معنى الحياة: مقدمة قصيرة جدا
معنى الحياة: مقدمة قصيرة جدا
ژانرها
سوف نرى لاحقا أن بإمكاننا الحديث عن المعاني باعتبارها مدمجة في الأشياء بشكل ما، أو بوصفها الطبيعة التي تكتسبها. غير أن المعاني «المتأصلة» في معظم الأحيان هي ببساطة أجزاء اللغة التي تهدف لإدراك ما هو قائم هناك. وفي بعض الأحيان يكون هناك مواقف، مثل ما حدث للسفينة «ماري سيليست» - أيا كان ما حدث - والتي لا نعرف فيها ما يحدث هناك، وأين قد تكون الحقيقة، بخلاف جميع تفسيراتنا الحالية. كيف يؤثر ذلك على النقاش بشأن معنى الحياة؟ من الممكن أن يكون للحياة معنى «متأصل» في إطار معنى لا يعرف أي منا شيئا عنه؛ معنى مختلف تماما عن المعاني المتعددة التي نصوغها منها في حياتنا الفردية. فقد كان سيجموند فرويد - على سبيل المثال - يعتقد أن معنى الحياة هو الموت، وأن كل الجهد الذي تبذله «الإيروس» أو غرائز الحياة يهدف للعودة إلى حالة من الركود الأشبه بالموت، حيث لا يعود بالإمكان أن تتعرض الأنا لأي أذى. فإذا كان ذلك صحيحا (وبالطبع قد لا يكون كذلك)، فإن ذلك يستتبع أنه كان صحيحا قبل أن يكتشف فرويد الحقيقة، وصحيح أيضا الآن حتى بالنسبة لمن لا يعرفونها. إن دوافعنا ورغباتنا قد تشكل نمطا لا نعيه، ولكنه نمط يحدد بشكل جوهري معنى وجودنا. وعلى ذلك فقد يكون هناك معنى للحياة نجهله (أو كنا نجهله) كلية، ولكنه معنى لم يصغ من قبل قوة خارقة مثل الإله أو روح العصر. ولصياغة هذه الفكرة بأسلوب أكثر تخصصا قليلا: التأصل ليس بالضرورة أن يدل ضمنا على السمو والتفوق. فالمعنى الذي يصاغ للحياة من قبل الإله، والمعنى الذي نكونه بأنفسنا، قد لا يكونا الاحتمالين الوحيدين.
وفيما يتعلق بالصراع الواضح بين المعاني «المتأصلة» و«المنسوبة»، سنتناول مسألة اللغة. طالما كان هناك نقاش دائر في مجال النقد الأدبي بشأن ما إذا كان معنى أية قصيدة موجود بها بالفعل بشكل ما، في انتظار القارئ لكي يأتي ويلتقطه، أو ما إذا كان شيئا نجلبه نحن القراء للقصيدة. إذا كنا نحن من يضفي معنى على القصيدة، إذن ألسنا ببساطة نأخذ منها ما وضعناه فيها؟ في تلك الحالة، كيف يمكن للقصيدة أن تدهشنا، أو تجعلنا نشعر أنها تقاوم الطريقة التي نحاول قراءتها بها؟ ثمة تشابه هنا مع فكرة أن الحياة تكون كيفما تشكلها. هل يعني هذا أننا نأخذ من الحياة ما نضعه فيها؟ في ذلك كتب نيتشه يقول: «في النهاية لا يجد الإنسان في الأشياء شيئا سوى ما أورده إليها هو نفسه.»
