مائدة افلاطون: کلام در عشق
مائدة أفلاطون: كلام في الحب
ژانرها
كان الناس في العصور الوسطى يحسبون هذه العظام المهولة أنها بقايا من طوائف الجبابرة البشرية الذين كانوا يعيشون على سطح الأرض قبل الإنسان، كما كانوا يحسبون أحجار السليس
Silex
التي وجدت في أنحاء أوروبا قطعا هابطة على رءوسهم من السماء، ويسمونها حجر الصاعقة، وقد ثبت من أبحاث العلماء أن تلك الأحجار المنظمة التي وجدت في مجاري الأنهار، وفي جوف المغاور بين طبقات متكدسة من الطمي والكلس وغيرهما من العناصر الحجرية لم تهبط من السماء كما هبطت الأرواح من المحل الأرفع، إنما هي أدوات كان الإنسان صنعها واستعملها في شئونه في العصر الحجري.
3
وإن في هذا الأمر لعبرة كبرى؛ فإن بعضنا يظن أن الحقائق العلمية التي تظهر في جيل من الأجيال تصبح ملكا عاما شائعا للإنسانية فتتلقفها الأجيال المتتالية، ويتوارثها الناس بالتعليم والتلقين فلا تضيع، بل تصبح جزءا من الثروة العقلية التي تنمو بالإنتاج والاقتصاد والتوافر.
وكان هذا الأمر واجبا، بل يدهشنا عدم ظهوره ظهور الشمس، ويذعرنا عدم انقطاع العلماء لتحقيقه؛ لأن إهماله يزيد الجهل تخييما على العقول؛ إن مصيبة الإنسانية ليست في عجزها عن إدراك الحقيقة، ولكنها في طمس معالم الحقيقة كلما ظهرت، ودفنها تحت أكوام مكدسة من تراب الجهل، إن كثيرا من الحقائق التي نكتشفها اليوم ونظن أنها حديثة، وأن لنا الفضل في إظهارها من عالم الخفاء إلى نور الظهور كانت معلومة لدى الأقدمين، وثابتة لديهم ثبوت الشمس في رابعة النهار، ولكن الجهل الإنساني طمس آثارها، وأخفى معالمها، وجعل نارها رمادا، ونورها ظلاما؛ خذ لذلك مثلين واضحين: الأول مثل اليونان؛ فقد بلغت بحكمتها وتدبيرها وعقول أبنائها وعلومهم وأنظمتها الاجتماعية والسياسية، ومظاهر حياتها الأدبية والفنية، مبلغا جعلها معلمة العالم، ومرشدة الأمم، ويمكن القول بغير مبالغة، إن ما وصل إليه أرسطو وأفلاطون وسقراط وأبيقور وزينوفون وسوفوكليس وفيدياس وبركليس وصولون وديموستين لم يصل إليه إنسان بعدهم في سائر فروع الحياة العقلية التي نبغوا فيها، فقل لي: أين آثار هؤلاء؟ وأين علومهم؟ وأين حكمتهم؟ وأين فنونهم؟ وأين ثمرة جهودهم التي جعلتهم آلهة يسيرون على الأرض، إن لدينا من كل ذلك نتفا ذات قيمة في ذاتها، ولكنها تافهة بالنسبة لمجموع ثمرات عقولهم التي لو جمعت ونظمت ودرست على حقيقتها لكانت كافية لتنوير الإنسانية، وتقدمها إلى آخر الدهر، ودليلي على ذلك أن هؤلاء الحكماء الأوائل لا يزالون، ولن يزالوا المصدر الأول لكل من يريد أن يستقي الحكمة من منبعها، ولا يزال كل من يجهل آثارهم لا يعد داخلا في زمرة العلماء أو المتأدبين.
المثل الثاني مصر، وهي أشهر من أن تذكر؛ فقد بلغت علومها وفنونها وآدابها منذ أربعين أو خمسين قرنا مبلغا لا تزال آثاره ظاهرة للعيان في آثارها ونقوشها وصحفها، وإذا حق لنا أن نذكر حكماء اليونان، وننسب إليهم الفضل في إخراج الإنسانية من غيابة الجهل، وإرشادها نحو المثل الأعلى في العلوم والفنون والآداب فيكفينا في التدليل على قدر مصر أن هياكلها المقدسة كانت مدارس لفلاسفة اليونان أمثال من ذكرنا، وفيثاغورس نفسه أقام عدة سنين يتلقى العلم على الكهنة في معابد ثيبة وهليوبوليس، فأين هذا كله الآن؟ وهل نرى في مصر، وقد زاد خصبها، وزكا زرعها، وفاض نيلها، وتضاعف عدد سكانها، جزءا من مليون من علوم مصر العظيمة التي فنيت؟ هل أشرق في سماء مصر شعاع واحد من تلك الأشعة التي انبعثت في فجر المدنية، فأضاءت اليونان أولا، والعالم كله ثانيا؟
إن كل فكرة وكل خاطر يمر بالنفس، وكل سطر يدونه كاتب، وكل صورة ينقشها طفل، وكل بيت من الشعر تنطق به سجية حساسة على لسان الفطرة، بل كل نظرة تدل على الفطنة كلها ملك الإنسانية، وجزء من ثروتها العقلية، وينبغي تدوينها وتسجيلها على حقيقتها ونشرها بين الناس، وتلقينهم إياها ليستفيدوا منها سعادة عقلية، أو لذة معنوية، أو خبرة تنفعهم في حياتهم، إن الطفل يرث من والديه كل المميزات البدنية والنفسية؛ يرث الفضائل والرذائل، يرث الميول والشهوات، يرث المحاسن والأضداد، وليس قانون الوراثة بواقف عند حد الوالدين، بل هو يتعداهما إلى الأجداد مهما علوا، وقد ثبت هذا الرأي وأصبحت الرجعى
Atavisme
من المسائل المسلم بها؛ فكيف يستبيح الناس أو القائمون بأمرهم من العلماء والمرشدين والمعلمين، أن يسلموا الطفل إلى العالم، وقد ورث كل العيوب الإنسانية، وهو مع هذا خلو من كل ما أدركته عقول أسلافه، ووصلت إليه جهود أجداده في سائر بقاع الأرض، وفي كل زمان سابق لمولده.
صفحه نامشخص