المعضلة العلائية
كيف كنت أفهم المعري؟
عصر الأسرار والخفاء
عصر أبي العلاء
دعوة أبي العلاء
رسالة أبي العلاء إلى المعريين
حبيس المعرة
مدرسة أبي العلاء
معتقده
أبو العلاء والحاكم
الليلة الأولى
الليلة الثانية
الليلة الأخيرة
بعد العاصفة
الحصن الذي لم يسكت
مذهب أبي العلاء
خلال ألف سنة
أراجيف وأساطير
شاعر العقل الفاطمي
بعد أربعمائة سنة
بين شيخين
عنزة ولو طارت
المعضلة العلائية
كيف كنت أفهم المعري؟
عصر الأسرار والخفاء
عصر أبي العلاء
دعوة أبي العلاء
رسالة أبي العلاء إلى المعريين
حبيس المعرة
مدرسة أبي العلاء
معتقده
أبو العلاء والحاكم
الليلة الأولى
الليلة الثانية
الليلة الأخيرة
بعد العاصفة
الحصن الذي لم يسكت
مذهب أبي العلاء
خلال ألف سنة
أراجيف وأساطير
شاعر العقل الفاطمي
بعد أربعمائة سنة
بين شيخين
عنزة ولو طارت
أبو العلاء المعري زوبعة الدهور
أبو العلاء المعري زوبعة الدهور
تأليف
مارون عبود
ولو طار جبريل بقية عمره
من الدهر ما اسطاع الخروج من الدهر
المعري
المعضلة العلائية
كيف كنت أفهم المعري؟
يفتتح داعي دعاة التوحيد، شيخ المعرة، «ألفية» فلسفته، بل كتاب المذهب: «لزوم ما لا يلزم» بقوله:
تكرم أوصال الفتى بعد موته
وهن إذا طال الزمان هباء
فخفت أن يزعجه هذا الإكرام بعد ألف سنة، وكأني به قد نظر إليه بعين الغيب، فقال:
وأكرمني على عيبي رجال
كما روي القريض على الزحاف
وقفت حيران لا أدري ماذا أقول في هذا العرس؛ فمن عادة البشر تعظيم العريس، مهما يكن شأنه، فكيف بنا وعريسنا اليوم أعزب الدهر كشيخنا أبي العلاء، الذي يكال له الثناء بالمد، ويقاس بالأميال وبالفراسخ؟
إن شيخنا المعظم يحب الهجو، ويسيء الظن، وينهى عن المدح، حتى قال لنا:
فلا تمدحاني، يمين الثناء
فأحسن من ذاك أن تهجواني
والعجيب الغريب أن يكذب الناس جميعهم: نبيهم ورسولهم، أديبهم وشاعرهم، خواصهم وعوامهم. أبغضهم وجافاهم فتهافتوا على سراج ينوس في مهب عواصف الدهر، فجزاهم على ابتسام بابتسام، حتى إذا ما انصرفوا من تلك الحضرة المتألهة، تقمص ربها روح ذاك الصعلوك القائل: «ولي دونكم أهلون سيد عملس.» فقال فيهم مثله:
والوحش في الفلوات أجمل عشرة
للمرء من أهليه في الأمصار
وأوغل في مفاوز إساءة الظن فقال أيضا:
أعدى عدو لابن آدم خلته
ولد يكون خروجه من ظهره
ثم رماهم بالجهل المطبق وأقصى الغباوة فقال:
لو قال سيد غضا بعثت بملة
من عند ربي، قال بعضهم: نعم
إذا نظرنا إلى «الظاهر» أيقنا أن الشيخ الإمام غضبان، حردان على الدنيا وبنيها، فألقى قنابل محشوة غازات وسموما على مدينة المثل العليا فأصابت الجميع:
قد ترامت إلى الفساد البرايا
واستوت في الضلالة الأديان
أنا أعمى، فكيف أهدى إلى المن
هج والناس كلهم عميان
قرأت في هذه الأشهر كل ما أملاه الإمام وأخرجته المطابع، وتتبعت آثاره في هوي «لزومياته»، وتسلقت قمم «رسائله» متلمسا النور من «سقط زنده» و«ضوء سقطه» لعلي أدرك بعض «غاياته»، وأشهد تمثيل «فصوله»، فكنت كمن يستنير بالحباحب. رأيتني في يهماء تكذب فيها العين والأذن.
رأيت، بادئ ذي بدء، رجلا يقودني إلى حيث لا يدري ولا أدري، فلم أجد أكفأ من كلمة ذلك الوزير الذي زاره فقال له: ما هذا الذي يرويه الناس عنك؟ فأجابه: قوم حسدوني فكذبوا علي. فسأله الوزير: وعلام حسدوك وقد تركت لهم الدنيا والآخرة؟ فأجاب المعري: والآخرة ...
وأطرق منطويا على نفسه، بل على سره الذي كان من كتمانه في جهد جهيد.
أجل، رأيتني باتباعي شيخ المعرة أصبحت لا دنيا ولا دين ولا آخرة، وهذا عجيب.
يدعو الرجل إلى تطليق الدنيا ولا يرتجي غيرها، فكيف يكون هذا؟ ما رأيت فلسفة بلا غاية إلا فلسفة المعري، فقام في ذهني إذ ذاك، أن الرجل ساخط، متبرم، متشائم، يهجو الأنام، لا أكثر ولا أقل، لا يرى الجمال فيفتنه سحره، ويلطف مرارة عيشه، فاتبع «العقل»، والعقل يهدي ولكنه هاد زميت، جاف العشرة.
ظننت أن الإكسير الذي يحلي مرارة العيش ليس في متناول يد المعري، أخفق في طلب الدنيا لأنه غير مستطيع، فانطوى على نفسه في عقر بيته واستدار يفح فحيحا راعبا.
انزوى كالخلد يقرض جذور التعاليم لييبس ما غرسه السلف، وصب على الدنيا وبنيها زيت سخطه المغلي، فشواها بناره وكبريته. كنت أظن أن نسك أبي العلاء لا يراد منه الثواب، ولكنه فعل ما فعله ديوجين حين داس كبرياء أرسطو بكبرياء أكبر منها ...
يخيب بعضنا في الحياة، فيهرع إلى الدير. فإن كان رجلا خطب ود مريم وحل هذا الزواج الصوفي محل الزواج الآخر، وتسامى صاحبه إلى المثل الأعلى، فخدم البشرية خدمات جلى. وإن كان أنثى، كان عريسها يسوع القائل: «من لا يترك من أجلي أبا أو أخا أو أما فهو لا يستحقني.» فحبا بالعريس المرجى تقف حول سرير المريض، وتحنو على اللقيط، وتعطف على اليتيم.
أما نسك شيخنا - رحمات الله عليه - فيسفر في ظاهره عن سخط أشبه بالقذف؛ فهو يذم الأمهات والأخوات بأردأ النعوت والألقاب، يخاف عليهن حتى من أقرب الناس. ما قصر عن الحطيئة في شيء، بل ما خلته إلا مثله حين قرأت قوله:
بدء السعادة أن لم تخلق امرأة
فهل تود جمادى أنها رجب؟
ولم تتب لاختيار كان منتجبا
لكنك العود إذ يلحى وينتجب
وما احتجبت عن الأقوام من نسك
وإنما أنت للنكراء محتجب
فهل تدل هذه الأبيات على شيء؟ أستغفر الله، إنني، علم الله، حسن الظن بالشيخ، ولكن ألا يحق لي أن أشك فيه كما شك هو لعلمي أنه بعض الأنام؟
ولكن لا، إنني أثق به، إنه لصادق السريرة والعلانية، غير أني أسمح لوجداني أن يعتقد أن أبا العلاء فجع بالأنثى التي تعلقها قلبه، وما هجا الدنيا ذاك الهجو المر إلا لأجل تلك التي لم ترع لهذا الضرير عهدا، وقد تكون هي التي حملته على الهجرة إلى العراق على قلة استطاعته.
يشير الشيخ على الناس بشيء، ولكن إشارته تبعث على اليأس، ويا ليته يأس مريح، إنه يأس يستوي فيه الأعمى والبصير كقوله:
والخير أفضل ما اعتقدت فلا تكن
هملا، وصل بقبلة أو زمزم
1
كنت أحسب هذا تظرفا من الشيخ - والشيخ كان ظريفا في شبابه ولكن ظرفه تحول فيما بعد - فقلت إذ ذاك: «كم من متدين هو أسمى عقلا منا، فكيف يغرب هذا عن بصير كالمعري؟» فإذا بي أرى الشيخ مدركا هذا يقر به ويقول في رسالة الغفران: «وقد تجد الرجل حاذقا في الصناعة، بليغا في النظر والحجة، فإذا رجع إلى الديانة ألفي كأنه غير مقتاد، وإنما يتبع ما اعتاد» (ص255).
لست بالمبشر في هذا المقال، ولكني قرأت اللزوميات لأرى ما يدعو إليه أبو العلاء، فلم أقع - أولا - على شيء، فعدت من قراءتها وقراءة كل آثاره، كما عاد صاحبنا من العراق راضيا من الغنيمة بالإياب.
رأيت رجلا يهجو الدنيا ويزدريها كالمسيح، ولكنه لا يترجى ملكوتا ولا نعيما، فماذا نعمل نحن الذين لا نصلي ولا نشكر إلا طمعا بالثواب؟ وأين هي الغاية نسعى لها؟ بل أين هي الفلسفة التي يجب أن نقر له بها ونضعه لأجلها بين حكماء الأجيال؟
فنفضت يدي من صاحبي وقلت: لا هذا ولا ذاك. ما هناك إلا أعزب الدهر مقيم في غرفة سوداء، يناجي الأشباح والأرواح، شفتان ترتجفان وتتمتمان، يستعرض جبهة الأزل وساحات الأبد، يفكر دائما بالمعضلة السرمدية، ويصوب نحوها نبراس عقله، فيهرب الظلام ولا يكشف له النور عن شيء، فيلتجئ إلى ما طبع عليه؛ أي السخر والهزء، فيضحك من موكب الحياة الصاخب؛ لأنه لا يقدر أن يماشيه، فيرى جميع الناس صما عميا بكما:
أفضل من أفضلهم صخرة
لا تخدع الناس ولا تكذب
فقلت: تلك نتيجة مركب النقص، كما يزعم علماء هذا الزمان. عجز أبو العلاء، فرأى جميع الناس أشرارا قساة القلوب، يفتكون بالضعيف ويصفون له «الفروج» لأنهم استضعفوه، فلماذا لم يصفوا شبل الأسد؟
غضب المعري على المستطيعين؛ لأنه غير مستطيع مثلهم، فعد النسل جناية.
تحدث كثيرا عن المرأة لأنه يحبها، وأساء الظن بها لأنه يريدها ويغار عليها، وهو عاجز من جهتين، فقعد يكره الناس بالحياة، وفي الحياة ناموس يجذبنا إليها؛ فكيف يقوى على صده ضرير، ولا سيما أنه يقول: «أم دفر لقد هويتك جدا ...» كما سترى. إذن، غضب أبو العلاء على الدنيا لأنها لم تحسن استقباله، فهجاها انتقاما منها، ولكنها أجابته بقوله :
رب لحد قد صار لحدا مرارا
ضاحك من تزاحم الأضداد
أقول هذا وأشهد أني ظلمت الشيخ - قبل أن أدرك سره - والله وحده يعلم إن كنت أدركت شيئا ...
لم أستغرب قول صاحب يتيمة الدهر إنه عرف في معرة النعمان شاعرا ظريفا اسمه أحمد بن سليمان؛ فصاحبنا أبو العلاء ظريف حقا. لا بد هنا من تصفية حساب إحدى مشاكل الرجل؛ فقد توهم الناس حتى الخواص من الأدباء - هدانا الله وإياهم - أن أبا العلاء خلق منزها عن الشهوات، بريئا مما يسميه غيرنا الضعف البشري، لا ينقصه شيء من الكمال في نظرهم، حتى كادوا يجعلونه بمعزل من الغرائز، كأنه غير مركب من لحم ودم.
إن أبا العلاء، أيها الفضلاء - وهذا لا يضير عصمته التي تزعمونها له - قد تغزل كالشعراء؛ لأنه أحب مثلهم - الحب لا يضر يا سادة - وأحس بما أحس به كل مركب من نفس وجسد وله دماغ وقلب، إنه لم يقل عبثا:
أيا دارها بالخيف إن مزارها
قريب ولكن دون ذلك أهوال
وقال أيضا:
أيا جارة البيت الممنع جاره
غدوت ومن لي عندكم بمقيل
لغيري زكاة من جمال فإن تكن
زكاة جمال فاذكري ابن سبيل
وأبو العلاء مدح كالشعراء، وهنأ بالزفاف وغيره مثلهم، ولم يقصر عن أبي الطيب في غلوه وإيغاله، حتى قال لأحد زعماء الشيع يهنئه في عرس:
كأنها سر الإله الذي
عندك دون الناس يستكتم
وليس يبالغ هذه المبالغة إلا من يطمع في حطام الدنيا؛ فأبو العلاء قد جنى مثل غيره غلة الشعر، وذاق بواكير محصوله - قبل نسكه - وأبو العلاء رثى كالشعراء، وهجا مثلهم، ولكن هجوه لا هجر فيه، وافتخر وادعى مثل الشعراء بل أكثر منهم. فلنثق جيدا أن المعري إنسان مثلنا، أكل وشرب وتلذذ مثل الناس، وهو لم يكذب علينا حين قال:
تنسكت بعد الأربعين ضرورة
ولم يبق إلا أن تقوم الصوارخ
فكيف ترجي أن تثاب وإنما
يرى الناس فضل النسك والمرء شارخ
ويقول أيضا معبرا عن اختباره الواسع الدائرة:
إن الشبيبة نار إن أردت بها
أمرا فبادره إن الدهر مطفئها
أصاب جمري قر فانتبهت له
والنار تدفئ ضيفي حين أدفئها
وهو يعترف بأخذه قسطا وافرا من نعيم الحياة حين يقول:
خبرت البرايا والتصعلك والغنى
وخفض الحشايا والوجيف مع السفر
ويقول عن الدنيا ورياء البشر وإظهارهم الصدوف عنها:
من لم ينلها أراك زهدا
ومن لعير بصليانه
ثم لا يكتفي بإخبارنا عن هذا الترك، بل يقول لماذا فعل ذلك:
ولم أعرض عن اللذات إلا
لأن خيارها عني خنسنه
ويقول أيضا في آخر الشوط:
غنى وتصعلك وكرى وسهد
فقضينا الحياة بكل فن
زمان لا ينال بنوه خيرا
إذا لم يلحظوه من التمني
عرفت صروفه فأزمت منها
على سن ابن تجربة مسن
لم ينزه أبو العلاء نفسه عن كل هذا، ومع ذلك يقوم فينا، بعد عشرة قرون، من يغار عليه، ويأبى أن يقر له بذاك، ليرينا إياه رجلا حلت عليه النعمة في البطن ... ثم يتساءل: «من أين له الغنى وخفض الحشايا؟» «ما نشك في أنه قد مر بهما مرور الطيف في يوم من أيامه التي قضاها عند أخواله بحلب، أو عند أصحابه بمدينة السلام. ولعله ظن جلوسه على الفراش الوثير وتمتعه بالطعام الشهي ساعة من نهار في دار سابور بن أزدشير، أو عبد السلام بن الحسين، ابتلاء للغنى.»
