توطئة
إلى نشأة المسرح المصري
توطئة
إلى نشأة المسرح المصري
مفرق الطريق
مفرق الطريق
تأليف
بشر فارس
توطئة
إن وجهة هذه المسرحية مما انساق له قلمي، ورفت إليه نفسي بعد التحصيل، والروية، والاجتهاد، فرأيت أن أصنع للمسرحية مقدمة أبسط فيها الأسلوب الذي أجريتها عليه، فضلا عن قصائد نظمتها، قد وقف على مقاصدها من يدأب في قراءة «المقتطف» خاصة؛ لكي تكون بيانا لبعض ما نشرته حتى اليوم، ثم بعض ما أنا ناشر بعده إن شاء ربك. •••
هذه قصة تمثيلية على الطريقة الرمزية - إذا شئت - وليست الرمزية ها هنا بموقوفة على الرمز بشىء إلى شىء آخر، ولكنها - فوق هذا - استنباط ما وراء الحس من المحسوس، وإبراز المضمر، وتدوين اللوامع والبواده بإهمال العالم المتناسق المتواضع عليه المختلق اختلاقا بكد أذهاننا، طلبا للعالم الحقيقي الذي نضطرب فيه، رضينا أو لم نرض، تدهشنا ظواهره، وتروعنا بواطنه، وتعجزنا مبادئه، عالم الوجدان المشرق، والنشاط الكامن، والجماد المتأهب للتحرك إلى ما يجري بينها من العلاقات الغريبة، والإضافات التائهة في منعطفات الروح، ومثاني المادة، يشترك في كشفها الإحساس الدفين، والإدراك الصرف، والتخيل المنسرح.
كلنا يطوي في المكان القصي من سريرته شيئا لا بد له من أن يقال، شيئا أجنبيا عما يتصل بالمألوف أو المنتظم أو الاجتماعي، صاحبه يكتمه حتى من نفسه وربما جهله، على أنه يتكلم ويتحرك، وهذا الشىء شاغله بحيث تمسي طائفة معينة من أقواله وأفعاله مجموعة رموز، لا رموز آراء تنكشف مصادرها، وتطرد مجاريها، ولكن رموز نزعات مبهمة، وممكنات ضائعة، وممتنعات متمثلة، ومغالبات، إنما ترتقب عواصفها في الساعة التي يهتم فيها الظلام أن ينفرش فيتصور المرتقب هزيز الريح، وصفق الموج، ثم إن مثل هذا الشىء لا يفصل، ولا يعلل، ولكنه يعرض خطفا، فكأن المنشئ يتوجس كيف تجاوب نفسه جرس الأشياء الخارجية من دون أن يتحمل ترتيبها ولا تأويلها، فيعدل عن البسط والتبيين إلى إثبات البرق الذي التوى في السحاب، فغزا الظلمة لحظة كأنما البرق آية وحي.
وبعيد أن يكون الرمز لونا من التشبيه أو الكناية إلى غير ذلك من ضروب المجاز، للذهن في وضعها، ثم قبولها الحظ الأعلى، بل هو صورة، أو قل: سرب صور جزئية ينتزعها المنشئ من المبذول كما تنتزع الأشكال من هيئات الموجودات على مرقم رسام موفور الحواس، مشغول المخيلة، محدث القلب، يعد الملموس منبثق الانطلاق إلى عالم أمثل، إلى عالم روحاني يوفق بين الواقع والموهوم، فيجعل ذاته الفنانة تعكس على اللوح الموضوع المرئي بفضل عينين دربتا على لمح مشاهداته الباطنة، فيمزج الرسم لوائح الرسام بالخارجيات، فتنسجم سرا كأن الخطوط الأفقية انبساط نفسه، والخطوط العمودية انبعاثها، والدوائر انطواؤها، والمنحنيات انقباضها، وكأن الضياء من صحوها، والظلال بعض مشكلاتها، وكأن الوجوه الوضاحة أشواقها، والمناظر المغبرة من غمومها: الوجداني يحل في المادي، حتى إن الأشكال ربما تبدو ناقصة أو مختلة، أو ماثلة تتردد عند حدود المعقول لمن لم يكن موطأ الفهم لها، مرهف البصيرة.
وذلك بأن هذا الرسام لا يكاد يحفل بالمنطق؛ لأن المنطق اصطلاح آلته العقل، والعقل إنما يجرد الأشياء أو يشذبها، ثم يغفل بعضها أو يجهل بعضها، فالتوضيح الذي ينتهي إليه أقرب إلى الاختراع منه إلى التحقيق، والعرفان الجد شعور بالحقيقة لا العلم بها، وبين العقل والشعور ما بين الهضبة الصخرة والروض الرفاف.
وإن قيل: إن المنطق هو القانون بل المعيار بل ضابط التناسب، وإن قيل: إن المنطق كمثل الزخرفة العربية في أبعادها ومسافاتها، ومقاديرها، فمما لا يرتقي الشك إليه أن المنطق ينشأ عنه تدبير معقول إنما يعوزه لهب الحياة، انظر إلى صورة اتفق أهل الدراية على أنها خطافة للعين تصب في جوانبها شيئا يترجرج؛ شيئا يقول لك: «بيني وبين بصرك صلة، صلة اليقظة والإحساس بالوجود.» ثم انظر إلى رسم لا يخرج عن خطوط هندسية غاية في الدقة أفلا تقبض صدرك البرودة المنسابة فيه؟ هذا الرسم الذي دبره العقل من باب الحساب لا يعرف السبيل إلى نفسك؛ لأن النفس على فطرتها تهوى كل ما يرجع إلى الطبيعة الصادقة، والطبيعة تجهل الإحكام في التخطيط والجمود في التعبير: «الطبيعة - على قول المصورين التأثريين
les Impressionnistes - لون تخاطبنا من طريق اهتزازته الضوئية مخاطبة متقطعة ومتقلبة».
