ولكني ككاتب لا بد أن أراجع دوري الآن.
فلقد كنت أكتب في السبعينيات في فترة اتسمت بغياب - معظم الوقت - للمعارضة وللرأي الآخر السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، والآن ومنذ نهاية عام 81 ونحن في حقبة أخرى، هناك أحزاب معارضة، تعارض حتى رئيس الجمهورية في قراراته، وهناك صحف معارضة مقالاتها وكتابها السياسيون والثقافيون والعلميون أعلى صوتا من أعلى الأصوات التي تكتب الرأي الآخر فيما يسمى بالصحف القومية.
هناك إذن حياة حزبية شبه كاملة، ودور «قائم مقام» المعارضة أصبح على رأي لطفي السيد في معاهدة 36 «غير ذي موضوع» بعد أن قامت المعارضة القوية الشرعية، والتفكير السليم يدعو كلا منا لأن يعود إلى تخصصه واختصاصه، وأعظم ما أستطيع أن أفعله الآن أن أنتج قصة ومسرحية وفنا وفكرا - بالطبع غير منعزل عن الحياة العامة - بل بتعمقها، ويضيف بعدا وجدانيا إلى مقالاتنا وخطبنا وتصريحاتنا العقلانية. هذا أوان الكاتب والكتاب؛ فالضجة القائمة في صحافتنا عربية ومصرية شديدة العلو - ولا نرى طحنا - وشعبنا حاجته ماسة إلى إبداع فني حقيقي «يكنس» العناكب والعقارب والثعالب والفئران النرويجي التي تكالبت على ضمائر الناس تنهشها وتزلزل قيمها. إن الفن الحقيقي هو الدفاع عن الضمير المصري والعربي، وضمائرنا لم تكن في حاجة إلى دفاع عنها بقدر ما هي في حاجة إليه الآن.
وليس بالفن وحده ندافع عن ضمائرنا، ولكن بالكتابة الحقيقية الصادقة الصادرة عن تجرد كامل وعن غيرية كاملة، وليس كما هو حادث الآن مع كثير من أصحاب الأعمدة اليومية الثابتة التي أحالوها إلى قطاع خاص في أحيان كثيرة لأهداف خاصة جدا، والكتابة في الفاضي والمليان لا لهدف إلا لتثبيت ملكية «العمود وإثبات وضع اليد». لقد أطلعت وأطلع على الصحافة في العالم كله بطوله وعرضه وشرقه وغربه ولم أجد هذا النظام الغريب الذي تنفرد به الصحافة المصرية والعربية؛ نظام العمود الثابت لسبعة أو عشرة، أو أحيانا كتاب أكثر، يكتبون كل يوم ولا يقولون شيئا بالمرة، أو يقولون الشيء نفسه كل يوم، كل يوم، والغريب أن معظمهم لا يتمتعون بآراء قيمة وقدرة دائبة في البحث عن الحقيقة وثقافة عميقة تتيح لهم معرفة موسوعية، بحيث يعالجون الأشياء التي يكتبونها بعمق ومن خلال وجهة نظر جديدة ومبتكرة ومحددة، ولكنهم في مجموعهم يشكلون آراء شائعة لا جديد فيها ولا ابتكار، غالبا ما تكون قشرية أو أحيانا غوغائية، وفي أكثر الأحيان تميل إلى المحافظة وتملق الرأي الشائع أو المودة السارية، في حين أن كاتبا يستطيع أن يكتب رأيا يوميا لا بد أن يكون قائدا فكريا أكثر خطورة بكثير من مارلو أو سارتر أو الحكيم بوذا أو حتى - بموسوعيته - العقاد.
والنتيجة ضجيج غريب، تضيع فيه الأصوات المفكرة الدارسة وتفقد الكتابة الصحفية نفسها أهميتها وتصبح كالطنين على الأذن، أشياء تدعو للنعاس. •••
أغمضت عيني وقذفت بنفسي في آخر مدينة على غرب الدنيا، وفي نيتي أن أعتزل العالم ثلاثة أشهر كاملة، لعل ذرات الرمال الناعمة تذهب عن عيني، وتتضح الرؤية، والضجيج الذي يملأ آذاني ويسد مسام عقلي وتفكيري يكف؛ فأستطيع أن أسمع صوتي الداخلي وأتلمس نوع وطبيعة ما أريد حقيقة أن أقوله وأفعله.
ولكني كنت أحلم.
فمدينة الملائكة التي ذهبت إليها كانت تحفل بضجيج لم أكن أتصوره وبأصوات صاروخية هذه المرة لا تعيق السمع ولكن تصم الآذان فعلا، وكانت تجربة.
ويا لها من تجربة!
افصلوني - أرجوكم - معه!
صفحه نامشخص