قد تستعمل لفظة الاستقراء الآن للدلالة على التجريب بشكل عام وتتبع وقائعه، ولكن من حيث المصطلح الميثودولوجي المتخصص، يعني الاستقراء نظرية البدء بالملاحظة التي كانت. وليس المنهج العلمي التجريبي هو الاستقراء الكلاسيكي، بل المنهج الفرضي الاستنباطي
Hypothetical deductive Method
يبدأ بفرض صوري عام، لا يشتق من الخبرة ولا يخضع هو ذاته للتحقيق التجريبي المباشر، فيلجأ الباحث إلى منهج الاستنباط، كي يستنبط منطقيا ورياضيا النتائج الجزئية التي تلزم عنه، إنها تنبؤات الفرض، ويأتي التجريب ودور الملاحظة فيقابل الباحث بين النتائج المستنبطة من الفرض وبين وقائع التجريب، إن اتفقت معها تم التسليم المؤقت بالفرض، وإن لم تتفق يكون تعديله أو الاستغناء عنه والبحث عن غيره، مع ملاحظة أن مصدر الفرض لا يعنينا؛ فقد يأتي به العالم من الحصيلة المعرفية السابقة أو من وقائع التجريب، أو من صفاء ضوء القمر أو رؤية وجه المحبوبة، أو من أي أين تستطيع العقلية العلمية المبدعة الخلاقة أن تستلهمه فرضا. الفرض العلمي إبداع إنساني أصيل، لا طريق مرسوما سلفا إليه، المنهج العلمي لا يرسم طريقا محددا إلى الفرض، بل هو آلية التعامل مع الفرض، آلية الاختبار التجريبي، آلية التفاعل بين الفرض والملاحظة أو بين العقل والحواس.
في علوم الفيزياء تحديدا نجد الاستدلال الرياضي، وهو عملية استنباطية، إنما يمثل العمود الفقري للمنهج العلمي، وأهم من وقائع التجريب ذاتها، خصوصا حين نقترب من الفيزياء النظرية أو البحتة. ليس التجريب مقابلا تماما للاستنباط، أو يستبعده كما كان الحال مع الاستقراء. والفروض العلمية الآن لم تعد تحكم وقائع بقدر ما تحكم قوانين وعلاقاتها ببعضها. المنهج العلمي التجريبي لا يعني تهميش دور العقل، كما كان يفعل الاستقراء التقليدي؛ فقد عاد الاستنباط ليحتل موقعا محوريا. انهار التصور الحتمي للكون وكأنه يسير كما تسير الآلة الميكانيكية، وارتفع لواء اللاحتمية واللايقين واللاتعين والمنطق الغائم ونظرية الشواش، ويظل المنهج تجريبيا والعلم تجريبيا، من حيث إن العالم التجريبي هو المحك النهائي الذي يشهد على النتائج المستنبطة ليتقرر مصير الفرض. إن مفهوم المنهج التجريبي في حقيقته، هو التآزر الجميل حقا بين إمكانيات العقل وقوة التجريب. •••
يعد كارل بوبر أهم فلاسفة المنهج العلمي والميثودولوجي الأول في القرن العشرين، وكان من أسبق وأقدر الذين تمثلوا الأبعاد الإبستمولوجية والميثودولوجية لثورة النسبية والكوانتم . وكما أشرنا فيما سبق، يحدد بوبر الخاصة المنطقية المميزة للنظرية العلمية بأنها القابلية للاختبار التجريبي والتكذيب. وهذه الخاصة تمثيل منطقي للمنهج الفرضي الاستنباطي، ولطبيعة التفكير العلمي كفرض يفرضه العقل على الواقع، وليس يستقرئه من الواقع. يرى بوبر أن المعرفة على العموم والمعرفة العلمية على أخص الخصوص بناء صميم طبيعته الصيرورة، التقدم المستمر، فلا تكون نظرية المنهج العلمي نظرية في تبريره، بل في أسلوب هذه الصيرورة أو كيفية التقدم المستمر، الأسلوب أو الكيفية هو ما يعرف بالمنهج العلمي، ومن ثم تكون فلسفة العلم هي نظرية المنهج العلمي، هي ذاتها منطق الكشف العلمي.
كارل بوبر يصوب الأنظار إلى منطق الكشف العلمي واللحظة الدراماتيكية الكبرى المتمخضة عن الجديد، لحظة التكذيب والتفنيد. ومن خلال منطق التكذيب والتصويب، تغدو فلسفة المنهج العلمي، هي منطق قابلية العلم المستمرة للتقدم، بحيث تكون قواعد البحث العلمي - كما يؤكد بوبر - قواعد مباراة هي من حيث المبدأ بلا نهاية، أما العالم الذي يقرر يوما ما أن العبارات العلمية، أصبحت لا تستدعي أي اختبارات أخرى، ويمكن أن نعتبرها متحققة بصورة نهائية، فإنه ينسحب من المباراة.
إن كارل بوبر في فلسفته الحصيفة للمنهج العلمي، لا يعنى البتة بتبرير المعرفة العلمية أو حدود صدقها وصحتها، بل يعنى فقط بنموها وكيفية تقدمها، أكد تأكيدا مشددا أن المنهج العلمي ليس البتة منطقا للتبرير والتحقق أو المواءمة، بقدر ما هو منطق للكشف والتقدم المستمر. يقول بوبر: «إذا حاول أحد أن يفكر في منهج علمي يقوده إلى النجاح، فلا بد أن يصاب بخيبة أمل، ليس هناك طريق ملكي للنجاح. وأيضا إذا حاول أحد أن يفكر في منهج علمي كطريق لتبرير النظريات العلمية، فسيصاب أيضا بخيبة أمل، النظريات العلمية لا يمكن أن تبرر، إنها فقط تنقد وتختبر.»
5
وفي تعريف جامع لنظريته في منهج العلم يقول: «المنهج العلمي هو منهج المحاولة والخطأ، منهج اقتراح فروض جريئة وتعريضها لأعنف نقد ممكن، كي ما نتبين مواضع الخطأ فيها.»
6
صفحه نامشخص