مکیاولی: مقدمهای بسیار کوتاه
مكيافيللي: مقدمة قصيرة جدا
ژانرها
مؤرخ فلورنسا
الغرض من تسجيل التاريخ
عقب انتهاء مكيافيللي من كتابة «المطارحات» بوقت قصير، ضرب الحظ ضربته أخيرا وعلى نحو مفاجئ، حيث وهب مكيافيللي الدعم الذي طالما رغب فيه من حكام عائلة مديتشي. فقد حدث أن لورنزو دي مديتشيتو الذي كان مكيافيللي قد أعاد إهداء كتاب «الأمير» له بعد وفاة جوليانو عام 1516، توفي فجأة بعد ثلاث سنوات، وخلفه في السيطرة على شئون فلورنسا ابن عمه، الكاردينال جوليو، الذي سرعان ما انتخب لمنصب بابا الكنيسة الكاثوليكية باسم كليمنت السابع، وتصادف أن الكاردينال على صلة بأحد أقرب أصدقاء مكيافيللي، وهو لورنزو ستروتسي، الذي أهداه مكيافيللي فيما بعد كتاب «فن الحرب». ونتيجة لهذا الاتصال، تمكن مكيافيللي من الحصول على فرصة تقديم نفسه في البلاط المديتشي في مارس من عام 1520، وبعد ذلك بوقت قصير تلقى تلميحا بأن ثمة وظيفة ما - وإن كانت أدبية وليست دبلوماسية - ربما تكون متاحة له . ولم تخب توقعاته؛ ففي نوفمبر من نفس العام تلقى تفويضا رسميا من حكومة مديتشي بكتابة تاريخ فلورنسا.
ظلت عملية كتابة «تاريخ فلورنسا» تشغل مكيافيللي طوال ما تبقى من حياته تقريبا، كان ذلك هو أطول أعماله وأكثرها تأنيا، فضلا عن كونه العمل الذي حرص فيه مكيافيللي أشد الحرص على اتباع العادات الأدبية لمن يفضلهم من الأدباء الكلاسيكيين. كان المذهبان الأساسيان لعلم التأريخ الكلاسيكي - وبالتالي الإنساني - أن تتضمن الأعمال التاريخية تلقين دروس أخلاقية، ومن ثم أن تختار موادها وتنظم على نحو يسلط الضوء على الدروس الأخلاقية بأقصى قوة. وقد قدم سالوست، على سبيل المثال، إفادة مؤثرة عن هذين المبدأين، فقد قال في كتاب «حرب يوغرطة» إن هدف المؤرخ يجب أن يتمثل في التفكر في الماضي على نحو «مفيد» و«نافع» (4: 1-3). وفي كتاب «حرب كاتيلين» توصل إلى الاستدلال على أن النهج الصحيح يجب، تبعا لذلك، أن يتضمن «اختيار الأجزاء» التي تبدو «جديرة بأن تسجل»، وعدم محاولة تقديم سرد كامل لما وقع من أحداث (4 : 2).
شكل 4-1: مكتب مكيافيللي في بيته في «سانت أندريا» في ضاحية بيركوسينا بجنوب فلورنسا، حيث ألف كتاب «الأمير» عام 1513. (© AKG London/Eric Lessing)
التزم مكيافيللي التزاما شديدا بهذين المطلبين وهو يسرد، لا سيما في تناوله مختلف نقاط التحول وذرى الأحداث. فالكتاب الثاني، على سبيل المثال، ينتهي برواية مفيدة تحكي كيف صار دوق أثينا يحكم فلورنسا كطاغية عام 1342، وكيف أسقط من السلطة خلال السنة التالية. بعد ذلك يتحول الكتاب الثالث على نحو يكاد يكون فوريا إلى الحلقة التالية الكاشفة من ثورة «التشومبي» عام 1378، عقب وصف بسيط يعرض الخمسين سنة التي تخللها هذا الحدث. وبالمثل، ينتهي الكتاب الثالث بوصف لرد الفعل الذي تلا ثورة عام 1378، ثم يبدأ الكتاب الرابع، مسقطا فجوة زمنية قوامها أربعون عاما، بمناقشة كيفية نجاح عائلة مديتشي في ارتقاء سدة الحكم.
