القابلية للاختبار التجريبي والتكذيب كخاصة منطقية مميزة للقضية العلمية، تبرز لنا أيضا كيف يتميز المنهج العلمي بدور كبير للأمثلة النافية والوقائع المكذبة. إن مواجهتها والتصويب بهديها وجه من وجوه قصة التقدم العلمي المتواصلة دوما. المنهج العلمي ملتزم بالبحث عن وقائع مكذبة وأمثلة معارضة إن وجدت، مقابل أنماط التفكير الأخرى التي لا تبحث إلا عن الأمثلة المؤيدة والشواهد على صدقها، إن لم تلو عنق الوقائع لتكون شاهدة في كل حال.
مجمل القول، إن التجريبية هي القابلية للاختبار، هي القابلية للتكذيب ... والتقدم المستمر، هي استشهاد الواقع والالتزام بهذه الشهادة، هي الخاصة المنطقية المميزة للعلم التجريبي ومنهجه. إنها المسئولية إزاء الواقع والوقائع، التي تتجلى بوصفها جوهر التجريبية العلمية. ويمكن القول إن هذه المسئولية هي رسالة المنهج العلمي.
المنهج العلمي يستحث العزم على السير في طريق الإبداع واستغلال قوى الخيال المنطلق، ولكنه الإبداع المسئول وخيال تحاسب سبحاته حسابا دقيقا. المنهج العلمي إبداع ومسئولية، عقلانية تجريبية تتآزر فيها الملكات المعرفية، روح نقدية تقدمية تحمل بين شطآنها قيما منشودة من قبيل التخطيط والتفكير الملتزم، والتنافس لحل المشكلات في تعددية الرأي والرأي الآخر، ثم الالتجاء إلى محك الواقع المشترك بين الذوات أجمعين للفصل بين المتنافسين. والأهم من هذا كله البحث الدءوب عن الأخطاء والقصورات الكائنة في كل محاولة إنسانية، والمجال المفتوح دوما للمحاولة أو النظرية الأقدر والأجدر والتقدم الأعلى، وبالتالي الاحتمالية والنسبوية؛ فلا شيء مطلق أو يقيني. نعم هناك التزام ولكن ليس ثمة حقيقة نهائية، تتخذ مبررا لكبح انطلاق العقول والسيطرة، وفرض الوصاية على العقل.
هذه بعض ملامح ناضرة للمنهج العلمي، لاحت لتغري بمزيد من التعريف به والتعرف على عالمه. وطريق التعارف المترسم يقتضي أن نطرح الآن التساؤل: ما «المنهج» أصلا؟
الفصل الثاني
ما المنهج؟
(1) مفهوم «المنهج»: تعريف وتحليل
بادئ ذي بدء نلاحظ أن الدور الاستراتيجي لمفهوم «المنهج العلمي» خصوصا، تكمن من ورائه أهمية استراتيجية أكثر شيوعا لمفهوم «المنهج » عموما، وللمنهجية في كل فكر وفي كل فعل نظاميين. إن المنهج بشكل عام آية دقة، ومفهوم محوري ومرتكز أساسي في كل ما ينزع إلى الجدوى والجدية والانضباط.
وبإزاء هذا الرصيد الهائل، لا بد أن نصل إلى «المنهج العلمي» عبر تعريف مفهوم «المنهج» في حد ذاته، وتحليل دلالته وتطوراته ومتغيراته؛ لكي ننتقل من هذا انتقالا مشروعا إلى مفهوم «المنهج العلمي» تحديدا. إنها تحليلات أولية، تعمل على تمهيد الطريق وتحديد معالمه.
نبدأ بتحليل الدلالة اللغوية والاشتقاقية للفظة «منهج» من حيث الأصول في اللغة العربية والمقابل في اللغات الأوروبية، ثم ننتقل من «المنهج» كلفظة إلى «المنهج» كمصطلح.
صفحه نامشخص