بعدما يصيبه في نصفه الأسفل الشلل المميت.
ومهما يكن من الأمر فذلك اتجاه لا يسير فيه السوقة. إنها حياة ينفقها صاحبها في متابعة «العلم الذي لا ينفع». إن النحوي يروعنا ويثير فينا قليلا من السخرية في آن واحد. وهو لا يثير سخريتنا لإهماله للقيم العامة، وإنما يثيرها فينا تركيزه الجنوني على موضوع واحد قيم مع إهمال كل موضوع آخر. إن المتخصص لن يكون إنسانا كامل المدنية. وربما كان القرن الثامن عشر عصرا غير عملي كعصر النهضة. ولا يزال من المألوف بين أبناء الطبقة الدنيا من أصحاب الاتجاهات العقلية أن يعتبوا على ذلك العصر الساحر انكبابه كله على علوم تأملية بحت مثل الرياضيات والهندسة واهتمامه بها أكثر من اهتمامه بعلوم نافعة كعلم الحياة والكيمياء. لقد تمت في عصر العقل مكتشفات ميكانيكية هامة، غير أن أحسن العقول لم تهتم بها إلا قليلا، والعلوم «النافعة» التي حظيت باهتمام شديد هي علوم السياسة وعلم الاقتصاد وحدها، ولا زلت من الطراز القديم الذي يعدها نافعة. وقل من المؤرخين من لا يعزو إلى اشتغال هذا القرن بالمعنويات ما اتصفت به الثورة الفرنسية من الاهتمام بالأمور النظرية، وهم يرون أن جيلا نشأ على آراء دارون وسبنسر لا يمكن أن يطمئن إلى التحيز العلمي أو إلى الدراسات النظرية البحت، ولست أدري ماذا عساها أن تقول البقية الباقية من الطبقة البرجوازية الروسية في هذا الصدد.
وعن الإحساس بالقيم تنشأ تلك الرغبة وذلك الاعتقاد في التربية الحرة التي لم يخل منها عصر من العصور المتمدنة. إن غاية ما يشتهيه كل إنسان متمدن أن يظفر بأغزر وأوفى حياة ممكنة، حياة تضم أقصى ما يمكن من التجارب الحية الرائعة. ولما كانت تلك هي رغبة الإنسان المتمدن فإنه يهدف إلى تطوير نفسه تطويرا كاملا وإلى التعبير عن ذاته تعبيرا تاما، ولا يستطيع تحقيق ذلك إلا من تعلم التفكير، والشعور، والتمييز، ومن تعلم أن يترك العقل حرا في معالجة كل موضوع، وأن يجعل مشاعره تستجيب استجابة صحيحة لكل باعث، والمعرفة مطلوبة فوق هذا؛ لأن العقل بغير معرفة يبقى عبدا للهوى والخرافة، في حين أن المشاعر لا تتغذى عندئذ إلا بطعام وحشي رتيب. إن الرجل المتمدن يتطلب تعليما يكون بقدر الإمكان وسيلة مباشرة لما هو وحده خير كغاية من الغايات. إنه ينمي قواه في التفكير والشعور، ويتابع الحقيقة، ويكتسب المعرفة، لا لأية قيمة عملية قد تنطوي عليها هذه القوى، ولكن لذاتها، أو لقدرتها على كشف إمكانيات الحياة الغزيرة المعقدة - وهو في ذلك يتميز تمييزا واضحا عمن يأبه بتوافه الأمور والفائز في المسابقات، أما الرجل من السوقة، الذي ينقصه الإحساس بالقيم، فهو يتطلب من التربية أن تنير له الطريق إلى الثراء والسلطان، وهما هدفان ليست لهما قيمة إلا باعتبارهما وسائل بعيدة لذلك الخير النهائي الذي تقودنا إليه مباشرة التربية الحرة. إن التربية الحرة تعلمنا الاستمتاع بالحياة، أما التربية العملية فتعلمنا اكتساب الأشياء التي قد تمكننا أو تمكن غيرنا من الاستمتاع بها.