عجيب وألف عجيب أمر صاحبنا هذا. ترجح دائما كفة الغرض حيث ينصب ميزانه؛ فهو إن وزن المعري تقصر جميع أثقال الدنيا عن أن تزنه وتعادله، وإن وضع فيه المتنبي شال ولم تواز شخصيته حبة خردل.
فإما أن أبا العلاء صادق، وإما أنه غير صادق، فإن كان صادقا فقد أقر وأظهرنا على ضعفه هذا - إن سميناه ضعفا. وإن كان غير صادق، فلماذا نصدق ما زعمه ورواه عن زهده؟ بل لماذا لا نشك بقوله على الأقل، إن لم نكذبه؟ فالذي عندي هو أن أبا العلاء بلا الدنيا، وذاق حلاوتها، وتكلم عن اختبار واعتبار، فلا ننزهه عما لم ينزه هو نفسه عنه، ولنصدق معاصره الذي وصفه بالظرف. هبوه أبا حنيفة الإمام المتبوع؛ فقد كان في أول عهده من عشراء حماد عجرد وجماعته. وهبوه القديس أوغسطينوس يعترف؛ فما ضر اعترافه علمه ولا قداسته.
فلنسمع اعتراف أبي العلاء. قد نسك شيخنا وتزمت بعدما أخفق، أو قل «تحول» ظرفه حين مشى في جادة أخرى، وأمسى حبيسا. إنه لم يولد في البصرة، بل في معرة النعمان، والمعرة بلد منعزل ضيق ما فيه إلا قيود وتقاليد.
تذكر الشيخ قول أبي نواس: «نعم إذا فنيت لذات بغداد.» فقصدها، ولكنه عاد خائبا من باريس العالم القديم؛ لأنه غير مستطيع، فكان من أمره ما كان. انزوى في بيته يعلم الناس كبارا وصغارا ويهزأ بالناس أجمعين، ويضحك من مطامعهم العجيبة، وغلواهم فيه. قال شيخنا الجليل:
والذي حارت البرية فيه
حيوان مستخلص من جماد
قال قوم، ولا أدين بما قا
لوه، إن ابن آدم كابن عرس
فقام منا من يزعم أنه سبق داروين إلى علم النشوء والارتقاء.
إنه لا يعني فيما يقول أكثر مما نعتقده؛ أي إن الإنسان مخلوق من تراب ولا يعني بقوله: «إن ابن آدم كابن عرس.» أكثر مما يظن الفلاسفة الماديون.
وغضب أبو العلاء على البشر حين اعتقد «الخير» مذهبا فقال:
أقلقتم السابح في لجة
ورعتم في الجو ذات الجناح
هذا وأنتم عرضة للفنا
فكيف لو خلدتم يا وقاح؟
فقام أيضا من يظن أنه ممن كشفت لهم حجب الغيب، وقد نظر إلى ما سيكون، فحدثنا عن الطائرات والغواصات، وأبو العلاء المسكين لا يعني إلا قنص الطير وصيد السمك ...
ألزم شيخنا نفسه ما ليس يلزمها فسخط على المتساقطين على مائدة الدنيا كالذباب. ولو كان عنده علم هذا الزمان لحرم علينا شم الهواء وشرب الماء؛ لأن فيهما حياة، ولامتنع عن أكل العدس لأنه يلد الطويرات، ورفع يده عن سلة التين لأن التين، إذا خم، يولد بنات عم البرغش.
ضلالة هندية اعتقدها أبو العلاء، وأراد أن يجعل نفسه حقل اختبار لفلسفته كما فعل تولستوي حين خرف.
هكذا ظننت قبلما عرفت رأيه في «النفس»، وقبلما بان لي أنه يرجو ثوابا.
اعتكف أبو العلاء على درس أبي الطيب فكانت أولى صرخاته: «نقمت الرضا حتى على ضاحك المزن.» وأبغض الدنيا وأهلها مثله فاختار لها أبشع الألقاب وأوخمها، وهذه الكنية النتنة التي أطلقها عليها مأخوذة من قول معلمه أبي الطيب:
وقتلن دفرا والدهيم فما ترى
أم الدهيم وأم دفر ثاكل
ثم ذهب في ذمها مذاهب أبعد يعرفها كل من له إلمامة بالأدب.
أعجب شيخ المعرة بالمتنبي فتناول كلياته الفلسفية وطفق يبسطها ويمططها، فكان في نظري مكبرا فوتوغرافيا لصور المتنبي، فترك لنا هذا الميراث الفلسفي المنظوم؛ فما لزوميات أبي العلاء إلا كألفية ابن مالك؛ هذه تتضمن صرفا ونحوا، وتلك تتضمن فلسفة لمها صاحبها من هنا وهناك، فهو لمام فلسفة لا فيلسوف. وأعرف كثيرا من معازة وبقارة وبغالة عندنا يقولون عن الطقوس وغيرها ما قاله أبو العلاء، وقد يعبر بعضهم أحيانا بسخر مثل سخره، ولكنه لا يحسن النظم مثله.
وضع أبو العلاء الرجاز في آخر الجنة تحقيرا لفنهم، فأين كان يضع نفسه فيها لو سألناه ذلك؟ لا شك أنه لا يجيب ببيته المشهور:
وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآت بما لم تستطعه الأوائل
فقد أفحمه ذلك الصبي، إن صحت الرواية ... أما أنا فأراه صادقا في هذا البيت بالنظر إلى رسالة الغفران؛ فهو أروع أثر عربي ينم عن ظرفه ويبرئ تلك التسمية. فمن شاء أن يتعرف به فليطلبه هناك.
أما لزومياته فقلما تجد فيها شعرا. ولنعظمه لأجل ذلك الأثر الخالد.
قد أخفق فيما كتبه بعدها من رسائل وفصول، ولم يدرك غاية من الغايات؛ لأن فكرة صاحبنا واحدة؛ فهو منها كطائر في قفص، أو كجواد طول له ليرعى، فخط دائرة بمقدار ذلك الحبل.
إن رائحة أعزب الدهر لا تعجبني؛ فالشعر ابن الحياة، وكل شعر يبتعد عنها ينفر منه القلب وتشمئز النفوس؛ ففي شعر أبي العلاء رائحة يأس قتال، ومن يتبعه كان مغفلا يقع وإياه في حفرة.
قد تدخل عقلي أفكار أبي العلاء الزهدية حين أشبع ميولي، أما حين أنشط فأراه أخا البوم ينعب ولا يتعب.
إني لأكره النوح والنعيب، وأحب الفن راقصا في كل زمان ومكان حتى على القبور؛ فليتني أودع بطبل وزمر، فأدخل ذاك الباب بين أجواق الزامرين والراقصين، ولا أودع وداع يأس كما زعم هو ...
لست ألوم الشيخ إن قال:
ضجعة الموت رقدة يستريح ال
جسم فيها والعيش مثل السهاد
ربما كان صادقا، ولكن لا؛ فشعره غير مصداق لقوله، ورحم الله أستاذه أبا الطيب إذ أجابه عنا:
وإذا الشيخ قال أف فما مل
حياة ولكن الضعف ملا
لقد كان أبو الطيب يلم من كل فن بطرف؛ فللغيد عنده ساعة ثم تنقضي، أما أبو العلاء فيريد أن يجذبنا صوبه فما مثله إلا كمن ينادي: «ترمس أحلى من اللوز!»
هيه! يا أبا النزول، فليصدقك غيري، أما أنا فلست أذوق ترمسك ما استطعت أكل اللوز والجوز ...
إني لأعجب ممن يقول:
تحطمنا الأيام حتى كأننا
زجاج ولكن لا يعاد له سبك
ثم يدعو الناس إلى ترك أطايب الدنيا.
إن الفلسفة العلائية ترى كل ما على الأرض ضلالا وباطلا، ثم لا ترجو معادا، أليس هذا منتهى العجب؟
أنطقته بمزاعمه غريزته الموءودة؛ فجسمه مقبرة عواطف ترجو الحياة، فولد تساميه تشاؤما ويأسا، بل صاحت هامته: «اسقوني»، فقدم لها زاده الفلسفي المعفن.
شبع سليمان من لذائذ دنياه وأطايبها فقال لنا بعد أن مسح فمه: «باطل الأباطيل وكل شيء باطل.» ولكن هذا قالها ولم يذق من حلاوة دنياه غير التين، كما زعموا.
لا تصدق ذلك؛ فأبو العلاء عرف جميع ملاذ الدنيا، وذاق ضروب حلاوتها كلها إلا الخمرة.
إن أعجب فأعجب من أعميين هما الضدان اللذان لا يجتمعان: أبو معاذ، أكمه البصرة، الشره، القرم إلى الأحمرين، الخمر واللحم، وأبو العلاء، ضرير المعرة وهو بحق صائم الدهر:
أنا صائم طول الحياة وإنما
فطري الحمام ويومذاك أعيد
أنا واثق أن شيخنا، قدس الله سره، ما عيد قط، لا على لحم ولا على بيض ... اللهم بعدما نسك. أما كيف يفطر وكيف يعيد أبو العلاء إذ يموت، فهذا يأتيك خبره في حينه، فلا تستعجل الأمور قبل أوانها فتعاقب بحرمانها.
إن أبا العلاء ربيب المتنبي في خطوط فلسفته الكبرى ، وهو أخو الجاحظ في هزئه المتلبس بالجد، وسخريته المتعالية حتى على الخواص. ليس أبو العلاء شاعر الفلاسفة ولا فيلسوف الشعراء؛ فقد أبعدته فلسفته عن الشعر، ولا يصح أن نعده، في لزومياته، شاعرا، إلا إذا جاز لنا أن نحصي ابن مالك في الشعراء. ليست لزوميات شيخنا ديوان شعر، ولكنها كتاب جمع فيه مؤلفه أصول «مذهبه» وبسطها بسطا معمى تقية وإيثارا للعافية. أما نبهنا إلى ذلك بقوله:
أوجز الدهر في المقال إلى أن
جعل الصمت غاية الإيجاز
لا تقيد علي لفظي؛ فإني
مثل غيري تكلمي بالمجاز
فمن هو هذا «الغير» يا ترى؟
هذا ما يعنيني ويعنيك أيها القارئ اللبيب، ففكر معي إلى حين يفتح الله علينا.
كان في نفس المعري حاجة ما اجترأ على مفاتحة الناس بها؛ فلم يمن بما مني به المتنبي من قصاص وخيبة ...
أما المتنبي فأخفق في دعواه ولم يخفق في فنه الشعري، والمعري عكس الآية، أخفق في الشعر وفاز بالتوحيد؛ أعني التوحيد الذي يفهمه هو و«الجماعة» القائلون: «الإسلام باب الإيمان، والإيمان باب التوحيد.»
المعري رجل كلام وجدل، مفكر حر حطم سلاسل الوراثة وأغلالها، فلم يشل عقله إذ واجه المعضلات الأبدية التي لم تحل. ألقى مشكلات عصره في قفص الاتهام وقعد يستنطق الأجيال ويقلب ما تركت من الآثار بطنا لظهر، ثم حبس أحكامه عليها في سجون الأوزان والقوافي. ناقش كل معضلة فمضى وكأنه لم يحل واحدة منها. أما عارفو سره فيدركون بوضوح ما يعنيه صاحبهم إذ يقول:
غدوت مريض العقل والدين فالقني
لتعلم أنباء الأمور الصحائح
بني زمني، هل تعلمون سرائرا
علمت ولكني بها غير بائح؟
إن المعلم من «سره» هذا في جهد جهيد، مثله مثل امرأة أدركها المخاض، فهي تتوجع وتتألم، والوضع منها بعيد.
أشعرنا أبو العلاء في مقدمة لزومياته أنه يكتب كتابا، لا ينظم ديوانا، ولولا الاجترار والتكرار لقلت إنه أعد لكل فكرة زندانا؛ أي فصلا. شك القدماء في كتبه النثرية فاتهموه بمحاكاة القرآن الكريم في كتابه الفصول والغايات. وها أنا ألحظ أيضا - وبعض الظن إثم - أن كتابه الشعري، لزوم ما لا يلزم، مؤلف من مائة وثلاثة عشر فصلا، وسور القرآن العزيز مائة وثلاث عشرة سورة، فهل قصد ذلك يا ترى؟
إن الشيخ، رحمه الله، متهم، وهو ماكر على فضله وتقاه. لقد قال: «وإني وإن كنت الأخير زمانه ...» فمن ينفي عنه حسبان نفسه «صاحب الزمان الأخير» المنتظر في دهره بفارغ الصبر؟ وإني لأرى رسالته «ملقى السبيل» أعلى ذرى التقليد المزعوم.
كل هذه المزاعم جائزة، بل هي عندي تشبه اليقين، أما ظن الفرنسيون مريدو «لامنه» شيئا من هذا بكاتبهم العظيم، فالتفوا حوله؟
إن تلك الثورة العقلية الصاخبة في زمن أبي العلاء تظن بها الظنون، فلا تستغرب يا قارئي ما زعمت لك، وإني لأعتقد أن المعري نظم كتابه طبقا لترتيبه، ولم يزج هنا وهناك إلا القليل. ومن تأمل رأى الضعف ملموسا في آخره؛ لأن الشيخ كان فيه بين جهدين: جهد العمل الجاهد، وجهد الثمانين.
أدرك الشيخ، عفا الله عنه، ما في شعره من جفاف، فقال فيما قدمه بين يدي لزومياته: «وأضيف إلى ما سلف من الاعتذار أن من سلك هذا الأسلوب ضعف ما ينطق به من النظام؛ لأنه يتوخى الصادقة، ويطلب من الكلام البرة، والشعر باب من أبواب الباطل، فإذا أريد به غير وجهه ضعف.»