2
إذن فإن وجدت أن حياتك خاوية، فلماذا لا تملأها فحسب، مثلما تملأ الثلاجة عندما ينفد منك مخزون الطعام؟ لماذا نملأ الدنيا نواحا على الحقيقة عندما يكون الحل متاحا بين يدينا بكل وضوح؟ غير أن هذه النظرية الخاصة بالمعنى تبدو نرجسية بشكل مثير للضيق. ألا نخرج مطلقا من نطاق عقولنا؟ ألا يدخل في عداد المعاني الحقيقية ذلك المعنى الذي نشعر بأننا نواجه صعوبة معه، ذلك المعنى الذي يمكن أن يقاومنا أو يصدنا، ذلك المعنى الذي يفرض علينا فهمه بقدر معين من الحتمية؟ فإذا كان مقدرا للحياة أن يكون لها معنى، فمن المؤكد أنه لا يمكن أن يكون أي معنى نضفيه عليها حسب هوانا. فلا شك أن الحياة نفسها لا بد أن يكون لها رأي في تلك المسألة، أليس كذلك؟
سوف نتناول معا كيف يمكن للحياة أن تقاوم المعنى الذي نحاول أن نضفيه عليها حالا. وفي غضون ذلك، يمكننا أن نستعرض عن كثب أكبر فكرة كون المعنى كامنا «داخل» قصيدة. إن القول بأن المعنى في عبارة مثل «هل أشبهك بيوم صيف؟» يكمن «داخل» الكلمات نفسها، يعني القول بأن الكلمات لها معنى متفق عليه في اللغة، وهو اتفاق يتجاوز حدود المعنى الذي قد أرغب في أن تعنيه الكلمات أيا كان بشكل أعمق بكثير، والذي يرتبط بشكل جوهري بمشاركة صورة عملية من صور الحياة. وحقيقة وجود اتفاق هنا لا تعني أننا لا يمكننا أن نتجادل بشأن ما تعنيه تلك الكلمات في هذا السياق بعينه. ربما كانت كلمة «هل؟» هنا تعني «هل تريدينني أن أفعل؟» أو قد تعني «هل صحيح أنني سأقارنك في المستقبل بيوم صيف؟» إن الأمر كله يتلخص في أن ما نتجادل حوله ليست معان ننسبها اعتباطيا للكلمات. ومع ذلك، فإن هذه المعاني موجودة فقط «داخل» الكلمات بسبب الأعراف الاجتماعية التي تقرر حقيقة أن حروف كلمة يوم (ي. و. م) يجب أن ترمز للوقت ما بين شروق الشمس وغروبها، وأن حرف «ك» يرمز لضمير المخاطب، وهكذا. وهذه الأعراف اعتباطية بالتأكيد حين ينظر إليها من الخارج، مثلما قد توضح مقارنة لكلمتي «يوم» وضمير المخاطب «ك» بنظيريهما في اللغة البلغارية. ولكنها ليست اعتباطية حين ينظر إليها من الداخل، شأنها شأن قواعد الشطرنج.
والقول بأن المعنى «متأصل» - بمعنى أنه مدمج في الأشياء أو المواقف بصورة ما، وليس مفروضا عليه - قد يكون أسلوبا مضللا في الحديث؛ ولكن من الممكن، رغم ذلك، أن يكون له معنى ما. فبعض الأشياء - على سبيل المثال - يمكن القول بأنها تعبر عن المعاني أو تجسدها في حضورها المادي الفعلي. والحالة النموذجية لذلك هي الأعمال الفنية؛ فالشيء الغريب بشأن الأعمال الفنية أنها تبدو مادية وذات معنى في الوقت نفسه. كنت قد استعرضت في بداية هذا الكتاب قضية أن الأشياء مثل جهاز تخطيط القلب لا يمكن أن تكون ذات معنى في حد ذاتها؛ لأن المعنى مسألة لغة، وليس مسألة أشياء. ولكن نظرا لأن جهاز تخطيط القلب هو شيء من صنع الإنسان - على عكس الكرنب مثلا - فمن الممكن بالتأكيد القول بأن له معان ومقاصد مدمجة به. فهو في النهاية له وظيفة معينة في عالم الطب، مستقلة تماما عن أية وظائف قد أختار أن أنسبها له. فبإمكاني دوما أن أستخدمه لإبقاء النافذة مفتوحة في يوم حار خانق، أو استخدامه ببراعة شديدة لصد شخص مصاب بجنون القتل؛ ولكن يظل ما أستخدمه في القيام بذلك هو جهاز تخطيط القلب.
يرى أولئك الذين يؤمنون بوجود الإله - أو بأية قوة ذكية أخرى تقف وراء وجود الكون - أن الحياة لها معان وأهداف مقترنة بها، لأنها في حد ذاتها شيئا مصنوعا. لا شك أنها عمل رديء بشكل مفزع من عدة جوانب، صنع فيما يبدو على عجل في لحظة من الإلهام المتدني لأحد الفنانين. ولكن بإمكانك الحديث عن المعنى المتأصل هنا، مثلما يمكنك أن تفعل مع كرسي ذي مسندين. فالقول بأن كرسيا ذا مسندين هو منتج «مقصود» لا يوحي بأنه يأوي رغبات وأمنيات خفية، ولكن يوحي بأنه صنع بغرض تحقيق نتائج معينة؛ تحديدا لجلوس الناس عليه. وهذا يمثل معنى أو وظيفة يكتسبها الكرسي بمعزل عما قد أرغب في أن يعنيه، ولكنه ليس معنى مستقلا عن الإنسانية بشكل تام. فهو مصنوع على هذا النحو؛ لأن أحدهم صممه على هذا النحو.
