كيف نقاوم هذا التدمير الذي يتفشى كالوباء في كل مكان؟ كيف نستطيع أن نقول «لا» دون أن نفقد ذاتنا أو نضطر إلى الصمت الأخرس؟ كيف نحافظ على هذه القوة الأصيلة في الإنسان؛ قوة الاحتجاج وقول لا؟ كيف نصر على المقاومة وسط أمواج الدمار التي تلتف علينا، بغير أن نخاف من الخوف، وبغير أن نخدع أنفسنا ببطولة زائفة أو نعزيها بالانعزال التعيس؟ في أمواج الدمار نفسها ينبغي علينا أن نبحث عن قارب النجاة. وسط القوى المتصارعة يجب أن نقاوم. بين أصوات الزيف وصيحات الخادعين لا بد أن نصرخ قائلين: لا. هنا أيضا يجب أن نبحث عن كل من يصرخ مثلنا ويقول «لا»، سنجد بينهم كثيرين من المزيفين والدجالين ومن لا يعلنون السخط إلا لكي يتعرفوا على الساخطين، وليست الصعوبة في أن نجد المحتجين الحقيقيين بدلا من المحتجين المزيفين، بل هي في اكتشاف الحقيقيين بين صفوف المزيفين. وإن لم نفعل كذلك فنحن نخون أنفسنا، ونخون الوجود الحق الذي نقول باسمه «لا».
قول لا أمر صعب؛ لأنه احتجاج على تدمير ذات الإنسان، ولأنه يهدد قائله بالدمار. والخوف من الدمار - حتى ولو هرب الإنسان منه بتدمير نفسه بالموت أو الجنون أو الصمت - من أبشع ألوان الخوف في عصرنا الذي نعيش فيه. •••
لنضرب مثلين على الوقوف في وجه الموت، وعلى مقاومة العنف والوحشية.
أما أحدهما فنتعلمه من أب الشعراء هوميروس، وأما الآخر فمن شاعر حديث هو برتولت بريشت، فالقارئ يذكر من قراءته للأوذيسة كيف مكر أوديسيوس بالوحش الخرافي الرهيب «الكيكلوب»، وكيف استطاع أن يفقأ عينه الواحدة بعد أن ابتلع رفاقه الملاحين واحدا بعد الآخر أمام عينيه.
في الأنشودة التاسعة من الأوديسة يحدثنا البطل المغامر أوديسيوس كيف اتجه مع رفاقه الاثنى عشر إلى بلد الكيكلوب، هؤلاء العمالقة الجبارين، الذين لا يعرفون شريعة أو قانونا، ولا يزرعون بأيديهم ولا يحرثون، بل ينمو كل شيء في أرضهم، اعتمادا على الآلهة الخالدين. اقترب هو ورفاقه من الجزيرة التي يسكنها العمالقة، ورأوا من بعيد كهفا يشرف على البحر، تظله أشجار الغار، «هناك اعتاد هذا العملاق الوحشي أن يقضي الليل ويرعى الحيوانات بعيدا لا يختلط بغيره، بل يعيش في عزلته ويتفكر فيما يخالف القانون، فلقد خلق كما تخلق الأعجوبة الخارقة، لا يشبه رجلا يأكل الخبز، بل قمة صخرية كثيفة الشجر على جبل مرتفع، تبدو واضحة للعين، بعيدة عن غيرها من القمم.»
حمل أوديسيوس معه قربة نبيذ أحمر، وسلة مملوءة بالطعام، استعدادا لمواجهة رجل شديد البأس، لا يعرف شريعة ولا يخضع لقانون. ودخل هو ورفاقه إلى الكهف، فأكلوا وأشعلوا نارا وقدموا ضحية، وجلسوا ينتظرونه، ودخل العملاق أخيرا، يحمل حملا ثقيلا من الخشب ليسوي عشاءه، ودفع ماشيته في الكهف، ثم رفع صخرة هائلة سد بها الباب، وبعد أن حلب الماشية وفرغ من شئونه؛ أشعل نارا ولمح الغرباء على ضوئها فسألهم في صوت «تكسر له القلب الحبيب»: «أيها الغرباء، من أنتم؟ ومن أين أتيتم سيرا على الدروب الرطبة؟ هل جئتم في مهمة؟ أم تجوبون البحار المالحة كالقراصنة الذين يتجولون هنا وهناك ويخاطرون بحياتهم حين يجلبون الأذى على غيرهم؟» ويجيبه أوديسيوس فيروي عليه أنباء رحلته من طروادة وكيف ضل الطريق إلى الوطن، ويطلب منه أن يحميه ورفاقه وأن يخشى الآلهة فيكرمهم. لكن العملاق يسخر من سذاجته؛ إذ كيف يدعوه إلى خشية الآلهة والعمالقة لا يكترثون بزيوس ولا بغيره؟ وقفز العملاق ومد يده إلى الرفاق فتناول اثنين منهم قذف بهما على الأرض كالكلاب الصغيرة، ثم أعدهما لوجبة العشاء وأكلهما - كالأسد الذي يتغذى في الجبال - فلم يبق منهما لحما ولا عظما، وبعد أن فرغ من الطعام وشرب اللبن تمدد على الأرض ونام.
