social sciences . •••
يمكن أن يتضح الآن كيف ولماذا ظلت فلسفة العلم ونظريته المنهجية، منذ نشأتها وعلى مدار القطاع الأكبر من القرن العشرين، تدور بصفة أساسية حول الفيزياء، حتى جاز القول إنها أساسا فلسفة للفيزياء، والصورة المثلى لمفهوم المنهج العلمي في أنه منهج العلوم الفيزيائية؛ فقد كانت الفيزياء أكثر العلوم تقدما، تعطي مثالا يحتذى للتقدم العلمي المنشود في النظرية وفي التطبيق. وكانت معاملات تقدمها في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، التي شهدت تشكل نماء واكتساح ميكانيكا الكوانتم بمعية نظرية النسبية لآينشتين، معدلات متصاعدة بصورة غير مسبوقة في تاريخ العقل البشري، وبدت العلوم البيولوجية أقل تقدما لأنها أكثر تعقيدا، والعلوم الإنسانية أقل وأقل؛ لأنها أكثر وأكثر تعقيدا. في العقود الأخيرة شهدت البيولوجيا طفرات تقدمية هائلة في النظرية وفي التطبيق، لا سيما بعد اكتشاف «د. ن. أ» كشفرة الحياة وتنامي علم البيولوجيا الجزيئية، وتعاظم شأن الهندسة الوراثية وتقنيات حيوية أخرى، حتى بدت علوم الحياة الآن وكأنها تستقل بنموذجها الخاص، وتحتاج مناهجها لمنظورات ومعالجات خاصة. العلوم الاجتماعية والإنسانية هي الأخرى لم تتوان، وشهدت تطورات منهجية أثرت مضامينها، وجعلت مناهج العلوم الإنسانية مبحثا مستقلا ولافتا.
وما دمنا معنيين بالعالم التجريبي، فإن العلوم التجريبية تتكامل معا من أجل تفسير الظواهر التجريبية. لنفترض مثلا أن شابا قرر الانتحار، فألقى بنفسه من النافذة ليهوي مسلما الروح، هذه ظاهرة نريد من العلم تفسيرها. تتقدم العلوم الفيزيائية لتفسيرها بحساب معاملات السقوط من حيث الارتفاع والكتلة والجاذبية والاصطدام أو الارتطام بالأرض، قوانين الفيزياء تسري وتساهم لكنها لا تكفي لتفسير الظاهرة. لا بد أن تتدخل العلوم البيولوجية لدراسة أثر الارتطام على الجسد الحي، والصدمة العصبية والكسور والنزف وما إليه ... تتكامل مع القوانين الفيزيائية ولكن هذا أيضا لا يكفي تماما لتفسير الظاهرة، ولا بد أن تتدخل العلوم الاجتماعية ليفسر لنا علم النفس سبب انهيار الشاب، والاكتئاب الذي يصل به إلى حد قرار الانتحار، ويفسر لنا علم الاجتماع ظروف البيئة الاجتماعية التي تفرز شخصيات منهارة على هذا النحو، ويتدخل علم الاقتصاد ليبحث عن عوامل لنشأة هذه البيئات المحبطة، وبهذا التكامل بين العلوم المختلفة، نخرج بتفسير أوفى نسبيا للظاهرة المطروحة للبحث.
إن العلوم التجريبية تتآزر لتفسير ظواهر هذا العالم، بأكمل وأجمل معاني التآزر. •••
نسق العالم على النحو المذكور عاليه والمرسوم تخطيط له، يرتكز على ثوابت بنيوية في كل متكامل، وتجدر الإشارة إلى أنه قد أسهمت فيه النظرة الوضعية، وأسهم هو أيضا فيها وفي ترسيخها. النظرة الوضعية تعني الاقتصار على ما هو موضوع في هذا العالم المادي، والبحث عن علاقاته السببية وارتباطاته الكمية. مصطلح الوضعية
كمعبر عن النظرة العلمية التجريبية، وعن عصر العلم التجريبي الذي يلغي ما عداه من عصور الجهالة، إنما يرتبط باسم الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت
A. Comte (1796-1857م) مؤسس علم الاجتماع. وفي القرن العشرين تسلح المنظور الوضعي بالمنطق الرياضي النامي حديثا، وظهرت في جامعة فيينا في أعقاب الحرب العالمية الأولى فلسفة الوضعية المنطقية، التي كانت أشهر مدارس فلسفة العلم وأعلاها صوتا، وأيضا الأكثر تطرفا في النظرة التجريبية، نبذت كل ما لا ينتمي إلى العلم ومنهجه؛ أي كل ما يخرج عن إطار نسق العلم المرسوم أعلاه، بوصفه تعبيرات انفعالية لا معرفية، أو هراء يخلو من المعنى فضلا عن الجدوى. ظلت الوضعية المنطقية طويلا، حتى أواسط القرن العشرين وكأنها المتحدثة الرسمية باسم العلم، وبلغ الأمر معها ذروته بفكرة العلم الواحد الموحد
unified science ، الذي يعني رد كل العلوم إلى الفيزياء، ومعالجة سائر الظواهر حتى الظواهر النفسية والاجتماعية في حدود ومصطلحات ولغة علم الفيزياء.
تعود أصول فكرة العلم الموحد إلى الموسوعيين الفرنسيين في القرن الثامن عشر، وهم كوكبة من أقطار الفكر الفرنسي من التنويريين، وأدباء وفلاسفة وعلماء، التفوا حول التنويري الرائد دينس ديدرو
D. Diderot (1713-1784م) من أجل وضع موسوعة عامة للعلوم والفنون والصنائع، تضاهي الموسوعة الإنجليزية التي لاقت رواجا تجاريا كبيرا، وتقف على آخر تقدم للعلوم في العصر، أرادوا أن تحمل موسوعتهم مشروع علم موحد مجاله الطبيعة، وانهالت مقدمتها بنقد ضار للميتافيزيقا والدين ومحاولة إثبات عمقهما، كتأسيس للواحدية المادية والمشروع الوضعي. على العموم بلغ مشروع العلم الموحد أوج نضجه في صورته المنطقية المؤمثلة، مع قطب الوضعية المنطقية رودلف كارناب
صفحه نامشخص