حين نتساءل عما إذا كان موقفا بعينه يعد مثالا للعنصرية مثلا، إنما نتساءل عن الموقف نفسه، وليس فقط عن مشاعرنا تجاهه، أو اللغة التي نستخدمها لوصفه. فالنظر إلى معان على غرار «متحيز» و«تمييزي» كمعان «متأصلة» في الموقف هو مجرد أسلوب مصطنع لقول إن الموقف عنصري حقا. أما إذا لم نر ذلك - إذا فكرنا على سبيل المثال أن «العنصرية» هي مجرد مجموعة من المعاني الذاتية نضفيها على الحقائق المجردة لما يحدث - فإننا إذن لا نرى الموقف كما هو عليه. فأي وصف له يفتقر إلى مصطلحات مثل «تمييزي» - وهو الوصف الذي يحاول مثلا أن يكون «خاليا من أية قيمة» - لن يرصد ما يدور بشكل كاف. وسوف يخفق كوصف، وليس فقط كتقييم. وهذا لا يعني بالضرورة أن معنى الموقف واضح تمام الوضوح؛ فقد يتضح أن تحديد ما إذا كان الموقف عنصريا أم لا أمر مستحيل. ولا شك أن هذا ما يعنيه الناس حين يدعون أن من الممكن «بناء» الموقف بطرق متضاربة. فكلمات مثل «عنصرية» تجسد تأويلات قابلة للجدل، ولكن ما نتحدث عنه هو حقيقة الموقف، وليس معنى تأويلاتنا.
دعنا نتناول الأمر من الزاوية المعاكسة. دعنا لا نتساءل عما يبدو عليه المعنى «المتأصل»، ولكن ما يعنيه الادعاء بأن المعاني هي ما «نشكل» العالم عليها. هل يوحي ذلك ضمنا بأن بمقدورنا «بناء» المعنى بأية طريقة قديمة نشاؤها؟ بالطبع لا. فلا أحد يعتقد هذا فعليا، لا سيما لأن الجميع يتفقون على أن تأويلاتنا يمكن أحيانا أن تكون خاطئة. كل ما في الأمر أن الأسباب التي يسوقها الناس لتبرير ذلك تميل للاختلاف. غير أن جميعهم يتفقون على أنه لن يكون «مجديا» لنا أن «نصور» النمور على أنها خجولة ورقيقة. ومن بين أسباب ذلك أن بعضنا لن يظل على قيد الحياة على أثر ذلك التصور. وسوف يشير بعض المفكرين إلى أن هذا التصور لا يتناسب ببساطة مع بقية تأويلاتنا، فيما سيذهب آخرون إلى أن هذا التصور للنمور لن يسمح لنا بالقيام بالأشياء الملائمة المعززة للحياة، مثل الهرب منها بأسرع ما يمكن حين تكشر عن أنيابها. وسوف يذهب بعض المنظرين - الذين يعرفون بالواقعيين - إلى أننا لا نستطيع النظر إلى النمور كمخلوقات رقيقة لأن الحقيقة الواقعة هي أن النمور ليست رقيقة. كيف عرفنا ذلك؟ لأن لدينا أدلة قوية على أنها ليست كذلك، وهي أدلة تأتينا من عالم منفصل عن تأويلاتنا له.
أيا كان موقف الشخص هنا، يبدو صحيحا أن الفرق بين «المتأصل» و«المنسوب» مفيد بما يكفي لبعض الأغراض، ولكنه قابل للتفكيك والتجريد من نواح أخرى. فالقليل للغاية مما يسمى المعاني المتأصلة - مثل المفاهيم الوثنية للقضاء والقدر، أو النموذج المسيحي للخلاص، أو فكرة هيجل الشاملة - تتضمن أن يفهم الناس حياتهم. وبناء على هذه الرؤية، لا يكون الرجال والنساء مجرد دمى متحركة في يد حقيقة مهيبة، مثلما هم من منظور شوبنهاور. توجد حقيقة من هذا النوع في هذه النماذج؛ ولكنها لن تتكشف دون مشاركة فعالة من الرجال والنساء فيها. إن جزءا من مصير أوديب المأساوي أنه يساعد بشكل نشط - إن لم يكن أعمى - في حدوث فجيعته. وفي العقيدة المسيحية، لن تحل مملكة الرب ما لم يتعاون البشر في خلقها، على الرغم من أن حقيقة أنهم يفعلون ذلك مفترضة بالفعل في الفكرة الأساسية للمملكة. ويرى هيجل أن العقل يدرك نفسه في التاريخ فقط من خلال الأفعال الحرة الحقيقية للأفراد؛ والواقع أنه يكون في أقصى درجات واقعيته حين يكونون في أقصى درجات حريتهم. كل هذه السرديات الكبرى تفكك الفرق بين الحرية والضرورة؛ بين صياغة معانيك وبين تقبل معنى ما متواجد بالفعل في العالم.
صفحه نامشخص