لسنا نعفي شيخنا من جريرة هذا الزعم، ونرد عليه قوله وبرهاننا من شعره وفيه؛ فقصيدته «غير مجد في ملتي» من أجود الشعر، وفيها الصادقة والبرة من الكلام، بل هي نواة فلسفته التي انبثقت منها تلك النبعة التي لا يوازى بأعلى نبتها الشجر، كما قال الأخطل، ومع ذلك لم تضعف تلك القصيدة؛ فالشعر يضعف ويأتيه الباطل من الجهات الست حين يصبح جدلا كما فعل شيخنا الموقر، أو حين يصبح ألفاظا تردد وتجتر كما يفعل أكثر شعراء الجيل الطالع ... إن من يشغل باله النحو والصرف في الشعر كأبي العلاء فيقول:
ستتبعه كعطف الفاء ليست
بمهل أو كثم على التراخي
لا يكون حظه من الشعر النقي إلا قليلا؛ فثقافة أبي العلاء الفنية مستمدة من جميع ما عرفه العرب، وهو أعظم راوية عرفه أدبنا. وغايته الأولى علم الكلام والجدل ومقارعة أئمة الأديان أجمع، وفنه في اللغة والنحو والصرف والعروض وكل ما أنشئ لصون اللغة من علوم كما يرى المفكر حين يقرأ آثاره كلها.
في شعره اللزومي ثورة تنفخ فيه حياة مبعثها روح الشاعر الثائرة المتمردة الساخرة، فملح بعضه وطاب. سير الشاعر قريحته في غير اتجاهها كما سير نفسه فقضى على الثنتين.
قد تسأل عن مشاكل النحو والصرف وغيرها التي أفسدت فن شيخ المعرة حتى في أروع آثاره، «رسالة الغفران»، فاسمع كيف يقول واحكم أنت:
إذا غدوت عن الأوطان مرتحلا
فضاه في البين حذف الواو من يعد
ومع هذا عاد شيخنا من بغداد إلى معرته ولم يفارقها مفارقة الواو مضارع وعد، بل لزمها لزوما أبديا. وشاء النهي عن الزواج فالتجأ إلى النحو والبديع فقال:
لا تدنون من النسا
ء فإن غب الأري مر
والباء مثل الباه تخفض
للدناءة أو تجر
وأدرك أنه يخالف وصية زعيم المذهب القائل: «واحدة تكفيكم.» فرجع عن غلطه. فتش فوجد في النحو معينا فقال:
تزوج إن أردت فتاة صدق
كمضمر نعم دام على الضمير
والتفت نحو الدنيا ليخاطبها كعادته فوجد في إحدى القراءات معينا يمهد له الطريق فقال:
أم دفر لقد هويتك جدا
أي ضب تركت من غير حرش
خففي الهمز في النوائب عني
واحمليني على قراءة ورش
ثم ورد منهل العروض فقال:
وإنك مقتضب الشعر لا
يزيد بحال ولا ينقص
الدهر كالشاعر المقوي ونحن به
مثل الفواصل مخفوض ومرفوع
وحدثنا عن محبسه فاستجار بنعم وقال:
وما زال نعم الرأي لي أن منزلي
كأني فيه مضمر كن في نعما
واسمح لي أن أختم بهذا البيت من تلك البضاعة المزجاة:
وترفع أجساد، وتنصب مرة،
وتخفض في هذا التراب، وتجزم
لم يبق إلا الشد والمد والقطع والوصل، وفيها مجال فسيح للناظم. إني لأعذره فيما أعنفه، ولا أزعم أني ذكرت كل شيء، ولست بمحدثك عما تعمد من ضروب البديع الشنيع؛ فالحط من قدر هذا النابغة لا يخطر لي ببال. وأنا والله أحترم أدبه جدا. وقد زرت قبره الحقير قبل أن دعا الريحاني إلى الاحتفال بعرسه الألفي، وكتبت ما كتبت عن تلك الزيارة التي تركت في نفسي أسوأ الأثر ...
إن الشيخ الإمام يدعونا إلى اتباعه في ترك الدنيا بقوله لنا:
وإن شئتما أن تخلصا من أذاتها
فحطا بها الأثقال واتبعاني
يذكرني قوله بالكلمة الإنجيلية: «احمل صليبك واتبعني.» ولكني أجيب الشيخ: «ضرب الحبيب زبيب.» ثم أصارحه بأنني لن أتبعه ولو عمرت مثل متوشالح. إن ناموس الحياة يريدنا ثقالا لا خفافا، فكيف نلقي العتاد ونهرب من المعركة؟ لو شئنا أن نعيش بعقلنا - كما يريد هو - لوقفت حركة الكون وصح فينا قول أبي الطيب: «ذو العقل يشقى في النعيم بعقله.» فليتبع أبو العلاء شيخه العقل. أما أنا فمن الجهال لا العقال. إن بعض العقل عقال كما قال أبو الطيب، فلننطلق.
وبالاختصار أقول: إن في أدب العميان جميعا رائحة عفن لا تعجبني ولا أستطيبها، ولم يخل منها حتى شعر بشار، ذلك القطب الجنوبي المتقد، إن صحت تسمية المعري قطبا شماليا لصقيعه وجليده.
وأخيرا، أسأل أبا العلاء أن يغتفر لي وقاحتي وتطاولي على سدته السنية؛ لأنه أمرني أن أبتعد ما استطعت عن التقليد حتى في الصلاة:
في كل أمرك تقليد رضيت به
حتى مقالك: ربي واحد أحد
إني أثق برحابة صدر الشيخ، ولكني أخشى غضب من يؤمنون به إيمانا أعمى ويريدون أن ينزهوه ...
إن من يقرأ أبا العلاء ويفكر بما يدعو إليه يظنه دهريا عدميا. ورجل حكيم واع كأبي العلاء لا يصح أن يكون بلا مذهب، ناهيك بأن هذا مستحيل؛ فعلم النفس الحديث يثبت أن لا بد للإنسان من معتقد، بل لا بد له من التفكير في فرض لحل المشكلة العظمى التي تواجهه كل لحظة، فما هو مذهب المعري الذي يبرر ذلك الزهد العنيف؟
لولا هذا الفرض كان صاحبنا مجنونا.
ولماذا يتنسك هذا النسك الأهوج من لا ينتظر حالة خيرا من التي هو فيها؟
لم يعجب أبا العلاء سماع قوله تعالى حين تلاه في حضرته ذلك المقري:
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ، إذن فما عساه يرجو وهو ذلك اللبيب اللبيب، وعلى أي رجاء يموت؟
إن نقل لا رجاء له كما يبدو لبعضهم من تردده وشكه، فلماذا هذا التقشف؟
ألا يستطيع أن يعمل خيرا ويعيش مثل الناس؟ فماذا يبرر هذا الشذوذ ويعفي الرجل من البهلة فلا يكون هملا، كما حذرنا هو، ولا يترك سدى؟
عبثا نحاول حل مشكلة المعري على مذاهبنا المعلومة المكشوفة؛ فهو لا يدين بها، وقد حمل عليها حملات عنيفة؛ فلا نحاول تبرئته فنتمسك بما هو أوهى من خيط العنكبوت؛ وإني لأجل صدقه، فهو أجل وأسمى من أن يكون ملحدا معطلا، كما سماه ابن الجوزي في «تلبيس إبليس». إنه لم يصرح بدينه لا سرا ولا جهرا لا تلميحا ولا تلويحا، حتى في أحرج الساعات وأرذل العمر، حين يمسي الرجل إمعة، ساعة هاجم حصنه داعي الدعاة وأراد أن يريح العالم من دينه ... (لا تنس أنني أحدثك هنا عن فهمي الأول للمعري) كان في استطاعته أن يقول كلمة واحدة تريحه وتغنيه عن ذاك اللف والدوران، ولكنه أبى أن يكون منافقا، ومذهبه يقوم على «الصدق» وإن جوز الكذب عند الضرورة القصوى، كما سترى.
إن لم يكن المعري يريد إشادة مذهب جديد، فهو على الأقل ذو مذهب، فما هو ذاك المذهب؟ هذا ما سيضطرب له الأستاذ رئيف خوري.
روي أن أبا العلاء، حين كتب «معجز أحمد»، قال: «كأن المتنبي نظر إلي بعين الغيب فقال:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم.»
وأنا أقول: كأني بصديقي الأديب الكبير رئيف خوري قد دخل مخدعي منذ شهور، وفتش أوراقي - وفيها المحظورة قراءته والمباحة - كأني به قد حضر إحدى الجلسات التي كنت أستنطق فيها أبا العلاء القائل:
لا تخبرن بكنه دينك معشرا
شطرا وإن تفعل فأنت مغرر
واصمت فإن الصمت يكفي أهله
والنطق يظهر كامنا ويقرر
كأنه درى بكل هذا، فقال ما عزته إليه مجلة الأديب الغراء في عدد أبي العلاء: إننا في لبنان لن نترك أبا العلاء حتى نعطيه تذكرة هوية طائفية.
هو ما تقول، يا أخي، ولا أشك في أنك تسلم بضرورة «الفرض» لحل المشاكل العظمى، وهل حل أعظم المشاكل الكونية غير الفرض؟ ولهذا رأيت أن المعضلة العلائية لا تحل إلا بهذه التذكرة؛ فهي المفتاح لهذا الباب الدهري المغلق.
إن للهوية، يا رئيف، شأنا جليلا في علم النفس، فاسمح لي أن أمنح المعري هذه التذكرة. واستسفره إلى دولة الأدب، فإن كان مرغوبا فيه فاحفظها لديك، وإلا فأعدها إليه وأقصه إلى الحدود، فيعود من حيث جاء.
حاشية: خاطبتك بيا أخي، فلا يعز عليك ذلك. ما في ذلك غض من فتوتك؛ فالناس يعلمون أنك فتى، لا أعني ابن عشر، بل أعني شابا مندفعا كالتيار في بحر الإنتاج، وأرى في نتاجه أشياء يكتب لها البقاء، وأترجى أن يجتمع أشدك في الدهر العتيد كما يترجى المؤمن قيامته بالنفس والجسد.
اللهم، حقق لنا الأمنيتين، واهد شبابنا الحائر إلى ذاته حيث يجد الأدب الذي لا يموت، فأكثر ما تنتجه قرائحهم كالزهرة المعروفة «شب الليل».
عصر الأسرار والخفاء
عصر أبي العلاء
العصر الذي كان فيه أبو العلاء عصر ثائر فائر؛ فبعد أن أشعلت «الفاطمية» القيروان والمغرب، وافق دخول إمامها - المعز لدين الله - مصر عام مولد المعري، وفي العقد الذي ولد فيه شيخ المعرة ودرج كانت جمعية إخوان الصفاء تزدهر وتنمو نمو الصبي (970-980).
تأمل أي ثورات دينية واجتماعية وسياسية سبقت مولد هذا الغلام، ورافقت حياته التي افتتحت بمحنة العمى. هبت عليها أعاصير النكبات فأطفأتها، ولكن نورها لم ينطفئ، وإنما تغلغل في أعماق تلك النفس البائسة فاستحالت منارة عالمية تشع أنوارا خالدة ولا ينفد زيت حكمتها الأزلية.
ها نحن اليوم نمشط - كما قال أحد أدبائنا المعروفين في دفاعه عن أدبه - رأسا شمشونيا، ونحمد الله على أننا لا نمشط رءوسا قرعاء تعيي المقص والموسى، ولا تجد أسنان المشط فيها مجالا ...
إن الفترة العلائية كانت زبدة الحقبة العربية، وتركت في تاريخنا عصارة الفكر العربي، فما وثبت تلك الموجة البشرية من شط جزيرة العرب حتى غدت تيارا جارفا ألقى إلى اليابسة حيتانا روعت العالم.
انفتحت عين العربي على نور الحضارة فأفلت عقله من غلال الصحراء وقيودها، فتفتق عن أكمام سرية. استنارت بصيرته ففكر في المسألة الخالدة المستعصية.
كان العربي ساذجا يصدق كل ما يسمع. لم يكن يؤمن إلا بملكوت الرغيف، فلا يحسب لما وراء القبر حسابا، يعيش طبقا للآية التي وصفته:
ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ، أو كما قال الشاعر الجاهلي:
فدعني أروي هامتي في حياتها
ستعلم إن متنا غدا أينا الصدي
كانت القبيلة فوق الجميع، وكان العربي وهابا، فلما شعت أنوار الدين الجديد آمن سكان المدر إيمانا لا يعتوره شك، فاندفعوا إلى الفتوحات باسم الله العظيم، فعضدهم سبحانه وتعالى، وشد أزرهم بملائكة غضاب، كما قال شوقي، فحاربوا معهم حتى غلب وزهق الباطل.
ما انفصل العربي عن صحرائه واستقر في العمران حتى علق يفكر، والحياة المستقرة مدعاة التفكر والتفلسف.
رأى عالما لم يكن يتخيل له وجودا. كان في جاهليته كالطفل الذي يحسب ما تقع عليه عينه، حول ضيعته، كل الدنيا. عرف أديانا غير دينه الجديد المستحوذ على شعوره، فأخذ يقابل ويقايس ويحلل ويعارض هذا الدين بتلك المذاهب، واستوى منه علماء فتح أذهانهم كتاب الله العزيز الذي أنزله على رسوله قرآنا عربيا.
نظروا إلى أشياء غيرهم فتذكروا قوله تعالى:
لكم دينكم ولي دين ، ولكنهم لم يقفوا عند هذا الحد، فانبروا يجادلون أهل الكتاب، ثم رأوا أن ذلك لا يكفي؛ ففي الميدان أهداف وأغراض لا بد من بلوغها والسعي لإدراك بعضها؛ فهناك كتب الأقوام والجماعات الدينية فيها ما يوافق الكتاب العزيز وفيها ما يعارضه. ووقعوا على كتب أنتجها العقل الإنساني في عصوره المتقادمة؛ كتب تدرس مسائل عويصة لا بد للمفكر من التأمل في معضلاتها ليهتدي إلى فك أختامها، فعكفوا عليها يتدارسونها. ورأوا علوما لا عهد لهم بها يذهب المتبحر فيها مذاهب شتى؛ فهي تمس يقينه حينا وتشككه أحيانا؛ فهناك الطب والصيدلة والكيمياء والحساب والهندسة والهيئة والحيل والتنجيم وغيرها؛ علوم كلها تنخس العقل البشري المطمئن بمهماز الشك، فيشرئب ويثب.
