272
وإذا تقرر لدينا أن هذا التزين من جانب الرجال إنما حرض عليه حبهم التقرب من النساء كما تفعل الذكور من الطيور مثلًا أمام إناثها إذ تنشر ذات الريش الجميل ريشها (راجع دارون. تسلسل الإنسان صحيفة ١٤١) وتصدح مغنيات الطيور بأغانيها البديعة أيام فصل الحب لتجتذب الأنات علمنا أن أول من أحب كل فرد من أفراد الجنس هو فرد من أفراد الجنس الثاني من الفصيلة بعينها وفقد جماله.
ثم صارت تنسب الأشياء في جمالها بعد ذلك إلى المرأة. ومن هذا نعلم السبب الذي من أجله كان كل جميل في العصور السالفة يأخذ حسنه نتيجة شبهه بها أو قربه منها. أي أن الإنسان حين ابتدأ يؤمن بجمال الأشياء مما حوله لم يؤمن به إلا بواسطة تداخل محبوبه فيما بينها: فإذا ما جلس الصب ذاكر دار محبوبته لبست الأشياء التي فيها ثوبًا يجعلها عزيزة عنده مهما كانت صغيرة ضئيلة في نفسه. فتراه يندب الأطلال والأماكن التي أقامت فيها ويتشوق إلى حيث هي الآن ويذكر من توابعها ما كانت تلبس أو تتزين به أو تميل إليه ثم إذا جنه الليل ورأى الكواكب التي أمامه تطل عليها والبدر يرنو إليه واليها وذلك الظلام الهائل يلفه ويلفها أحب تلك الأشياء وصحبتها فأوحت هي إليه من جمالها ما يزيده بها تعلقًا وشغفًا. وأي منا قرأ شعر العرب قبل الإسلام وبعده في العصر الأول منه أي أيام الدولة الأموية يجده مملوأ بهذا المعنى وما يؤيد ما نقول. كما أن الكتب السماوية: وكلنا يعلم مبلغ فناء أصحابها في حب الله: إنما يحب أصحابها من الجمال والعظمة والسر الخفي في كل الخلوقات لأن فيها من أثر محبوبهم المقدس ما يجعلها عزيزة عليهم ذات قيمة كبيرة أمامهم.
تقدمت الأيام وسارت الفكرت العامة في تقدير الجمال هي الأخرى للأمام ولم يكن عصر العباسيين عند العرب حتى ابتدأ الكتاب والشعراء يقدرون في الأشياء جمالًا خاصًا بها يحسونه من غير واسطة ولا وسيلة. ومن أجل هذا ابتداء أبو نواس يعيب على المتقدمين أكثر من مرة في قصائده المختلفة كثرة النوح على الأطلال والدمن وإذا كنا لا نستطيع أن نقول أن هذا يقوم حدا دقيقًا بين تقدير الجمال لذاته ولعلاقته بالمحبوب فأنه من العلائم الهامة التي تدلنا على تقدم الشعور تقدمًا محسوسًا نحو اجتلاء الجمال من كل شيء يدلنا على ذلك كثير من كلام أبي نواس نفسه كقوله مثلًا:

4 / 91