معقول و نامعقول در میراث فکری ما
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
ژانرها
وسبيلنا الآن إلى الانتقال مع تلك الحياة الإدراكية في تراثنا إلى مرحلتها الثانية، التي هي مرحلة التفكير العقلي الذي نجد قوامه في تقعيد القواعد لما قد كان أشتاتا متناثرة، أو قل: إن قوامه هو في رد التجارب الجزئية والخبرات المفردة إلى أحكام عامة تضمها معا في شمل واحد.
وإن هذا التعميم في أحكامنا - لو أحسنت صياغته وسلم من الخطأ - لهو في صميم المنهج العلمي، بل هو في صميم العلم ذاته، فما العلم؟ إنه لا يعرف بموضوع معين؛ لأن موضوعات البحث العلمي قد تتعدد، فقد يكون موضوع الباحث العلمي هو تركيب المادة أو هو التفاعل بين عنصرين أو أكثر من عناصر المادة، أو قد يكون موضوعه هو حركة الأفلاك أو مسار الضوء أو سرعة الصوت أو فاعلية الكهرباء، أو قد يكون موضوعه هو غزوة الهكسوس على مصر، أو سقوط المطر أو هبوب الريح، أو قد يكون موضوعه أوزان الشعر العربي أو خصائص فن العمارة في عصر من العصور، وهكذا وهكذا إلى ما ليس له آخر من موضوعات شتى يتناولها رجال العلم بالبحث، وكلها - على اختلافها الشديد الذي تراه - علوم، وإذن فمحال أن نعرف العلم بنوع الموضوع الذي يطرحه للبحث، لكننا نكون أقرب إلى الصواب إذا عرفنا العلم بمنهجه لا بموضوعه، فاختر أي موضوع تشاء، وابحثه بطريقة معينة لها شروطها وحدودها تكن من العلماء، ويكن موضوعك هذا جزءا من العلم.
ولهذا المنهج الذي يميز العلم مما سواه خصائص كثيرة، لعل أولها وأهمها هو أن نلتمس الأحكام العامة من المفردات؛ شريطة أن نكون على حذر شديد وعلى دقة صارمة؛ لكي تجيء تلك الأحكام العامة صورة صحيحة لما يقع بالفعل في دنيا الوقائع، وبهذا يمكن تطبيقها على أرض الواقع فتنطبق، وتصبح أداة هادية للإنسان في حياته العملية.
فإذا كانت المرحلة الإدراكية الأولى خوضا في عباب الحياة كما تقع لنا مواقفها بالفعل، فإن المرحلة الإدراكية الثانية هي تجريد من تلك الحياة الفعلية العملية لما عسى أن نجرده من قوانين ومبادئ وأحكام، والذي نحن زاعموه هنا هو أننا إذ ننتقل مع أسلافنا من القرن السابع الميلادي إلى القرن الثامن، فنحن بذلك إنما ننتقل من إدراك الفطرة والتجربة والمعاناة إلى الإدراك العلمي في أولى درجاته على الأقل، فقد كان العرب يتكلمون لغتهم في القرن السابع وما قبل القرن السابع، لكنهم لم يستخرجوا لتلك اللغة قواعدها إلا حين أخذوا في التفكير العلمي، وكان لهم شعر ينظمونه ، لكنهم لم يجردوا من ذلك الشعر موسيقاه - أي تفعيلاته وأوزانه - إلا حين أخذوا يفكرون على نهج العلم ومنطقه، وهكذا. لقد كانت مرحلتهم الأولى تقابل المشكاة من مصادر النور، وها هم الآن - مع القرن الثامن - قد بدءوا مرحلة أخرى تقابل المصباح في المشكاة، آخذين هنا بتأويل الغزالي لآية النور.