رأوا حولهم علماء يفلسفون في أديانهم، ولا يقبلون الأمور على علاتها كما تعلمهم إياها أديانهم في كتبها المنزلة؛ لأن العقل يرفض الكثير منها ولا يصدقها، فنهجوا نهج أولئك العلماء.
حاول فريق منهم - كما في كل ملة - أن يوفق بين الحكمة والدين، وفريق آخر خلع نير الإيمان وفكر تفكيرا حرا أدى به إلى الكفر والإلحاد، فطاح سيف الإمام برءوس كثيرة ليرد الأمة إلى حظيرة الاستسلام، ولكن الدم لا يوقف تيار العقائد ولا يصده، فهو كالفصاد يخفف الضغط ولكنه يعود.
كانت الثقافات المختلفة في تفاعل مستمر، تخلق كل يوم جسدا جديدا؛ فهناك ثقافة نصرانية سلاحها المنطق، ورجالها معروفون؛ فلسنا هنا نؤرخهم ولا نترجم لهم، وثقافة يهودية ولأحبارها يد طولى في الشرح والتفسير والتأويل والاستنباط، ولهم تلمودهم، فغذوا الأذهان بأساطيرهم وحكاياتهم، فكان للمسلمين مثلها فيما بعد، وكما انتظر اليهود مجيء المسيح ولا يزالون، وكما يترقب النصارى المؤمنون المسيح الدجال، ثم المسيح الفادي ليقتله عند أبواب أورشليم المقدسة، تولدت في أذهان الخاصة والكافة من المسلمين حكاية المهدي المنتظر، الذي وصفه ابن عربي، فيما بعد، بقوله: «إن لله خليفة يخرج وقد امتلأت الأرض جورا وظلما فيملؤها قسطا وعدلا، لو لم يبق في الدنيا إلا يوم واحد طول الله ذلك اليوم حتى يلي هذا الخليفة من عترة الرسول يواطئ اسمه اسم رسول الله ... وهو أجلى الجبهة، أقنى الأنف.» إلى آخر الأسطورة، كما وردت في كتاب الفتوحات المكية.
وهناك الثقافة الفارسية وفيها، كما في التوراة، حكاية الخلق وما يليها من مبادئ وجدانية؛ مبادئ يواجه بعضها بعضا، ويشبه بعضها بعضا، فتنبري الشكوك، وتدلهم ظلمات الظنون. وهناك المجوسية، والزرادشتية والمانوية والمزدكية. وهناك ثقافة هندية قديمة الأجيال استمدت منها الأديان الجديدة بعض العناصر الغذائية. وهناك آراء ومذاهب لا نستطيع تفصيلها حتى ولا عدها؛ فنحن لا نعد لقارئنا سماطا بل ما يقرب من السندويش.
ونظر العرب إلى الكتاب العزيز فرأوا غمائم الشك تنتشر في الأجواء حتى بلغت القحة بزعيم المعتزلة - النظام - أن ينكر الإعجاز ويقول: إن القرآن معجز بالنسبة إلى عصره، ولكن من الممكن أن يتوصل البشر إلى تأليف مثله، فهال هذا القول العلماء المؤمنين، فانبروا للدفاع والتأويل والتفسير، وظهرت المذاهب الأربعة والسنة والشيعة، ثم تناسلت البدع والطرق فملأت الأرض، فكانت المعتزلة والرافضية والقدرية والجبرية والخوارج والمرجئة والمعطلة.
ومن الشيعة، التي هي أعظم ثورة فكرية في الإسلام، ظهرت الزيدية والكيسانية والإمامية والموسوية والإسماعيلية والفاطمية والسبيئية والباطنية والمشبهة والحلولية والقرمطية والصوفية، ومن كل فرقة اشتقت عشرات الفرق، وهكذا دواليك، إلى ما لا آخر له.
وظل تفاعل هذه المبادئ مستمرا حتى قام الأشعري يحللها، فكون منها مذهبا عرف باسمه وأحبه كثيرون واتبعوه.
أما الصوفية فظهر فيهم أئمة لا يحصيهم العد، وكلهم يحاولون التوفيق بين الدين والقلب. وذهبوا مذاهب غريبة، فتعددت عندهم الطرق التي يزعم أصحابها أنها تؤدي بهم إلى الله ذاته لا إلى ملكوته. كل واحد يزعم أنه يقول الحق. و«الله أعلم» كانت تفض أخيرا مشاكل الجميع.
في هذه الحقبة الثائرة المضطرمة وبعدها وجد أبو العلاء. جاء وجميع هذه الآراء في طور النضج، ولكنها لم تؤت ثمرا يؤكل ولا يرتكز عليه عقل ذلك الفتى، فحاول أن يخلق منها جميعا شيئا واحدا بعينه.
وكانت ثورات اجتماعية تغذيها فكر دينية؛ فهناك القرامطة يغزون الشعوب المسلمة الآمنة، ويهتكون المحارم باسم دعوتهم، وهناك الفاطميون يدعون هؤلاء القرامطة إلى الثوبان إلى الحق والإخلاد إلى السكينة مبينين لهم صدق الفاطمية، وبطلان قرمطيتهم، كما يتضح مما كتبه المعز إلى زعيم القرامطة الحسن الأعصم يقول:
فما من ناطق نطق، ولا نبي بعث، ولا وصي ظهر إلا وقد أشار إلينا ولوح بنا ودل علينا في كتابه وخطابه، ومنار إعلامه ومرموز كلامه فيما هو موجود غير معدوم، وظاهر وباطن يعلمه من سمع النداء، وشاهد ورأى من الملأ الأعلى. فمن أغفل منكم ونسي، أو ضل أو غوى، فلينظر في الكتب الأولى والصحف المنزلة، وليتأمل في القرآن وما فيه من البيان، وليسأل أهل الذكر إن كان لا يعلم؛ فقد أمر الله عز وجل بالسؤال فقال:
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون .
ومع هذا فما من جزيرة في الأرض ولا إقليم إلا ولنا فيه حجج و«دعاة» يدعون إلينا، ويدلون علينا، ويأخذون تبعتنا، ويذكرون «رجعتنا» وينشرون علمنا، وينذرون بأسنا، ويبشرون بأيامنا بتصاريف اللغات واختلاف الألسن ... فيا أيها الناكث الحانث، ما الذي أرداك وصدك؟ أشيء شككت فيه أم استربت به، أم كنت خليا من «الحكمة» وخارجا عن «الكلمة»؟ ... حتى انقلبت على الأدبار، وتحملت الأوزار، لتقيم «دعوة» قد درست ودولة قد طمست. إنك لمن الغاوين، وإنك لفي ضلال مبين.
وكانت الأقاليم والأمصار تتذبذب بين تلك الدعوات تتحدث عنها - كما نتحدث نحن اليوم عن شئوننا العظمى وحوادث دهرنا الجلى، عن البلشفية والنازية والفاشية، وعن ظهور المسحاء؛ فقلما خلت برهة من معتوهين يدعون أنهم ذاك المنتظر بالمرصاد - وكان الناس عامتهم وخاصتهم للفاطمي المنتظر بالمرصاد، ينتظرونه ويروون عنه الغرائب، كما يرقب الفلكيون مذنب هالي الذي تحدث عنه أبو تمام، فيخافونه ويخافون منه على كرتهم الأرضية ويخوفون الناس به، والأرض ما زالت أرضا، وعقول بنيها هي هي.
وفي ليلة من ليالي الدهر العابس المضطرب كان فريق من أهل المعرة في دار قاضيهم عبد الله بن سليمان - والد أبي العلاء - يتذاكرون أخبار الحوادث وماجرياتها في دولة القاهرة الجديدة، يتحدثون عن عظمة الملك الفاطمي في عهد المعز بالله، وكيف حور الفاطميون وبدلوا حتى في الأذان، فقالوا: «حي على خير العمل» بدلا من «حي على الفلاح»، ثم جرى حديث المهدي، ذلك الإمام المنتظر: «فلا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية، ويسمى بالمهدي، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره، وأن عيسى ينزل من بعده فيقتل الدجال أو ينزل معه فيساعده على قتله، ويأتم بالمهدي في صلاته» (مقدمة ابن خلدون: ص311).
فتذكروا عند هذا الحديث فقرة من كتاب المعز لدين الله الفاطمي الفاتح إلى الزعيم القرمطي الثائر عليه الآنف الذكر، فانحرف مولانا القاضي إلى صندوقة كانت إلى يمينه فأخرج منها كراسا ودفعه إلى أحدهم فقرأ ما فيه على الجماعة، وها نحن نورد منه أيضا هنا ما يعني بحثنا هذا: «فإن اعتبر معتبر، وقام وتدبر ما في الأرض وما في الأقطار والآثار وما في النفس من الصور المختلفات، والأعضاء المؤتلفات، والآيات والعلامات والاتفاقات، والاختراعات والأجناس والأنواع، وما في كون الإبداع من الصور البشرية، والآثار العلوية، وما يشهد به حروف المعجم، والحساب المقوم، وما جمعته الفرائض والسنن، وما جمعته السنون من فصل وشهر ويوم، وتصنيف القرآن من تحزيبه، وأسباعه، ومعانيه، وأرباعه، ومواضع الشرائع المتقدمة، والسنن المحكمة، وما جمعته كلمة الإخلاص في تقاطيعها وحروفها وفصولها، وما في الأرض من إقليم وجزيرة وبر وبحر وسهل وحقل وطول وعرض وفوق وتحت، إلى ما اتفق في جميع الحروف من أسماء المدبرات السبعة والأيام السبعة النطقاء، والأوصياء والخلفاء، وما صدرت به الشرائع من فرض وسنة وحدود. وما في الحساب من آحاد وأفراد وأزواج وأعداد، تثاليثه وترابيعه، واثنا عشرينه وتسابيعه، وأبواب العشرات والمئين والألوف، وكيف تجتمع وتشمل على ما اجتمع عليه، وما تقدم من شاهد عدل، وقول صدق، وحكمة حكيم، وترتيب عليم ... وليعلم من الناس من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أنا كلمات الله الأزليات، وأسماؤه التامات، وأنواره الشعشعانيات، وأعلامه النيرات، ومصابيحه البينات، وبدايعه المنشآت، وآياته الباهرات، وأقداره النافذات، لا يخرج منا أمر، ولا يخلو منا عصر، وإنا لكما يقول سبحانه وتعالى:
ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم .
فاستشعروا النظر؛ فقد نقر في الناقور، وفار التنور، وأتى النذير بين يدي عذاب شديد، فمن شاء فلينظر، ومن شاء فليتدبر، وما على الرسول إلا البلاغ المبين ... وكتبنا هذا من فسطاط مصر، وقد جئناها على قدر مقدور، ووقت مذكور، فلا نرفع قدما ولا نضع قدما إل بعلم موضوع، وحكم مجموع، وأجل معلوم، وأمر قد سبق، وقضاء قد تحقق.»
فلما بلغ القارئ هذا الكلام كبر السامعون وقال قاضيهم الجليل: حقا إن أمر سادتنا الفاطميين يدعو إلى التفكير والتأمل والتذكر؛ فما نصرهم إلا من الله، فأمن الشيوخ الآخرون على كلامه.
وكان الفتى - أبو العلاء - يسمع هذه الأحاديث وما يجول فيها من مناقشات ومذاكرات. ومذاكرات الرجال لقاح الألباب.
كان الفتى يفكر أكثر من أولئك الشيوخ. كان يقبع في زاوية من مجلس أبيه يسمع ويعي، ويظل في بحران مستمر، وينتظر تلك الساعات التي يعمر فيها المجلس، ويكثر فيها الجدل حول المذاهب المنتشرة انتشارا ذريعا، فتشعل عقله في وحدته، وتستبد بذهنه حتى تصبح منه كالفكرة الثابتة. إنه وجد في زمن سداه ولحمته الجدل، وخير كلمة تصف لنا ذلك العصر الحافل بالآراء المتضاربة هي التي كتبها الذهبي في حوادث سنة 982؛ أي حين كان أبو العلاء ابن تسع أو عشر، قال: «في هذا الزمان كانت الأهواء والبدع فاشية بمثل بغداد ومصر من الرفض والاعتزال، فإنا لله وإنا إليه راجعون.»
وقال غيره: «سمعت أبا محمد بن أبي زيد الفقيه يسأل أبا عمر بن سعدى عند وصوله من بلاد المشرق إلى القيروان، فقال: هل حضرت مجالس أهل الكلام؟ قال: نعم، مرتين ولم أعد إليها. قال: ولماذا؟ فقال: أما أول مجلس حضرته فرأيت مجلسا قد جمع الفرق من السنة والشيعة والكفار واليهود والنصارى والدهرية والمجوس، ولكل فرقة رئيس يتكلم ويجادل عن مذهبه. فإذا جاء رئيس قاموا كلهم على أقدامهم حتى يجلس. فإذا تكاملوا قال قائل من الكفار: قد اجتمعتم للمناظرة، فلا يحتج أحد بكتابه ولا بنبيه؛ فإننا لا نصدق ذلك ولا نعتد به، وإننا نتناظر بالعقل والقياس، فيقولون: نعم. ولما سمعت ذلك لم أعد.
ثم قيل لي: هذا مجلس آخر للكلام، فذهبت إليه، فوجدتهم على مثل سيرة أصحابهم، فقطعت مجالس أهل الكلام.»
في هذا العصر وجد الفتى أبو العلاء، وكان بيت أبيه صورة مصغرة عن تلك المجالس، وإن لم تبلغ ما بلغته تلك المجالس التي حدثناك عنها، فكان الفتى يسمع تلك المشاحنات صغيرا، وكان يلفت سمعه شيخ من شيوخ مجلس أبيه حر التفكير أكثر من نظرائه، يدس كلامه دسا، ثم يتعوذ بالله متبرئا من ذلك الكلام وقائليه، فكان أبو العلاء يرتاح إلى كلامه ويتمنى لو يتاح له أن ينفرد به ساعة عندما يكون والده جالسا للمظالم، ليسأله عن قضايا تملأ دماغه، ولكن الأعمى غير مستطيع، فليصبر إذن حتى يأذن الله بذلك ...
وسأل الفتى أحدهم عن ذلك الشيخ فأجابه أنه عابر في البلد يختلف إليه بين آونة وأخرى، فتأوه وسكت.
