وإذا كان كل تفكير أو سلوك ينفي نفسه بنفسه كلما تجاوز نقطة معينة فلا بد أن يكون هناك حد يلتزم به الناس كما تلتزم به الأشياء. ومن واجب الإنسان أن يبحث عن هذا الحد ويوجده؛ لأن من واجبه على الدوام أن يبحث عن التوازن بينه وبين العالم الذي يعيش فيه، ويعيش في توتر وصراع دائمين ليعثر على الوسط الملائم بين طرفين متباعدين، ولا بد أن يكون سبيله إلى ذلك هو الفكر «التقريبي» الذي ينصف الواقع ويقدر إمكاناته، ويحترم الممكن والنسبي فلا يحشره في قالب غريب عليه، ولا يفرض عليه مبدأ عدوا له.
إن كامي من القلائل الذين استطاعوا أن يقدروا خطورة الموقف الذي تمر به الإنسانية اليوم؛ لقد عرف مدى التطرف الذي وقع فيه الزمن الحديث في الفكر والسلوك، ووجد أن الوسيلة الوحيدة لمواجهة هذا الموقف الخطير هي إيجاد حد جديد يلتزم به الناس، ويتعلمون منه احترام الإنسانية في الإنسان، وهو لذلك جاد كل الجد حين يقول: «إما أن توجد قيمة الحد هذه بأية وسيلة، أو يجد التطرف الذي يتصف به زماننا قانونه وسلامه في الدمار الشامل الأخير.»
4 •••
التزام الحد والاعتدال ليس إذن رأيا ولا فكرة يقبلان الجدل والمناقشة، بل واجب ملح يلقي ثقله كله على أبناء هذا الجيل. وإذا كانت العصور السالفة قد عرفت أن في فضيلة التوسط أو احترام الحدود تكريما للإنسان وضمانا لسعادته وسلامه، فإن العصر الحاضر لا بد أن يدرك أن بقاءه أو زواله مرتبطان بمقاومة التهور والتطرف، والعودة إلى الحد والوسط. إن حقيقته وسط هذا العالم المضطرب مرهونة بقدرته على التزام التواضع والاعتدال، ولم يحدث في تاريخ الإنسان الطويل أن كان عليه أن يتعلم الرقص على حبل مشدود بين هاويتين يتربص به الخراب فيهما كما يحدث له اليوم: بين الطموح المغرور الذي يهيئ له أنه يمكن أن يتشبه بالآلهة ، والهوان المطلق الذي يجعل من البشر قطعانا صامتة تسير معصوبة العيون إلى المصير المجهول، عليه أن يتعلم من جديد أن الاعتدال هو ذروة الطبيعة الإنسانية، والجذر العظيم للعالم كما كان يقول أهل الصين القدماء، أعني أن يتعلم التواضع بمعناه الشامل الأصيل فيقول لنفسه اليوم قبل الغد: «أيها الإنسان لست إلها!»
عن الشجاعة
ماذا نقصد بقولنا: إن فلانا من الناس شجاع؟
قد نقصد بذلك أنه لا يهاب الخطر، ولا يتردد في قول الحق، ولا يحجم عن التضحية بحياته في سبيل قضية يعتقد أنها عادلة، ولكننا لا نلبث أن نجد أن هذه الكلمة تلتقي فيها مشكلات عديدة: أخلاقية واجتماعية ودينية وفلسفية، بحيث يندر أن نجد فكرة مثلها تكشف عن طبيعة الوجود الإنساني، بل تضرب بجذورها في أعماق الوجود نفسه.
