اللتين اصطلح على ترجمتهما بالجميل والقبيح، فالفعل الجميل أو النبيل هو الذي يستحق الثناء، والشجاعة هي التي تقدم على ما يستحق الثناء وتتجنب ما يستحق الاحتقار، أو هي - بلغة أرسطو - التي تثبت جوهر الإنسان وهدفه الباطن، وتحقق في الفعل كماله وإمكانياته ، على الرغم مما قد يواجهه من مصاعب وعقبات. إنها تحتوي على الممكن، كما تنطوي في بعض الأحوال على التضحية الضرورية لبعض العناصر المتعلقة بوجود الإنسان من أجل تحقيق كماله الأخير، وقد تنطوي هذه التضحية على اللذة والسعادة، بل قد تصل إلى التضحية بالحياة نفسها، ولكنها خليقة بالثناء في كل الأحوال؛ لأن الجانب الجوهري من وجودنا يتفوق في فعل الشجاعة على الجانب الذي يقل عنه في الجوهر، وجمال الشجاعة وخيريتها تأتي من تحقق الجمال والخير فيها، ومن أجل ذلك كانت نبيلة.
ويتحقق الكمال عند أرسطو وأفلاطون على مستويات طبيعية وشخصية واجتماعية، كما يختلف مدى تحقق الشجاعة - كتأكيد للجانب الجوهري من وجود الإنسان - باختلاف هذه المستويات، ولما كان المحك الأكبر للشجاعة هو الاستعداد للإقدام على أكبر تضحية ممكنة، وهي التضحية بالحياة نفسها، وكان المفروض في الجندي بطبيعة مهنته أن يكون دائما على استعداد لهذه التضحية، فقد اعتبرت شجاعة الجندي مثلا أعلى للشجاعة،
1
وظل هذا المعنى الأرستقراطي والعسكري للشجاعة مرتبطا ببقاء الطبقة الأرستقراطية التي كان يحق لها وحدها أن تحمل السلاح، فلما انهارت التقاليد الأرستقراطية وفهمت الشجاعة على أنها المعرفة الكلية بما هو خير وشر، تداخلت الحكمة والشجاعة، وأصبحت الشجاعة الحقيقية شيئا متميزا عن شجاعة الجندي، هكذا كانت شجاعة سقراط في مواجهة الموت شجاعة عقلية ديموقراطية لا بطولية أرستقراطية.
وعادت الصفة الأرستقراطية للشجاعة إلى الحياة مع بداية العصور الوسطى، وأصبح الشجاع هو النبيل، والفارس هو الجندي الذي تتمثل فيه الشجاعة على الحرب والقتال. ولكن هذا الفهم لم يستمر طويلا؛ فسرعان ما دخلت الشجاعة بمعناها العسكري المرتبط بأخلاق الأرستقراطية والبطولة في بداية العصور الوسطى مع الشجاعة بمعناها المسيحي والإنساني المرتبط بأخلاق الديموقراطية والنزعة العقلية في أواخر ذلك العصر الوسيط، ولعل أوضح تعبير عن هذا الاتجاه هو مذهب القديس توماس الأكويني في الشجاعة، فهي عنده قوة العقل القادرة على الانتصار على كل ما يهدد تحقيق الخير الأسمى، إنها تتحد بالفطنة أو الحكمة ، وهي عنده الفضيلة التي تتحد فيها الفضائل الأربع الأساسية، وهي الذكاء والشجاعة والاعتدال والعدل. ويحلل توماس الأكويني هذه الفضائل ليخرج من هذا التحليل بأنها ليست جميعا في مستوى واحد من الأهمية، فالشجاعة حين تتحد بالحكمة تنطوي على فضيلة الاعتدال بالنسبة للإنسان نفسه كما تنطوي على فضيلة العدل بالنسبة للآخرين، فأي الفضيلتين إذن أشمل من الأخرى، الشجاعة أو الحكمة؟ الجواب على هذا يرتبط بنتيجة المناقشة المشهورة حول العقل والإرادة وأيهما له الصدارة في ماهية الوجود، كما يرتبط نتيجة لذلك بالشخصية الإنسانية نفسها، والمعروف أن المفكر اللاهوتي الكبير يقف إلى جانب العقل؛ ولذلك فهو يرتب الشجاعة بعد الحكمة في سلم الفضائل المسيحية الأربع، وبذلك تصبح لديه «قوة العقل» التي تجعل الخضوع لأوامر العقل الكلي أو لتعاليم الوحي أمرا ممكنا؛ ومن ثم كانت الشجاعة - التي يفضل دائما أن يسميها بالصلابة أو الصمود «فورتيتيدو» - فضيلة من بين فضائل أخرى، وكانت إشارته المستمرة إلى شجاعة الجندي مثلا واضحا على هذا المعنى المحدد للشجاعة، وهو في هذا متفق مع اتجاهه العام في الجمع بين البناء الأرستقراطي للمجتمع الوسيط وبين العناصر الكلية الشاملة في التفكير المسيحي والإنساني. مهما يكن من شيء، فإن الشجاعة الكاملة في رأي القديس توماس هدية يهبها الروح الإلهي؛ فالقوة الطبيعية للعقل ترتفع عن طريق الروح القدس إلى الكمال الذي يتجاوز الطبيعة، وهذا يعني أن الشجاعة تتصل بالإيمان والأمل والمحبة، وهي فضائل أساسية في المسيحية. بهذا نلاحظ شيئا من التطور في مفهوم الشجاعة، بحيث يدخل جانبها الوجودي (الأنطولوجي) في الإيمان والأمل، بينما يدخل جانبها الأخلاقي في المحبة، وهي مبدأ كل أخلاق دينية. ولم يكن القديس توماس في الحقيقة هو أول من أدخل الشجاعة في حظيرة الإيمان؛ فقد سبقه القديس «أمبروز» إلى هذا حين قال عن الصمود إنه «أسمى من سائر الفضائل»؛ فالشجاعة عندهما تنصت إلى صوت العقل، وتنفذ ما تقول به الحكمة والذكاء. ولولا قوة الروح وصمودها في مواجهة الخطر وإصرارها على تحقيق النصر لما كانت شهادة ولا شهداء، ومن هنا كانت الشجاعة هي سبيل المؤمن إلى العزاء والصبر، ولا سبيل إلى تمييزها عن الأمل والإيمان. •••
من هذا العرض السريع يتبين لنا أن كل محاولة لتعريف الشجاعة لا بد أن تسير في طريق من اثنين: فإما أن نعتبرها فضيلة من بين فضائل عديدة، وندخلها في فضائل أخرى أشمل منها كالأمل أو الإيمان، أو تحتفظ بمعناها الأوسع وتفسر الفضائل الأخرى عن طريقها، وفي الحالتين يتداخل المعنى الأخلاقي مع المعنى الوجودي بحيث يصبح من العسير الفصل بينهما، ولعل الشجاعة بمعناها الأخلاقي والوجودي الشامل لم تصل إلى ذروتها في يوم من الأيام كما وصلت إليها في أواخر العالم القديم وأوائل العصر الحديث على يد نفر من الحكماء الذين لا نملك إلا الإعجاب المتجدد بهم على الرغم من اختلاف رأينا فيهم، وأقصد بهم الرواقيين والرواقيين المحدثين، فكلاهما يمثل مدرسة من المدارس الفلسفية الكثيرة التي حفل بها العالم القديم، وكلاهما يزيد على هذا المعنى المدرسي المحدود بكثير؛ فيندر أن نجد مدرسة فلسفية اجتمع فيها كل هذا العدد من الشخصيات النبيلة التي وحدت بين الفكر والسلوك، واستطاعت أن تجد الجواب العملي على كثير من مسائل الوجود التي كان غيرهم لا يسأم من الجدل العقلي فيها، وأن تقهر الخوف من القدر وتتغلب على الفزع من الموت؛ ولذلك فهي تعد فرقة دينية بالمعنى الواسع لهذه الكلمة، سواء ظهرت في صورة مؤمنة أو ملحدة، وسواء تحدث باسمها إمبراطور عظيم أو فيلسوف مسكين.