وسمع الفتى الحديث الذي رووه عن «الإمام المنتظر» وفكر في ذاته لعله يكون هو ذاك الإمام، فأخذ يقلب كلامهم على جميع وجوهه، فوجد أن اسمه يواطئ تماما اسم رسول الله؛ فهو أحمد بن عبد الله، وضرب يده إلى أرنبة أنفه فما رأى أنفه أقنى، وأمر يده على جبهته فما وجدها كما وصفوا جبهة الإمام، فقال في نفسه: قاتل الله الجدري؛ فلو كان مستطيعا للبس قناعا كما فعل المتمهدي الكذاب ... وهناك عائق أعظم خطرا من كل هذا؛ فهو تنوخي من قضاعة، وقضاعة من قحطان. إذن فلينبذ الفكرة وإن كان لا بد من شيء فليكن غير هذا، فعدى عن هذه الفكرة وإن قال: «وإني وإن كنت الأخير زمانه ...»
بيد أن هذا الإمام المنظر قد أعجبه جدا، وترجى أن يظهر ويطهر الأرض التي يرى ما فيها من فساد، فمال إلى حيث يرتجي أن يبزغ الإمام المهدي، وأخذ يغذي شعره الصبياني بتلك الفكرة، ففات المتنبي في الغلو والإيغال، وارتحل بعدما فجع بموت أبيه إلى أنطاكية واللاذقية يطلب علم ما وراء الطبيعة، فعاد له منها عنصر جديد، فقال:
في اللاذقية ضجة
ما بين أحمد والمسيح
قس يعالج دلبة
والشيخ من حنق يصيح
كل يصحح دينه
يا ليت شعري ما الصحيح؟
ثم استحال هذا الجسم الكيماوي الجديد جسما آخر ما زلنا حائرين في تحليله ورده إلى مواده الأولى.
إنه يعصي علينا وإن استجاب لنا من جهة، حيرنا من جهات أخرى كما تحير هو قبلنا، فقال:
والذي حارت البرية فيه
حيوان مستحدث من جماد
أجل، إن أبا العلاء هو ذلك الرأس المحير الذي نمشطه اليوم، فيخرج النور من تحت أسنان المشط، فنوقد بين الشعر نار الحباحب.
كان أبو العلاء ينصرف إلى الشطرنج واللهو في خانات المعرة ليريح باله من شكوكه، ولكن فكرته لا تفارقه؛ فهو حائر بين هذه المذاهب جميعها، فهل من حل لهذه المعضلة؟
وفيما كان يفكر، ذات يوم، في الأحداث السياسية، وما يروى من الأخبار والآراء العجيبة الغريبة المتضادة عن «الفاطمي» - الحاكم بأمر الله - الذي ولي الحكم صبيا تحت كنف الأوصياء، ثم اشتد ساعده فاستبد بهم وبه، ودانت لهيبته أعاظم الرجال في دولته، وخرت لها جبابرتها ساجدة. كان يفكر عصر النهار في تلك المعضلات المستعصية على الحل، فذهل عن العشاء، ولكن خادمه نبهه إلى ذلك، فتعشى وعاد إلى تفكيره.
وفيما هو كذلك إذا ببابه يقرع، ففتح ودخل شيخ ومعه شيخ آخر يسأل أبا العلاء خلوة به، فعرفه أبو العلاء من صوته بعد سنين، وذكر أنه الشيخ الذي كان يلفت سمعه في مجلس أبيه، فصرف الضرير خادمه ليخلو له المكان بزائريه الكريمين.
وبدت على وجه أبي العلاء المتجهم أمارات الاستئناس، وكانت جلسة طويلة تلتها جلسات أطول. وإليك خبرها ...
دعوة أبي العلاء
كانت تشغل بال أبي العلاء أخبار المعز لدين الله الفاطمي الذي دانت له مصر على يد قائده جوهر. وكان دوي تلك الكلمة التي سمعها المعري من أبيه عن هؤلاء الفاطميين لا يزال في أذنيه؛ فهو دائم التفكر بها. وزاده هياما بهم ما رواه أحد المحدثين عن المعز، أنه دعا عدة من شيوخ كتامة في يوم بارد فرأوه في مجلس مفروش باللبود وحوله كساء وعليه جبة، وحوله أبواب مفتحة تفضي إلى خزائن كتب، وبين يديه دواة وأوراق، فقال: «يا إخواننا، أصبحت اليوم في مثل هذا الشتاء والبرد، فقلت لأم الأمراء، وإنها الآن بحيث تسمع كلامي: أترى إخواننا يظنون أننا في مثل هذا اليوم نأكل ونشرب ونتقلب في المثقل والديباج والحرير والفنك والسمور والمسك والخمر والقباء كما يفعل أرباب الدنيا؟ ثم رأيت أن أنفذ إليكم فأحضركم لتشاهدوا حالي إذا خلوت دونكم، واحتجبت عنكم. وإني لا أفضلكم في أحوالكم إلا بما لا بد لي منه من دنياكم وبما خصني الله به من إمامتكم. وإني مشغول بكتب ترد علي من المشرق والمغرب، أجيب عنها بخطي. وإني لا أشتغل بشيء من ملاذ الدنيا إلا بما يصون أرواحكم، ويعمر بلادكم ويذل أعداءكم ويقمع أضدادكم، فافعلوا، يا شيوخ، مثل ما أفعله، ولا تظهروا التكبر فينزع الله النعمة عنكم، وينقلها إلى غيركم. وتحننوا على من وراءكم ممن لا يصل إلي كتحنني عليكم ليتصل في الناس الجميل، ويكثر الخير، وينتشر العدل. وأقبلوا بعدها على نسائكم والزموا «الواحدة» التي تكون لكم، ولا تشرهوا إلى التكثر منهن والرغبة فيهن، فينغص عيشكم، وتعود المضرة عليكم، وتنهكوا أبدانكم، وتذهب قوتكم، وتضعف نحائزكم؛ فحسب الرجل الواحد الواحدة. ونحن محتاجون إلى نصرتكم بأبدانكم وعقولكم. واعلموا أنكم إذا لزمتم ما أمرتكم به، رجوت أن يقرب الله بكم علينا أمر المشرق كما قرب أمر المغرب بكم. انهضوا رحمكم الله ونصركم.»
كان أبو العلاء في ذلك المساء يفكر بهذا الكلام الذي رأى فيه دستورا جديدا لم يسمع بمثله عن حياة الملوك في كل عصر، فتمنى الاتصال بمثل هؤلاء الأئمة والقادة الذين ينهجون للناس نهجا جديدا قويما، فهاجت قريحته فقال:
مل المقام فكم أعاشر أمة
أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستباحوا كيدها
وعدوا مصالحها وهم أجراؤها
وسمع من الكثيرين عن الحاكم بأمر الله وتعففه عن مال الرعية، والزهد في المال عموما. وقابل في نفسه بين الحاكم وبين الذين حكموا ويحكمون «العواصم»، فازداد تعلقا بهذه الدولة الفتية التي أسستها هذه السلالة العريقة.
وبلغه خبر مرسوم الحاكم الذي يمنع فيه النساء من مغادرة دورهن والخروج إلى الطرقات بالليل والنهار، ولم يستثن من ذلك سوى النساء المتظلمات والخارجات إلى الحج، أو المسافرات اللواتي تضطرهن ظروف قاهرة إلى السفر والإماء اللاتي برسم البيع، والقابلات، وغاسلات الموتى، والأرامل اللاتي يبعن الغزل، وأن يكون خروج هؤلاء لمزاولة شئونهن برقاع خاصة ترفع إلى القصر، وتصدر بها «تصاريح» يقوم بتنفيذها مدير الشرطة. ومنع النساء من دخول الحمامات العامة، ومنع الأساكفة من عمل أخفافهن. وأمر الباعة أن يحملوا السلع والأطعمة وكل ما يباع في الأسواق إلى الدروب ويبيعوه من النساء في منازلهن، وأن يحمل الباعة أداة كالمغرفة لها ساعد طويل يمد إلى المرأة وهي وراء الباب، وفيه ما تشتريه، فتتناوله وتضع مكانه الثمن، ولا يسمح لها أن تبدو من وراء الباب.
وبلغ المعري أيضا خبر تحريم الحاكم النبيذ وغيره من الخمور، حتى منع بيع الزبيب والعنب والعسل إلا ثلاثة أرطال فما دونها، أو لمن لا تتجه إليه مظنة اتخاذه مسكرا. وكانت عقوبات المخالفين تختلف بين التشهير والجلد وأحيانا الإعدام.
وازداد إعجابه به؛ إذ سمع عنه أنه عندما حرم النبيذ وأمر بإتلاف الكروم والزبيب والعسل، تقدم إلى قاضي القضاة شخص أتلفت بضاعته من الزبيب والعسل، وادعى على الحاكم بأنه أتلف ماله الحلال بغير حق، وأنه لم يحرز الزبيب والعسل لصنع الخمر وإنما لصنع الحلاوة فقط، وطالب الحاكم بأن يعوض له ما أتلف من ماله وقيمته ألف دينار، فقبل الحاكم الخصومة، وطلب أن يحلف على صدق دعواه، وأنه إنما أحرز هذه البضاعة لصنع الحلاوة فقط، فحلف التاجر وحكم له بماله، وأدى له الحاكم ما طلب.
فتهلل وجه أبي العلاء لهذا النبأ، وعرف أن في الدنيا نورا جديدا، كما قال والده منذ أعوام، ولا بد لذوي الصلاح في هذه الأرض من مناصرته ليظل يهدي الناس.
ثم تذكر ما يتحدث الناس به عن زهد الحاكم وتقشفه وتواضعه، واحتقاره الرسوم والألقاب الضخمة، وكيف استعاض عن الثياب البيضاء بثياب سود، فكان يرتدي جبة من الصوف الأسود العادي، وقد يرتدي جبة مرقعة من جميع الألوان، وكيف كان يرتفع عن مفاسد هذا المجتمع، وعن غرائزه هو وشهواته النفسية الوضيعة، حتى أضرب عن جميع الملاذ الحسية والنفسية، فأطلق نساءه وجواريه، ومنهن من غرقهن، واقتصر في طعامه على أبسط ما تقتضيه الحياة من القوت المتواضع. وبالاختصار جذبته شخصية الحاكم بأمر الله الفذة ، ورأى فيه رجلا نقيا، فآثره وبايعه في ضميره، ولا سيما إذ علم أنه ينظر إلى الأديان كلها نظرة واحدة.
كل هذه الشئون كانت تشغل عقل المعري حين دخل عليه الشيخان، كما تقدم. وبعد التحية والسلام قال له الشيخ الذي لا عهد له بصوته: بلغني أن الشيخ، أيده الله، من رجال الكلام، وليس يقبل الأمور على علاتها، وأن عينه الثاقبة تخترق حجب «الظاهر» لتبلغ «الباطن» وتستجلي غوامضه، وتقف على أسراره.
فأجابه المعري: ليت لي عينا تبصر فأرى من يحدثني، فأقرأ على الوجوه ما قد تخفيه الصدور، ولا ينم عنه اللسان. العمى مصيبة، يا شيخي الأجل. ولو أقلعت عن ذكره عندي لرحمتني. إن ذكره يؤذيني ويؤلمني.
فقال الداعي: عفوا أيها المختار، لا يعز عليك ذلك؛ فإنها محنة تذهب وحالة تتبدل.
فردد المعري في نفسه: محنة تذهب، حالة تتبدد! كلام غريب.
قال هذا وسكت، ولم يستفسر عن شيء، ولكنه ظل يلوكها في فكره ولا يستسيغها، فقال الداعية: سمعنا لك شعرا قلته في أبي إبرهيم موسى بن إسحاق:
وعلى الدهر من دماء الشهيدي
ن علي ونجله شاهدان
يا ابن مستعرض الصفوف ببدر
ومبيد الجموع من غطفان
أحد «الخمسة» الذين هم الأغ
راض في كل منطق والمعاني
والشخوص التي خلقن ضياء
قبل خلق المريخ والميزان
قبل أن تخلق السموات أو تؤ
مر أفلاكهن بالدوران
يا أبا إبراهيم قصر عنك الش
عر لما وصفت بالقرآن
أشرب العالمون حبك طبعا
فهو فرض في سائر الأديان
بان للمسلمين منك اعتقاد
ظفروا منه بالهدى والبيان
وقد سمعنا بيتا آخر قلته لأحد رجال هذه العترة الطاهرة فزادنا لك استحسانا، زادك الله عرفانا. قلت:
كأنها سر الإله الذي
عندك، دون الناس، يستكتم
فجئناك لا لنزيد اتصالا بنا؛ فأنت منا جئناك، بل أمرنا «مولانا» أن نأتيك ونلقي إليك بأسرار دعوتنا التي رأيناك، بالطبع، مدعوا إليها. قد جرت عادة الله وسنته في عباده عند شرع من نصبه أن يأخذ العهد على من يرشده؛ ولذلك قال:
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ، ومن أمثال هذا؛ فقد أخبر الله تعالى أنه لم يملك حقه إلا لمن أخذ عهده، فأعطنا صفقة يمينك، وعاهدنا بالمؤكد من إيمانك وعقودك على ألا تفشي لنا سرا، ولا تظاهر علينا أحدا، ولا تطلب لنا غيلة، ولا تكتمنا نصحا، ولا توالي لنا عدوا.
وكان المعري يسمع وفمه مفتوح نصف فتحة، يريد أن يكشف له هذا السر، ولا يريد أن يحلف قبلما يعلم. ورأى الداعية تردده فقال له: أعطنا جعلا من مالك نجعله مقدمة أمام كشفنا لك الأمور وتعريفك إياها.
فأدخل أبو العلاء، وهو لا يدري ما يفعل، يده في جيبه، فوضع يده عليها ذلك الشيخ الذي سمع صوته منذ سنين، وقال له: قد عرفتك صبيا، عندما دعوت أباك، فلا تخرج شيئا، مثلك لا تؤخذ منه «النجوى».
فانتفض المعري وقال: وما النجوى؟
فأجابه شيخه: رسم اختياري يؤديه المؤمنون.
فصاح المعري: أما كفانا إيماننا العتيق حتى نزيد حملنا أثقالا عنيفة؟
فقال الداعي: يراد بكلمة المؤمنين هنا من يعتقدون معتقدنا ويناصرون دعوتنا، فلندع هذه المجادلات العرضية، وتهيأ لأخطر منها وأجل شأنا.