ومثل المنشئ إذن مثل راقصة تنحرف عن قواعد الرقص المضبوط فنه المتأمم اعتيادا لا اندفاعا، فتأبى أن تخط أشكالا محصورة في نظام سرعان ما يهتدى إليه بأن تحلل النغمات وتقطع الموازين؛ لكي تردهما في الفضاء وحدة متماسكة حتى التشنج، واضحة وضوحا يتفرق البصر له، وإنما تكني بالتلوي والتوتر، والنزوان والتقبض عن انفعالات إحساسها الموسيقي، السماع ينقلب حركة! فتراها تنقل قدميها على الأرض خفيفتين تتهيأ لقفزة هل تعود بعدها؟ وتسلط ذراعيها على الخلاء الذي حولها تعزف منه طرائف تهبها لمن تلحظه عيناها دون أعيننا، وتمد أصابعها وتزويها كأنها تحث وتزجر قلوبا تطوف بها، ثم تهصر الخصر وتطلق العطف، وتنفض الثدي، وتثني الرأس كأنها تنادي ربا لا يلتفت إلى عباده حتى تتأوه أجسامهم فتريد أن تنهدم، فإذا بها ترقص حسبما يخفق قلبها، وينبض عرقها إذعانا لإشراق الساعة، وانقيادا لهواجسها، فتخلص الغريزة من الكبت، وتنصر الاضطراب النفساني من الاختلاج العضوي، فترد الرقص وثبة حرة، وثبة النفس اللطيفة نحو الغبطة المضنية.
ولا يستخلص من هذا أن الإنشاء يصبح ضربا من الهذيان، أو أنه يستحيل مجموعة رؤى شوارد، وبدوات نوادر، فإنما المنشئ يعرض عن المراسيم الجامدة إرادة أن يجعل الكتابة لحنا يغلب فيه الارتجال الملهم على الصناعة الموقوفة؛ إذ يتجنب فيه النغم الحادي المعلق كالسيف الصدئ فوق المقاطع واللوازم والفواصل، ويحذف الانتقال المتواتر تارة المستدير أخرى من القرار حتى الجواب، ثم من الجواب حتى القرار في مجرى متساوي النسب منتظم التقاطيع، وينبذ تدريج الصوت من الشدة إلى اللين، أو من اللين إلى الشدة، ويهمل توطئة الخروج من طبقة إلى طبقة، ويترك تحلية القفلة لينهض التأليف على خط هش متكسر، ينحني ويستقيم مع موضوع اللحن، يمهل ويندفع به، كأنما اللحن حديث يتجاذبه فتية أنس بعضهم إلى بعض، فينقطع ويتصل ويذهب ويجيء ويصعد وينخفض، وإنما الذي يحدو اللحن طائفة من المدات والهمسات والهمزات تلائمه مرة وتنافره مرة، طائفة من الأصوات المفردة بين حادة وثقيلة، ومفخمة ومرخمة، ومن النقلات المنفصلة بين مقلقلة ومضغوطة ، ومقيمة وطافرة، كأنها من فضلات اللحن تحكي تفاصيل موضوعه، وتراسل تعاريجه، فتساوق أنفاسه حتى ينقضي.
بقي أن هذا الإنشاء الذي يعالج ما يلي المادة المباشرة لا صلة له بأنواع أخرى من التأليف، منها الخطابة التي تأكل أدبنا شعره ونثره منذ نشأته؛ لأن الخطابة حيلة ثم كذب، فإما أن تستر بمفرداتها الضخمة، وجملها الوارمة بضاعة ضاوية، وإما أن تزوق ما يكاد يكون مدركا، وتبالغ في التعبير عما يكاد يكون محسا، ومنها التحليل المطرد اطرادا الذي يفصل الآراء والميول، ويشد بعضها إلى بعض فتبدو بسيطة معقولة متلاحقة؛ لأن مباعثها لا تزال طي الضمائر، ومنها التأثير القريب الغور الذي يهز أعصابك دون أن يجعلك تتقرى العواطف البعيدة، أو تجس الرعدات الدقيقة بالتماسه الموضوعات العنيفة السهلة في آن نحو مقابلة الحب بالواجب، ومنها الوصف الواقعي الذي يقعد عن الخلوص إلى ما وراء المنظورات من خواطر وواردات لا تبرز لمشهد الحس، ومنها التلفيق الأدبي الذي يستل الأشخاص من العالم الإنساني، فتارة يعليهم فتحسبهم آلهة، وأخرى يهبطهم فتحسبهم شياطين، ثم منها الإبداع الفني؛ لأن بلوغ التمام المتناهي في الصناعة نتيجة الحذق لا نتيجة الشعور، وإنما نتيجة الشعور تطلع قلق إلى تمام لا يتناهي. •••
وبعد فإن أشخاص هذه المسرحية دمى تحركهم عواطفهم الدفينة، كما أن الناس آلات في قبضة الحياة الجائشة إذا هم استبسلوا فنزلوا إلى ساحتها، وقلما يفعلون.