قل من الأمور ما اهتم به الأثيني اهتمامه بتربية ابنه. ولما أصبح أهل ميتلينيا سادة البحار لفترة ما كانوا يعدون أكبر عقوبة يوقعونها على الذين لا يذعنون لهم من حلفائهم حرمانهم من المدارس، وإذا استثنينا البلاغة واستخدام السلاح فإن منهج التعليم في أثينا لم يهدف مباشرة إلى نتائج عملية. وكانت إيطاليا وريثة اليونان، وليس هناك ما هو أدل على قوة النهضة وذوقها من أنها فرضت زهاء أربعمائة عام على الطبقات الحاكمة في أوروبا تربية حرة كما كانت في ذلك الحين، ونحن نعرف تمام المعرفة ما كانت تراه خير العقول في إيطاليا في هذه المشكلة الأساسية للتربية؛ لأن بولدا ساركاستجليوني عالج الموضوع في شمول يدعو إلى الإعجاب، ولخص حججه وأمثلته في قوله: إن الآداب هي التي تزين النفس الحقة الكبرى، وكان هناك بطبيعة الحال في المنهج الجديد كثير من الغبار والرماد، إلا إن التقليد الذي ورثته النهضة عن الإغريق كان على كل حال يقوم على أساس اللغة اليونانية، وهو في هذا يختلف اختلافا كليا عن عبث العصور الوسطى وحذلقتها. وبدراسة الأدب والفلسفة الإغريقية أتيحت الفرصة على الأقل لصفوة الشبان في جميع الأمم لاكتساب خير ما يستحق التحصيل. لقد كانت لأوروبا تربية تقليدية حرة في أساسها، وبقي هذا التقليد دون أن يعارضه أحد خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وإن كان المنهج خلال القرن الثامن عشر قد تطور مع تقدم الزمن، دون أن يسف، فأدخل عليه تعليم الرياضيات والهندسة بدرجة أعم وأنظم. أما في القرن التاسع عشر فقد هوجمت هذه التربية هجوما عنيفا وبدأت تتلاشى بصورة محسوسة. وذلك من أثر الثورة الصناعية، وظهور الطبقات الوسطى، وعبادة كسب المال التي كانت تسمى أحيانا «إنجيل العمل» والحماسة لمسايرة الزمن. وقضى عليها نهائيا خلال ما يسميه مستر ه. ج. ولز «الحوادث المحزنة في السنوات الأخيرة القلائل»،
5
وما يسميه «بالحرب» من نشأ على التربية الحرة.
إن الإحساس بالقيم والقدرة على التمييز بين الغايات والوسائل، تكفي لأن يؤمن المرء بالفردية، ومن المؤكد أن صفة أساسية أخرى - وهي تتويج العقل - تتولد عنها كذلك الأهمية القصوى للفرد، ولكن لما كنا أثناء نظرنا في رغبة الرجل المتمدن في تقدمه الذاتي اقتربنا من هذه الخصيصة من خصائص المدنية الرفيعة، فيجدر بنا أن نعالجها كذلك فورا. إن كل من يدرك أن حالة العقل الطيبة هي الغاية الوحيدة الطيبة، ومن يدرك أن ليس هناك ما يبرر افتراض وجود عقل جماعي، كل من يدرك ذلك سيرفع بطبيعة الحال من شأن الفرد الذي لا يوجد الخير المطلق إلا فيه وحده. إن مثل هذا الشخص إذا تجاهل أن كل تعميم يجب أن يقاس في النهاية بتجربة الفرد لا يمكن العفو عنه؛ لأن الحديث عن خير القطيع كأنه شيء يختلف عن خير الأفراد الذين يتألف منهم القطيع أمر وحشي سخيف حتى عند السياسيين حينما يخدم ذلك أغراضهم. ومن ثم فإن الساسة البريطانيين - برغم استعدادهم للحديث عن المصالح البريطانية كأنها تختلف عن مصالح الشعب الذي يسكن في بريطانيا - صعقوا صعقا شديدا لمغالاة الصحفيين الألمان الذين قدسوا الدولة الألمانية فوق الفرد الألماني. إن الدولة لا يمكن أن تكون غاية لذاتها. إنها لا تعدو أن تكون وسيلة لتلك الحالات العقلية الطيبة التي هي وحدها غايات طيبة، ولا تتوفر إلا للأفراد.
وكثيرا ما اضطر الأثينيون إلى التوفيق بين حقوق المواطن وحاجات المدنية، وقد أفلحوا عامة في الاحتفاظ بالمجال حرا للشخصية - وذلك على الأقل حتى بدأت سنوات الحرب تبلد إحساسهم بالقيم - فمكنوا بذلك لظهور تلك المدنية التي ما برحت عجب العالم الغربي وفخاره، وسوف أتحدث طويلا عن الحرية الأثينية في الفصل المقبل، عندما أتعرض للكلام عن مولود العقل الأول - التسامح. ويكفيني في الوقت الحاضر أن أطلب إلى القارئ أن يسلم بها، ولن أذكر هنا سوى أن الإغريق كانوا مخترعين للفردية بصورة ما، وفي عالم يسوده الرق والخرافات الشرقية، كانوا أول من هب لإثبات القيمة الشخصية للمواطن المتعلم الذكي. كانوا أول من فكر في أن المرء بحواسه وعواطفه وذهنه هو سيد العالم، وأن الدنيا قوقعته التي يستطيع أن يفتحها بالذكاء والشجاعة، وأن عقل الفرد يقابل قوى الطبيعة، وأن كل إنسان يستطيع أن يشعر وأن يفكر هو ملك حقا.
