معقول و نامعقول در میراث فکری ما
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
ژانرها
عدت إذن بكل أحمال عصري على كتفي وفي شراييني وأعصابي، لأجدني قد وقفت أول ما وقفت عند هذه المعركة التي نشبت على الخلافة بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان؛ وقفت أنظر وأسمع، يأخذني العجب مرة والإعجاب مرة؛ ذلك أني وجدت بين ما أراه وما أسمعه كثيرا مما يستحيل أن أجد له مكانا في ثقافتي العامة مهما حاولت إقحامه عليها، وكثيرا آخر مما تتقبله هذه الثقافة نفسها وتتمثله كأنه أصل أصيل من بنائها.
وكان أميز ما يميز الموقف كله عندي، هو أنه مصطبغ في جملته بشيء من الإدراك الفطري المباشر، الذي يصدر أحكامه بغير لجوء إلى تحليل وبرهان، وإذن فهو مثل جيد لصدق ما زعمته في الفصل السابق من هذا الكتاب، وهو أن أولى مراحل الطريق متسمة بضرب من عفوية النظر، ترى الفكر فيها وكأنه الومضات التي تلمع، لا تدري كيف جاءت، لكنها - على كل حال - تضيء وتهدي.
وماذا تقول في موقف امتزج فيه أدب وفلسفة وفروسية وسياسة، امتزاجا لا تستطيع معه أن تستل عنصرا منها لتقيمه وحده بعيدا عن سائر العناصر؛ فرجل السياسة هنا يرسل الرأي في عبارة مصقولة بحس الأديب، والأديب هنا يصوغ العبارة بحكمة الفيلسوف، والفيلسوف هنا ينتزع الحكمة ببديهته الصافية والسيف في يده وعنان جواده في قبضته؛ فهو الأديب الذي جادت عبارته إن شئت، وهو الفيلسوف الذي نفذت بصيرته إن شئت، وهو الفارس الباسل المقدام المدرب على القتال إن شئت، ثم هو السياسي البارع بحيلته في حل ما تعقد من الأمر إن شئت؛ لأنه كل هذه الأشياء معا وفي آن.
ولنقف - في هذا الصدد - وقفة عند الإمام علي رضي الله عنه؛ لننظر كم اجتمع في هذا الرجل من أدب وحكمة، وفروسية وسياسة؛ ليكون وحده شاهدا على ما قد زعمناه عن الروح التي تميز بها القرن السابع (الأول الهجري)، ومن هذا القطب سنظل نتجه بأبصارنا إلى يمين وإلى يسار، لنلم بلمحات من أبطال ذلك الموقف الذي نحن واقفون الآن بإزائه، وعندئذ سوف تتكامل بين أيدينا قطعة من نسيج حي، هو هو حياة السلف في تلك الفترة من زمانهم، وهو هو ثقافتهم ووجهة أنظارهم، فإذا رأينا في أنفسنا - وهي ممتلئة ما تزال بزادها الفكري من عصرنا - إذا رأينا فيها ميلا إلى جانب من المشهد دون جانب، كان ما تميل إليه أقرب إلى عصرنا، وبالتالي فهو أيسر مأخذا وأولى بأن يبعث حيا في زماننا.
ونجول بأنظارنا في هذه المختارات من أقوال الإمام علي التي اختارها الشريف الرضي (970-1016م) وأطلق عليها «نهج البلاغة»، لنقف ذاهلين أمام روعة العبارة وعمق المعنى، فإذا حاولنا أن نصنف هذه الأقوال تحت رءوس عامة تجمعها، وجدناها تدور - على الأغلب - حول موضوعات رئيسية ثلاثة، هي نفسها الموضوعات الرئيسية التي ترتد إليها محاولات الفلاسفة قديمهم وحديثهم على السواء، ألا وهي: الله، والعالم، والإنسان، وإذن فالرجل - وإن لم يتعمدها - فيلسوف بمادته، وإن خالف الفلاسفة في أن هؤلاء قد غلب عليهم أن يقيموا لفكرتهم نسقا يحتويها على صورة مبدأ ونتائجه، وأما هو فقد نثر القول نثرا في دواعيه وظروفه.