وكما أن الحياة الجائشة تحير العقل الغر فتختلط عليه شئونها اختلاطا شديدا حتى يتاح له أن يتدرب على خشونتها، ويستأنس بدقائقها من طريق التألم والتأمل والتفهم، فيقدر أن يطوح ببصره إلى الحوادث التي وقعت له حياته فتنتسق فصولها كلها، أو بعضها بين يديه، كذلك يحسن بمن يقف على هذه المسرحية - المبهمة معالمها أول الأمر - أن يتدبر نواحيها من بعد الوقوف عليها، مستضيئا باللاحق ليبصر السابق.
والذي يزيد في إبهام معالم هذه المسرحية أنها تجمع في ألفاظ معدودة طائفة من الآراء، والتأثرات صبها الزمان في قوالبها، وكل شيء لاحق بعالم الفكر طال عهد نشأته، واستوائه لا ينقاد للذهن دفعة ، بل على الذهن أن يتأتى له يستشفه، وفي ذلك من اللذة ما فيه، وعندي أنه قد حان الزمن الذي فيه أصبح الإيجاز، والإيماء في الإنشاء الرفيع أحب إلى القارئ العربي المهذب من التطويل والتذييل، حتى إذا رجع القارئ عن الحس الظاهر إلى الحس الباطن تجلى له ما وراء السطور، فتدرك بذلك غاية الأدب العالي، ومدارها أن يجعل المنشئ القارئ يشاطره فنه.
وأما لغة المسرحية فقد أردتها سهلة؛ لأنه من العسف أن يغرب المؤلف، أو يتكلف الصياغة ابتغاء التهويل، ولا سيما إذا ألف للمسرح؛ ذلك أن المسرح إنما هو منقل ألوان الحياة، والحياة الحق طفل يلهو، وما يدري أنه لاه، وزهرة تضوع، وتعجب لمن يستروح شذاها، ونهر يهدر ولا يطرب لترنيمه، وليس في هذه التعابير كلها تصنع ولا استكراه، ثم إن الذي أميل إليه أنه كلما بعد غور التفكير فشطت المعاني ونزع الأسلوب إلى الإيهام والتلويح، بحيث ينبسط على الكلام ظل لطيف، جدر الأداء أن يلتزم السلاسة والوضوح، على أن تنزه الكتابة عن المبتذلات عن تلك التراكيب المطروقة المطروقة حتى صارت وساوس ينصبها الأدب اليابس في وجه استقلال القلم، فتمنع الإنشاء أن يدل على صاحبه دلالة حافلة، ثم على أن يتخير اللفظ محاذرة أن يزوغ مدلوله عن المعنى المقصود فتهزل الفكرة، وأن تهذب العبارة؛ لئلا تسقط إلى الركاكة فيسمج الأدب.
القاهرة، ديسمبر 1937م
إلى نشأة المسرح المصري
ب. ف (1) تبيين
المسرح
في مفرق الطريق؛ أي حيث ينفرج يمينا منارا وصاعدا، ويسارا مظلما ومنحدرا، يلتقي العقل والشعور، فيتجاذبان المرء ولكل منهما حظه من القوة والغلبة، وأما الجانب المظلم فحيث يقهر الشعور العقل فينحدر المرء، وقد عمي رشده إلى غاية تحترق عندها النفس، وأما الجانب المنار فحيث يصرع العقل الشعور فيسلك المرء في صعود مثلوجة يحيا عندها بنجوة من الاحتراق، يحيا كمثل شجرة شظف عودها وجف ورقها وذوى زهرها، على ما هو مبين في رسم الغلاف.
الأشخاص
سميرة:
نفس مضطربة تتنازعها حلاوة الماضي الموجع وراحة الحاضر المقفر، تطمئن إلى حياة يلجمها العقل، وتجذبها حياة يندلع فيها الشعور، فهى كالموسوسة، يبدو كلامها هذيانا؛ لأن رأيها لا قرار له، وتراها كلما لمست الحقيقة القاحلة فزعت منها إلى متمثلاتها الورقة، وإذا انقضت هذه أوت إلى التلف المعنوي إرادة أن تحبس حركات نفس رغابة في الاحتراق.
الأبله:
لا يقوى على الكلام، ولكنه يفهم كل شيء، ولا ينكشف أمره حتى ينخلع قلبه، كمظلوم راض بما قسم له يحسبه الناس سادرا، قاعد الإحساس فيستخفون به، حتى إذا بغى الجرح الذي يضرب في جنبه فار فارفض فأصاب الظالم منه رشاش يرده إلى الواقع، فبكاء الأبله في مختتم هذه القصة؛ ذلك البكاء الذي نزع الغطاء عن عيني سميرة، فمنعها أن تبعث على يد مغريها إلى الشعور، صرخة مظلوم يعرف أنه من أجلها مقتول.
