معقول و نامعقول در میراث فکری ما

زكي نجيب محمود d. 1414 AH
119

معقول و نامعقول در میراث فکری ما

المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري

ژانرها

على أن ذلك لا يعني أن الإنسان عقل كله - بالمعاني التي حددنا بها «العقل» - إذ هنالك في حياته، إلى جانب تعيينه للأهداف ورسم الخطوات الموصلة إليها، «حالات» يكابدها ويعانيها، منها الانفعالات والعواطف والرغبات وما إليها، تعترضه وتملأ نفسه، فإما كتمها في صدره وإما حاول أن يعبر عنها للآخرين؛ فإذا ضممنا جميع الأقوال التي قالها قائلوها عن «حالات» اعتملت بها أنفسهم، كان لنا من مجموعها مجال «اللامعقول» في الثقافة التي تقصيناها بالنظر والدرس.

فأود منذ الآن أن أؤكد للقارئ تأكيدا لا يترك مجالا لريبة في نفسه، بأن كلمة «اللامعقول» كلما استعملتها في الصفحات التالية، لأصف بها ضروبا من تراثنا الثقافي، لا أحملها مثقال ذرة من معنى الزراية؛ فكل ما في الأمر هو أننا نميز في الحصاد الموروث بين صنفين مختلفين؛ صنف رأيناه موسوما بميسم التفكير العقلي، وصنف آخر سوف نراه يخلو من تلك السمة المميزة لكل ما يندرج عندنا تحت «التفكير العقلي». ونعود فنكرر ما قلناه - ولن نمل من هذا التكرار لأهمية الفكرة عندنا - بأن ثمة ضربا من الوقوف إزاء الأشياء والمواقف، يحللها ويبين الطريقة التي يمكن استخدامها للوصول بنا إلى أهدافنا، كائنة ما كانت تلك الأهداف، وذلك هو التفكير العقلي، لكن ثمة ضربا آخر من الوقوف، هو الذي قلنا عنه إنه «حالة» تسري في كيان صاحبها، فيصبح بها محبا أو كارها، غاضبا أو راضيا، إلى آخر هذه الحالات النفسية، وذلك هو ما يتألف منه مجال «اللامعقول» من حياة الإنسان. ومما يفرق بين الموقفين، أن أولهما يطرح الأمر أمام الجميع؛ ليتحقق من صدقه كل من أراد، وأما الآخر فملك صاحبه، لا سبيل أمام أحد سواه إلى مناقشته وتحقيقه.

إنه لمن الشائع بين من يصفون عصرنا هذا - أعني أواسط القرن العشرين وما بعدها - بأنه عصر اللامعقول في معظم وقفاته الثقافية التي ليست مما يدخل مجال العلوم، وهم إذ يصفونه بهذه الصفة لا يبتغون الحط من شأنه بسبب هذه الصفة فيه؛ فليس عيبا أن يقال عن فرد من الناس أو عن شعب من الشعوب أو عن عصر بأكمله، إنه يجعل الأولوية - فيما عدا العلوم - للوجدان، بل ربما كان العكس أقرب إلى الصواب؛ فكثيرا ما يكون المرء أقرب إلى ثورة الغضب والاحتجاج إذا رميته بتهمة أنه إنسان بلا قلب؛ أعني بلا عواطف دافئة نحو الآخرين، منه إذا اتهمته بضعف الذكاء العقلي، وليست قليلة هي تلك الحالات التي يتهم المرء نفسه بالغباء في الأمور النظرية أو في الأمور العملية أو فيهما معا، لكنها حالة من أندر الحالات أن يقول إنسان عن نفسه إنه بارد العاطفة ناضب الوجدان.

ومع ذلك فإذا أردت استقراء دقيقا لما يعنيه الكاتبون في عصرنا هذا، حين ينعتونه باللاعقل - فيما عدا مجال العلوم - فأرجح ظني هو أنهم لا يقصدون إلى القول بأن عصرنا هذا يوازن بين العقل واللاعقل، فيعلي من شأن هذا على شأن ذاك. إنه لا يزعم - مثلا - أن الانفعال أرفع منزلة من التفكير المنطقي، أو أن القلب أسمى من الرأس، أو أن الغريزة أهدى سبيلا في حياة الإنسان من عقله، كلا؛ إذ كل ما يزعمه عصرنا في هذا الصدد هو أن العقل بمنطقه أداة جيدة صالحة في مجالها - مجال العلوم - لكنه لا يجاوز ذلك المجال، لتظل له تلك الصلاحية نفسها في سائر المجالات الثقافية.

نقول ذلك لعلمنا بأن ثمة موقفا آخر، في عصور أخرى، كانت وجهة النظر السائدة فيه هي أن العاطفة أصدق هداية للإنسان من عقله في إدراك الحق، كائنا ما كان ميدان النظر. وتلك هي النظرة «الرومانسية» حيثما ظهرت، كالتي دعا إليها روسو، أو التي شاعت في أوروبا عقب الثورة الفرنسية؛ فأصحاب الدعوة الرومانسية لا يكفيهم أن يقال عن العقل إنه محدود المجال، وأن البقية متروكة لغير العقل من جوانب الإنسان، بل هم يمقتون العقل مقتا كأنه العدو الذي يتربص بالإنسان ليوقعه في المهالك، لكن مثل هذا الموقف الكاره للعقل ليس هو موقف عصرنا الراهن، حين يقال عنه إنه عصر اللامعقول.

