مدینه فاضله
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
ژانرها
وقد عهد سورلان بأمر الدفاع عن المحدثين إلى رجل أصغر منه سنا هو شارل برو.
15
وتاريخ المعركة بين الكتب بعد ذلك أشهر من أن يحتاج إلى تفصيل منا، ويمكن لمن يشاء أن يتتبع أدوارها في كتاب برو «المقارنة بين المحدثين والأقدمين» (1688-1696)، وفي كتاب فونتنيل «الأقدمون والمحدثون» (1688)، وبالإنجليزية في كتاب السير وليم تمبل «مقال في معارف الأقدمين والمحدثين» (1690) وكتاب وليم وتن «خواطر عن معارف الأقدمين والمحدثين» (1696)، وكتاب سويفت «حرب الكتب»،
16
ويكفي هنا أن نلاحظ أن أقدر المنتصرين للمحدثين وهو فونتنيل أقام دفاعه على النظرية الديكارتية في اطراد الطبيعة، فالسؤال: هل الأقدمون أفضل من المحدثين؟ يجاب عنه بالسؤال: هل كانت الأشجار في العصور القديمة أكبر مما هي في العصور الحديثة؟ فإن كانت أكبر إذن فلن يظهر سقراط آخر، وإن لم تكن فهناك احتمال لظهوره، والطبيعة لا تحابي عصرا دون عصر، وإذا حدث أن بعض العصور خلت فعلا من ظهور العظماء - ومثال هذا ما كان من انحطاط العصور التالية لغزوات القبائل المتبربرة في العصور القديمة - فإن ذلك يرجع لا إلى أن الطبيعة كانت أقل قوة في عصور الانحطاط، بل إلى علل طارئة غير مواتية، ومثل هذا الانحطاط ليس أمرا محتوما، وليس أمرا لا يمكن منع وقوعه، بل هو شيء عرضي ومؤقت، وهو عيب الزمن كفيل بإصلاحه، والزمن عنصر أساسي في موضوع الحكم بين الأقدمين والمحدثين، فهو فيما يرى فونتنيل في صف المحدثين (أو على حد التعبير الإنجليزي في صف الملائكة).
والتاريخ خير شاهد، فها هو ذا العالم الحديث يسترد بعد عصور خيم عليها الجهل والخرافات معارف العالم القديم، ويخرج من البربرية إلى الحضارة والنظام، وخليق به أن يبلغ مرتبة العالم القديم، بل أن يفوقه، وهنا أضاف فونتنيل لموضوع المناظرة أمرا لم يسبق إليه، ذلك أنه فرق بين العلم والفنون، وقال: إنه بالنسبة للشعر وسائر الفنون قد يبلغ المحدثون فيه وفيها شأو الأقدمين، ولكن لا يحق لهم في الغالب أن يتطلعوا إلى أن يفوقوهم، ويرجع ذلك إلى أن الشعر والفنون مبعثهما الشعور الوجداني والخيال، وأما بالنسبة للعلوم فهذه تعتمد على المعارف وعلى الاستدلال الصحيح؛ ولذا فإن الأحدث زمنا يفوق الأقدم منه، وهذا لسبب ظاهر هو أن من يجيء من بعد غيره يبني على ما جمعه من سبقه، وقال: «إننا مدينون للأقدمين لكونهم استنفدوا تقريبا تماما كل ما يمكن تكوينه من النظريات الخاطئة.»
وكان فونتنيل مسرفا بلا شك في ظنه أنه لم يعد بعد مجال لتكوين النظريات الخاطئة، وكان الإسراف في حسن الظن من خواص جيله، وإذا كانت تعليلات فونتنيل قد لقيت قبولا حسنا من معاصريه، فإن هذا لا يرجع لجودة استدلاله بقدر ما يرجع إلى كونها أرضت عصر لويس الرابع عشر في حسن ظنه بنفسه، ولم يكن الملك الكبير من الملوك المتساهلين في مسائل المقارنات والموازنات بين الملوك والعصور! وإذا كان رعاياه البروتستنت «الهيجونو»، قد أجرموا حينما اعتنقوا مذهبا دينيا غير مذهبه، فإن الأدباء يثبتون على أنفسهم ضيق الأفق إن هم توهموا أن أثينا تفوق فرساي حضارة، وقد أثر عن تالليران
17
قوله: إن من لم يعش قبل 1789 لم يدر حلو العيش من مره، وهو صادق في قوله هذا بشرط ألا ننسى أن العيش كان حلوا حقا للمجدودين وحدهم، فالواقع أنه فيما بين نهاية حكم لويس الرابع عشر والثورة، كان العيش حلوا، وخصوصا في تلك الأعوام الهادئة فيما قبل 1750 قبل أن تظهر بوادر العاصفة، وقبل أن يرى أحد الملوك ما يدعوه لإرسال النكتة على الطوفان المتوقع؛ وهكذا اقتضى حسن ظن ذلك العصر الراضي الباسم واعتداده بنفسه أن يرى نفسه مساويا لأي عصر عرفه التاريخ.
رحب العصر كما رأينا بآراء فونتنيل، كما أنه اعتبرها آخر ما يجب أن يقال في موضوع الماضي والحاضر والمستقبل، فقد حدد فونتنيل العلاقات بين هذه الثلاثة على الوجه الذي عده العصر وافيا بالغرض، فإن كان فونتنيل قد أقر بأن الأجيال المستقبلة ستفوق الأجيال الحاضرة بحكم أن نمو العلم وتطبيقه لن يقفا عند حد، فإنه لم يشأ أن يسير بملاحظته هذه إلى توابعها، بل وقف عند هذا، كأنه أومأ إلى المستقبل بالتحية ولم تطاوعه نفسه على التعبد له، وكان معاصروه عموما على شاكلته، لقد كفاهم جهدا أن نبذوا فكرة الفساد المحتوم، وأن أثبتوا أنهم ليسوا أحط قدرا من أي جيل، كفاهم هذا عناء، ولا لزوم لهموم المستقبل، وإذا كانت الفتنة قد نامت فلم نوقظها؟ (فلندع الكلاب النائمة تغط في نومها.)
صفحه نامشخص