هو:
عنوان الإنسان العادي، المنشأ في حلقة المواضعات الاجتماعية - وما أكثرها في الشرق العربي عامة، ومصر خاصة! - المبني على البغي، الرقيق لساعته، العاجز عن إدراك المعاني المجردة حتى يؤخذ بيده فيقاد إليها فيصرعه جلالها، ثم يود لو يعيش في ظلها دون أن يبذل نفسه بذلا في سبيلها كأنه يقنع بالوقوف بباب هيكلها لعله يظفر ببعض ما فاته من اللذة الخاصة، فتعوزه الفرصة لتبدل الأحوال التي كانت تكتنفه.
المسرح
مؤخره: صف من المنازل المنخفضة على شكل المنازل التي تصاب الآن في الأحياء القديمة في مصر، من نافذة من نوافذ أحد المنازل الواقعة في الجانب الأيمن من المسرح يخرج نور، نور مصباح «جاز» كبير، المصباح لا يرى، وإذا أريد إظهاره فليكن معلقا بالحائط بمسمار ضخم معقوف.
مقدمه: طريق ضيق، على الأرض جزازات ورق وبقايا من قصب السكر، يمتد إلى جانبي المسرح يمينا ويسارا. الجانب الأيمن منه يضيئه النور الخارج من النافذة إضاءة ضئيلة، وأما الجانب الأيسر فبين المظلم والمنار، وتشتد الظلمة في أوله من اليسار، والطريق ينحدر من الجانب الأيمن المنار إلى الجانب الأيسر المظلم، ثم إنه غير مستقيم بحيث يلتقي جانباه وسط المسرح زاوية منفرجة.
الأشخاص
سميرة:
امرأة في السابعة والعشرين أو تقاربها، نحيفة، رشيقة، حسنة الشكل، بشرتها ضاربة إلى الصفرة، شعرها أسود متدل بعض الشيء حتى كتفيها، ترتدي «فستانا» نظيفا عاديا أسود لا يخلو من أناقة بسيطة كالذي ترتديه فتيات من العامة في مصر لعهدنا هذا، مشدودا إلى ما فوق خصرها، ليس بالواسع بحيث يشف عن رشاقة جسمها، مرتفعا إلى أسفل العنق، ساقطا إلى القدمين حتى الحذاء وإلى الذراعين حتى المعصمين، فلا يرى من الفتاة سوى وجهها السافر وكفيها، الحذاء أسود، والمطلوب أن تشتد المقابلة بين سواد اللبس وصفرة الوجه واليدين.
الأبله:
فتى لا عمر له، مستحكم البنية، منفوش الشعر، يرتدي «جلبية بلدي» (جلبابا مصريا) صفراء، حذاؤه أسود عتيق جدا، تبدو على هيئته القذارة.
هو:
شاب في الثلاثين أو يقاربها، جميل المنظر، على رأسه طربوش [هذا غير واجب]، يرتدي «بدلة» لونها زاهر، وفي عروة في أعلى «البدلة» وردة، حذاؤه أبيض، بشرته سمراء بل شديدة السمرة.
المشهد الأول (الأبله - سميرة)
الأبله جالس في الجانب المنار على الأرض، على مقربة من جدار منزل، بين يديه رزمة قصب سكر، يقشر قصبة بأضراسه ثم يدفع «عقلة» القصبة (الأنبوبة) إلى المرأة فتمضغ منها شيئا وتعيدها إليه فيأتي عليها مصا. من آن إلى آن يضحك ضحكة خفيفة لا معنى لها، سميرة تجيء وتذهب أمامه في هدوء وبطء، تنظر إليه أحيانا في ذهول.
يستمر هذا التمثيل الصامت زهاء دقيقتين، وبينما الأبله يكسر «عقلة» من عود قصب على ركبته إذ يشد العود إليه بقوة كأن أحدا يريد خطفه من خلف، وذلك في أثناء مرور سميرة أمامه بحيث تراه.
سميرة :
ما بك! أيريد أحد خطف قصبك؟
الأبله : (يومئ أن نعم.)
سميرة :
معاذ الله! ومن هذا؟
الأبله : (يحاكي صوت الكلب، وهو لا يزال قابضا على عود القصب بحرص.)
سميرة :
كلب؟ ومتى كانت الكلاب تمتص القصب؟
الأبله : (يضحك.)
سميرة :
كفى ضحكا! كم أشتهي أن أراك تبكي يوما، فتبكيني. (مهلة)
أممكن هذا؟ (تنظر إليه) .
الأبله : (يتأملها في جد.)
سميرة :
أممكن هذا؟ ولم لا؟ فهذه الكلاب أصبحت تمتص القصب.
الأبله : (يطرق.)
سميرة :
أكلب هو؟
الأبله : (يومئ أن نعم.)
سميرة :
لا، إن هذا لا يمكن حصوله ... كما أن بكاءك لن يكون. (صمت)
المستحيلات في هذا العالم معروفة (تحدق إليه) .
الأبله : (يرفع ببصر تائه إليها، ورأس القصبة بين أضراسه، وهذه لا تتحرك.)
سميرة (تخاطب نفسها) :
ولربما أحببنا أن يكون الأمر المستحيل ... ممكنا. (مهلة)
ماذا أقول؟ لا ... لا ... ولو أن الكلاب أصرت على امتصاص القصب لقتلتها جميعا، جميعا. (تخاطب الأبله)
أتسمعني؟ (آمرة)
اضحك!
الأبله : (يضحك ضحكة فيها تكلف وشبه رنين أسى.)
