معقول و نامعقول در میراث فکری ما
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
ژانرها
ونعود إلى مقالة ابن جني التي أخذها عن أستاذه أبي علي في اللغة، فنلاحظ أنه:
قد أخطأ الظن حين زعم أنه لو كانت أنواع الكلمة الثلاثة قد ظهرت متعاقبة على الزمن، فليس في طبائعها ما يحتم أن يكون لنوع منها دون النوعين الآخرين أسبقية في الظهور؛ إذ إن الكلمات «المنطقية» كان لا بد لها أن تنتظر حتى يفرغ الإنسان من إطلاق الأسماء على الأشياء والأفعال، ثم يهم بإقامة أحكامه عليها، أعني ببناء جمل عنها، وها هنا تلزمه الروابط التي تشد أطراف الجملة في وحدة واحدة هي «الفكرة».
وكأنما جاءه الصواب عفوا حين أدرك للأسماء أسبقية منطقية على سواها؛ لأن مثل هذا القول لم يكن ليتفق مع الزعم بأن البدء كان يجوز له أن يكون بأي من الأنواع الثلاثة. نعم، هنالك فرق بين الترتيب الزمني والترتيب المنطقي، بحيث يمكن أن يأتي شيء بعد شيء في الزمن، مع أنه أسبق منه في الفكر، فدراسة الطالب في الجامعة - مثلا - تأتي قبل حصوله على الدرجة الجامعية من حيث الترتيب الزمني، لكن الحصول على الدرجة كان هو الهدف الذي سبق إلى الفكر، فترتب عليه أن ينتظم الطالب في دراسته الجامعية؛ ليحقق ذلك الهدف.
فهل أراد ابن جني أن يقول: إنه كان يمكن للحرف - مثلا - أن يظهر قبل الاسم في الزمن، لكن الاسم يظل أسبق منه في الفكر على نحو ما شرحنا؟ فأقول: إن ذلك التصور محال الحدوث؛ فمحال أن أبدأ بالحرف «في» قبل أن تكون قد تجمعت لدي طائفة من أسماء لأشياء وأفعال أربطها بهذه الأداة إذا اقتضى الأمر مثل هذا الربط.
ويقول ابن جني - نقلا عن أبي علي - إنه لو كانت الفكرة الأولى التي أراد الإنسان أن يعبر عنها قد وجدت عبارتها في «حرف» لبدأ الإنسان بالحرف! وهذا - فيما نرى - خلط معيب بين مستويين: مستوى الأشياء والأفعال، ثم مستوى البناء المنطقي من تلك الأشياء والأفعال، والتعبير عن أي «معنى» لا يجيء إلا بعد اجتياز المستوى الأول صعودا إلى المستوى الثاني.
ومن هنا نتردد في قبول ما يزعمه ابن جني - تأييدا منه لوقفة أستاذه - من أن الثلاثة الأنواع من الكلمة بدأت معا؛ لأنه لا فكر بغيرها مجتمعة، إنه لأصوب الصواب ألا ينشأ فكر إلا والأنواع الثلاثة هناك، ولكن «الفكر» لم ينشأ هكذا في لمحة خاطفة كأنه الصاعقة أو لمعة البرق: في لحظة تكون بعد أن لم تكن، بل هو قمة طريق تطوري طويل، لا يبعد أن يبدأ بالرمز إلى الأشياء بما يميزها قبل أن ينتهي إلى ربطها في تصورات وأفكار، فالكلب - مثلا - يشير إلى صاحبه ويميزه، لكنه لا يعرف أن صاحبه هذا هو والد فلان وزوج لفلانة.
وبعد هذه الوقفة منا تجاه ما نقلناه عن ابن جني في مفردات اللغة كيف جاءت، نعود إلى كتابه لنمضي معه في القول، فإذا هو يدرك شيئا من التناقض الذي تورط فيه، فيستدرك ليصحح موقفه أمام قارئه، فجاء استدراكه دليلا على صدق ما اعترضنا به عليه.
وذلك أنه كان قد قرر أن البدء لم يكن العقل يمنع أن يكون بالأسماء أو بالأفعال أو بالحروف، فالعبرة بالمعنى الأول الذي أراد الإنسان أن يجريه في لفظ، فخشي أن يكون هذا القول منه منافيا لقول آخر أورده في النص نفسه الذي نقلناه عنه، وهو أن الأسماء والأفعال والحروف ظهرت كلها، وسارت كلها، صدرا واحدا، لا سبق فيها ولا تخلف، فكتب يقول: «... فإن قلت: هلا ذهبت إلى أن الأسماء أسبق رتبة من الأفعال في الزمان، كما أنها أسبق رتبة منها في الاعتقاد، واستدللت على ذلك بأن الحكمة قادت إليه؛ إذ كان الواجب أن يبدءوا بالأسماء، لأنها عبارات عن الأشياء ثم يأتوا بعدها بالأفعال التي بها تدخل الأسماء في المعاني والأحوال، ثم جاءوا فيما بعد بالحروف لأنك تراها لواحق بالجمل، واستقلالها بأنفسها، نحو: إن زيدا أخوك، وليت عمرا عندك، وبحسبك أن تكون كذا؟ [إن قلت ذلك كله] قيل: يمنع من هذا [أي من أن تكون الأسماء أسبق ظهورا من الأفعال] أشياء، منها: وجودك أسماء مشتقة من الأفعال، نحو قائم من قام، ومنطلق من انطلق، ألا تراه يصح لصحته ويعتل لاعتلاله؟ ... فإذا رأيت بعض الأسماء مشتقا من الفعل، فكيف يجوز أن يعتقد سبق الاسم للفعل في الزمان؟ وقد رأيت الاسم مشتقا منه، ورتبة المشتق منه أن يكون أسبق من المشتق نفسه؟ وأيضا فإن المصدر مشتق من الجوهر، كالنبات من النبت، وكالاستحجار من الحجر، وكلاهما اسم، وأيضا فإن المضارع يعتل لاعتلال الماضي، وإن كان أكثر الناس على أن المضارع أسبق من الماضي، وأيضا فإن كثيرا من الأفعال مشتق من الحروف، مثل قولك: سألتك حاجة فلوليت لي، أي قلت لي: «لولا»، وسألتك حاجة فلاليت لي، أي قلت لي: «لا»، واشتقوا أيضا المصدر - وهو اسم - من الحرف، فقالوا: اللالاة، واللولاة، وإن كان الحرف متأخرا في الرتبة عن الأصلين قبله : الاسم والفعل» (ج2، ص33-34).
وأود هنا أن أعلق بملاحظتين:
الأولى:
صفحه نامشخص