13
المشكلات الفكرية تجيء نابضة بالحياة حين تنبت في تربة الحياة العملية نفسها، كما نكابدها ونعانيها، لكنها تجيء مفتعلة باردة حين تنتزع من محيطها انتزاعا لتنقل إلى محيط آخر لا تتنفس هواءه ولا تحيا تحت سمائه، وأقول هذا وفي ذهني دنيانا الثقافية التي نعيشها - نحن العرب المعاصرين - اليوم، حيث كثير من المشكلات التي يتناولها أئمة هذه الدنيا الثقافية التي يعيشها العرب المعاصرون، لا تمت إلينا بسبب واضح، ومن ثم كان مثقفونا في واد وجمهور الناس في واد آخر؛ فمثقفونا يقرءون - على الأغلب - لغة أوروبية، ويصادفون في كتبها وصحفها مسائل يطرحها كتاب تلك اللغة؛ لأنها تعترضهم في مجرى حياتهم، فما هو إلا أن يصبح الصباح بمثقفينا هؤلاء، وإذا تلك المسائل نفسها بحلولها نفسها قد سالت على أقلامهم مقالات عربية في الصحف والمجلات والكتب، ثم يقرأ القارئ المسكين، وقد يفهم وقد لا يفهم محور المشكلة المطروحة وطريقة حلها، لكنه بدوره يريد أن يسلك في زمرة المثقفين، فسرعان ما يردد مقروءه في المجالس التي يرتادها، ولو وقف الأمر عند هذا الحد لهان، لكن نتيجة فادحة تنتج بالضرورة، وهي أن جمهور الناس من غير المثقفين يعانون في حياتهم مواقف بعينها ومشكلات بذاتها، وكانوا يودون أن يسمعوا عنها ما يهديهم سواء السبيل، فلا يجدون هذه الهداية عند المثقفين، فيلوذون معذورين بمن يحل لهم مشكلاتهم بالخرافات، فيحضر لهم أرواح الموتى لعلها تهدي برأي، أو يلجأ إلى صاحب كرامات؛ عسى أن يشير إلى طريق.
لكن ذلك استطراد منا عما كنا بصدد الحديث فيه، فلنعد مسرعين إلى موضوع الحديث، لنقول مرة أخرى: إن المشكلات الفكرية تنبض عند أصحابها بالحياة حين تنبت معهم في أرض حياتهم العملية ذاتها، وهكذا كانت الحال مع أسلافنا عندما طرحت أمامهم مشكلة نظرية تريد حلا مقنعا، ولعلها كانت أول مشكلة نظرية تطرح أمامهم للبحث النظري، وأعني بها مشكلة الذنوب الكبيرة؛ ماذا يكون الحكم السديد بالنسبة إلى مقترفيها؟
إنهم لم ينزعوا هذه المشكلة من الهواء، بل انبثقت لهم انبثاقا من أرض الحوادث، وفرضت نفسها على عقولهم فرضا؛ نتيجة لازمة لواقعتي الجمل وصفين؛ ففي كلتا الحالتين كان نفر من أمة المسلمين يقاتلون نفرا من أئمة المسلمين، وإذن فبين الفريقين خلاف احتد إلى درجة القتال وسفك الدماء، ولم يكن الأمر عندئذ يعدو أن يكون أحد الفريقين على الأقل على غير صواب، إن لم يكن الفريقان معا، وأما أن يكون كلاهما على صواب فضرب من المحال، ومعنى ذلك أن أحد الفريقين على الأقل إن لم يكن كلاهما معا، قد اقترف خطيئة كبرى في حق من قتلوا بغير وجه حق، أفليس من الطبيعي في هذه الحالة أن يسائل المرء نفسه: ترى ماذا يكون الحكم في مسلم ارتكب خطيئة كبرى؟ ولقد كانت هذه المسألة بالفعل هي أول ما عرض أمام العقل ليوازن حجة بحجة، ثم يصدر حكما يرضى عنه منطقه، على أن المسألة لم تقف عند حدودها الفقهية في الحكم على مؤمن أذنب، بل ما هي إلا أن تفرعت فروعا مست أحقية الخلافة لمن تكون، ومن ثم رأينا النظرات السياسية تبدأ في الظهور وتتشعب بين الناس تيارات ومذاهب.
لقد رسمنا صورة لما كان في واقعة صفين، فرأينا كيف نبت الخوارج فيها كما ينبت النبات في تربته، لم ينقل إليها نقلا ولا أقحم عليها إقحاما، ولا بأس علينا هنا في أن نرسم صورة أخرى لما كان في واقعة الجمل عند البصرة؛ لتزداد لنا الرؤية وضوحا، فنرى كيف نشأت أمام العقل العربي أولى مشكلاته التي حاول معالجتها بمنطق البرهان (راجع ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة، ج1).
لما بويع علي كتب إلى معاوية في الشام يطلب منه البيعة، فما كان من معاوية هذا إلا أن كتب بدوره إلى الزبير يغريه بولاية الكوفة والبصرة، على أن تكون هذه الولاية لطلحة من بعده، قائلا له فيما قال: «... فدونك الكوفة والبصرة، لا يسبقك إليهما ابن أبي طالب؛ فإنه لا شيء بعد هذين المصرين ...» ثم حثه على أن يظهر هو وطلحة معه الطلب بدم عثمان.
صفحه نامشخص