بني المتحف جزءا من القصور الملكية، له طريق عام، ورواق ذو مظلة تحفه الأرائك، ينتهي إلى بيت واسع يعقد العلماء متشاركين في المتحف اجتماعاتهم في قاعته الكبيرة. وكان يشغل عدة أبنية في المدينة الملكية المطلة على الميناء، وهذا الأبنية مهيأة لشتى الأغراض العلمية. ويعيش أعضاء المدرسة معا، وما يملكونه فهو شركة بينهم. ويرأسهم كاهن كان لملك يعينه في القديم.
والمتحف أدنى إلى أن يكون معهدا للبحوث منه إلى أن يكون جامعة أو مدرسة. وليس بين يدينا من الوثائق ما يؤيد أنه مكان للتعليم. إنه تعليم بين أستاذ ومعاونيه، ولم يكن ثمة إدارة أو امتحانات، أو درجات جامعية. وكان المتحف مزودا بالأدوات والأجهزة الفلكية، وأدوات التشريح، وحدائق للنبات. ومن الطبيعي أن يستغرق بناء المتحف ونموه زمنا، وأن يحتاج مع ذلك إلى الاستقرار، وقد كفل له ذلك كله بطليموس الأول والثاني والثالث. وكان لتجربة ديمتريوس وأسطراطون الفضل في إرساء النظام الوحيد للمتحف، وكان كل منهما رئيسا لمدرسة عريقة، وعالما فاضلا. تعلم أسطراطون على يد ثاوفراسطس، واستدعاه بطليموس ليعلم ابنه سنة 300ق.م، واستمر يعمل حتى سنة 288، إلى أن رجع لرئاسة «اللوقيون» بعد وفاة ثاوفراسطس.
ومن أشهر العلماء الذين اقترن اسمهم بمدرسة الإسكندرية في عصرها الأول إقليدس وأرشميدس، وأبولونيوس، وأبولودورس. تعلم إقليدس أولا في أثينا، ودرس الرياضيات في الأكاديمية. وعقب اضطراب الأمور في أثينا، ذهب إلى الإسكندرية، وعاش في ظل بطليموس الأول والثاني. وتروى عنه أقاصيص كثيرة نذكر منها أن بطليموس سأله ذات مرة: أيوجد طريق أقصر إلى الهندسة من طريق «الأصول»؟ فأجابه: لا يوجد طريق ملكي للهندسة. و«الأصول» هو الكتاب الذي ألفه إقليدس حاويا كل شيء عن الحساب والهندسة حتى زمانه، ويعرف باسم «أصول الهندسة»، وهذه هي الترجمة العربية للعنوان في عصر الترجمة. وقد ظل هذا الكتاب بترتيب نظرياته الهندسية أساسا لهذا العلم حتى اليوم، نعني بالنسبة للهندسة الإقليدية. وسائر الرياضيين الذين لمعت أسماؤهم بعد ذلك، إنما كانوا شراحا لإقليدس، وإذا كانت لهم إضافات في هذا الباب فهي في حل بعض مسائل، أو ترتيب وتبويب يوضح هذا العلم للطلبة. وقد عرف العرب هؤلاء الرياضيين الذين ظهروا في الإسكندرية في عصرها المتأخر قبل الفتح، مثل بابوس، عاش في القرن الثالث بعد الميلاد، وثاون الإسكندري من القرن الرابع، وبرقلوس ومارينوس وكلاهما من القرن الخامس.
ومن كبار الرياضيين في مدرسة الإسكندرية في عصرها الأول، أرشميدس، وأرسطارخوس، وأبولونيوس. وأولهما أشهر من أن يذكر، ولا يزال طلبة المدارس حتى اليوم يحفظون قاعدته المشهورة في علم الطبيعة عن الأجسام الطافية.
