معقول و نامعقول در میراث فکری ما
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
ژانرها
ألا إن في هذه العبارة لمنهجا عقليا كاملا، فانظر إلى أجزائها متدبرا: (1)
المهمة الأولى في كل عملية فكرية هي أن تحسن تحديد الهدف، وهو ما يسميه الجاحظ: «موضع البغية»؛ لأنه على هذا التحديد الواضح لما نبتغيه تتوقف خطوات السير على الطريق المؤدي إليه، تريد - مثلا - أن تزيل الفقر من أمتك بأن يكون الحد الأدنى لدخل الفرد الواحد هو كذا في العام، إذن فاجمع الأرقام الدالة على عدد الأفراد وعلى مجموع الموارد القائمة، وانظر كم يكون الفرق بين ما هو قائم وما هو مرتجى، ثم انظر كيف تقام الموارد الجديدة الكفيلة بتغطية هذا الفرق، وهكذا يجيء الهدف - أو «البغية» - أولا؛ ليستقيم لك منهج التفكير، إنه بغير هدف واضح لا يكون تفكير بأي معنى من معانيه، فضلا عن أن يكون هنالك منهج ينظم العملية الفكرية تنظيما منتجا. (2)
أما وقد حددنا «موضع البغية» فالخطوة التالية هي أن أنظر في موضوع بحثي نظرة ألتمس بها الروابط السببية التي تصل مراحله بعضها ببعض؛ فلكل موضوع مقدماته ونتائجه - أو «أسباب وعواقب» بلغة الجاحظ في العبارة السابقة - ولنعد إلى مثلنا السالف، وهو البحث في رفع مستوى العيش لأمة من الأمم، فها هنا يحدثنا رجال الاقتصاد أي الجهود تنتج كم من الحصيلة، فقد تكون «الأسباب» هي مشروعات للري تكون «العواقب» امتدادا للأرض المزروعة، أو إكثارا من المحصول، فواضح من هذا النظر الذي يلتمس الروابط بين «الأسباب» و«عواقبها» أن الأمر يحتاج إلى الدارسين المتخصصين في كل موضوع على حدة؛ لأنهم هم وحدهم القادرون على ربط العوامل بنتائجها، ويقول الجاحظ إن العلماء إنما يتفاوتون مقدارا بتفاوتهم في «حسن التثبت في أوائل الأمور واستشفافهم بعقولهم ما تجيء به العواقب.» (3)
وانظر بدقة إلى هذه العبارة الأخيرة، تجدها تعبيرا عن عملية «التخطيط» فما «التخطيط»؟ هو رسم لخطة السير رسما يمكنك منذ البدء معه معرفة النتائج قبل وقوع تلك النتائج وقوعا فعليا، والتخطيط السديد هو الذي يبنى على الواقع لا على الأوهام، افرض أن حاكما زج بأمته في حرب مقدرا لها نتائج معينة تنبني على واقع معين قائم، فإذا بهذه النتائج تنعكس مخالفة لما توقع، وإذا بذلك الواقع الذي افترضه لم يزد على أوهامه وأحلامه، وقل لي: كم يقترب أو يبتعد مثل هذا الحاكم عن طريق العقل الذي يرسمه الجاحظ وغير الجاحظ من أصحاب الفطنة وحسن النظر؟ ولم نقل شيئا بعد عن حاكم آخر لم يصدر في السير بأمته عن خطة مرسومة لها أوائل ولها أواخر، بل أراد لها أن تسير وأن تسير؛ ليرى ماذا عسى أن تكون النتائج، وبعبارة أخرى نستخدم فيها ألفاظ الجاحظ، إنه أراد أن يرجئ معرفته للأمور حتى تتكشف له النتائج، وتظهر له الخافيات، أي إن هذه النتائج وتلك الخافيات ظلت مجهولة له وغير مقدرة حتى نبتت أمام عينيه وكأنها برزت من دنيا العدم بغير مقدمات، فذاك أمر - كما يقول الجاحظ - «يعتدل فيه الفاضل والمفضول، والعالمون والجاهلون.»