المشهد الثاني (الأبله - سميرة - هو) «هو» يقدم من الجانب الأيسر في تباطؤ شديد فينصرف إلى أول منزل من هذا الجانب. يحاول أن يقرأ اسم الطريق عليه. الأبله ينظر إليه شزرا. سميرة ترمقه في غير عناية. يقبل «هو» وسط الطريق حيث المكان بين المظلم والمنار وحيث المرأة واقفة. البعد بينه وبين المرأة مقدار «مترين» بحيث يشمله الظلام فوق ما يشمل المرأة. يلزم الأبله نظرته طوال الحديث الذي يجري بين «هو» وسميرة مهملا امتصاص القصب. يعبر عن انفعالاته في صمت.
هو (لسميرة) :
من فضلك يا ست: هل هذا زقاق سي عبود؟ إني، والظلمة على هذه الشدة، لا أستطيع قراءة الاسم المكتوب على جدار هذا المنزل (يشير إلى المنزل الذي كان انصرف إليه)
إن كانت هنالك كتابة.
سميرة :
نعم، هذا زقاق سي عبود.
هو :
شكرا.
سميرة :
هل لك أن تفيدني كما أفدتك؟
هو : (يشير أن افعلي.)
سميرة :
هل بلغك، عمرك، أن الكلاب تمتص القصب؟
هو : (يؤخر رجلا كمن ذعر من أمر.)
سميرة :
سألتني عن شيء أفلا يحق لي أن أسألك عن آخر؟
هو :
ولكنه سؤال ... سؤال ...
سميرة (في لهجة من ينفي شيئا قائما في ذهن خصمه) :
لا غرابة فيه.
هو : (يتعجب صامتا.)
سميرة (في بطء) :
كل شيء يبدو غريبا لك إنما هو جد معقول عند صاحبه. إن سؤالي يدهشك، ولو جالت أفكاري في ذهنك وتجاوبت على نحو ما تجول في ذهني وتتجاوب لزال دهشك. إن الأشياء لا وجود لها إلا بنا، وكل واحد منا عالم قائم برأسه.
هو :
هل لك أن تجيلي أفكارك في ذهني وتجعليها تتجاوب لعلي أقوى على الرد؟
سميرة (في تهيج) :
اسمع. إن هذا (تشير إلى الأبله)
لا يستطيع غير الضحك، وإني بضحكه لسعيدة. وإن عرف يوما ما البكاء شقيت به. (مهلة) (في تحسر كأنها تخاطب نفسها)
ولكن ... أصادقة أنا؟ (تتم فكرتها بإشارة)
وعندي أنه يستطيع البكاء إذا استطاعت الكلاب امتصاص القصب.
هو :
إني أوثر ألا يجول مثل هذه الأفكار في ذهني وألا يتجاوب.
سميرة :
لأنها أفكار مجانين. (صمت)
كلا، بل هي أفكار فئة من الناس يشعرون فوق ما تشعرون. والحق أني لا أفهم لم قدرة هذا الأبله على البكاء مرتبطة بقدرة الكلاب على امتصاص القصب. خاطر هجم علي من جانب غامض.
هو (ساخرا) :
صدقت.
سميرة :
مهما تقل جميعا ففي يقيني أن وقوع الأمر الثاني ينشأ عنه وقوع الأمر الأول.
هو :
يقين مشكوك فيه.
سميرة :
قلت: يقيني.
هو :
ولكن إذا بدا لكل واحد منا أن يستقل بيقين له فإلى أين مصيرنا؟ إلى الشك العام.
سميرة :
كلا! إلى الأمل. (مهلة) (في بطء شديد)
الحقيقة، أليست ذلك الوادي الشظف يخضله فيض مشاهداتي الباطنة؟
هو :
أف لهذا الكلام المعقد! (يهم بالانصراف من حيث جاء) .
سميرة :
تريدون الأمور واضحة («هو» يلبث في مكانه)
خوفا على سلامة أذهانكم. أينبغي لكل أمر يحصل أن ينساق إلى ناحية معلومة في ملتويات أفهامكم تنتظره؟ (في سخرية)
متاع يندرج في خزانة! لا شيء أكره إلى الحياة من إطار يعد لمجراها، إن الروح والفكر مع ما يجيش فيهما من نزعات ووثبات ينكران السد والحد. إنكم تفتكون بهما.
هو (في ضجر، يشير في عنف) :
كفى!
سميرة (آمرة في لهف) :
أعد هذه الكلمة!
هو :
لم؟
سميرة (آمرة) :
أعد.
هو (في شيء من الخشية) :
كفى ...
سميرة :
لا. أعدها بالنبرة نفسها وأردفها بالإشارة عينها ... ادن مني ... لا تخف.
هو (يدنو منها ويشير كالمرة الأولى) :
كفى!
سميرة (بالنبرة نفسها والإشارة عينها) :
كفى!
هو (كمن يخاطب معتوها) :
مساء الخير!
سميرة (تهجم عليه وتمسك بثيابه وترسل طرفها في وجهه ثم في جسمه منتفضة) :
أين سميرة؟
هو :
من سميرة؟
سميرة :
هل عرفت سميرتين؟
هو (ينكس رأسه ثم يرفعه ويحدق إلى وجه المرأة ويقول في لهجة المدهوش) :
أنت؟!
سميرة : (لا تجيب، وعيناها تكادان تقتلانه.)
