مدینه فاضله عبر تاریخ
المدينة الفاضلة عبر التاريخ
ژانرها
إذا حدث أن وقع إنسان في القيد أو الأسر فإنه يفقد الحركة الخارجية التي تكفلها حريته، ولكن حريته الداخلية تظل كاملة لا تنتقص، كالحجر الذي لا يفقد ثقله عنما يقذف به إلى أعلى أو يلقى به في الهواء، لأنه سيظل محتفظا بوزنه وثقله ما دام سيسقط على الأرض بمجرد أن نتوقف عن منعه من السقوط، وبنفس الطريقة لا يعاني الإنسان من الأسر إلا لأنه مجبر على ذلك. وبمجرد أن يزول هذا الإجبار يظهر مرة أخرى على حقيقته ويعتبر أن الموت أكرم له من القهر. ولا يعني هذا أنه لا يفعل في كثير من الأحيان ما يريده منه الآخرون، وإنما يعني أنه لا يفعله لأن الآخرين يجبرونه على ذلك أو يأمرونه به. وإن كلمة الأمر بغيضة إلى نفسه، وهو يفعل ما يمليه عليه عقله، وعقله هو قانونه، وحاكمه، ودليله الوحيد. إن الذي يفرق بين البشر الحقيقيين وأنصاف البشر، هو أن كل أفكار النوع الأول ورغباته تبقى هي نفسها دون أي اختلاف لأنها موحدة بالكامل، ويكفي أن تشرح لأي فرد لكي يوافق عليها دون أي معارضة، وذلك ما يتبع العقلاء الطريق الصحيح عن طيب خاطر عندما يدلهم أحد عليه. ولأن أنصاف البشر لا يملكون إلا معرفة غامضة وأضواء ضعيفة، فلا مفر من أن يفكر أحدهم في شيء ويفكر الآخر في شيء مختلف، وأن يرغب شخص في أن يسلك طريقا معينا فيعارضه الآخر بشتى الاعتراضات. والسبب في هذا واضح، فالإنسان الذي لا يمكنه أن يرى رؤية صحيحة، لن يستطيع تجنب أخطار ارتكاب الأخطاء وأخذ شيء بدلا من شيء آخر.»
إن ديانة الأستراليين كما أشرنا من قبل هي في الواقع نفي لأي ديانة: «ولا يوجد عند الأستراليين موضوع أكثر إثارة وسرية من موضوع ديانتهم، فمجرد الحديث عنه، سواء عن طريق النقاش أو بأي شكل من أشكال التفسير، يعتبر جريمة شنيعة، وحتى الأمهات يوحين لأطفالهن مع المبادئ الأولى للمعرفة بما تعلمنه من بيوت التأمل (الهاب) عن الكائن الغامض الذي لا يسبر غوره.
ويعتقد الأستراليون أن الكائن الذي يستعصي على الفهم موجود في كل مكان، وهم يبجلونه ويكنون له كل التوقير والجلال، ولكنهم يحرصون على توصية الشباب بأن يعبدوه دائما دون أن يتكلموا عنه، كما أنهم مقتنعون بأن الحديث عن صفاته الكاملة يعد جريمة كبرى، الأمر الذي نستطيع معه أن نقول إن تدينهم العظيم يكمن في عدم الكلام عن الدين.»
ويستطرد العجوز مبينا أخطار المناقشات حول الدين فيقول: «لا يستطيع الناس أن يتكلموا عن شيء غير قابل للفهم بغير أن يتخذوا منه آراء مختلفة، بل إن هذه الآراء قد تصل إلى حد التناقض مع بعضها ... والأفضل أن نصمت صمتا ولا نخوض في هذا الأمر، على أن نعرض أنفسنا للتورط في آراء كثيرة مغلوطة عن طبيعة ذلك الكائن الذي يعلو علوا كبيرا على مداركنا. ولذلك فنحن نجتمع في (الهاب) لكي نمجد عظمته السامية، ونستعبد قوته المتعالية، ثم نترك لكل شخص حرية التفكير كما يشاء، بيد أننا أصدرنا قانونا قاطعا بتحريم الكلام عنه، خشية التورط في المزالق والأخطاء التي يمكن أن تسيء إليه.
والأستراليون شعب مسالم ولا يتقاتلون أبدا، ولكنهم يضطرون للدخول في حروب كبيرة للدفاع عن بلدهم ضد الغزاة من الأمم الأخرى. وهم يشنون هذه الحروب الدفاعية بكفاءة وقسوة رهيبة، ولا يتوقفون عن القتال حتى يقضوا على آخر جندي من العدو، وفي بعض الحالات يخربون بلد العدو عن آخره.»