من مذاهب الكتابة التاريخية الإنسانية الأخرى أن المؤرخ إذا أراد نقل أكثر الدروس إفادة بأكثر الطرق انطباعا في الذاكرة، فعليه أن يستخدم أسلوبا بلاغيا قويا. وقد أعلن سالوست في بداية «حرب كاتيلين» أن الصعوبة الخاصة التي ينطوي عليها التاريخ تكمن في حقيقة أن «أسلوب الكلام ووقعه يجب أن يكونا على مستوى الأفعال المسجلة» (3 : 2). ومكيافيللي يأخذ أيضا هذا المبدأ على محمل الجد، لدرجة أنه قرر في صيف عام 1520 أن يصوغ «أنموذجا» أسلوبيا لسرد تاريخي، ووزع صيغته التمهيدية على أصدقائه في أورتي أوريتشلاري بهدف التماس تعليقاتهم على النهج الذي سلكه. كان الموضوع الذي اختاره مكيافيللي لهذا النموذج هو سيرة حياة كاستروتشو كاستراكاني، طاغية بدايات القرن الرابع عشر الذي كان يحكم مدينة لوكا، لكن مكيافيللي لم يكن مهتما بتفاصيل حياة كاستروتشو - التي كان بعض تفاصيلها من اختلاق مكيافيللي - بقدر ما كان مهتما بالعمل على اختيارها وترتيبها بطريقة راقية ومفيدة. فالوصف الافتتاحي لميلاد كاستروتشو وتقديمه على أنه لقيط، ليس سوى وصف مختلق، لكنه يمنح مكيافيللي الفرصة لكتابة كلام حماسي طنان عن نفوذ «الحظ» في الشئون الإنسانية (533-534). وحينما يبدأ كاستروتشو - الذي تلقى تعليمه على يد كاهن - في شبابه في «شغل نفسه بالأسلحة»، هذا أيضا يمنح مكيافيللي فرصة ليقدم شكلا من الجدل الكلاسيكي حول الهوايتين المتعارضتين المتمثلتين في الأدب والقتال (535-536). أما الخطاب الذي يلقيه الطاغية بأشد الندم لحظة موته، فيمثل هو الآخر أفضل تقاليد أسلوب التأريخ القديم (553-554). ثم تختتم القصة بأمثلة عديدة على ذكاء كاستروتشو اللامع، وإن كانت أغلب الأمثلة مسروقة مباشرة في حقيقة الأمر من «حياة الفلاسفة» لديوجينس لارتيس، وجرى إدراجها لمجرد إضفاء طابع بلاغي (555-559).
عندما أرسل مكيافيللي كتاب «حياة كاستروتشو» إلى صديقيه ألاماني وبونديلمونتي، لاقى الكتاب منهما استحسانا كبيرا باعتباره بروفة للعمل التاريخي الضخم الذي كان مكيافيللي يأمل في أن يكتبه في ذلك الوقت. فقد رد بونديلمونتي على مكيافيللي في رسالة كتبها له في سبتمبر عام 1520، تحدث فيها عن كتاب «حياة كاستروتشو» بوصفه «نموذجا لسردك التاريخي»، وأضاف أنه لهذا السبب يعتقد أن من الأفضل التعقيب على النص «من حيث اللغة والأسلوب في المقام الأول»، وأعرب عن بالغ إعجابه بانطلاقاته البلاغية، قائلا إنه استمتع بخطبة فراش الموت المبتكرة «أكثر من أي شيء آخر». ثم قال لمكيافيللي أكثر أمر يظن أنه كان يرغب في سماعه وهو يتأهب لخوض هذا المعترك الأدبي الجديد، وهو: «يبدو لنا جميعا أنك الآن لا بد أن تشرع في العمل على كتابة سردك التاريخي بمنتهى الاجتهاد» (م 394-395).