خطر لأوديسيوس أن يطعنه في صدره، ولكنه تذكر أنه لن يستطيع هو ورفاقه وحدهم أن يزحزحوا الصخرة الهائلة التي سد بها الكيكلوب باب الكهف، ولم يبق أمامهم إلا أن ينتظروا الفجر الإلهي وهم يتنهدون.
ولم تكد تشرق أيوس ذات الأصابع الوردية، حتى أشعل نارا وبدأ يحلب ماشيته، ثم أمسك باثنين من الرفاق وفعل بهما ما فعله بصاحبيهما! وراح أوديسيوس يفكر في وسيلة تكتب المجد لراعيته أثينا وتجعل الكيكلوب يكفر عن ذنوبه، ورأى عصا خشنة تركها العملاق وراءه، خضراء من خشب الزيتون، قدرها هو ورفاقه في ارتفاع سارية سفينة سوداء ذات عشرين مجدافا، عريضة تحمل البضائع وتعبر الأعماق العظيمة، وأمر أوديسيوس رفاقه أن يشذبوها، ثم سن طرفها الأعلى ووضعها في النار حتى حميت ، ثم أخفاها تحت أكوام التبن، وحين عاد العملاق في المساء وفعل ما فعله من قبل، تقدم منه أوديسيوس وفي يده وعاء مملوء بالنبيذ الأسود وطلب منه أن يشربه، وأفرغ الوحش الشراب العذب في جوفه، وطلب أن يسقيه مرة أخرى وأن يقول له اسمه على الفور، حتى يقدم له هدية تفرح بها نفسه، وبعد أن شرب ثلاث مرات، وبدأت الخمر تعبث برأسه، قال له أوديسيوس: أيها الكيكلوب! تسألني عن اسمي المشهور، حسنا! سأقوله لك! أما أنت فأعطني هدية الضيافة كما وعدتني! اسمي هو «لا أحد»، وأبي وأمي وكل رفاقي يدعونني «لا أحد!» ووعده الكيكلوب أن يقدم له الهدية، أما هذه الهدية فهي أن يكون آخر من يأكلهم من الرفاق!
وقهر النوم ذلك القهار فتمدد على الأرض فاقد الوعي، وراح يلفظ النبيذ ولحم البشر من فمه، وأخرج أوديسيوس الساري الجبار من تحت الرماد فحماه في النار حتى أصبح شواظا ملتهبا، وأخذ يشجع رفاقه حتى حملوه، وأوديسيوس متعلق بطرفه، وراحوا يغرزونه في عين الكيكلوب التي اندفع منها الدم الساخن، وأزت كما تئز فأس ملتهبة يضعها الحداد في الماء البارد؛ زعق الوحش وزأر، واهتز الصخر لصوته، وراح ينادي على زملائه الساكنين في الكهوف المجاورة، فتجمعوا على باب الكهف وأخذوا يسألونه إن كان أحد من الفانين قد اغتصب خرافه؛ إذ لا يصدق أن يكون أحد منهم قد اعتدى عليه بالقوة أو بالخديعة. ورد عليهم ذو الأسماء المشهورة: «يا أصدقائي! «لا أحد» هو الذي اعتدى علي بالحيلة لا بالقوة! فأجابوه: إن كان لا أحد قد اعتدى عليك وكنت وحدك، فإن مرضا أصابك به زيوس ولا سبيل إلى الشفاء منه، صل إذن لإلهك بوزيدون (إله البحار).»
هكذا تكلموا ثم انصرفوا إلى حالهم، أما أدويسيوس فقد ضحك «قلبه الحبيب من اسمه الذي خدعهم، ومن الخاطر الذي لا يلام.» جلس الكيكلوب على باب الكهف، وفكر أوديسيوس في حيلة أخرى تنجيه ورفاقه من الموت، فربط كل ثلاثة من الخراف السمينة بأكياس تعود الوحش أن ينام عليها، كما ربط رجلا تحت كل واحد يتوسطها، ودفن نفسه في صوف جدي وثير، وهكذا أخرج الكيكلوب الأغنام لترعى فأفلت المغامر الماكر من بطش ذلك الجبار! واستطاع الضعيف العاجز أن يصيب العملاق «ذا الأسماء المشهورة» بالعمى بعد أن قهره بالخمر والمكر!
صفحه نامشخص