضية يستريح من الآلام والأوجاع، فركعت على كثيب من الرمل ورفعت إلى السماء يدي وقلت: اللهم إنك أعدل من أن تجازي بالإحسان سوءا وبالخير شرا، فلقد أبلى هذا الرجل في إنقاد هذا الغريق بلاء حسنا، وبذل في سبيل ذلك من ذات نفسه ما ضن به الناس جميعا، فامدد يدك البيضاء التي طالما مددتها لإنقاذ البائسين، واكشف عنه كربته التي يعالجها، إنك أرحم الراحمين.
ثم استغرقت في دعائي، فلم أعد أشعر بشيء مما حولي، حتى سمعت ضجة على الشاطئ فاستفقت، فإذا النهر يتثاءب عن الرجل، وإذا الرجل صاعد وحده حتى بلغ سطح الماء، فهتف به الناس: أن انج بنفسك فقد أبليت! فأبى عليه كرمه ووفاؤه أن يكون قاسيا أو منتقما، فألقى بنفسه في الماء مرة أخرى، وعاد بالغريق يحمله على كتفه، وما زال يسبح به حتى بلغ الشاطئ، فسقطا جميعا، فتولى القوم أمرهما، وما زالوا بهما حتى أفاقا، فمشى الغريق إلى مخلصه بعد ما ألم بقصته معه يتوجع له ويمسحه، ويشكر له يده عنده، ويعتذر له عن ذنبه إليه، ثم انتفض الجمع وبقي الرجل وحده فلبس ثيابه ثم مشى يتحامل على نفسه إلى شجرات بنفسج كن على الشاطئ، فأخذ يقتطف من زهراتها ويضعها في منطقته كأنما يريد أن يتخذ منها طاقة يجعلها لتلك الحادثة تذكارا، فتركناه على حاله وعدنا إلى المنزل صامتين محزونين، وقد فاتنا ما كنا نؤمل من زيارتك في ذلك اليوم.
لا أستطيع أن أكتب إليك غير هذا، فقد أصبحت لا أذكر تلك الحادثة إلا وأجد لذكراها من الألم في نفسي ما يخيل إلي أنها حاضرة من يدي، وربما كتبت إليك فيما بعد، والسلام. (11) المكاشفة
مال ميزان النهار، وانحدرت الشمس إلى مغربها، ودب الظلام في الأضواء دبيب البغضاء في الأحشاء، وسكن كل صوت إلا صوت العصافير المزدحمة على أبواب أعشاشها، وجلس «استيفن» في الحديقة تحت أشجار الزيزفون يترقب نزول ماجدولين، وقد كتب لها كتابا نطق فيه قلمه بما عجز عنه لسانه، فنشره بين يديه وأنشأ يقلب نظره فيه؛ فخيل إليه أنه غير مستعذب ولا سائغ، وأن في كل جملة من جمله موضع ضعف، فاستقر رأيه على أن يطويه حتى يكتب لها خيرا منه، ثم رآها مقبلة نحوه تحمل في يدها كتابا، فلما دنت منه ابتسمت له وقالت: أتذكر يا سيدي مكان الشجرات التي اقتطفت منها زهرات البنفسج التي أهديتها إلي؟ فاضطرب لسؤالها، وقال: نعم، إنها على ضفة نهر صغير يبعد فرسخا أو فرسخين، قالت: اقرأ هذا الكتاب فإن لك فيه ذكرا، فأخذ منها كتاب سوزان في حادثة الغريق وأمر نظره عليه إمرارا فعرف كل شيء، فرده إليها صامتا وهو لا يدري ماذا يقول، فقالت: إنك تكتم عني نفسك يا «استيفن»، فقد عرفتك وعرفت يدك البيضاء في حادثة الغرق وبلاءك فيها، وما عالجت من آلام الحمى على أثرها، ثم مدت يدها إليه مصافحة، فلم يكن بين تلامس كفيهما وخفوق قلبيهما إلا كما يكون بين تلامس أسلاك الكهرباء واشتعال مصابيحها، ولبثا بعد ذلك ساعة صامتين لا ينطقان، إلا أن في الجبين لغة لا تقرؤها إلا العيون، فقرأ «استيفن» في وجه ماجدولين لوعة الحب وألم الحزن، واضطراب الجأش وحيرة النفس، وقرأت في وجهه الحب والسعادة والدهشة، والسرور المتلألئ والدمع المترقرق، فهاجها هذا المنظر، فأرسلت من محاجرها أول دمعة من دموع الحب، فبكى لبكائها، وحنا عليها حنو المرضعات على الفطيم، وشعر في نفسه وقد ضمها إليه بتلك العاطفة اللذيذة التي يجدها الغريب النائي عن أهله وجيرانه إذ لاقى في مطارح غربته غريبا مثله يأوي إليه، ويحنو عليه، ثم أخذ بيدها فألصقها بكبده كما يفعل المريض بيد عائده ليدله على موضع ألمه، وكأنما هو يقول لها: إن لغة اللسان لا تكشف لك عما اشتملت عليه أضالعي من الوجد بك، والحنين إليك، فالمسي قلبي بيدك لتعرفي مكنونه، وتكشفي غامض سريرته، ثم خر راكعا بين يديها وقال: أتحبينني يا ماجدولين؟ فلم تجب، فأعاد كلمته فاستمرت في صمتها، فمد يده إليها ضارعا وقال: رحماك يا ماجدولين، إنني أخاف أن أكون في حلم، وأن تكون هذه السعادة التي أراها بين يدي خيالا من الخيالات الكاذبة التي كانت تتراءى لي في أحلامي الماضية فأغتبط بها وأسكت إليها حتى إذا ما استفقت وجدت يدي صفرا منها، فأسمعيني كلمة الحب لأعلم أنك حاضرة لدي، وأنني لست واهما ولا حالما.
ومرت بهما على ذلك ساعة لا يعرف مكانها من نفسهما إلا من مرت به في يوم من أيام شبابه ساعة مثلها، فقد كانا يشعران أنهما في معزل عن العالم، وأن مكانهما من تلك الحديقة في انفرادهما وسكونهما وهنائهما وغبطتهما مكان آدم وحواء من جنتهما، قبل أن يأكلا من الشجرة ويهبطا إلى الأرض، وأن روحهما قد تجردت عن جسمهما فطارت ترفرف بأجنحتها في فضاء الملأ الأعلى، فرأت مدارات الشموس في أفلاكها، وحركات الكواكب في منازلها، ومرت بين صفوف الملائكة، وسمعت زجلها وتسبيحها تحت قوائم العرش، ودخلت جنة الخلد فرأت حورها وولدانها، ولؤلؤها ومرجانها، وروحها وريحانها.