هو (يواصل كلامه) :
هنا؟ وهكذا؟
سميرة :
الحب مرحلة إلى الفناء! (مهلة)
أمر آخر غريب. (من الآن فصاعدا ينظر «هو» إلى سميرة وجلا، زائغ البصر، مختلج النفس. يحرك يديه الحين بعد الحين في تهيج، ولكن التحريك ليس فيه غلو. وجهه إلى الجمهور وسميرة ظهرها إلى الجمهور بحيث لا يرى منها إلا التفاتات يديها وكتفيها. وأما الأبله فيظل طوال حديث المرأة مبهوتا كالمستفيق على كره من حلم لذيذ والقصبة في يده ماثلة ممدودة نحو فمه. يشاهد ما يجري وهو يتألم في صمت. كل ذلك حتى يسمع صوت الناي فتتبدل هيئات الأشخاص الثلاثة.)
سميرة (في هدوء، متممة حديثها) : ... وما غرابته؟ جرت الحوادث لي كما يجب أن تجري. أحببتك؟ فائتمنتك على ما تملكه يداي حتى أتى يوم قلت لي فيه: كفى! وأشرت على نحو ما أشرت الآن (تعيد اللفظة بالنبرة والإشارة مرتين كأن اللفظة شبح يلازم ذهنها) ... فانطلقت عنك إلى حيث تنطلق المرأة التي تريد أن تذل الرجال لأن واحدا منهم أذلها. (مهلة) (في سرعة)
وأتاني يوما فيمن كان يأتيني من الرجال الذين كنت ألهو بهم شاب صوته منحوت من صوتك، فطربت لحديثه وأنا لا أعلم السبب. وأردت أن أطرب فوق ما طربت (مهلة) (في تهيج)
أممنوع هذا؟ (في بطء)
فعلمته الكلمات التي كنت تنطق بها وأنت مائل علي ... ظل عريض مطروح على صورة ناصعة. وما كنت لأذكر أنها منك، لأن نفسي كانت شربتها فطوتها أضلعي، ونشرتها شفتا قلبي. وإذا الشاب يوما يلفظ تلك الكلمات في ذلك الصوت ... ذلك الصوت، وهو مائل علي. فإذا بك تتمثل لي دفعة، فكنت كالنار ترفع من بعيد للتائه المطمئن ... أنت أنت الذي أشربني تلك الكلمات، أنت الذي قال لي: كفى! بذلك الصوت (تشير على نحو ما كان أشار)
أنت منقاد لي مرة أخرى، وتظفر بي؟ ... فخنقته! («هو» يتراجع ويرفع يده كأنه يرد شبحا) (سميرة تواصل كلامها )
إن أمور القلب لا تنقضي إلا بالخنق! (مهلة)
منذ ذلك اليوم أشرقت نجاتي؛ إذ غاب الذي كان يحس من نفسي وانطفأ الذي كان يشتعل. والآن أعيش في الثلج ... ابعد (تلتفت إلى الأبله وتصيح)
اضحك!
الأبله : (يضحك في تراخ.)
سميرة :
هذه الضحكة هي التي تثلجني، كل يوم، كل لحظة. أراك دهشا لأن بيئتنا بيئة إحساس محض ... إلا أنه إحساس لا يبلغ الاحتراق. أما أنا فقد جبلت من نار فيأكل بعضي بعضا. (مهلة)
إنما أحيا، والثلج من حولي، طيف شجرة جرداء!
هو :
ولكن ألا تهفو نفسك إلى الدفء أحيانا؟
سميرة (في استرخاء) :
تغالبني فتهفو، غير أن الذي يدفئنا الشمس، ولذة الشمس في حرقتها.
هو :
بقليل من التعقل تتجنبين الحرقة.
سميرة :
التعقل جعل لمن يحسب أنه يحس. مثلي لا بد له من الاحتراق.
هو :
إنك مسرفة.
سميرة :
كنت كذلك لما كنت إنسانة، لما كنت أحبك، أيام احترقت.
هو :
كم أود أن أبذل لك الدفء.
سميرة :
مثلك يحرق ولا يدفئ.
هو :
علميني كيف أدفئ.
سميرة :
فات الأوان. ما أعرف اليوم إلا كيف أحرق، أفلم أتخرج على يديك؟ ولم تريد العودة إلى ما كان؟ هل انتهى إحساسك إلى أقصاه؟ كلا، بل تراني أحاول النجاة من أرضكم فأسمو عليكم، فتندم على تهيئتك لي هذه القدرة. (في شدة)
ابعد! (مهلة)
إنما حياتي في الثلج.
هو :
بينك وبين الثلج لا أبرح قائما.
سميرة :
بيني وبين الدفء رائحة حريق.
هو :
ولكن ... قلبك.
سميرة (في غير عناية) :
قلبي؟ (مهلة)
لفظ طالما أداره لساني حتى ضاع معناه.
هو :
سميرة!
سميرة :
ألم أقل لك إني لست أنا. هذا اسم فني.
هو :
ولكن ...
سميرة :
إنك تكثر الاستدراك. ألا تستطيع إطلاق الكلام؟
هو :
أما تعرفين أن كل شيء مقيد؟ (صمت)
هل من شيء يبطل عنده الاستدراك؟
سميرة (بعد مهلة، في بطء ثقيل) :
إذا احترق. (مهلة) (في تلهف)
قلبي! ...