كانت الصفة الأساسية للمفكر الرواقي الواسع الثقافة البالغ الفردية، هي الشجاعة في مواجهة القدر واحتمال الموت، ولكن هذه الشجاعة الزاهدة المتكبرة لم تكن من اختراع الفلاسفة الرواقيين، لقد عبروا عنها تعبيرا عقليا. أما جذورها فترجع إلى الأساطير القديمة وحكايات الأبطال وكلمات الحكماء والشعراء وكتاب المسرح القدامى، وقرون من التفلسف سبقت ظهور المدرسة الرواقية، ولعل حادثة واحدة هي التي أضفت على الشجاعة الرواقية قوتها الباقية، وهذه الحادثة هي موت سقراط؛ فقد كان موته بالنسبة للعالم القديم كله حقيقة ورمزا، كشف عن أصالة الموقف الإنساني في مواجهة القدر والموت، وعبر عن شجاعة استطاعت أن تؤكد الحياة؛ لأنها استطاعت أن تواجه الموت. لقد تغير معنى الشجاعة القديم بموت سقراط؛ فلم تعد شجاعة البطولة كما كانت في الماضي، بل أصبحت شجاعة العقل والحكمة، واكتسبت معنى ديموقراطيا يختلف عن معناها الأرستقراطي المرتبط بالفروسية والجندية؛ ولذلك استطاع الناس على اختلاف طبقاتهم أن يستمدوا منها العزاء الفلسفي الذي أعانهم على مواجهة كثير من الكوارث والتقلبات في العالم القديم.
عبر سنيكا الفيلسوف الروماني المشهور عن هذه الشجاعة في كتاباته خير تعبير، وبين كيف يرتبط الخوف من الموت بالخوف من الحياة، كما ترتبط الشجاعة على احتمال الموت بالشجاعة على تقبل الحياة، إنه يتحدث عن «أولئك الذين لا يريدون أن يعيشوا ولا يعرفون كيف يموتون»، كما يتحدث عن غريزة الموت
Libidp moriendo
حديثا يشبه ما يقوله عنها فرويد في الزمن الحديث، بل إنه يقترب من كثير مما يتكرر اليوم على ألسنتنا ويملأ صفحات جرائدنا وكتبنا حين يتكلم عن أناس يشعرون بأن الحياة سطحية وخالية من كل معنى، ويرى ذلك نتيجة للاعتقاد في مبدأ اللذة، والسخط الدائم على النفس التي لا تستطيع تحقيق دوافعها؛ مما يؤدي بالضرورة إلى السأم واليأس والاشمئزاز، ولكن سنيكا قد عرف - كما عرف فرويد - أن العجز عن إثبات الحياة لا يعني القدرة على إثبات الموت، وأن الخوف من القدر والفزع من الموت قد يتسلطان أيضا على الذين فقدوا إرادة الحياة، وإذا كنا نجد الرواقيين يثنون على الانتحار، بل ويوصون به في بعض الأحيان، فهم لا يتجهون بهذا الرأي لمن قهرتهم الحياة، بل لمن انتصروا عليها، بحيث أصبحت لديهم القدرة على الاختيار الحر بين الموت والحياة؛ ولذلك فإن الانتحار الذي يمليه الخوف والهروب لا شأن له بالشجاعة التي يؤكدونها؛ لأنها في معناها الوجودي هي شجاعة الوجود، إنها الشجاعة التي تقوم على التحكم في العقل، ولكنهم لا يريدون بالعقل تلك القوة القادرة على التفكير والجدل، بل يريدون به «اللوجوس»، أو البناء المعقول للواقع بوجه عام، وللعقل البشري بوجه خاص، فإذا لم تكن هناك صفة أخرى تتعلق بالإنسان بما هو إنسان غير العقل ، فإن العقل - كما يقول سنيكا - سيكون هو الخير الوحيد الذي يملكه، وسيساوي كل أنواع الخير الأخرى مجتمعة. معنى هذا أن العقل هو طبيعة الإنسان الحقة، وهو جوهره الذي يعد كل شيء عداه عرضا، ومعناه أيضا أن شجاعة الوجود هي شجاعة إثبات الطبيعة العاقلة لدى الإنسان تجاه كل ما هو عرضي فيه، ومن الواضح أن العقل هنا قريب مما نسميه اليوم بالشخصية، وأنه مركز كل القوى والملكات الذهنية والنفسية، وجزء من العقل الكلي الذي يشارك فيه الحكيم الرواقي بنصيب واف، يمكنه من تحمل الألم والارتفاع فوق الشهوات، ومواجهة القدر والموت؛ وإذن فشجاعة الوجود هي الشجاعة في إثبات طبيعتنا العاقلة، على الرغم من كل ما يتعارض معها أو يعوق اتحادها بالطبيعة العاقلة للوجود الكلي العام؛ ولذلك فهي تقهر الخوف من الموت بالصمود، وترتفع بالعقل والحكمة فوق الشهوة والرغبة، وتنتصر على الألم بالزهد والكبرياء.
صفحه نامشخص