وتنحنح الشيخ الداعي، وأحكم جلسته، وقال بصوت فخم: اعلم، يا أحمد بن عبد الله، يا أخانا الذي انتدبنا «مولانا» للاتصال به، والبوح له بجميع أسرار دعوتنا معتمدين على نبله وشرفه؛ اعلم، أيها المستجيب، أن الناس قلدوا سفلتهم، وأطاعوا سادتهم وكبراءهم، اتباعا للملوك، وطلبا للدنيا التي هي في أيدي متبعي الإثم وأجناد الظلمة، وأعوان الفسقة الذين يحبون العاجلة، ويجتهدون في طلب الرئاسة على الضعفاء، ومكايدة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في أمته، وتغيير كتاب الله، عز وجل، وتبديل سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ومخالفة دعوته وإفساد شريعته، وسلوك غير طريقته، ومعاندة الخلفاء والأئمة من بعده. اعلم أن دين محمد
صلى الله عليه وسلم
ما جاء بالتحلي ولا بأماني الرجال ولا شهوات الناس، ولا بما حف على الألسنة وعرفته دهماء العامة، ولكنه صعب مستصعب، وأمر مستقبل وعلم خفي، ستره الله في حجبه ، وعظم شأنه عن ابتذال أسراره؛ فهو سر الله المكتوم، وأمره المستور الذي لا يطيق حمله، ولا ينهض بأعبائه وثقله إلا ملك مقرب، أو مرسل، أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه بالتقوى.
فهز أبو العلاء كتفيه كأنه لم يسمع من داعيه شيئا جديدا، ثم قال له ضاحكا: أعلى هذا جئت تحلفني يا شيخ؟
فأجابه الداعية: لا، يا أحمد بن عبد الله، اسمع الآن. لا تستعجل. فكر معنا: ما معنى رمي الجمار، والعدو بين الصفا والمروة، ولم كانت الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، وما بال الجنب يغتسل من ماء دافق يسير، ولا يغتسل من البول النجس الكثير؟ وما بال الله خلق الدنيا في ستة أيام، أعجز عن خلقها في ساعة واحدة؟ وما معنى الصراط المضروب في القرآن مثلا والكاتبين الحافظين؟ وما لنا لا نراهما؟ أخاف أن نكابره ونجاهده حتى أدلى العيون، وأقام علينا الشهود، وقيد ذلك في القرطاس بالكتابة؟ وما تبديل الأرض غير الأرض، وما عذاب جهنم؟ وكيف يصح تبديل جلد مذنب بجلد لم يذنب حتى يعذب؟ وما معنى:
ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ؟ وما إبليس، وما الشياطين وما وصفوا به، وأين مستقرهم، وما مقدار قدرهم؟ وما يأجوج ومأجوج وهاروت وماروت، وأين مستقرهم؟ وما سبعة أبواب النار، وما ثمانية أبواب الجنة، وما شجرة الزقوم النابتة في الجحيم، وما دابة الأرض ورءوس الشياطين والشجرة الملعونة في القرآن، والتين والزيتون، وما الخنس الكنس، وما معنى ألم، وكهيعص، وحم عسق، ولم جعلت السموات سبعا والأرضون سبعا، والمثاني في القرآن سبع آيات، ولم فجرت العيون اثنتي عشرة، ولم جعلت الشهور اثني عشر شهرا، وما يعمل معكم عمل الكتاب والسنة ومعاني الفرائض اللازمة؟
فكروا أولا في أنفسكم، أين أرواحكم، وكيف صورها، وأين مستقرها، وما أول أمرها، والإنسان ما هو، وما حقيقته، وما الفرق بين حياته وحياة البهائم، وفضل ما بين حياة البهائم وحياة الحشرات، وما الذي بانت به حياة الحشرات من حياة النبات، وما معنى قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «خلقت حواء من ضلع آدم .» وما معنى قول الفلاسفة: «الإنسان عالم صغير، والعالم إنسان كبير.» ولم كانت قامة الإنسان منتصبة دون غيره من الحيوانات؟ ولم كان في يديه من الأصابع عشر وفي رجليه عشر، وفي كل إصبع من أصابع يديه ثلاثة شقوق إلا الإبهام فإن فيه شقين فقط؟ ولم كان في وجهه سبعة أثقب وفي سائر بدنه ثقبان؟ ولم كان في ظهره اثنتا عشرة عقدة، وفي عنقه سبع عقد؟ ولم جعل عنقه صورة ميم، ويداه حاء، وبطنه ميما، ورجلاه دالا، حتى صار كتابا مرسوما يترجم عن محمد؟ ولم جعل إذا انتصبت قامته صورة ألف، وإذا ركع صارت صورة لام، وإذا سجد صارت صورة هاء، فكان كتابا يدل على الله؟ ولم جعلت عظام الإنسان كذا، وأعداد أسنانه كذا، والأعضاء الرئيسية كذا، إلى آخر ما هنالك من عروق وأعضاء، ووجوه ومنافع الحيوان؟ ثم قال: فلنفكر في حالنا ونعتبر ونعلم أن الذي خلقنا حكيم غير مجازف، وأنه فعل ذلك لحكمة وله فيها أسرار خفية حتى جمع ما جمع وفرق ما فرق، كيف يسعنا الإعراض عن هذه الأمور والله تعالى يقول:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ، فأي شيء رآه الكفار في أنفسهم وفي الآفاق حتى عرفوا أنه الحق؟ وأي حق عرفه من جحد الديانة؟
ألا نرى أنا جهلنا أنفسنا التي من جهلها كان حريا ألا يعلم غيرها؟
فتنهد أبو العلاء وقال: هذا ما يشغل بالي، لا بل حرمني النوم. أين كنتما فلم تأتيا لتفريج كربتي وتبديد حيرتي؟ لا نوم الليلة ...
وطال الجدال بينهم، وطلب أبو العلاء الاستزادة، فلم يزده الداعي، وضرب له موعدا الليلة القادمة، وانصرف الشيخان من عنده بعدما أكلا التين والفستق.
وقال أبو العلاء للشيخين: لا نوم الليلة، ولكن الشيخين ناما نوما هادئا مطمئنا؛ لأن فوزهما كان عظيما، أما نظما في سلك الدعوة أثمن درة كانت واسطة العقد الخالدة؟
أما شيخ المعرة فبات وباتت له ليلة دونها ليلة الذبياني. إنه لا يعنيه راعي النجوم كالنابغة؛ فسيان عنده غاب أو آب. الظلم مسارح الأفكار، والليل أخفى للويل.
لقد طار نوم أبي العلاء، فاستيقظت قريحته. ألقى رأسه على مخدته فتواردت عليه الخواطر، فطفق يهمهم ويدمدم، يردد ألفاظا معلومة يقلبها على جميع وجوهها. ظل يفعل ذلك حتى غفا قبيل الصبح بقليل. ولم يستيقظ «المدعو» العظيم إلا على أذان العصر، وهو يحسبه أذان الفجر، فتغدى وعاد إلى أبيات شعره ينقحها ويهذبها.
وكان بين آونة وأخرى يصيح بخادمه: ماذا من النهار يا غياث، أين صارت الشمس؟
وكان الخادم يتعجب من حال سيده؛ فما تعود منه هذه الأسئلة.
ولما أذن المغرب أمر غياثا أن يهيئ شيئا يتنقل به. وجاء الشيخان في ميعادهما، فرحب أبو العلاء بهما أجمل ترحيب وأحره، وكانت مقدمة قصيرة ناقش فيها شيخيه، وأخيرا عرض عليهما أبياته التي نظمها أمس بعد ذهابهما:
عجبت لكسرى وأشياعه
وغسل الوجوه ببول البقر
وقول اليهود إله محب
رشاش الدماء وريح القتر
وقول النصارى إله يضام
ويظلم حقا ولا ينتصر
وقوم أتوا من أقاصي البلاد
لرمي الجمار ولثم الحجر
فيا عجبا من مقالاتهم
أيعمى عن «الحق» كل البشر؟
فكبر الشيخان تكبيرا خطيرا أقل من وقارهما، وحار في تعليله جيران الضرير. إن كلمة «الحق» كان لها في أذنيهما دوي دونه دوي قنابل اليوم.
أما أبو العلاء فابتسم، على غير عادته، ابتسامة فارهة، وأعجبه جدا استحسانهما، وأطربه ثناؤهما، فتمادى في حريته الفكرية، ولم يحد من مداها كعادته، فهو واثق ممن يخاطب.
فتح لهما صدره المحشو شكوكا ووساوس، فقال لهما: اسمعا ماذا قلت في رثاء المغفور له أخيكم والدي:
فيا ليت شعري هل يخف وقاره
إذا صار أحد في القيامة كالعهن
وهل يرد الحوض الروي مبادرا
مع الناس أم يخشى الزحام فيستأني
فتناظر الشيخان واهتزت لحيتاهما كما تهتز صفصافة مرت بها ريح غير مهتاجة. أما أبو العلاء فقال:
طلبت يقينا من جهينة عنهم
ولن تخبريني يا جهين سوى الظن
فإن تعهديني لا أزال مسائلا
فإني لم أعط الصحيح فأستغني
فصاح الشيخان: مرحى لك يا أحمد.
وقال له الداعي: لقد خلقت منا ، ولا نظن أننا نزيدك علما، ومع هذا سيأتيك يقيننا.
فقال أبو العلاء: أستغفر الله، أستغفر الله. وأطرق قليلا ثم قال: عندي ثلاثة أبيت أخر أظن أنها تعجبكما، وأنشد:
ريب الزمان مفرق الإلفين
فاحكم إلهي بين ذاك وبيني
أنهيت عن قتل النفوس تعمدا
وبعثت أنت لقتلها ملكين؟
وزعمت أن لها معادا ثانيا
ما كان أغناها عن الحالين!
فصفق الشيخان حتى كادا أن يخرجا من جلدهما، كما عبر الجاحظ. أدركا أن مدعوهما سباق قد لا يبلغ داعي الدعاة غايته، فقال له الداعي: يا أخانا أبا العلاء، كان في نيتنا أن نلقي إليك بالدعوة أقساطا لأنها تسع مراتب، ولكننا وجدناك في المرتبة العليا فطرة وغريزة، فرأينا أن تضييع الوقت إثم، فوجب علينا، والحالة هذه أن نراعي استجابتك لنا، ونلقي دعوتنا عليك تباعا الليلة؛ فلعلك تدعو غيرك إلى الحظيرة، فيشد أزرنا بك، أعطنا الآن صفقة يمينك.
فمد أبو العلاء يمينه معاهدا على كتم السر الذي أتعبه حمله طوال الحياة، ومات ولم يبح به لأحد، حتى ولا لداعي الدعاة المؤيد في الدين - أبي نصر هبة الله بن موسى - الذي تصدى له في آخر العمر، كما يعلم كل من له إلمام بأدب المعري، ولكن الداعي عرف صاحبه فكان سكوت، وكفى الله المؤمنين القتال.
ووجم أبو العلاء بعد إعطاء صفقة يمينه، وأطبق شفتيه إطباقة صارمة تنم عن تصور وتصميم، ثم التفت إلى الناحية التي يأتيه منها الصوت، فقال الداعي: «اعلم، يا أحمد، أن لكل عصر إماما، ولا بد للناس من إمام يأخذون عنه.» ثم أفاض في شرح جميع الرموز التي سأله عنها البارحة، فإذا هي - في عرفهم - دلالة صارخة على «قائم الزمان الأخير»، ثم انتقل به إلى شرح شعائر الإسلام من الصلاة والزكاة والطهارة وغير ذلك من الفرائض، ففسرها بأمور مخالفة للظاهر.
وتنحنح الداعية وسعل سعالا اهتز له أبو العلاء، وسكت الشيخ قليلا ثم قال: اعلم، يا أحمد بن عبد الله، أن هذه الأشياء وضعت على جهة الرموز لمصلحة العامة وسياستهم، حتى يشتغلوا بها عن بغي بعضهم على بعض ، وتصدهم عن الفساد في الأرض. هي حكمة من الناصبين للشرائع، وقوة في حسن سياستهم لأتباعهم، وإتقان منهم لما رتبوه من النواميس ونحو ذلك.
ونظر الداعي إلى أبي العلاء التفاتة مستنطق يقرأ أسرار الصدور على صفحات الوجوه، فأدرك أن أبا العلاء يعتقد كل الاعتقاد أن أحكام الشريعة كلها موضوعة على سبيل الرمز لسياسة العامة، وأن لها - أو ليس لها - معاني أخر غير ما يدل عليه الظاهر، فأسرع الداعي به ونقله إلى الكلام في الفلسفة، وحثه على النظر في كلام أفلاطون، وأرسطو، وفيثاغوروس، ومن في معناهم، ونهاه عن قبول الأخبار بالسمعيات، وزين له الاقتداء بالأدلة العقلية والتعويل عليها.
فرد عليه أبو العلاء بابتسامة نصف ساخرة حين سمعه يحضه على التبصر بكلام الفلاسفة، وكأنه يقول له ما قاله ذلك الرجل السائل المسيح عما يعمل ليرث ملكوت السموات.
فتوقف الداعي وأخذ ينظر إلى رفيقه، وأبو العلاء لا يدري لماذا سكت، ولكنه عرف أن هناك سببا فقال لداعيه: ما خطبك؟
فأجابه الداعي: إن الانتقال إلى الدعوة السابعة يقتضي زمنا طويلا.
فصاح به أبو العلاء: إن عقل من تدعوه أكبر بكثير من الزمن الطويل الذي تريد، هلم بنا، عجل علي فلست أصبر.
فقال الشيخ الذي عرفه أبو العلاء منذ سنين، في حضرة أبيه، موجها كلمته إلى شيخه: يا مولانا، إن الرجل كما سبق وقلت، يفوتنا في اعتقاده، ولولا يقيني هذا ما دعوتك من مصر لتقوم بدعوته وتسمع بأذنك وترى بعينك. لا بأس علينا إن فعلنا. سر به إلى المرتبة السابعة ولننجز عملنا الليلة. لا شك في أن «دار الحكمة» ستكون راضية عنا، ومولانا
صلى الله عليه وسلم
يكون مغبوطا ويبارك عملنا. نحن ندعو الآن «حجة» لا مستجيبا وسيكون لهذا الحجة أعظم شأن في تاريخ الدعوة.
فتوكل الداعي الأكبر على ربه وقال: اسمع، أيها الأخ، إن صاحب الدلالة والناصب للشريعة لا يستغني بنفسه. ولا بد له من صاحب معه يعبر عنه ليكون أحدهما الأصل، والآخر عنه كان وصدر، وهذا إنما هو إشارة العالم السفلي لما يحويه العالم العلوي؛ فإن مدبر العالم، في أصل الترتيب وقوام النظام، صدر عنه أول موجود بغير واسطة ولا سبب نشأ عنه، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، إشارة الى الأول في الرتبة. والآخر هو القدر الذي قال فيه:
إنا كل شيء خلقناه بقدر ، وهذا معنى ما نسمعه من أن الله أول ما خلق القلم فقال للقلم اكتب، فكتب في اللوح ما هو كائن.