هو (في لهجة من لا يسلم بحصول أمر) :
لفظ ضاع معناه.
سميرة (في لهجة من يقيم الحجة) :
ألا ترى البدوي يتأمل الصحراء ليله ونهاره، إذا سئل عن لون رمالها تلعثم؟
هو :
قد عرفتك امرأة لا تحمل كل هذا القدر من العلم. فمن أين أتاك؟
سميرة (في بطء) :
أما للحرق فيض؟ (مهلة) (في تلهف)
قلبي! ...
هو (في لهجة الحائر) :
لفظ ضاع معناه ... ولكن هنالك ألفاظا لا تموت. هذه لفظة الله لا ينفك الخلق يذكرونها، أفلا يزال الله الله؟
سميرة :
كما أن القلب لا يزال على حروفه. (تنظر إليه تائهة البصر) .
هو (يدنو منها ويهمس إليها يغريها) :
الدفء! الدفء!
سميرة (تحول نظرها عنه كأنها تخاف أن تلين لكلامه. على أنها لا تبتعد عنه. تظهر أنها منجذبة) :
ذلك وهم.
هو (يقنعها) :
لولا السراب أية قافلة لا ينهكها طول الرحلة: ساعة اليأس - إذا وارت البئر كنزها عن الأعين القلقة كأنها فتاة غضة خفرة، أو أمست كعجوز تشنج جلدها لا تبذل سوى الجفاف - يضحك السراب فتعلو الهمم.
سميرة :
إني عرفت ذلك السراب، بل شربت منه. وكان الماء أجاجا على لذة. وإني أود لو أرتشفه مرة أخرى. آه! حتى هذا يفوتني اليوم. (مهلة) (في بطء)
الحب معترك قتلاه الأوهام.
هو (يدنو منها، يقنعها) :
الشعور عكاز المرأة.
سميرة (تنظر إليه في هياج) :
وما هو للرجل؟
هو :
معراجه إذا أدرك جوهره.
سميرة :
ومتى أدركته؟
هو :
الليلة.
سميرة :
شيء تم بعد حين تمامه.
هو (مدافعا) :
من ذا يرى أن ليس للعنب نشوة من بعد نضجه؟
سميرة (نافية) :
في ظني أن المرأة جعلت لتحيا بالحب، وقد مت به. وها أنت ذا كأنك تحيا به عني ... إن الأمور تنقلب أوضاعها على أيديكم، لأنكم يفزعكم الخلوص إلى أسرارها.
هو :
ما أغلظ كلامك!
سميرة :
ولم أنته بعد. (مهلة)
أصبت امرأة تأتيك راضية فرحة، فقلت متعة. وما كنت لتقوى على النزول إلى مضطرب الحياة، فتعرف مرحها، فتقول نعمة ... المرأة عندكم زهرة تقتلع لأن إناثكم لم يعلمنكم أنها تقطف. وأنى لهن أن يفعلن وهن يخشينكم أبدا ... في عرفكم أن نساءكم يهبن لكم أنفسهن. ما أسخفكم! إنهن يفرشنها لكم. (مهلة)
أما أنا فقد أردت أن أشذ عنهن فوهبت لك نفسي حقا. فرحت ضحية ادعاء جديد للمرأة.
هنا يعلو صوت ناي من النافذة المنارة. صوت خفيت يظل دقيقة. يلتفت الأبله وسميرة و«هو» إلى النافذة. الأبله ينظر شزرا ويطرح بالقصبة التي بيده أرضا. سميرة تضم يديها إلى صدرها كالمصلية. «هو» ينظر كالمأخوذ.
سميرة (ل «هو») :
كم يشغلك الناي!
هو :
إنه لجميل المدات!
سميرة (كأنها في وجد، شاخصة إلى النافذة) :
إنها لضلوعي تنقصف مصعدة في معارج الهواء الصافي. وكم يلذ لي أن تفلت ضلوعي من بين جوانبي! هل تدري ما الإفلات مما يلازمك على كره منك؟ إن هذا الناي يعينني على النجاة من الأرض. ولذلك ألبث في هذا المكان، تحت هذه النافذة ... صاحب الناي ينفخ فيه كل ليلة، فأحب أن أعيره ضلوعي وهو لا يدري. ولو درى لهشم حلمي. وما أشد حاجتي إليه! آه، إني أحس الحين بعد الحين كأن ضلوعي تريد أن تفلق صدري لعطش فيه أعرفه وأهابه.
هو (يشير نحو الأبله كأنه يقول: ألا يسكن هذا عطشك.) :
وهذا؟
سميرة :
ضحكه لا يقوى على تسكين ذاك العطش، ولا سيما في الليل. برودة إلى برودة تهد العزم، عزم امرأة.
هو :
وفيم كل هذا؟
سميرة :
أنت لا تفهمني وأنا أفهمك.
هو (يشير نحو الأبله) :
وهل هذا يفهمك؟
سميرة :
إن جهله بي من باب آخر. (هنا يعلو صوت الناي، فيتمتم الأبله.)
هو (ينظر إلى سميرة ويشير إلى الأبله) :
ماذا؟
سميرة :
كثيرا ما يضج إذا سمع الناي.
هو :
أترى صوت الناي يغيظه؟
سميرة :
أتظنه يدرك أن الناي يسعدني على عشرته؟ سترى أنك مخطئ. (تلتفت إلى الأبله تأمره)
اضحك!
