قدرة الإنسان على الاندهاش هي قدرته على الاحتفاظ ببراءته وحريته، إنها قدرته على البقاء إنسانا، طالما بقي في استطاعته أن يسأل من هو الإنسان؟ إن دهشته نابعة من علمه بتناهيه، من إحساسه بوجوده المحدود، الإله لا يندهش؛ لأنه يعرف كل شيء ويحيط بكل شيء، والحيوان لا يندهش، فليس في حاجة إلى الدهشة؛ لأن الشوق إلى المعرفة الحقة لا يقلقه. تقول ديوتيما في محاورة «المأدبة» موجهة حديثها إلى سقراط: «ما من أحد من الفلاسفة يتفلسف، والحمقى كذلك لا يتفلسفون؛ ذلك لأن ما يفسد في الحمق أن يتوهم الإنسان أنه مستغن بنفسه.» ويمضي سقراط قائلا: «سألتها من هم الفلاسفة إذن يا ديوتيما، إن لم يكونوا هم الحكماء ولا الجهلاء؟» عندئذ أجابت قائلة: «إن هذا لأمر واضح حتى للطفل، إنهم أولئك الذين يشغلون من الفئتين مكان الوسط»، هذا الوسط هو الذي يميز الإنسان، إنه الكائن الوحيد الذي يملك أن يندهش، فلا هو يستطيع أن يعرف كل شيء، ولا هو بقادر على ألا يعرف أي شيء، إنه الموجود الذي يقف بين هوتين، والمتناهي الذي يجد نفسه بين لا متناهيين، بين العدم من ناحية والمطلق من ناحية أخرى (كما تقول عبارة باسكال المشهورة)، الإنسان هو الكائن الوحيد الذي تنطبق عليه «ليس بعد»، إنه لا يستطيع أن يمتلك الحكمة ولا يستطيع أن يكف عن السعي في طلبها: «نحن لسنا شيئا، نحن نأمل أن نكون» (باسكال). الإنسان وحده هو الذي كتب عليه أن يحس بفنائه وفناء من حوله، فيعجب لكل ما يراه، ويكون أول ما يبدأ به هو العجب من نفسه، هذا العجب الدائم سيحتم عليه أن يعيش في خطر دائم، ويبحر من جزيرة الاطمئنان إلى غير رجعة، فمع كل سؤال يولد خطر جديد، وليست الفلسفة إلا سؤالا متصلا. وقدرة الإنسان على السؤال - بمعناه التأملي النظري المجرد من كل هدف كما قدمنا - هي قدرته على الدهشة، هذه الدهشة هي ضمان إنسانيته، وهي ضمان حريته (إن العبد لا يندهش ولا يسأل؛ لأنه إن فعل لم يعد عبدا؛ ذلك أن كل شيء بالنسبة إليه واضح وطبيعي، كل شيء كما كان وكل شيء كما ينبغي أن يكون).
فلنتعلم كيف نندهش (من علامات الزمن التعيس أن يضطر الإنسان إلى تعلم ما لا سبيل إلى تعلمه)، لنحاول أن نعيش لحظة واحدة ما يعيشه الفيلسوف والشاعر طول حياته، أن ننظر إلى الموجود - وليكن زهرة أو حجرا أو وجه إنسان - كما لو كنا نراه لأول مرة، وإلى الوجود كما وقعت عليه عينا آدم حين فتحهما أول مرة، لنذكر دائما أن أدهش المدهشات ألا يندهش الإنسان، وإذا كنا لا نستطيع أن نقضي حياتنا في دهشة دائمة (من ذا الذي بلغ به الظلم والجنون أن يطلب ذلك من إنسان العصر الحديث؟) أعني في هزة دائمة، تزلزل كياننا كله، فإن كل إنسان في حاجة إلى أن يهتز، ولو مرة واحدة في حياته، من أعمق أعماقه، في حاجة إلى أن يسأل السؤال الخالد الأليم: لم كان وجود ولم يكن بالأولى عدم؟
لا
عن صعوبة الاحتجاج وضرورته في القرن العشرين
هل هناك أسهل من قول «لا»؟
كلمة صغيرة، نقولها حين نصبح وحين نمسي، وقد نوفر على أنفسنا مشقة النطق بها، فنكتفي بهز الرءوس.
حرفان صغيران، نسرع إليهما حين ننفي أو نرفض أو نحتج أو نرد على سؤال من يسأل فنؤكد له أننا لا نعرف، أو نقطع بعدم معرفته فنمهد للجواب الصحيح. «لا» و«نعم»، حرفان يقتسمان وجودنا وتدور حولهما حياتنا وتفكيرنا، في كل ما نقول ونفعل؛ لا بد لنا أن ننجذب لأحد هذين القطبين، أو ندور في إحدى هاتين الدائرتين.
حرفان لا يبدو أن هناك ما هو أيسر منهما، ننطق بهما مع كل سؤال وجواب، ومع ذلك فما أكثر ما يرتبط بهما من صعوبات!
لنقصر حديثنا على الحرف الذي وضعناه عنوانا لهذه السطور. «اللا» هي صيغة الاحتجاج، ففي عالم يعطي لنا من الصباح إلى المساء أكثر من مناسبة للاحتجاج، يصبح من حقنا أن نبحث عن طبيعة هذه الكلمة.
قد يبدو لأول وهلة أنه ليس هناك ما هو أيسر ولا أعم من قول «لا»، إنها تكاد تتردد على اللسان في كل ما نقول وما لا نقول، حتى يخيل إلينا أنها فارغة من كل مضمون. إنها تستطيع أن تخالف كل شيء وتوافق على كل شيء، وتستطيع بنفس القوة أن تنفي وتثبت، وتعارض وتؤكد.
صفحه نامشخص