منهج العلم التجريبي منهج تقدمي من حيث هو حامل لمنطق اختبار وتصحيح ذاتي. ويرتهن التقدم العلمي بحدوسات جريئة تمثل قفزات ثورية، تعقبها أفكار تصحح أفكارا. روح العلم ومنهجه هي تصحيح المعرفة وتوسيع نطاقها، إنه منطق التصحيح الذاتي. «هذا الأفق من الأفكار المصححة هو ما يميز الفكر العلمي.»
3
وهذا يعني أن الفكر العلمي فكر قلق، فكر يترقب الشيء، يبحث عن فرص جدلية ليخرج من ذاته، وليكسر أطره الخاصة، إنه الفكر الذي يسير على درب الموضوعية.
4
ومثل هذا هو الفكر المبدع، ألم نصادر على أن المنهج العلمي تقدمية من حيث هو إبداع وروح نقدية؟
فينتهي جاستون باشلار إلى أن المنهج العلمي يتنكر دائما لما ينجزه، من حيث دأبه على اختباره ونقده وتصويبه وتنقيحه. العلم لا يخرج من الجهل لأن الجهل ليس له بنية، العلم يخرج من التصحيحات المستمرة للبناء المعرفي السابق. هذا التصحيح الذاتي هو الذي يكفل لتواتر محاولات العلماء الإبداعية وتوالي بحوثهم المنهجية ... يكفل لها التقدم المستمر، من حيث يفتح أمامها آفاقا أوسع، فيمثل البحث العلمي دائما التجاوز النشط المسئول للماضي، فالمبدع الخلاق للحاضر. ولا تعود اللحظة تكرارا كميا للتاريخ، بل هي عمل دءوب وإنجاز، فيؤكد الإبداع العلمي - بتعبير باشلار - حدس «اللحظة» التي تمثل حقيقة الزمان، من حيث إنها الكائنة، وبين غير الكائنين: الماضي والمستقبل. وتغدو الشجاعة والمسئولية العلمية في المحافظة على لحظة المعرفة نشيطة حية، وأن نجعل منها منبعا متدفقا نحو معرفة، تكون دائما أفضل وأوضح وأجدر وأقدر ... أكثر تقدما.
ويظل العلم إبداعا إنسانيا، وكل شيء في عالم الإنسان متغير ومتطور، فلا يعود نسق العلم بناء مشيدا، أو كشفا عن حقائق مطلقة، بل هو نسق من فروض ناجحة، كل يوم فروض أنجح من سابقتها، أجدر وأقدر على الوصف والتفسير والتنبؤ والسيطرة، كل يوم جديد يتلافى أخطاء وقصورات القديم، فيلغيه أو على الأقل يستوعبه ويتجاوزه، ويقطع في طريق التقدم خطوة أبعد منه، في صيرورة ... تغير مستمر نحو الأقرب من الصدق، الأفضل والأقدر؛ إنه تقدم ذو طابع ثوري متقد.
العلم ممارسة إنسانية وفعالية حية نامية ومتطورة دائما، التقدم مفطور في صلبه، لم يعد العلم الآن هو البحث عن السبب أو العلة، بل عن التفسير، حساب الاحتمال هو لغته الدقيقة، ولا يقين في العلم التجريبي البتة، إنه بحث عن سنن الكون، ولكنه بحث إنساني لا يملك أبدا حق الزعم، بأنه أمسك عليها بجمع اليدين واطلع على سرها المكين، بل فقط يحاول أن يقترب من حقيقتها، منتقلا من محاولة إلى محاولة أنجح ... حتى تقوم الساعة. لن يتوقف البحث العلمي مهما أنجز من نجاح، ومهما قدم من إجابات ناجعة على الأسئلة المطروحة، كل إجابة يطرحها العلم تطرح تساؤلات أبعد، فيؤدي كل تقدم إلى تقدم يليه.
ومهما أنجز العلم من تقدم، فسوف يظل هذا الإنجاز يحمل في صلب ذاته إمكانية التقدم الأبعد، فلا ركون ولا سكون البتة. كل إجابة تكون مثمرة بقدر ما تطرح أسئلة أبعد، وكل نظرية تكون ناجحة بقدر ما تفتح الطريق لنظريات أخرى أكفأ وأقدر، ولن يتحول العلم التجريبي لنشاط ترديدي أبدا، ولن تدعي أية نظرية علمية لنفسها الخلود، أو أنها أمسكت بالحقيقة وختمت البحث في ميدانها. كل نظرية علمية خاضعة للتعديل والتنقيح والإبدال، وأن يحل محلها الأكفأ والأقدر. تتطور النظريات العلمية في متوالية متصاعدة دوما، لا تتوقف أبدا. قد تحقق نظرية ما نجاحا يطبق الخافقين، ثم تذوي وتقبع في متاحف التاريخ؛ لأن الأفضل أو الأشمل أو الأدق قد حل محلها، والحكم على النظريات العلمية دائما نسبي، النظرية «ك» أفضل من «ق»، أدق من «ن» ...
من هنا لا يكون سر عظمة العلم في هذه النظرية أو تلك، بقدر ما تكون في القوة المثمرة الولود لكل هذا النجاح المتدفق المتتالي؛ أي المنهج العلمي الذي هو كما قال أستاذ الجيل الدكتور زكي نجيب محمود (1905-1994م):
صفحه نامشخص