الأبله : (لا يضحك بل ينظر إلى الأرض واجما.)
سميرة (التمثيل نفسه) :
اضحك!
الأبله : (التمثيل نفسه.)
هو (لسميرة) :
لعله يفهمك وأنت لا تفهمينه.
سميرة : (تظهر التعجب والتفكر.)
هو (يواصل فكرته) :
علمتني اليوم أن الحياة مجموعة سوء تفاهم.
سميرة (في لهجة المنكر، تشير نحو الأبله) :
إلا أنه خفيف العقل.
هو :
كما أنك واهمة.
سميرة :
كما أنك مغرور.
هو (بعد مهلة قصيرة) :
ثلاث أحوال من منزلة واحدة. (هنا يعلو صوت الناي مرة ثالثة ، ولكن نصف دقيقة فقط.)
سميرة (في أثناء ذلك، ل «هو») :
اسكت الآن!
هو (بعد سكوت الناي) :
حقا! إنه لأخاذ.
سميرة :
إنه لمعطاء!
هو :
يبذل لك النجاة.
سميرة :
من الاختناق.
هو (بعد مهلة) :
مسكينة! (سميرة لا تحفل بهذا الرد، بل تتطلع إلى النافذة في شغف. وأما الأبله فيرمقها مغيظا.)
المشهد الثالث (سميرة - هو) «هو» (يدنو من سميرة ويجعل كفه على كتفها ويجذبها بلطف إلى الطريق المظلم وهي منقادة مذهولة وعينها منصرفة إلى النافذة ووجهها محول إلى مؤخر المسرح لا إلى الجمهور. يرى الأبله هذا فينهض يتبعها بحركات وإشارات ضالة. وبعد أربع خطوات أو خمس يعود أدراجه وينزوي عن المسرح ناحية الغيابات (الكوليس
les coulisses ). في هذه اللحظة يعلو صوت الناي غاية في الشجى.)
سميرة :
أمهل. (يقفان. يظل صوت الناي دقيقة كاملة)
هو (بعد سكوت الناي) :
أصبحت لا حاجة لك فيه. (يعود الناي دقيقة أخرى كاملة إلى مداته الشجية. تستمع سميرة إليه كأنها تنتفض.)
سميرة :
دعني أودعه ... إنه قام مقام عكاز لي دهرا ... ولم ينحطم قط. وما يدريني؟ ربما عدت إليه ... أفلا أفارقه على وداد؟ (في بطء)
لا تزال بنا حاجة إلى ما ملأ أيدينا مما لم نؤمل (تميل بأذنها نحو النافذة كأنها تريد أن تسمع صوتا منقبضا.) (في هذه اللحظة عينها يسمع من داخل الغيابات يمينا - حيث الأبله منزو - نشيج رقيق يقارب مدات الناي الشجية.)
سميرة :
اسمع الناي يبكيني.
هو (يرهف الأذن) :
لا. إن هذا بكاء الأبله (مهلة قصيرة)
عدو الناي. (سميرة ترهف الأذن وتلوي رأسها تحدق إلى داخل الغيابات من اليمين وتبسط يدها كأنها تدفع شيئا مكروها. في هذه اللحظة يرسل الناي بعض مدات مبهمة تشابه نشيج الأبله.)
هو (يواصل حديثه) :
عجبا! إن الناي يراسل الأبله في البكاء. (مهلة قصيرة)
عدوان اتفقا.
سميرة :
ألم نتفق نحن؟
هو :
جمعتنا اللذة وجمعهما الألم.
المشهد الرابع (الأبله - سميرة - هو) (تنفض سميرة كتفها من كف «هو» وتسرع نحو الأبله، فتجذبه من يده في شيء من العنف حتى وسط المسرح، ثم تدور بحيث تجعل ظهرها ناحية الجانب المنار وظهر الأبله ناحية الجانب المظلم على بضع خطوات أمام «هو».)
سميرة (للأبله) :
أتبكي؟ ومن علمك البكاء؟
الأبله : (ينظر إليها في تضاؤل.)
سميرة (للأبله، في شدة) :
إن الكلاب تمتص القصب إذن! وقد فاتني قتلها. (ثم ل «هو» في لين)
أحرقته وهو يثلجني. (ثم للأبله في تراخ)
بكاؤك منع البعث! (يتراجع الأبله حتى يقرب من «هو»)
سميرة (والأبله يتراجع) :
ها! ها! أنت مثلنا. تبكي وتضحك. ولكن ضحكك أكثر من بكائك. فاذكر، إذ كنت في بدء أمرك، أن للبكاء الغلبة أبدا. (مهلة) (للأبله و«هو»، وهما واقفان جنبا إلى جنب)
سيثلج بعضي بعضا منذ الآن ... (في لهجة التائه)
إذا قدرت. (تتراجع حتى تكاد تلصق بالغيابات) . (في هدوء تضطرب فيه مأساة، مشيرة إلى الطريق الذي هما فيه)
خذا هذا الطريق ... الذي لا نور فيه ... الذي ينحدر. (سميرة تغيب عن العين. «هو» يأخذ بيد الأبله مطأطئ الرأس، والأبله ينشج في سكون، وكأن النشيج يذكر بمدات الناي الشجية، ثم يمضيان، الأبله خلف «هو»، حتى يغيبا.)
صفحه نامشخص