فافتكر أبو العلاء هنيهة، وأخذ الداعي يحدق نظره إليه ليرى ما يكون من شأنه، فإذا بأبي العلاء يقول: وهذا أعرفه أيضا يا شيخي الجليل؛ فقد قال الفلاسفة: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد.
فصاح به الداعي: مد يدك لنتصافح، ونتابع؛ فأنت شيخي أيضا كما أنا شيخك، وهلم بنا إلى المرتبة الثامنة.
أما الشيخ الذي عرفه أبو العلاء منذ سنين فدمعت عيناه، وقال الداعي: إن تقدم مدبر الوجود على الصادر عنه إنما هو تقدم السابق على اللاحق، والعلة على المعلول، فكانت الأعيان كلها ناشئة وكائنة عن الصادر الثاني بترتيب معروف. ومع ذلك يا أحمد، فالسابق لا اسم له ولا صفة، ولا يعبر عنه ولا يقيد. لا يقال هو موجود ولا معدوم، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، وكذلك سائر الصفات، فالإثبات يقتضي الشركة بينه وبين المحدثات، والنفي يقتضي التعطيل. إنه ليس بقديم ولا محدث، بل القديم أمره وكلمته، والمحدث خلقه وفطرته.
واستطرد الداعي قائلا: إن «التالي» يدأب في أعماله حتى يلحق بمنزلة «الصامت» وإن «الصامت» في الأرض يدأب في أعماله حتى يصير بمنزلة الناطق وحاله سواء،
1
وإن الداعي يدأب في أعماله حتى يبلغ منزلة «السوس» وحاله سواء. وهكذا تجري أمور العالم في «أكواره» و«أدواره».
وبان في وجه أبي العلاء اطمئنان كثير عندما انتهى به الداعي إلى هنا، ثم جمز الداعي جمزة كبرى فقال: إن معجزة النبي الصادق الناطق ليست غير أشياء تنتظم بها سياسة الجمهور، وتشمل الكافة مصلحتها بترتيب من الحكمة يحوي معاني فلسفية تنبئ عن حقيقة آنية السماء والأرض وما يشتمل عليه العالم بأسره من الجواهر والأعراض، فتارة برموز يعقلها العالمون وتارة بإفصاح يعرفه كل أحد، فينتظم بذلك للنبي شريعة يتبعها الناس.
اسمع أيها الأخ الأكبر المستجيب.
فأصغى أبو العلاء كل الإصغاء حتى حبس أنفاسه، فقال داعي الدعاة: إن القيامة والقرآن والثواب والعقاب معناها سوى ما يفهمه العامة، وغير ما يتبادر الذهن إليه، وليس هو إلا حدوث «أدوار» عند انقضاء أدوار من أدوار الكواكب وعوالم اجتماعاتها من كون وفساد جاء على ترتيب الطبائع.
ولما رأى الداعي أن تلميذه يقبل قبولا لا شك فيه ما دعاه إليه، طار به إلى القمة؛ أي إلى الدعوة التاسعة، فقال له: قد صرت أهلا لكشف السر والإفصاح عن الرموز، فاعلم أن ما ذكر من الحوادث والأصول رموز إلى المبادئ وتقلب الجواهر، وإنما الوحي هو صفاء النفس، يا ابن عبد الله، فيجد النبي في فهمه ما يلقى إليه ويتنزل عليه، فيبرزه إلى الناس، ويعبر عنه بكلام الله الذي ينظم به النبي شريعته بحسب ما يراه من المصلحة في سياسة الكافة، ولا يجب حينئذ العمل بشريعته تلك إلا بحسب الحاجة من رعاية مصالح الدهماء. أما «العارف» مثلك الآن، يا أحمد، فإنه لا يلزمه العمل بها، وتكفيه معرفته؛ فإنها اليقين الذي يجب المصير إليه، وما عدا المعرفة من سائر المشروعات فإنما هي أثقال وآصار حملها الكفار أهل الجهالة لمعرفة الأعراض والأسباب.
واعلم أيضا، أيها المستنير، أن الأنبياء النطقاء أصحاب الشرائع إنما هم لسياسة العامة. واعلم أخيرا: أن الفلاسفة هم أنبياء حكمة الخاصة، وأن الإمام إنما وجوده في العالم الروحاني إذا صرنا بالرياضة في المعارف إليه، وظهوره الآن إنما هو ظهور أمره ونهيه على لسان أوليائه.
وتنهد الثلاثة تنهيدة قارعة، وقال الداعي لأبي العلاء: «هات يدك الآن، وكن لنا ناصرا؛ فإنما نحن نقوى بأمثالك وأشباهك. إن في معرة النعمان كثيرا من إخواننا حتى المغفور له والدك، ولكن السابق منهم لم يبلغ الدرجة الخامسة من درجات سلم الحكمة، فتهيأ لنصرتنا بما أوتيت من ذكاء وفهم وجرأة ، واعلم أن حولك أناسا يفهمونك إذا حدثتهم، فاهدهم وقدهم وكن لهم في الملمات.
وأخيرا أقول لك إننا فضلناك على جميع الإخوان؛ فلم نأخذ منك ميثاقا. إنني أتلو عليك خاتمة الميثاق الذي نأخذه على من ندعوهم لتعلم حقيقة أننا أجللناك وعظمناك، فاسمع بعض ما نقوله للمدعو:
وليس لك أن تتأول في هذه الأيمان تأويلا، ولا تعتقد ما يحلها، وإنك إن فعلت شيئا من ذلك فأنت بريء من الله ورسله وملائكته، وجميع ما أنزل الله في كتبه، وأنت خارج من حزب الله وحزب أوليائه، وبريء من حول الله وقوته، وعليك لعنة الله، ولله عليك أن تحج إلى بيته الحرام ثلاثين حجة ماشيا حافيا، نذرا واجبا، وكل ما تملك في الوقت الذي تخالف يمينك فيه فهو صدقة على الفقراء والمساكين، وكل مملوك لك من ذكر وأنثى فهو حر لوجه الله، وكل امرأة لك أو تتزوجها إلى وقت وفاتك فهي طالق ثلاثا، طلاق الحرج، لا مثوبة لك ولا رجعة، وكل ما كان لك من أهل ومال وغيرهما فهو حرام عليك. والله تعالى الشاهد على نيتك وعقد ضميرك فيما حلفت، وكفى بالله شهيدا بيننا وبينك.»
فلم يدر أبو العلاء ماذا يجيب، فصمت، ولكنه تنكر، فيما بعد، لحياته السابقة بعض التنكر، وأمسى ينكمش في بيته رويدا رويدا حتى صارت داره مجلسا للمستجيبين المخلصين. ومر في خاطره أن يرحل إلى العراق، فاستشار الوالدة والإخوان، ثم رحل إليه.
رسالة أبي العلاء إلى المعريين
لا يعنيني إن كان أبو العلاء ذهب إلى بغداد مرة أو مرتين أو عشر مرات. ولا يعنيني أرحل إلى عاصمة العالم القديم يريد التزيد من جاه الدنيا ومجدها وملاذها، أم ذهب ينتجع علوم بغداد وأدبها وفلسفتها، فيشهد عن كثب تلك المجامع العلنية والسرية التي كانت تلتئم فيها كل أسبوع.
ولا يعنيني إن كانت أمه قبلت منه وأعانته، ولا إن كان خاله أبو طاهر أعد له سفينة اغتصبها منه عمال السلطان، فسلك طريقا مخوفة إلى موطن الفلسفة ومقر أهل الجدل ...
ولا يعنيني ألبتة، إن أخفق أبو حامد الإسفراييني في إعادة سفينة أبي العلاء المغتصبة، أو المصادرة، ونجح رجل من آل حكار فمدح أبو العلاء لأجله هذه الأسرة واعترف بجميلها. ليست سفينة أبي العلاء تلك التي أوعز الله بصنعها إلى أبينا الثاني فعلم فن الملاحة، وأبقى على جنس أبدعه على صورته ومثاله.
ولا يعنيني إن كان أبو العلاء جلس في بغداد مجلس التلميذ أو مجلس المناظر؛ فالإنسان دائما تلميذ ومعلم.
ولا يعنيني أيضا أن يكون عبد السلام بن الحسين البصري عرض على أبي العلاء مكتبة كانت في يده، فلم ير شيخ المعرة فيها شيئا غريبا؛ إذ كان قد قرأ كتبها كلها في طرابلس، إلا ديوان تيم اللات فاستعاره منه، ثم اختلف المؤرخون في إعادته إلى صاحبه. وسواء عندي أممحصة كانت رواية القفطي والذهبي أم غير ممحصة. ولا يعنيني أن أبحث وأجتر ما كتبه غيري عن حضور أبي العلاء المجمع السري المسمى «إخوان الصفاء» بدار عبد السلام البصري، كل يوم جمعة، كما لا يعنيني حضوره مجمع الشريف المرتضى. ولا يعنيني أبدا صحة كلام سلامون ومرغليوث.
ولا يعنيني أن يكون حب المعري للمتنبي جر عليه الإهانة العظمى، فسحب برجله من مجلس الشريف المرتضى وأخرج. ولا يعنيني سبب عودته من بغداد ولا ماذا لقي من عناء وتعب، ولا حزنه على بغداد، وعلى موت أمه في غيابه.
كل هذا أدعه للمؤرخين وممحصي سير حياة الأدباء، والمدققين في النصوص، وهذا قد كفانيه البحاثة المدقق الأستاذ طه حسين بك في كتابه «ذكرى أبي العلاء»؛ إذ جمع فيه كل ما هب ودب عن المعري وعصره، فليراجعه من يتوخى التحقيق ويتطلب التوسع.
أما الذي يعنيني، وقد يكون سئم القارئ وسبني مرات قبل أن أبوح له به، فهو تلك الرسالة التي وجهها أبو العلاء إلى المعريين حين ترك بغداد.
إن ما سماه الناقد الفرنسي تين «مرض العصر» يصح أن يطلق على عصر أبي العلاء؛ فمرض عصر المعري هو الجدل والشك، وعليهما بنت الدعوة الفاطمية أساسها، ووجدت في شخصية أبي العلاء تربة صالحة فألقت فيها نواتها، فانبثقت وانبسطت فروعها ، وامتصت جذورها كل ما في الماء والشمس والهواء من حياة؛ فأبو العلاء هو الفاطمي العظيم الذي لم يرتد ساعة، وإن رأى فاطميو اليوم في كتابه، بل في كتبه شيئا يستوقفهم لحظة فليذكروا أن شاعر الدعوة الأعظم كان قبل ما وصل إليهم من رسائل، وأن عقلا كعقل أبي العلاء يحق له أن يفسر ويؤول كما فسر وأول غيره من رجال الدعوات والديانات الذين جاءوا على آثار المؤسسين، وليذكروا أن في صلب الدعوة ما يبرر هذا النشوء والارتقاء الفكري ... وإلا فكيف يدأب «التالي» في أعماله حتى يلحق بمنزلة «الصامت»، وكذلك «الصامت» حتى يلحق بمنزلة «الناطق».
وليس كتاب «لزوم ما لا يلزم» غير كتاب الإخوان، فلينعم إخواننا الدروز بالا، وليطمئنوا في خلواتهم؛ فإن إمام الدعوة الفاطمية الخالد لم يشك لحظة «بالمذهب»، وما ارتد قط.
لست أقول إن أبا العلاء درزي اسما؛ فقد سموهم هكذا بعده، ولكني أقول إن مذهبهم مذهبه، وإن ما نراه اليوم عند الطبقة «المتنزهة» من تقشف وزهد في الدنيا مأخوذ عن اثنين: الحاكم بأمر الله، وحواريه أبي العلاء المعري، وهذا ما ستثبته بحوثنا الآتية فليصبر علينا القارئ.
قلت إن أبا العلاء فاطمي المذهب، وقد ذهب إلى بغداد للكشف عن أحوال الدعوة هناك، واتصل بجماعة إخوان الصفاء، وجماعة الإخوان هؤلاء جمعية سرية كالفاطمية، ومبادئهما متفقة تقريبا؛ فاعتقاد إخوان الصفاء كمعتقد الفاطميين في الله والعقل، وهذا أيضا لا يعنيني بحثه، فأكثر من أكتب لهم يعرفونه، وإن كانوا نسوه فليراجعوه، فلست أعدهم هنا لفحص البكالوريا أو الليسانس في الفلسفة والآداب؛ فالذي يعنيني هو رسالة أبي العلاء التي كتبها إلى أهل المعرة؛ فقد دلتني - ولا يعنيني ما يزعم غيري - على فاطمية أبي العلاء، وأنه يعتنق عقيدة بعينها فناصرها علنا، واتقى السلطان بما بث بين أقواله مما يبعد عنه تهمة الإلحاد لتبقى له حياته.
وسننظر، أنا وأنت، يا قارئي العزيز، في هذه الرسالة، فإن وافقتني مقتنعا فلا بأس، وإلا فأنا لست براجع عن فكرتي هذه ما لم تطردها من رأسي فكرة أخرى أقرب منها إلى الصواب. فهلم بنا الآن إلى تلك الرسالة، وإليكها بنصها وفصها، كما عبر السلف الصالح:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب إلى السكن المقيم بالمعرة، شملهم الله بالسعادة، من أحمد بن عبد الله بن سليمان، خص به من «عرفه وداناه»، سلم الله «الجماعة» ولا أسلمها، ولم شعثها ولا آلمها.
إذا كانت الكلمة كائنا حيا كما أتصور وأعتقد فلي في بعض ألفاظ هذه الرسالة أدلة تنصر زعمي وتؤيده؛ فأبو العلاء لا يعني الصورة الظاهرة؛ ففي قوله «خص به من عرفه وداناه» معنى أبعد من المعنى الظاهر السطحي. ويزداد قصده وضوحا بقوله: سلم الله الجماعة ولا أسلمها؛ فلكلمة «الجماعة» معنى خاص تدلنا عليه دلالة صارخة العبارة التي تليها: «ولم شعثها ولا آلمها.» فلست أشك أن هناك جماعة بعينها يقصدها شيخنا إذ يقول: «أما الآن فهذه «مناجاتي» إياهم منصرفي عن العراق مجتمع أهل الجدل، وموطن بقية السلف.»
