6
وأنهم يتبعون منشدي الشعب، ويجعلون من الرعاع معلمين لهم؛ لأنهم لا يدرون أن الكثيرين أشرار، وأن القليلين طيبون. ويغالي في هجومه فيصف فيثاغورس وأصحابه بالنصابين والغشاشين، ولا يعترف لأحد من السابقين بفضل المعلم، بل يقول في كبرياء واعتزاز بالنفس: «أنا الذي قمت بالبحث في نفسي.»
7
وفي هذه الكلمة الأخيرة نغمة لم تسمع من قبل في فجر الفلسفة، ف «الأنا» تعلن لأول مرة عن نفسها وتطالب بحقها، ويتكشف أفق جديد لم يعرفه الإنسان من قبل: هو أفق الذات، فها هي ذي عميقة عمق الهاوية، لا يستطيع غواص أن يصل إلى قرارها، متسعة الأرجاء، لا يملك أحد أن يلمس حدودها: «لن تستطيع خطاك أن تعثر على حدود النفس، ولو سرت في كل طريق، عميق هو معناها «لوجوس» شديد العمق.»
8
وفي هذه العبارة يبدأ علم النفس ويصل أيضا إلى أبعد غاياته، فلا نكاد نعرف شيئا قيل عن النفس الإنسانية أشمل أو أصدق من هذه العبارة، إنها تحملنا على تصديق ما يروى عن رأي سقراط في هيراقليطس؛ فقد قيل: إن الشاعر المسرحي يوريبيدز قدم إليه مؤلف هيراقليطس وسأله عن رأيه فيه، فرد عليه سقراط قائلا: «إن ما فهمته منه شيء رائع، أما ما لم أفهمه فإنني أومن بصحته، غير أنه يحتاج إلى غواص من ديلوس!»
9
ولقد حاول الغواصون على مر العصور أن يخوضوا في بحره المظلم، ويصطادوا اللؤلؤ والنضار من لغته الزاخرة بالصور والرموز والأسرار، رأى فيه هيجل الأب الحقيقي لمذهبه في «الروح المطلق» الذي تتلاقى فيه الأضداد فتستريح، ويتعانق عنده الفكر والوجود بعد طول فراق، وترسو عليه سفينة المصير بعد رحلة الصراع والضياع، وأحبه نيتشه حتى كاد أن يكون هيراقليطس ثانيا يحيا في العصر الحديث حياته ويتعذب عذابه، ويواجه العالم كله بتحديه وتمرده وانفراده، وفتنت هيدجر منه دعوته الجريئة إلى الاستماع إلى صوت الوجود أو الحقيقة أو «اللوجوس»، فتحدث عنه حديث من يحاول الرجوع إلى المنبع الحقيقي الذي تدفقت منه الفلسفة في تاريخها الطويل، والتربة الأصيلة التي انقدحت فوقها شرارة التفكير الملهم في الوجود، قبل أن يتحول هذا التفكير الخالص على يد سقراط إلى بحث في الإنسان والأخلاق، ويصب على يد أفلاطون وأرسطو ومن تبعهما في قوالب العقل والمنطق والمذهب. فلنحاول اليوم معا أن نقف على شاطئ هذا البحر المعتم الزاخر ما دمنا عاجزين عن السباحة معهم فيه، ولنجرب القناعة بالصدف والمحار ما دمنا لا نملك الغوص فيه بحثا عن اللؤلؤ والنضار. •••
ها هو ذا هيراقليطس يبرز من بين الأمواج الأبدية وينادي: لست أرى إلا التحول والتغير، لا تخدعوا أنفسكم ولا تلوموا حقيقة الأشياء، بل لوموا قصر نظركم إن ظننتم أنكم تبصرون أرضا ثابتة في بحر الكون والفساد. أنتم تخلعون على الأشياء أسماء، وكأنما هي ستبقى إلى الأبد، ولكن النهر الذي تنزلون فيه للمرة الثانية ليس هو نفس النهر الذي نزلتم فيه أول مرة.
إنه ينظر إلى العالم بعين الفنان أو بعين الطفل،
صفحه نامشخص