حينما عكف مكيافيللي كما ينبغي على كتابه سرده التاريخي بعد بضعة أشهر، استخدم هذه الأدوات الأسلوبية في عمله على نحو مدروس، فقد صيغ الكتاب بأكثر أساليبه توظيفا للأقوال المأثورة ولطريقة المقابلة والتضاد، وتتكرر فيه كل الموضوعات الرئيسية لنظريته السياسية لكن في ثوب بلاغي. في الكتاب الثاني، على سبيل المثال، يقدم مكيافيللي مشهدا يقف فيه أحد «السادة» في مواجهة دوق أثينا ليلقي على مسامعه خطابا مؤثرا عن «اسم الحرية، الذي لا تسحقه أي قوة، ولا يبليه طول الدهر مهما طال، ولا يضارعه أي منال» (1124). وفي الكتاب التالي يلقي أحد المواطنين العاديين خطابا ساميا بالقدر نفسه على مسامع «السيد» عن موضوع «القوة» والفساد، وعن ضرورة أن يخدم كل مواطن الصالح العام دائما (1145-1148). وفي الكتاب الخامس يحاول رينالدو ديجلي آلبيتزي أن يلتمس عون دوق ميلانو ضد نفوذ عائلة مديتشي المتنامي بخطاب آخر عن «القوة» والفساد، وواجب المواطن أن يقدم ولاءه للمدينة التي «تحب كل مواطنيها بالقدر نفسه»، لا للمدينة التي «تخضع إلى قلة قليلة من مواطنيها وتتجاهل كل الآخرين» (1242).
كان أهم مبدأ تعلمه الفلاسفة الإنسانيون من أساتذتهم الكلاسيكيين أن المؤرخين يجب أن يركزوا اهتمامهم على أرقى إنجازات أسلافنا، وبذلك يشجعوننا على محاكاة أنبل أعمالهم وأكثرها مجدا. ورغم أن كبار المؤرخين الرومان كانوا يميلون إلى التشاؤم في استشراف التوقعات، وكانوا يستفيضون كثيرا في ذكر الفساد المستشري في العالم، كان هذا عادة ما يدفعهم إلى التحمس في إصرارهم على أن المؤرخ يجب أن يذكرنا بأيام أفضل حالا. والمؤرخ سالوست يشرح في كتاب «حرب يوغرطة» أن استبقاء «ذكر الأعمال العظيمة» هو الذي يمكننا من أن نأمل في أن نلهب «في صدور الرجال النبلاء» ذلك النوع من الطموح، «الذي لا يمكن أن تنطفئ شعلته حتى يبلغوا مجد أجدادهم وحسن سمعتهم من خلال «قوتهم» هم أنفسهم » (4: 6). يضاف إلى ذلك أن هذا الشغف بالطابع التمجيدي في عمل المؤرخ هو أهم ما استمده الفلاسفة الإنسانيون في عصر النهضة من دراستهم لأعمال ليفيوس وسالوست ومن عاصرهما. ويمكن رؤية هذا بوضوح، على سبيل المثال، فيما كتب عن الغرض من سرد التاريخ، في إهداء كتاب «تاريخ الشعب الفلورنسي» الذي أنهى المستشار بوجو براتشوليني كتابته في خمسينيات القرن الخامس عشر. هذا يؤكد أن «الفائدة العظيمة المستمدة من التاريخ الصادق حقا» هي «أننا نستطيع أن نرى ما يمكن أن تحققه «قوة» أكثر الرجال تميزا.» فنحن نرى كيف حفزهم وحركهم الحرص على «المجد، وعلى حرية بلادهم، وعلى صالح أبنائهم، وعلى آلهتهم، وعلى جميع الأمور الإنسانية»، ونجد أنفسنا «نتأثر أشد التأثر» بقدوتهم الرائعة وكأنهم «يحثوننا» على منافستهم في عظمتهم.
صفحه نامشخص