على أن حرفتي - وهي الأستاذية في الفلسفة - تقتضيني هنا ألا أرسل القول إرسالا مهملا بغير تحديد، فأقول - لأنبه القارئ إلى تمييز هام ومفيد - إن الفلسفة إنما تجيء على أحد وجهين، كثيرا ما يسمى أحدهما «بالحكمة» ليقتصر لفظ «الفلسفة» على الوجه الآخر، أما أول هذين الوجهين فهو ذلك الضرب من القول النافذ إلى صميم الحق، لكنه صادر عن تجربة شخصية فردية حيوية عند قائله؛ ولذلك فهو أقرب إلى التعبير الأدبي منه إلى التجريد الرياضي الذي نعرفه في النوع الثاني، ولك أن تقارن - مثلا - بين كونفوشيوس أو بوذا من ناحية، وأفلاطون أو أرسطو من ناحية أخرى، فعندئذ ترى في الحالة الأولى خبرة شخصية فريدة نابضة بحياة صاحبها، وترى في الحالة الثانية تعميمات مجردة قريبة من معادلات الجبر وأشكال الهندسة، لا تكاد تلمح فيها أثرا من حياة صاحبها الحميمة، ومن الضرب الأول - ضرب الحكمة - كان الإمام علي في ومضاته الفكرية.
لقد عرفت «نهج البلاغة» في صدر الصبا، بل لعل الصواب هو أني عرفته في أطراف الصبا الأولى، وبقيت منه نغمات في الأذن، ثم أخذت أسمع بعد ذلك - كلما لمع خطيب على منابر السياسة - قول الناس تعليقا على بلاغة الخطيب: لقد قرأ نهج البلاغة وامتلأ بفصاحته، وها أنا ذا أعيد القراءة هذه الأيام، فإذا النغمات قد ازدادت في الأذنين حلاوة، وإذا العبارات كأنها أضافت طلاوة إلى طلاوة، وأما محصول المعنى فلا أدري كيف انكمش أحيانا وراء زخرفه الكثيف.
كلا، لست أعني بزخرف الكلام هنا طلاء يزين به ليخفى على الناس هزاله، بل أعني طريقة في اختيار اللفظ الصلب العنيد، الذي لا يقوى على تشكيله إلا إزميل تحركه يد صناع، وكان يمكن للمعنى نفسه أن يساق في لفظ أيسر منالا، فصنعة الفنان هنا شبيهة بصنعة المثال في الحضارة المصرية القديمة؛ يتخير لتماثيله صم الجلاميد، فكأنما الكاتب هنا كالنحات هناك، أراد عملا أقوى من الدهر دواما وخلودا، لكنني مع ذلك كله أحسست في كثير من مواضع «النهج» أن صلابة اللفظ تهيئني لاستجماع قوتي كلها قبل أن أهم بحمل المعنى الذي قدرت له أن يتناسب مع لفظه قوة، فإذا قوتي التي استجمعتها لم يستنفد منها إلا أقلها، وذهب معظمها هباء.
اقرأ - مثلا - خطبته التي قالها يوم بويع في المدينة، وفيها يخبر الناس بما سوف تئول إليه أحوالهم: «ذمتي بما أقول رهينة، وأنا به زعيم، إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات، حجزته التقوى عن تقحم الشبهات، ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه
صلى الله عليه وسلم ، والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة، ولتغربلن غربلة، ولتساطن سوط القدر، حتى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم، وليسبقن سابقون كانوا قصروا، وليقصرن سباقون كانوا سبقوا ... ألا وإن الخطايا خيل شمس، حمل عليها أهلها، وخلعت لجمها، فتقحمت بهم في النار، ألا وإن التقوى مطايا ذلل ، حمل عليها أهلها، وأعطوا أزمتها، فأوردتهم الجنة؛ حق وباطل، فلئن أمر الباطل لقديما فعل، ولئن قل الحق فلربما ولعل، ولقلما أدبر شيء فأقبل.»
صفحه نامشخص