وللجاحظ ربط جميل - في هذه الرسالة نفسها، رسالة «المعاش والمعاد» - بين تلك الفكرة العاقلة التي تطالبنا بتوضيح الأهداف ثم التخطيط المدروس لبلوغها، وبين «الشجاعة» متى تجوز ومتى لا تجوز، فإذا كانت خطتك واضحة المعالم، أواخرها بينة، وأوائلها مؤدية إلى تلك الأواخر تأدية لا موضع فيها لخطأ الحساب، فعندئذ لا مجال «للشجاعة»؛ إذ أمامك خط السير وما يؤدي إليه، فكأن الأمر كله عملية حسابية تخضع لقواعد الحساب، لكن هنالك مواقف كثيرة قد يتعذر فيها هذا التخطيط المحسوب الواضح، بحيث يكون بها هامش ضيق أو عريض لما هو محتمل الوقوع، لا ما هو متيقن الحدوث، فها هنا يكون الأمر مرهونا بالترجيح، ثم تكون «الشجاعة» ضرورية، لتحثنا على الإقدام الذي ربما استتبع المغامرة والمخاطرة، لكن ما حيلتنا إذا أردنا العمل المنتج في حالة كهذه؟ أنؤثر العافية والسلامة ثم لا نفع؟ أم نشجع ونغامر ما دمنا نرجح الوصول حتى ولو لم نستيقن منه كامل اليقين؟ يقول الجاحظ: «وليست تكون الشجاعة إلا في كل أمر لا يدرى ما عاقبته، يخاطر فيه بالأنفس والأموال، فإذا أردت الحزم في ذلك فلا تشجعن نفسك على أمر أبدا إلا والذي ترجو من نفعه في العاقبة أعظم مما تبذل فيه في المستقبل، ثم يكون الرجاء في ذلك أغلب عليك من الخوف» (المرجع السابق، ص114).
وقد يجمل بنا قبل أن نترك رسالة «المعاش والمعاد»، أن نقتبس منها فقرة عن «الصداقة»، فربما انتفع بذكرها كثيرون، يقول: «... فلا تكونن لشيء مما في يدك أشد ضنا، ولا عليه أشد حدبا، منك بالأخ الذي قد بلوته في السراء والضراء ... فإنما هو شقيق روحك، ومستمد رأيك، وتوءم عقلك، ولست منتفعا بعيش مع الوحدة، ولا بد من المؤانسة ... ثم لا يزهدنك فيه أن ترى منه خلقا أو خلقين تكرههما؛ فإن نفسك التي هي أخص النفوس بك لا تعطيك المقادة في كل ما تريد، فكيف بنفس غيرك؟» (المرجع السابق، ص122) وأنا أوصيك بخلق قل من رأيته يتخلق به ... ألا يحدث لك انحطاط من حطت الدنيا من إخوانك استهانة به ... ولا يحدث لك ارتفاع من رفعت الدنيا منهم تذللا وإيثارا على نظرائه من الحفظ والإكرام (ص128).
وننتقل مع الجاحظ إلى رسالة أخرى من رسائله؛ لننصت إلى حكمة العقل وقد بلورت تجارب الحياة في نظرات نافذات إلى الطبيعة البشرية، ألا وهي رسالة «كتمان السر وحفظ اللسان»؛ يقول فيها: «ليس ملوما على تضييع القليل من قد أضاع الكثير، ولا يسام إصلاح يومه وتقويم ساعته من قد استحوذ الفساد على دهره، ولا يحاسب على الزلة الواحدة من لا يعدم منه الزلل والعثار، ولا ينكر المنكر على من ليس من أهل المعروف؛ لأن المنكر إذا كثر صار معروفا، وإذا صار المنكر معروفا صار المعروف منكرا، وكيف يعجب ممن أمره كله عجب؟! وإنما الإنكار والتعجب ممن خرج عن مجرى العادة، وفارق السنة والسجية» (رسائل الجاحظ، ج1، ص139).