ومن أشهر علمائها في عصرها الثاني بطليموس الفلكي صاحب المجسطي. عاش بالإسكندرية في القرن الثاني بعد الميلاد، ونبغ فيها، وكانت مصر قد خضعت للحكم الروماني وانقرضت دولة البطالسة، ولكن الثقافة والعلم واللغة استمرت باليونانية. عرف العرب كتابه الذي ترجموه بقولهم «المجسطي»، فسار هذا الكتاب بينهم سيرة «أصول» إقليدس. ومن أبرز الأسس التي قام عليها النظام الفلكي في هذا الكتاب القول بأن الأرض مركز المجموعة الشمسية، ويعرف هذا بالنظام البطلمي، وظل مأخوذا به إلى أن جاء كوبرنيق فأحدث ثورته المشهورة في علم الفلك، قائلا إن الأرض هي التي تدور حول الشمس.
وقد حدثنا العرب عن مدارس التعليم بالإسكندرية في عصرها المتأخر، وقد حفظ لنا مؤرخوهم روايات كثيرة عن تلك المدارس، ولا حيلة لنا إلا الأخذ بها. روى القفطي في كتابه أخبار الحكماء أن الإسكندرانيين هم «الذين رتبوا بالإسكندرية دار العلم ومجالس الدرس الطبي، وكانوا يقرءون كتب جالينوس ويرتبونها على هذا الشكل الذي تقرأ اليوم عليه، وعملوا لها تفاسير وجوامع تختصر معانيها، ويسهل على القارئ حفظها وحملها في الأسفار. فأولهم - على ما رتبه إسحاق بن حنين - اصطفن الإسكندراني، ثم جاسيوس، وأنقيلاؤس، ومارينوس. فهؤلاء الأربعة عمدة الأطباء الإسكندرانيين، وهم الذين عملوا الجوامع والتفاسير.»
نقلنا هذا النص على طوله لنبين أن المدارس الفلسفية كانت موجودة بالإسكندرية منذ أنشئت حتى الفتح العربي، ولم ينقطع «دار العلم» أو «مجلس التعليم والدرس» منذ أن كان ذلك في المتحف، وظل في الأغلب مستمرا فيه إلى أن تخرب في القرن الثالث وظهرت مدارس أخرى؛ إذ في أكبر الظن أن الإسكندرية كانت تحتضن أكثر من مدرسة. ولا بد على كل حال في التعليم من مقر أو دار أو مجلس، بعبارة أخرى من مدرسة ثابتة تشد إليها الرحال.
ولا تحسبن أننا حين قصرنا الحديث على الرياضيين والفلكيين والأطباء، قد بعدنا عن موضوع المدارس الفلسفية، بل ذلك من صميم الفلسفة؛ لأن الفلسفة في عصرها الذهبي كانت تعتمد على العلم، وكان الفلاسفة علماء. وحين أنشئ المتحف نهض بإنشائه رئيسا «اللوقيين»، وهما اللذان وجهاه هذه الوجهة العلمية. وعندما انتقلت الفلسفة إلى العرب، كان فلاسفتهم علماء أو أطباء أو رياضيين، وجمعوا بين العلم والفلسفة، مثل ابن سينا وابن رشد.
لم يكن المتحف مقر مدرسة الإسكندرية وحده، وإنما أنشئ معه شيء آخر لا تتم المدارس إلا به، وهذا الشيء هو المكتبة. وقد عرفت المكتبات من قبل إنشاء الإسكندرية، وبخاصة في أثينا كعبة الثقافة العالمية منذ القرن الخامس قبل الميلاد. ثم شرعت مدن أخرى تحذو حذوها، وتنشئ مكتبات تحتفظ فيها بمؤلفات الشعراء والأدباء والعلماء والفلاسفة. ولم يشأ بطليموس الأول أن تكون عاصمة ملكه أقل شأنا من غيرها من المدن؛ فأمر بإنشاء مكتبة ظفرت في المستقبل بشهرة عظيمة لكثرة ما كانت تحتوي عليه من مؤلفات.
أسس المكتبة ديمتريوس الفاليري (من مدينة فاليرون في أتيكا). عاش الشطر الأكبر من حياته في القرن الرابع. كان تلميذ ثاوفراسطس، واشتغل بالسياسة وأصبح حاكم أثينا من سنة 317 إلى 307، ثم نفي من أثينا، فرحب به بطليموس وعهد إليه بإنشاء المكتبة، التي استغرقت زمنا ورعاية وعناية لاستكمالها؛ بغية الحصول على الكتب المختلفة في شتى الفنون.
صفحه نامشخص