في التعويل عليها وتأكيدها، وهو يحاول تفسير بزوغ فجر العلم الحديث.
إنها واقعة خاصة بمرصد «مراغة» الكائنة الآن في حدود إيران، استطاع العاملون فيه، خصوصا إبان القرنين الثالث عشر والرابع عشر، التوصل إلى ابتكار أول نظام فلكي غير بطلمي، منهم: الأزدي (ت1261م)، والطوسي (ت1279م)، وقطب الدين الشيرازي (ت1279م)، وأههم جميعا ابن الشاطر (ت1375م). ويؤكد توبي هف تأكيدا مشددا، أن ابن الشاطر بالذات هو الذي مهد لكوبرنيقوس، وعلى تفاصيل التناظر بين نماذج كوبرنيقوس ونماذج مرصد مراغة، بحيث ينتهي إلى أن السؤال الذي بحثه نفر من مؤرخي العلم الحديث ليس عما إذا كان، وإنما متى وأين تعلم كوبرنيقوس نظرية مراغة؟ وقد كان دبلوماسيا كثير التجوال والاطلاع على ما لدى الآخرين . يقول توبي هف:
وشد ما هو ذو دلالة خطيرة فعلا، أن العلماء العرب المسلمين هم الذين مهدوا الطريق المفضي إلى الثورة العلمية في أوروبا. لقد عمل العرب على تطوير ومناقشة جوانب عديدة للمنهج التجريبي، وتخطيط كيفية التسلح بها، ليس هذا فحسب، بل أيضا طوروا الأدوات الضرورية للوصول إلى أرقى مستويات الفلك الرياضي، علاوة على هذا، فإن العمل الذي اضطلع به مرصد مراغة في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، قد بلغ ذروته في عمل ابن الشاطر، وتمخض عن تطوير نماذج كوكبية جديدة للكون، كثيرا ما توصف بأنها باكورة النماذج اللابطلمية على طول الطريق المفضي إلى العلم الحديث، وهي ما اتخذه كوبرنيقوس فيما بعد، لم يكن ينقصها العامل الرياضي، أو أي عوامل علمية أخرى، العامل الوحيد المفتقد في هذه النماذج هو أن ترسو على فرض مركزية الشمس، وكان الفشل في الإقدام على هذه الوثبة الميتافيزيقية، من كون مركزه الأرض إلى كون مركزه الشمس، هي التي حالت بين العرب وبين إحداث النقلة من العالم المغلق إلى الكون المفتوح.
26
وكان كوبرنيقوس هو الذي أقدم على هذه الوثبة، فكانت النقلة الكبرى وبداية نسق العلم الحديث والعصر الحديث في أوروبا، وأحدثت هذه القارة العجوز أبرز قفزة معرفية في تاريخها، وفي تاريخ العالم بأسره. •••
في استطلاع أبعاد هذه القفزة المعرفية أو النقلة إلى العلم الحديث، رأينا كيف شهدت العصور الوسطى الحضارة الإسلامية، وهي تخوض ملحمتها مع العلم الرياضي والتجريبي، من حيث كانت حضارة متصالحة مع الطبيعة. وتبقى الإشارة إلى أن الطبيعة كانت آنذاك تعاني إقصاء وتهميشا في الحضارة الغربية.
وعلى مسرح الأحداث في الحضارة الأوروبية نعود إلى الوراء، لنجد أصولها الإغريقية قد دأبت على تحقير العمل وتمجيد النظر، حتى جاهر أرسطو بأن العبيد مجرد آلات حية لخدمة السادة الأحرار، المتفرغين لممارسة فضيلتي التأمل والصداقة! وهذا ما جسده بمنطقه الذي يعد القياس ثمرته. القياس الأرسطي منهج استنباط النتائج الجزئية من المقدمات الكلية المطروحة، اعتمادا على قوانين العقل والمنطق فقط، دون التجاء للواقع أو التجريب. وفي العصور الوسطى المدرسية بدا للسلطة الكنسية أن هذا ملائم للتعامل مع الكتب المقدسة؛ فهي زاخرة بحقائق مسلم بصحتها، لنتوصل إلى النتائج الضرورية لها بواسطة القياس. أصبح منطق أرسطو وقياسه منهج البحث المعتمد في العصور الوسطى، وسمي هذا المنطق «الأورجانون»
Organon
أي الأداة، أداة التفكير وآلة الاستدلال والبحث.
وكما يقول توب هف، حتى بدايات القرن السابع عشر كانت الهيئات الجامعية، تفرض غرامة على خريجيها وأساتذتها قدرها خمسة شلنات، مقابل كل نقطة افتراق عن أرسطو أو عدم التزام بمنطقه. وإذا أضفنا إلى هذا دأب المسيحية على التحقير من شأن المادة، واعتبارها أصلا لكل شر وخطيئة، بل وتأثيم الانشغال بها؛ أي تنافر عقائدها اللاهوتية مع الطبيعة، تبين لنا أن سيادة المنهج الأرسطي قد أكدها في أوروبا طوال العصور الوسطى، أن السؤال عن الطبيعة في حد ذاتها لم يكن ملحا، ولم يكن ثمة دواع قوية للحث على استكشافها، وتكاتف هذا مع عوامل عديدة، جعلت العصور الوسطى الأوروبية ينقشع عنها نور العلم والبحث العلمي.
صفحه نامشخص