وكذلك الإيطاليون لعهد النهضة أحسوا إحساسا قويا بأهمية الفرد باعتباره المصدر الأساسي لكل ما هو مثير فاخر له دلالة، بل ربما غالوا - كما ذكرت من قبل - في تمجيدهم للشخصية، ولم يكفهم أن يزعموا للفرد تمام الحرية في التعبير والتجربة، بل أخذوا يغذون الشخصية حتى باتت استكبارا وأنانية، وأسوأ من ذلك أنهم كانوا يظنون هذه الصفات البربرية في أساسها امتيازا شخصيا، ولم تقع في هذا الخطأ العصور التي ارتفعت في أوج المدنية عن عصر النهضة مثل عصر بركليز وفلتير، فإن حسن السلوك، والمعاشرة، وغير ذلك من المميزات التي تتقدم كلما أصبحت المجتمعات المتمدنة أكثر تقديرا للذة الحديث، كل ذلك خفف في أمثال هذه العصور الميل الفردي لتقرير الذات بالاعتداء، ولكن لا جدال في أن هذه العصور الثلاثة كانت ممعنة في الفردية، وربما كان خير ما تظهر فيه فردية الإغريق فلسفتهم، وخير ما تظهر فيه فردية النهضة إسرافها. وليست بي حاجة - فيما أحسب - للتدليل على أن القرن الثامن عشر كان فرديا بأن أبين كيف أن كل تلك الآراء السياسية التي بلغت أوجها في الثورة الفرنسية كانت تقوم على أساس حقوق الإنسان وأهميته الخاصة باعتباره بشرا.
وربما كان لا بد لي من ذكر كلمة عن شيء يترتب بالضرورة على الفردية - الفردية التي تتولد من العقل، والفردية التي تصدر عن الإحساس بالقيم - وأعني بذلك «العالمية». إن المرء الذكي الذي يحس بفرديته لا يحتمل أن يحس بالحب الشديد للدولة، التي يعدها - حقا - على أحسن تقدير ضرورة خطرة. إن الميل نحو العالمية القائمة على أساس الفردية، وهو حركة تحرر من غريزة القطيع أمر لا بد أن يلازم تقدم المدنية، بل إن هذا الميل يكاد أن يكون بحق معيار الحضارة. إن السلطان المطلق يتحكم في غريزة القطيع الهمجية. وعند الرجل الهمجي فكرة غامضة جدا عن القيم التي تتخطى حدود القبيلة، وهو لا يعطف على شيء يخرج عن نطاقها، ولكن الرجل المتمدن يعطف على غيره من المتمدنين بغض النظر عن محل ميلادهم أو إلى أي عنصر ينتمون، ويشعر بالقلق مع المتوحشين والسوقة - حتى إن كانت له بهم صلة من صلات الرحم - يقطنون في كنف المنطقة التي يعيش فيها، ولن أورد هنا الأمثلة التي تدل على عالمية القرن الثامن عشر، غير أني سوف أقدم اقتباسا واحدا من رجل بارز حجة في الموضوع لكي أخفف من القلق الذي يساور رجلا جاهلا قد يضطره عمله إلى مطالعة هذا الكتاب. «بقي علينا أن نشير إلى إحدى مميزات فلسفة القرن الثامن عشر، وهي تعتمد على جميع المميزات الأخرى أو تتصل بها: إنها عالمية، يتمخض عنها أدب عالمي ... إن جيوش الملك قد هزمت على يد رجل بروسي، ولكن هذا البروسي كان يتكلم الفرنسية، وكان بنا أشبه من جندي يموت من أجل الملك ... ومن ثم فإن هازم روزباخ كان مواليا للمدنية الفرنسية. فوطنيتنا تتركز في هذا الانتصار الروحي ... ذلك أن تحرره العقلي (وهو من صفات الفرنسي في القرن الثامن عشر) كان يحول دون تحيزه ضد العنصر أو اللون ... والرجل الذي يستحق هذا الاسم هو الذي لا يخضع إلا للعقل، غير أن هذا الرجل لم يكن فرنسيا أكثر مما كان ألمانيا: إنه أوروبي، إنه صيني، إنه من كل مكان يقطنه الإنسان، وجميع الحقائق التي يحتويها العقل البشري إنما وجدت لمثل هذا الرجل العالمي».
صفحه نامشخص