فلم يستفيقا من غمرتهما حتى سمعت ماجدولين صوت «جنفياف» تناديها، فمدت إليه يدها مودعة، وهي تقول: غدا في مثل هذه الساعة في هذا المكان، فمد يده إليها ذاهلا لا يعلم ماذا يراد به، ثم مضت، ومضى بنظراته على آثارها حتى اختفت آخر طية من طيات ردائها الأبيض، فجمد في مكانه ساعة لا يتحرك ولا يلتفت، كأنما يتخيل أنها لا تزال جالسة بين يديه، فلما سمع خفق بابها دار بعينيه حول نفسه يمنة ويسرة، فعلم أنه جالس وحده. (12) النشوة
خرج «استيفن» بعد ذهاب ماجدولين هائما على وجهه يعدو في عرض الفضاء، ينحدر إلى يمينه وإلى يساره أخرى، كأنما يريد أن يشهد الأرض والسماء، والبحار والأنهار، والجبال الشماء، والسهول الفيحاء، والحيوان الناطق، والجماد الصامت، على سروره وغبطته، وكان يشعر في نفسه أن السعادة التي نالها هي فوق ما يحتمل طوقه، فكان كلما مر بأحد من الناس حدثته نفسه أن يفضي إليه بقصته ليحمل عنه جزءا من سعادته، ومر بأطفال يلعبون فجمعهم حوله وأخذ يقبلهم واحدا بعد واحد، ثم نثر عليهم كل ما معه من المال، وبوده لو ملك مفاتيح الأرزاق فأسبغ على الناس جميعا أنعمه وآلاءه فمحا بؤسهم وشقاءهم، وما زال يتغلغل في أحشاء الظلام متيامنا متياسرا، صاعدا منحدرا، حتى رأى باب الحديقة مفتوحا بين يديه، فاقتحمه ومشى إلى مكانه الأول، فجلس فيه وأخذ ينظر إلى شعاع النور المنبعث من بين ستائر غرفة ماجدولين، فخيل إليه أنه يرى قيامها وقعودها، وجيئتها وذهابها، ويسمع حفيف ثوبها، وخشخشة أوراق كتابها، حتى انطفأ المصباح، فصعد إلى غرفته وجلس إلى مكتبه يكتب إليها كتابا طويلا، ثم نال منه التعب فقام إلى سريره ونام نوما هادئا لذيذا حلم فيه أحلاما ما رأى مثلها بعد ليالي طفولته الجميلة. (13) من استيفن إلى ماجدولين
لا أزال أشعر حتى الساعة بجمال ذلك المقام الذي قمته بين يديك أمس، ولا أزال ألمس صدري بيدي لأعلم أين مكان قلبي من أضالعي مخافة أن يكون قد طار سرورا بتلك السعادة التي هي كل ما يتمنى المخير أن يكون، والتي لا أعتقد أن أبناء الخلود يقدرون لأنفسهم في دار نعيمهم خيرا منها، ولو أن لامرئ أن يعبد من يسدي إليه أفضل النعم وأسبغها، وأجمعها لكل خير وبر، لوجدتني يا ماجدولين ساجدا بين يديك في كل مطلع شمس سجود العبد الشاكر للإله المنعم.
إن الله لم يهب لي نعمة الجمال التي وهبها لك، ولم يجملني بمثل ما جملك به من رقة الحس، وعذوبة النفس، فإن أنت أحببتني فقد أحببت فتى مجردا من مزايا الفتيان لا يستطيع أن يمت إليك بمثل ما تمتين به إليه، ولا أن ينيلك من السعادة ما أنلته منها، فإن كنت ترين أن الإخلاص في الحب والوفاء بالعهد وهبة النفس هبة خالصة بلا ندم ولا أسف مزية أستحق لها محبتك فها أنا ذا أقدمها بين يديك، فتقبليها مني وقولي إنك سعيدة بي، كما أنا سعيد بك. (14) العهد
قدم «استيفن» كتابه إلى ماجدولين يدا بيد، فدهشت حينما رأته وألقت عليه نظرة الحائر المتردد، فنظر إليها «استيفن» نظرة المتوسل المستعطف، فتناولته منه وخبأته في ثنايا صدارها، وقالت: أصحيح يا «استيفن» ما حدثتني به «سوزان» في كتابها أن اسمي كان آخر كلمة هتفت بها في الساعة التي كنت تحسب أنها آخر ساعاتك في الحياة؟ قال: نعم، ولقد نلت ببركة هذا الاسم ما كنت أقدر لنفسي من النجاة عندما هتفت به، فقد علمت أن الله ما منحك هذه المنحة من الجمال، ولا جملك بما جملك به من محاسن الخلال، إلا وأنت آثر بنات حواء عنده، وأكرمهن عليه، فهو أضن بك من أن يجرح قلبا يخفق بحبك، أو يخرس لسانا يهتف بذكرك، فعذت باسمك في شدتي كما يعوذ المؤمن في شدته باسم الله، فكان لي خير معاذ وملاذ.
صفحه نامشخص