ويتقدم باول فييرآبند
(1924-1994م) الذي يمكن اعتبار فلسفته تمثيلا لما بعد الحداثة في قضية مفهوم المنهج العلمي. اشتط وحاد في ترجمة درس توماس كون العظيم، ليكون حامل لواء ما أسميناه المعامل الأول المثير للجدل، الذي يحاول إزاحة العقلانية التجريبية من مركزها، وإسقاط الولاء العلمي لها، زاعما أن مفهوم المنهج العلمي ليس واحدا، حتى انتهى إلى أنه لا تحديد لمثل هذا المفهوم أصلا! وذلك في كتابه الشهير «ضد المنهج: مخطط تمهيدي لنظرية فوضوية في المعرفة» (1975م)، الذي يرمي إلى إثبات أن العلم لم يكن أبدا أسير منهج واحد محدد، بل هو مشروع أناركي
Anarchic Enterprise ؛ أي مشروع فوضوي لا سلطوي
11
لا يعترف بأية سلطة، «وكل المناهج يمكن أن تجدي فيه»،
12
تبعا لشعار فييرآبند الشهير: كل شيء مقبول
Anything goes . وانكب على تأكيد النسبوية والتعددية المنهجية. كل منهج مقبول على الرحب والسعة، طالما يلائم طبيعة المشكلة المطروحة للبحث، فيؤدي إلى حلها والإضافة إلى رصيد العلم، أما تكبيل البحث العلمي بمنهج واحد محدد، فهذا ضد الإبداع، يخنق روحه الضرورية للإنجاز في العلم، والإجماع على رأي واحد - بشأن منهج واحد - يناقض طبيعة نشاط عقلاني على الأصالة كالعلم التجريبي.
من السهولة بمكان أن نتبين في هذا محاولة تفكيكية صريحة، من حيث إنها تنكر أي تعريف نهائي للمفهوم، وأي ارتباط حاسم بين دال ومدلوله، وتزعم - على دأب التفكيكيين - كشف الآليات المراوغة التي تسعى إلى الاستئثار بالسلطة المعرفية، فيواصل فييرآبند مساره الفوضوي اللاسلطوي، حتى يرفض تنصيب السلطة المعرفية للعلم بالذات، فيجاهر بأن العلم الحديث ليس نظاما مقدسا، يستلزم الكفر بما عداه، بل هو نظام عقلاني وجب أن ينمو ويزدهر وسط الأنظمة المعرفية الأخرى، إنه شكل من أشكال عديدة للمعرفة، وجب أن يتسع لها جميعا المجتمع الديمقراطي الحر، ولا ينبغي أن يكون ذريعة لفرض النموذج الحضاري الغربي ووأد الثقافات الأخرى، لا سيما ثقافات العالم الثالث، فتحرم البشرية من خصوبة وثراء وتعدد جوانب، إن نعمت بها تنعم بالعلم أكثر. لماذا نجعل العالم الغربي مطية للخواء والإجداب، حين نقهر الثقافات الأخرى تحت اسمه المجيد، حتى لا يبقى سوى الحضارة الغربية؟!
لقد كان فييرآبند كفيلسوف بعد حداثي ناقدا جريئا حقا للاستعمارية ولأسطورة الغرب المعيار، وللحضارة الغربية العلمانية إجمالا، ربما لدرجة جديرة بالإعجاب، ولكنه في سبيله لهذا غالى وبالغ في تفعيل مقولات النسبوية واللاسلطوية واللامقايسة، حتى كاد مفهوم «التقدم العلمي» ذاته يفقد معناه، والأخطر أن فييرآبند بذينك المغالاة والشطط، قد جار كثيرا على حدود منطقية مصونة للعلم، ترتد إلى مفهوم المنهج العلمي، فكان أن شن حربه التفكيكية الشعواء على هذا المفهوم الأثير.
صفحه نامشخص