كن كما تشاء، وعش كما تريد، فستنقضي أيام شبابك وستنقضي بانقضائها أمانيك وأحلامك، وهنالك تنزل من سمائك التي تطير فيها إلى أرضي التي أسكنها، فنتعارف بعد التناكر، ونتواصل بعد التقاطع، ونلتقي كما كنا.
لا بد أن نفترق اليوم لأننا غير متفقين، ولا بد أن نجتمع بعد اليوم لأننا سنتفق، فلا بأس أن تكتب إلي وأكتب إليك، وأن نتواصل على البعد إبقاء على تلك الصلة التي بيننا، واحتفاظا بها، ورعاية لها، حتى يأتي ذلك اليوم الذي تجلو فيه عن نفسها، وتبرز من مكمنها.
إن أهلك يعجبون لأمرك كثيرا، ويرون أنك قد مكرت بهم، وأضللتهم عن مقاصدك وأغراضك، فسافرت خفية من حيث لا يعلمون بأمرك ولا بنيتك التي انتويتها، ويقولون: إنك ما سافرت على هذه الصورة إلا لأنك عدلت عن رأيك في الزواج من تلك الفتاة التي أعدوها لك، وعندي أنهم أصابوا فيما يقولون، وأنك مخطئ فيما فعلت؛ لأنك تعلم أن والدك فقير لا يملك من المال أكثر مما يتسع لأيام حياته؛ ولقد كان لك في هذا الزواج من تلك الفتاة التي اختارها لك حظك من سعادة العيش وهنائه لولا أنك شاعر، والشعراء يفهمون من معنى السعادة غير ما يفهمه الناس جميعا.
أخوك يحبك كثيرا، ولا يزال يحدثني عنك كما أحدثه، فاذكرنا كما نذكرك، واكتب إلينا بكل شيء. (4) خواطر استيفن
مضى الليل إلا أقله، ولم يبق إلا أن تنفرج لمة الظلام عن جبين الفجر، ولا أزال ساهرا قلق المضجع، أطلب الراحة فلا أجدها، وأهتف بالغمض فلا أعرف السبيل إليه.
إن إدوار يسخر مني في كتابه ويهزأ بي، وينذرني بيوم أرى فيه أوهاما كاذبة وأحلاما باطلة ما كنت أحسبه أماني وأمالا، ويرى أن جميع ما أقدره لنفسي من سعادة في الحياة وهناء أشبه شيء بالخيالات الشعرية التي يسعد الشعراء بتصورها، ولا يسعدون بوجودها؛ فلئن كان حقا ما يقول فما أمر طعم العيش، وما أظلم وجه الحياة.
لا لا، إن الذي غرس في قلبي هذه الآمال الحسان لا يعجز عن أن يتعهدها بلطفه وعنايته حتى تخرج ثمارها، وتتلألأ أزهارها، وإن الذي أنبت في جناحي هذه القوادم والخوافي لا يرضى أن يهيضني ويتركني في مكاني كسيرا لا أنهض ولا أطير، وإن الذي سلبني كل ما يأمل الآملون في هذه الحياة من سرور وغبطة، ولم يبق لي منها إلا حلاوة الأمل ولذته لأجل من أن يقسو علي القسوة كلها فيسلبني تلك الثمالة الباقية التي هي ملاك عيشي، وقوام حياتي.
على أنني ما ذهبت بعيدا، ولا طلبت مستحيلا، فكل ما أطمع فيه من جمال هذا العالم وزخرفه رفيق آنس بقربه وجواره، وأجد لذة العيش في الكون معه، والسكون إليه، وما الرجال كما يقولون إلا أنصاف ماثلة تطلب أنصافها الأخرى بين مخادع النساء، فلا يزال الرجل يشعر في نفسه بذلك النقص الذي كان يشعر به آدم قبل أن تتغير صورة ضلعه الأيسر حتى يعثر بالمرأة التي خلقت له فيقر قراره، ويلقي عصاه.
وبعد؛ فأي مقدور من المقدورات تضيق به قوة الله وحكمته؟ وأي عقل من العقول الإنسانية يستطيع أن يبدع في تصوراته وتخيلاته الذهنية فوق ما تبدع يد القدرة في مصنوعاتها وآثارها؟ وهل الصور والخيالات التي تمتلئ بها أذهاننا وتموج بها عقولنا إلا رسوم ضئيلة لحقائق هذا الكون وبدائعه، ولو أن سامعا سمع وصف منظر الشمس عند طلوعها، أو مهبط الليل عند نزوله، أو جمال غابة من الغابات، أو شموخ جبل من الأجبال، ثم رأى بعد ذلك عيانا ما كان يراه تصورا وخيالا، لعلم أن جمال الكائنات فوق جمال التصورات، وحقائق الموجودات فوق هواتف الخيالات؛ لذلك أعتقد أني ما تخيلت هذه السعادة التي أقدرها لنفسي إلا لأنها كائن من الكائنات الموجودة، وأنها آتية لا ريب فيها.
إن اليوم الذي أشعر فيه بخيبة آمالي، وانقطاع حبل رجائي، يجب أن يكون آخر يوم من أيام حياتي، فلا خير في حياة يحياها المرء بغير قلب، ولا خير في قلب يخفق بغير حب. (5) الحب
صفحه نامشخص