ففي عصرنا هذا تنبت جذور «اللامعقول» من تربة «علم النفس » ونظرياته التي تحلل سلوك الإنسان، فإذا هو - «معقولا» كان في ظاهره أو غير معقول - إنما يرتد إلى أصول عميقة في فطرة الكائن العضوي. وإذا قلنا «فطرة» فقد قلنا - بالتالي - إنها ليست ما يراد ب «العقل» وب «العقلي» أو «العقلاني» أو «المعقول»؛ لأن العقل في صميمه هو عقال يقيد الفطرة، ولا يتركها مرسلة على سجيتها.

وإن بعض الدارسين لعلم النفس الحديث يقسمون لنا نظرياته نوعين مختلفين، لكل نوع منهما فروع. أما أولهما فهو الذي يرد سلوك الإنسان إلى ينابيع جوفية تخفى على أعين المشاهد، ولا تتبدى إلا تحت مشارط التحليل، ومن قبيل ذلك نظرية فرويد وكل ما جاء على غرارها من اتجاهات تعلل السلوك بأصل خبيء، تكون عند الفرد الواحد إبان طفولته، وفعل فعله في تشكيل سلوكه دون أن يكون صاحب هذا السلوك على وعي بحقيقة أمره. وأما النوع الثاني فهو ذلك الذي لا يريد مجاوزة السطح الظاهر من أنماط السلوك، فترى أصحابه يحللون ذلك السلوك إلى وحداته السلوكية البسيطة - ويسمونها أفعالا منعكسة، هي التي منها تتألف فيما بعد الأفعال المنعكسة الشرطية، التي هي كل ضروب الفعل عند الإنسان، بل كل ضروب الحركة عند الحيوان - وعلى رأس هذه الطائفة من العلماء «السلوكيين» بافلوف الروسي وواطسن الأمريكي.

أما فرويد ونظريته في «التحليل النفسي»، فالفرض عنده - كما يعرف عنه عامة المثقفين اليوم، فضلا عن المتخصصين - هو أن موجهات السلوك الإنساني ليست هي منطق العقل إلا بمقدار ما تكون القمة الظاهرة فوق سطح المحيط من جبل الثلج. وأما الشطر الأعظم فمرده إلى موجهات «لا شعورية»، لا يعقلها الإنسان بل ولا يعيها، ومعنى ذلك أن الإنسان، حتى إذا سلمنا له بميدان محدود يهتدي فيه بوسائل العقل في أحكامه واستدلالاته، فهو كائن «لا معقول» في الجانب الأعظم من حياته؛ إذ تمسك بزمامه «غريزة» جبلت له في فطرته، هي غريزة الجنس عند فرويد، وهي غريزة السيطرة عند تلميذه آدلر.

وأما الطريق الثاني بين علماء النفس المحدثين، أعني «السلوكيين»، فهو أيضا طريق مؤداه أن سلوك الإنسان لا يفسره أن الإنسان كائن «عاقل»؛ وذلك لأن سلوكه إنما يتكون بحكم عادات بدنية تتكون بتكرار الربط بين مجموعة من العناصر. والأغلب - بالطبع - أن يكون غيره من الناس هم الذين دبروا له أن تتكون فيه تلك العادات البدنية، والتي ليست هي - في التحليل الأخير - إلا الأفعال المنعكسة الآلية التي ولد بها الإنسان، بعد أن ربطت بمؤثرات مختلفة أرادوها له عن عمد وتدبير؛ فإذا كان الإنسان قد ولد وفيه فعل فطري يستجيب به لضوء الشمس - مثلا - أو لرائحة الطعام، فلماذا لا نبدل له ضوء الشمس أو رائحة الطعام بأشياء أخرى نريد له أن ينقبض عنها أو أن يقبل عليها؟

ربما يكون القارئ قد ألف القول الذي كثيرا ما يرد في الكتب عند الحديث على المؤثرات في الإنسان وتكوينه، ما هي؟ أهي عوامل البيئة الخارجية أم هي طبيعة الإنسان الداخلية؛ وإذن فقد يوضح له ما نبسطه أمامه الآن، إذا أضفنا له بأن فرويد حين رد معظم السلوك إلى «غريزة» فكأنما قال: إن الإنسان هو صنيعة فطرته الداخلية. وأن بافلوف أو واطسن أو غيرهما من السلوكيين، حين ردوا السلوك الإنساني إلى الطريقة التي نكونها له في الرد على المؤثرات الخارجية، فكأنما هم يقولون: إن الإنسان هو نتاج بيئته وما فيها من عوامل ومؤثرات. وفي كلتا الحالتين لا «عقل» إلا بالقدر المحدود عند أصحاب التحليل النفسي. وأما ما دون ذلك، فالذي يسميه الناس «عقلا» إن هو إلا خيوط «لا عقلية» من غرائز أو من أفعال منعكسة، تشابكت معا حتى خيل لنا بأنها ذات كيان مستقل قائم بذاته.

صفحه نامشخص