بل الحقيقة تكاد تتضح لعيني الآن، إنه تحالف المتطرفين ضد أوروبا السوية، وكان طبيعيا جدا، وقد قفزت إلى قمة الوجود شخصية متطرفة أخرى، أمريكية هذه المرة، أن يحدث هذا التلاقي بين الثلاثة، ويصبح محور «أمريكا-ألمانيا-اليابان» أعتى معاقل الرأسمالية في كل تاريخها، على استعداد لمواجهة العالم كله.
ولقد استعملت التطرف هنا بهدف التخفيف؛ فالواقع أنه ليس تطرفا؛ فلقد ذكرت أن هذه الأنواع البشرية موجودة في حالة كونهم أصحاء عقليا، إذا تكاتفت الظروف واحتدت وبدأت الشخصية تمرض مرضها المقابل المحدد؛ فالشيزودية تصاب بالشيزوفرينيا أو مرض انفصام الشخصية، والبارانودية تصاب بجنون الفكرة النابتة وهكذا.
وبكل المقاييس العلمية إذا طبقناها فلا يمكن اعتبار الشخصية الشيزودية اليابانية والقهرية الألمانية شخصيات عادية، لقد تآمرت ظروف كل منهما الخاصة لتدفع بمؤشر التوازي كثيرا أو قليلا تجاه المرض، هناك شعوب أخرى تنضوي تحت بند الشخصية القهرية، وكذلك الشيزودية، ولكنها أبدا لا يمكن أن يبلغ بها الأمر هذا الحد غير العادي الذي وصلت إليه اليابان.
ظروف العزلة في اليابان، والإحساس أنهم الأقل قامة وشكلا وحضارة من آسيا والصين، ظروف ألمانيا التي مكنتها شخصيتها من أن تتفوق دائما وتحاول التسيد على القارة أو العالم، بحيث يتكتل الجميع، أكثر من مرة، ضدها ... بهذه الظروف كلها لم تعد الشخصية اليابانية مجرد شخصية شيزودية، ولا الألمانية مجرد نمط قهري، لقد نما الازدواج في اليابانية حتى بلغ مرحلة الإحساس الخطير بمركب النقص الذي يكاد يدفعها إلى الانتحار عملا وقوة طلبا للتفوق، وبلغ مرحلة الإحساس الخطير بمركب الكمال في ألمانيا النازية إلى حد الإيمان الأعمى بالنفس، والكفر الأعمى بالآخرين، إلى مرحلة المرض، والغريب أنه، وكلاهما على طرفي نقيض، هذا يريد الانتحار تفوقا أو التفوق انتحارا، وهذا يريد الانتحار كمالا، يلتقيان لقاء مروعا مخيفا، لقاء المرض بالنقص مع المرض بالكمال، لقاء الحساسية بالسيادة على الدنيا فعلا بأولئك المتطلعين إلى هذا الإحساس المعانين من مركب النقص.
لقاء دائما تترتب عليه أوخم العواقب، حتى الهزيمة العسكرية الساحقة لا تكفي لكسر المحرك المخيف المريض الذي يلهب كيان الشخصية كلها؛ فتكاد تصوم عن الحياة، وتعمى عن أي مما فيها إلا عن هدف إثبات التفوق أو فرضه فرضا، تهزم الدنيا عسكرية وتنزع من أياديهم المريضة لعبة السلاح التي كلفت عالمنا 40 مليونا من الضحايا، فيوافقون وهم يخفون الابتسامة في الأكمام. فإذا كنا انهزمنا في مباراة القوة فتعالوا لتلبس قوتنا ثوب التمدين وتتبارز رأسماليا وصناعيا، وينهار المتسابقون واحدا إثر الآخر، ولا يبقى في الساحة إلا ذوو الدوافع غير البشرية، غير السوية، غير العاقلة، للتفوق والإنتاج، أمريكا وألمانيا واليابان، بل حتى ليبدأ التسابق المخيف الآخر بين المرضى أنفسهم، تسابق أناني شرير هدفه انفراد الواحد منهم بسيادة البشرية جمعاء، ومع هذا، ولأن هناك معسكرا اشتراكيا آخر، بنظام آخر؛ فالرغبة في الانفراد لا تمنع تكاتف الجميع، والرأسمال الياباني نافذ على الألماني، والاثنان كتلة واحدة مع الأمريكي، السمة الرأسمالية واحدة، ولكن الضحية هي شعوب هذه البلاد، التي يصرعها ويجردها من إنسانيتها وينمي فيها الإثرة والأنانية والعداء للآخرين، هذه الآلة الرأسمالية الجهنمية وهي تعمل وبمعدل مخيف.
وبالعلم والعلماء قد اشتروهم تماما يسخرون لهم كل حقائق العلم الإنساني، كل آفاقه، كل انتصار على قوى الطبيعة، يسخرون لهم هذا كله ليغذي هذا الجوع المرض الشهواني لامتلاك العالم في قبضة يد وتحت تصرف ضغطة إصبع إصبعي، أحرك الدنيا بسبابتي أنا، حتى لو كانت الحركة إلى الجحيم.
ألا يكون من نعمة الله على بشره أن العالم ليس ساحة خالية يرقص فيها المجانين الثلاثة رقصة الحياة-الموت-الجنون، وأن هناك معسكرا آخر نشأ لكنه، إنسانيا جاء، وإنسانيا يعمل، الصين قادمة، وألمانيا الديمقراطية، تشيكوسلوفاكيا، يوغسلافيا، الاتحاد السوفييتي الثاني في الإنتاج ... الصناعة الإنسانية أيضا تمضي، تقف، تلاحق خطو المجانين، بيدها تأخذ بيد العالم الثالث، علمها غير أناني، اكتشافاتها لا يحتكرها بيت عريق في عدائه للإنسان، إنما هي ملك لنا ولهم وللدنيا لو أرادت.
ضاع الأمان.
في ألمانيا ...
فجأة أحسست أني في فيلم من أفلام الجاسوسية وجيمس بوند، فقدت الأمن، وأغرب الإجابات جاءتني حتى سألت الهرميشلر مدير الأكاديمية الإنجيلية (وهي شيء كالجامعة الأزهرية الدينية عندنا) لماذا دعاني ودعا وفدا مصريا ثقافيا لألمانيا؟ لم تأتني إجابة شافية واحدة، كل مرة كانت الإجابة مختلفة، هذه المرة قال: بصراحة أنا لا أفعل هذا حبا في مصر والعرب فقط، إني إنما أقوم به محافظة على اليهود أنفسهم، إني فيما أرى أنهم اعتمدوا على القوة فقط كي يفرضوا وجودهم؛ فالمحتم أن يصمد العرب، بالغريزة حتى إلى القوة، وقد يطول الزمن، ولكن النتيجة أن يهزم اليهود في النهاية ويؤدي فرض الوجود هكذا إلى استئصال الوجود، أنا إذن من أنصار التعايش والتفاهم مع العرب.
صفحه نامشخص