وقد كان أحد هذه الحروب هو السبب في اضطرار جيمس سادير لمغادرة أستراليا، إذ اقترح عليهم فكرة سيئة الحظ، وهي أن من الأفضل أن يأسروا نساء العدو بدلا من قتلهن، وقد اعتبر اقتراحه هذا جريمة، وحكم عليه مجلس «الهاب» بالموت وقد كان من عاداتهم عند تنفيذ حكم بالإعدام أن يطلبوا من المحكوم عليه أن يأكل فاكهة معينة تضع نهاية لحياته بطريقة سريعة ومريحة، كما كانوا يسمحون له باختيار لحظة تنفيذ الحكم بالإعدام. وقد استفاد جيمس سادير من هذه الميزة، وعندما سألوه: «إن كان لديه شيء يقوله» أجاب كما يلي: «خطبت فيهم وأخبرتهم بأنني بدأت أنظر إلى نفسي كواحد توقفت حياته بالفعل، ولما كانت العادة في أمتنا قد جرت - حين يكون أحد أبنائها موشكا على الموت - على أن نعيش عيشة شديدة التحفظ، وكانت روحي لن تسمح لي بأن أكون نفس الشخص الذي كنته، كما أعلم أنني سأتوقف عن الحياة بعد وقت قصير، لذلك أود أن أشغل اللحظات المتبقية بالتفكير في فعل أخير قد ينفعهم أكثر بكثير من كل ما فعلت. وقد حظيت هذه المبررات برضا أعضاء المجلس فقرروا أن يتركوا لي إنهاء حياتي كما أشاء، وطلبوا مني أن أكف عن الكلام عن كلماتي أو أفعالي. ولما كنت قد أصبحت في عداد الموتى، فقد أطلقوا علي اسم النائب، واعتبروني مجرد شخص يحتضر وله الحرية في أن ينهي حياته بالطريقة التي يعتقد أنها مناسبة.»
وعلى الرغم من التعارض الواضح في الطباع بين الأستراليين وجيمس سادير، فقد أعجب إعجابا شديدا بالكمال الذي وصلوا إليه، وسنسمح له الآن بتعليق أخير عن أخلاقهم وعاداتهم التي تسمو على أخلاقنا وعاداتنا: «لم يسعني إلا الإعجاب بسلوكهم المخالف لسلوكنا المعيب إلى الحد الذي خجلت معه أن أتذكر كم نحن بعيدون عن الكمال الذي بلغه هؤلاء الناس. وسألت نفسي: أصحيح أننا جميعا بشر؟ وأضفت قائلا: إذا لم يكن الأمر كذلك، فما الفرق بين هؤلاء الناس وبيننا؟
لقد ارتفعوا في حياتهم العادية إلى ذروة الفضيلة التي لن نستطيع الوصول إليها إلا ببذل أقصى الجهود التي تقدر عليها أفكارنا النبيلة. وإن أفضل تعاليمنا الأخلاقية لعاجزة عن مجاراتهم في سلامة التفكير ودقة الفهم والانضباط والنظام الذي يمارسون بشكل طبيعي وبغير قواعد ولا تعليمات.
هذا الاتحاد الذي لا يغيره شيء وهذا البعد عن المصالح الدنيوية، وهذا النقاء الخالص، وباختصار، هذا التمسك بالعقل الصارم، الذي يوطد وحدتهم ويوجههم لما هو خير وعدل، لا يمكن أن يكون إلا ثمرة الفضيلة الكاملة التي يستحيل علينا أن نتصور شيئا أكمل منها، بل لا بد أن نسأل أنفسنا كم من الرذائل والنقائص لم نتركها نحن لكي تتحكم فينا؟ هذا العطش الذي لا يرتوي من الثورة، وهذه المنازعات المستمرة، والخيانات السوداء، والمجازر الوحشية، والمؤامرات الدموية التي يدبرها بعضنا لبعض بصفة مستمرة، ألا يحملنا هذا كله على الاعتراف بأن الانفعالات هي التي تتحكم فينا بدلا من العقل؟ ألا نتمنى في هذه الحالة أن يأتي إلينا واحد من هؤلاء الذين نسميهم البرابرة فيحررنا من أوهامنا، ويتجلى لنا في ضوء الفضيلة التي يمارسونها بفضل النور الطبيعي، ويخلصنا من الاغترار بمعرفتنا المزعومة التي لم تساعدنا إلا على العيش كالحيوانات؟» (2) ديدرو: «ملحق رحلة بوجانفي»
آمن ديدرو (1713-1784م) بأن «الطبيعة لم تعط أي إنسان الحق في حكم الآخرين، وحرص على تأكيد إيمانه برفضه أن يصبح، مثل العديد من معاصريه، مشرعا للقوانين.» وهناك حكاية طريفة تبين أنه استطاع أن يقاوم إغراءات «الملكية». فقد نصب ملكا على مدى ثلاث سنوات متعاقبة «بفضل الكعكة»، أي أنه أصبح «ملك الليلة الثانية عشرة»، لعثوره على حبة في قطعة الكعك الخاصة به. وكان عليه، بوصفه ملكا، أن يصدر قانونا، وهو ما قام به بالفعل في مقطوعة شعرية صغيرة يقول فيها:
صفحه نامشخص