ولو قلبنا في تاريخ المناقشات الفلسفية للشجاعة؛ لوجدنا ذلك واضحا في محاورة أفلاطون المبكرة «لاخيس»، فقد عاد المتحاورون لتوهم من حلبة الصراع، حيث شاهدوا عرضا لألعاب السلاح لبطل يكنون له الإعجاب، ويبدأ ليزيماخوس، الذي حضر مع صديقه ميليزوس ومعهما والداهما، في الكلام راجيا أن يسترشد برأي قائدين شهيرين هما: نكياس ولاخيس في أمر تربية الأبناء، وفي أفضل الوسائل التي تعلمهم الفضيلة وحسن السمعة، وهو يسألهما إن كان تعليم المبارزة والنزال من بين هذه الوسائل، ويتوجه الجميع بالسؤال إلى سقراط، الذي يتخلص كعادته من إبداء رأيه قبل سماع بقية الآراء. ويتحدث نيكياس عن فوائد تعلم السلاح في تربية الأبناء على الاستقامة والشجاعة في الحرب والسلام، ولكن لاخيس يعارض كلامه، ويقرر أن الممتازين في المبارزة بالسلاح ليسوا بالضرورة شجعانا في الحروب، وأن الجبان إذا تفوق في المبارزة اغتر بنفسه، وإذا أخطأ الشجاع فيها جلب على نفسه سخرية الناس. ويتطرق الحوار إلى الوسيلة التي يمكن أن تصل بها نفوس الشبان إلى الفضيلة، ثم إلى تعريف الفضيلة نفسها، غير أن هذه مهمة شاقة كما يقول سقراط؛ ولذلك فهو يقترح أن يكتفوا بالكلام عن جزء منها، وهو الشجاعة التي تهدف إليها ألعاب المبارزة والنزال.
وتبدأ سلسلة من التعريفات الأولية للشجاعة، تستبعد واحدا بعد الآخر؛ لقصورها عن الإحاطة بمضمونها في مختلف المواقف والميادين؛ فهناك الشجاعة في الحرب وفي السلم، وفي المرض والصحة، وفي مقاومة الألم والانتصار على الشهوة، بحيث لا يستطيع التعريف الواحد أن يدل عليها جميعا. ويتجه سقراط أخيرا إلى القائد الحربي نيكياس، الذي ينبغي أن يعلم ماهية الشجاعة خيرا من غيره، ويقول نيكياس، في ثقة تليق بأهل الحرب: إن الشجاعة هي العلم بما ينبغي أن يخشاه الإنسان وما يستطيع أن يتجاسر على الإقدام عليه، سواء في الحرب أو في غيرها من الأحوال، ولكن التعريف يلقى الاعتراض؛ فالشجاعة ليست علما ولا حكمة، وإلا كان الأطباء الذين يعرفون موضع الخطر شجعانا، وكذلك الشأن مع الزراع والصناع وسائر المتخصصين في فرع من فروع المعرفة أو العمل، ولا يقلل من هذا الاعتراض أن يقول نيكياس: إنه يقصد الشجاعة العاقلة الذكية، أما الإقدام عن جهل - كما نرى لدى الأطفال والحيوانات - فهو أقرب إلى الجسارة أو التهور أو الغباء، ويعود المتحاورون فيضيقون الخناق على القائد، حتى يرى بنفسه أن تعريفه غير جامع ولا مانع، وأن الموضوع أشمل وأوسع مما يزعم، فإذا كانت الشجاعة هي العلم بما يخشاه الإنسان وما يقدم عليه، وكان الخوف والإقدام مرتبطين بما يحدث في المستقبل من خير أو شر، فإن العلم ينبغي أن يشمل الحاضر والماضي والمستقبل؛ لأن العلم ينبغي أن يكون واحدا في جميع الأحوال، وأن يتسع لكل ألوان الخير والشر على السواء؛ وإذن فالشجاعة ليست جزءا من الفضيلة كما زعم نيكياس، بل لا بد أن تكون الفضيلة كل الفضيلة. ويختتم سقراط المحاورة بهذه العبارة اليائسة: «وإذن فقد فشلنا في أن نكتشف ماهية الشجاعة»، وبوعد منه أن يبحث عن الرأي السديد عند أصحاب الرأي، وأن يتعلم الفضيلة ممن يستطيع أن يعلمها له ولغيره.
هذا الفشل أو هذا الحيرة في تعريف الشجاعة أمر بالغ الأهمية في إطار التفكير عند سقراط؛ فسقراط - كما نعلم - يرى أن الفضيلة معرفة؛ ولذلك فمن الضروري أن يكون الجهل بحقيقة الشجاعة هو السبب في استحالة كل فعل يطابق هذه الحقيقة، وتعذر الوصول إلى تعريف كاف لها.
صفحه نامشخص