في أي عصر كتب هذا الرجل ملاحظته تلك؟ أكتبها حقا في بغداد القرن التاسع، أم كتبها في العواصم العربية في النصف الثاني من القرن العشرين؟! إن في هذه الفقرة لأحكاما لم أكتب حكما منها إلا وقفز إلى ذهني حالة بعينها صادفتها في حياتي متمثلة في رجل، بل في عشرة رجال، بل في مائة أو ألف، أيحكم الجاحظ إذن على عصره دون سائر العصور؟ أم يحكم على الخلق العربي أنى كان وأينما ظهر؟ وإذا كان ذلك كذلك فهل نأخذ لعصرنا هذه القطعة من تراثنا لنعرف منها من نحن وبأي الخصال نتميز؟ فلقد شهدت رجالا في مواضع الزعامة من شعوبنا أضاعوا على الناس الكثير الكثير الكثير، فكانوا بعدئذ إذا ضيعوا عليهم القليل قال الناس: «ليس ملوما ...» ولقد شهدت رجالا ونساء يعدون بالمئات والألوف، خلصت نياتهم لإصلاح أوطانهم، حتى إذا ما هموا بالتنفيذ أقعدهم الحمل الثقيل، وأيأسهم أنهم كلما أصلحوا جزءا عاد هذا الجزء وازداد فسادا، فسرعان ما تراهم يتساءلون وقد ثبطت منهم العزائم؛ «لا يسام إصلاح يومه وتقويم ساعته من قد استحوذ الفساد على دهره»، ثم كيف في عصور الفساد الشامل تميز بين المخطئ والمصيب؟ إن الحكم بالصواب أو الخطأ لا يكون إلا منسوبا إلى قاعدة قائمة، كما تحكم على من ينصب الفاعل ويرفع المفعول بالخطأ؛ قياسا على القاعدة النحوية بأن يرفع الفاعل وينصب المفعول، وهكذا قل في أفعال الناس بصفة عامة؛ فهنالك «معروف» أي إن هنالك للسلوك قواعد تعارف عليها الناس، فيميزون بها متى يجيء سلوك السالك صوابا ومتى يخطئ ويضل سواء السبيل، أما حين يعم الفساد، فالناس يتنكرون «للمعروف»، للقواعد التي تواضعوا عليها وتعارفوا على التزامها، ويصبح المستمسك بالمعروف في أعينهم مغفلا فاتته روح زمانه، فلا يعود الشاذ عند الناس هو من خرج على قواعد العرف القائم، بل يكون الشاذ هو من تخلف عن الركب ولبث قابضا بكلتا يديه على قواعد سلوكية فات أوانها، فكما يقول الجاحظ بحق: «أن المنكر إذا كثر صار معروفا، وإذا صار المنكر معروفا صار المعروف منكرا» ولقد صدق بالنسبة إلى عصرنا، ولا أعلم إن كان كذلك قد صدق بالنسبة إلى عصره.
يريد الجاحظ للإنسان أن يقيد نفسه فلا ينفلت منه الزمام، وبالقيد المنظم وحده يكون «العاقل» عاقلا، «وإنما سمي العقل عقلا وحجرا ... لأنه يزم اللسان ويخطمه، ويشكله ويربثه (الربث هو الحبس)، ويقيد الفضل ويعقله عن أن يمضي فرطا في سبيل الجهل والخطأ والمضرة، كما يعقل البعير، ويحجر على اليتيم» (المرجع السابق، ص141).
وبعد ذلك التمهيد فيما يقتضيه الصواب من قيود وما يصاحب الخطأ من انسياب على غير هدى، ينتقل الجاحظ إلى تناول موضوعه وهو عن «كتمان السر وحفظ اللسان» فيقول: إن الصمت أسهل على الناس من القول المحكم الصائب، أما إذا أطلقنا اللسان بما يجوز وما لا يجوز، فعندئذ يكون مثل هذا القول السائب أيسر من حفظ اللسان. ثم
صفحه نامشخص