فمما لا أشك فيه هو أن كلمة مناجاة ذات علاقة وثيقة ب «النجوى»، وهي ما أطلقه الفاطميون اصطلاحا على ما يؤخذ من «المستجيب» كالرسم الذي تستوفيه الماسونية من المنخرطين في سلكها. وتدل العبارة كلها، كما سيدلنا غيرها، على أن أبا العلاء إنما رحل مصابا «بمرض العصر» يطلب دواء له في بغداد مجتمع أهل الجدل.
ثم يقول: «بعد أن قضيت الحداثة فانقضت، وودعت الشبيبة فمضت، وحلبت الدهر أشطره، وجربت خيره وشره.» وفي هذه الفقرة أيضا ما يؤيد زعمي أن أبا العلاء لم يطهر منذ حبل به في البطن، ولكنه رجل طهر هو نفسه كما سترى.
ثم يقول: «فوجدت أوفق ما أصنعه في أيام الحياة عزلة تجعلني من الناس كبارح الأروى من سانح النعام، وما ألوت نصيحة لنفسي، ولا قصرت في اجتذاب المنفعة إلى حيزي، فأجمعت على ذلك واستخرت الله فيه، بعد جلائه على نفر يوثق بخصائلهم؛ فكلهم رآه حزما وعده، إذا تم، رشدا.»
هب أن أبا العلاء استشار في أمره نفرا يوثق بخصائلهم وفقا للعادة المعروفة عندنا، فما الذي يدعوه إلى «الاعتراف» إلى أهل المعرة؟ وهل يمكن أن تكون هذه الرسالة موجهة إليهم جميعا؟ وما يعني أهل بلدته منه لو لم تكن تجمعه وأكثرهم خطة متفق عليها؟
ثم يقول: «وهو أمر أسري عليه بليل قضى برقه، وخبت به النعامة، ليس بنتيج الساعة ولا ربيب الشهر والسنة، ولكنه غذي الحقب القادمة، وسليل الفكر الطويل.» أليس في قوله: «ولكنه غذي الحقب القادمة.» ما يوقف المفكر، ويدلنا على أن الرجل يخاطب جماعة يفهمون ما يعني، وتربطه بهم علاقة أعظم من علاقة كل رجل بأهل بلدته؟
ثم يقول: «وبادرت إلى إعلامهم ذلك مخافة أن يتفضل منهم متفضل بالنهوض إلى المنزل الجارية عادتي بسكناه، ليلقاني فيه فيتعذر ذلك عليه، فأكون قد جمعت بين سمجين: سوء الأدب وسوء القطيعة. ورب ملوم لا ذنب له. والمثل السائر يقول: خل امرءا وما اختار.»
إن أبا العلاء يوضح للإخوان خطة لم يكونوا ألفوها بعد، ثم يوصيهم بها في لزومياته كما سترى، ويريد منهم الآن أن يوافقوه عليها ولا يشجبوه. وعلى خطة أبي العلاء هذه يجري اليوم كبار عقال الدروز، فإذا أرادوا أن ينفردوا ويلزموا بيوتهم يستشيرون المجلس. وقد يترك الرجل منهم زوجته - بعد الحصول على رضاها - وينفرد في مكان ما يغسل فيه أدران ماضيه، ويطهر فيه نفسه طول حياته، وأشهر أمكنة التوحيد والانفراد عندهم «خلوات البياضة» وقل من لم يسمع باسمها؛ فهي أشبه بصوامع الحبساء عند النصارى.
وماذا يخشى أبو العلاء حتى يستميح أهل المعرة عذرا لو لم تكن هناك رابطة تربطه بهم وقد أعطى لأجلها صفقة يمينه؟
ويقول: «وما سمحت القرون بالإياب حتى وعدتها أشياء ثلاثة: نبذة كنبذة فتيق النجوم، وانقضابا من العالم كانقضاب القائبة من القوب، وثباتا في البلد إن جال أهله من خوف الروم. فإن أبى من يشفق علي، أو يظهر الشفقة إلا النفرة مع السواد كانت نفرة الأغفر أو الأدماء.»
إن عبارة «وما سمحت القرون بالإياب» التي مرت بنا هي أخت «غذي الحقب القادمة» التي مرت قبلها، وكلتاهما فاطميتان لا يدرك معناهما الحصري إلا الراسخون في علم العقيدة. وأرجو أن تحفظ هذه «الأشياء الثلاثة» التي وعد بها أبو العلاء القرون حتى سمحت؛ فهي ستثبت لك فاطمية أبي العلاء حين يأتي الكلام على خروجه من محبسه لاشترائه المعرة خطة غبن بعد بيعه وحدته بيعة وكس ... أما الآن فسر بنا إلى تتميم نص الرسالة:
وأحلف ما سافرت أستكثر من النشب، ولا أتكثر بلقاء الرجال، ولكن آثرت الإقامة بدار العلم، فشاهدت أنفس مكان لم يسعف الزمن بإقامتي فيه. والجاهل مغالب القدر.
ولماذا يحلف أبو العلاء لقوم هو سيدهم، وأذكاهم، وأفهمهم، وأعلمهم، ولماذا ينفي عنه السفر في طلب المال لولا أن الزهد في الدنيا أساس العقيدة الفاطمية كما سترى؟
ويختم رسالته بقوله:
فلهيت عما استأثر به الزمان، والله يجعلهم أحلاس الأوطان، لا أحلاس الخيل والركاب، ويسبغ عليهم النعمة سبوغ القمراء الطلقة على الظبي الغرير، ويحسن جزاء البغداديين فقد وصفوني بما لا أستحقه، وشهدوا لي بالفضيلة على غير علم، وعرضوا علي أموالهم عرض الجد، فصادفوني غير جذل بالصنيعات، ولا هش إلى معروف الأقوام، ورحلت وهم لرحيلي كارهون، وحسبي الله وعليه يتوكل المتوكلون.
كلنا نعلم أن أبا العلاء رفض الهبات والعطايا في هذا الطور؛ أي بعد استجابته للدعوة الفاطمية، وخصوصا، عندما نسك وزهد ليكون مثلا أعلى لجماعته كما سترى.
فلا يصح أن نسمي أبا العلاء درزيا لأن هذا الاسم لم يكن في زمنه، ولا أن نسمي أصحابنا الدروز دروزا لأن هذا الاسم لصق بهم بعد حين، وهو في الحقيقة اسم لا يرضيهم، وقد يرضى الإنسان بما يكره إذا غلب واشتهر به.
إن سيرة المعري هي الدستور الأسمى لطبقة «الأجاويد» العليا المعروفة عند الدروز ب «المتنزهة». وهؤلاء المتنزهة بل من هم دونهم في طبقة «الجودة» لا يقبلون مالا من أحد مشكوكا في أنه غير حلال؛ ولهذا قال أبو العلاء لإخوانه (الجماعة) في المعرة: «عرضوا علي أموالهم عرض الجد، فصادفوني غير جذل بالصنيعات.»
إن هذه الخصلة مقتبسة من إمام الدعوة وسيدها الأسمى الحاكم بأمر الله؛ فقد كان راغبا عن العطايا والهبات، وقد رد مال متوفى أوصى له به، وكان يهب بلا حساب. أما كتب إلى أمين الأمناء حين توقف عن الدفع: «ما عندكم ينفد وما عند الله باق، والمال مال الله عز وجل، والخلق عيال الله، ونحن أمناؤه في الأرض، أطلق أرزاق الناس ولا تقطعها والسلام»؟
ومن يقرأ لزوميات المعري يرى أنه كان يصور للناس شخصية الحاكم وخصاله من حيث لا يدرون. أذكر لك واحدة الآن. إن كره الحاكم للمال حمله على إلغاء المكوس، وقد أيده شاعر دعوته في المعرة؛ إذ رأى من الحكام غير ذلك فقال:
وأرى ملوكا لا تصون رعية
فعلام تؤخذ جزية ومكوس؟
كلنا نعلم أن أبا العلاء غاضب على الحكام، ويراهم أجراء الأمة الذين عدوا مصالحها. ويتحدث عن ظلمهم وينتقدهم انتقادا مؤلما، ويعترض على إجراءاتهم. والتاريخ ينبئنا أن الحاكم بأمر الله كان جبارا، وقد أهدر دم الكثيرين، وقتل كبار رجال دولته، فلماذا يرضى عنه أبو العلاء الذي لم يرض عن أحد؟ فهو يحدثنا عنه مرة في لزومياته بكل أناة ورفق، بل يتحدث عنه كما نتحدث نحن عن الأنبياء والرسل، فيقول كلاما لا لبس فيه ولا إبهام، ولا مجاز ولا رموز، كلاما جليا واضحا لا يحتمل أقل تأويل، فيمتدح الحاكم ويذم ابنه الظاهر بأمر الله الذي تبرأ من رسالة أبيه، واضطهد المستجيبين للدعوة اضطهادا فظيعا حتى علق رءوسهم على صدور نسائهم، فقال أبو العلاء مدافعا عن «مولاه»:
مضى قيل مصر إلى ربه
وخلى الحكومة للخائل
وهو لا يعني غير الظاهر بأمر الله حين قال - وهذا البيت قد أوردته في فصل سابق:
أعدى عدو لابن آدم خلته
ولد يكون خروجه من ظهره
وإن تتبعني، أيها القارئ الكريم، بعد أن تتجرد من ذاتك التقليدية فسنعود من رحلتنا هذه وأنت واثق مثلي أن شيخ المعرة هو إمام المذهب الفاطمي، وكتاب لزومياته هو كتاب المذهب. إنما عليك أن تقرأ ما أكتبه وما كتبته بإمعان، وتتبحر في عبارات «الدعوات التسع» فتدرك مثلي وتبصر.
حبيس المعرة
مدرسة أبي العلاء
تكاثرت الظباء على خراش
فلا يدري خراش ما يصيد
ولكنك ستعلم أن شيخنا ، حياه الله ، صياد جبار متى سمعته يملي على تلاميذه الذين ضاق بهم المكان، فتخالك في أثينا لا في قرية من قرى «العواصم». وكان بين طلاب الشيخ واحد تجاوز سن الشباب ما عرف شيخنا من أمره إلا أنه من القاهرة واسمه إسماعيل التميمي. راب الشيخ أمر هذا الطالب؛ فكيف يضرب إليه أكباد الإبل وهو من مصر، وفي مصر «دار الحكمة»؟ نظمه الشيخ في إحدى حلقاته بعدما اعتذر له بضيق المقام وما نفع الاعتذار. احتج التميمي ببعد الشقة وأنه قصد ليغرف من بحر علمه ويقتبس من حكمته، فتأفف أبو العلاء لأنه ضاق ذرعا بمريديه؛ فبيوت المعرة تغص بهم وبيته لا يسعهم، فاضطر إلى جعلهم حلقات مختلفة، فريق يجيء، وفريق ينصرف، والشيخ متربع لا تحل له حبوة، ولا يتزحزح إلا حين تدعوه حاجة كالأكل والشرب وما يليهما.
وإذا ما انصرف طلابه وخلت الدار قعد يعد أمالي الغد، أمالي ممزوجة بكل ما يلابس الحياة ويلامسها من قريب وبعيد، وشأنه مع المسائل الخطيرة والخطرة شأن العصفور الدوري ينقد ويطير، ثم يكر ثانية، وهكذا دواليك حتى يشبع ويشبع تلاميذه ... يعالج جميع الموضوعات التي تنشئ رجالا وتمتن أخلاقهم؛ فهو ينشد الكمال الإنساني دائما، كما ينشد الكمال الإنشائي فيما ينظم ليملي معنيا باللغة التي كانت ركن العلوم في ذلك الزمان، بل كانت كل شيء؛ فيكثر من الغريب، ويرمز ويلمح، ويطابق ويجانس، ويطوي وينشر ويوري، ثم يعود إلى إيضاح ما أملى وشرحه، ويفذلك أخيرا آراءه لترسخ في الأذهان، أذهان مريديه الذين اعتقدوا أن عند الشيخ علم كل شيء لأنه ذاع عنه:
غدوت مريض العقل والدين فالقني
لتعلم أنباء العلوم الصحائح
وقوله:
ما كان في الدنيا بنو زمن
إلا وعندي من أخبارهم طرف
ولذلك تعج أماليه بالتلميح، وتضطرم فيها نيران الثورة على الأديان جميعها؛ فكأنه جامعة دولية لا تخوم لها ولا حدود.
كان الإقبال عليه عظيما فاستحالت وحدته إلى مجتمع حي نابض بقوة الشباب وتفكيره الصاخب. وقد أشار أبو العلاء إلى مدرسته هذه بقوله:
يزورني الناس هذا أرضه يمن
من البلاد وهذا أرضه الطبس
قالوا سمعنا حديثا عنك، قلت لهم
لا يبعد الله إلا معشرا لبسوا
يبغون مني معنى لست أحسنه
فإن صدقت عرتهم أوجه عبس
أعاننا الله، كل في معيشته
يلقى العناء، فدري فوقنا دبس
وحانت ساعة الإملاء فتحركت شفتا الشيخ فقال العريف: أقلامكم وأوراقكم. فأملى الشيخ:
ملائك تحتها إنس وسائمة
فالأغبياء سوام، والتقي ملك
فلا تعلم صغير القوم معصية
فذاك وزر إلى أمثاله عدلك
فالسلك ما اسطاع يوما ثقب لؤلؤة
لكن أصاب طريقا نافذا فسلك
فكتب التميمي، وهو يصر شفتيه، متعجبا لهذه العظة الضخمة كيف برزت في هذا الثو الدقيق، وراح يفكر فيما كتب وإذا برفاقه قد سبقوه ولم يلتقط هو إلا هذا البيت:
يا رضو لا أرجو لقا
ءك، بل أخاف لقاء مالك
فضحك التميمي إذ درى ما عنى شيخه وعلم أنهما على صعيد واحد، وانتقل الشيخ إلى موضوع آخر بعد تفكير قليل، وقال اكتبوا:
تقضى الناس جيلا بعد جيل
وخلفت النجوم كما تراها
إذا رجع الحصيف إلى حجاه
تهاون بالمذاهب وازدراها
وهت أديانهم من كل وجه
فهل «عقل» يشد به عراها
تقدم صاحب التوراة موسى
وأوقع في الخسار من اقتراها
وقال رجاله وحي أتاه
وقال الظالمون بل افتراها
أرى أم القرى خصت بهجر
وسارت نمل مكة عن قراها
وكم سرت الرفاق إلى صلاح
فمارست الشدائد في سراها
يوافون البنية كل عام
ليلقوا المخزيات على قراها
ضيوف ما قراها الله عفوا
ولكن من نوائبه قراها
وما سيري إلى أحجار بيت
كئوس الخمر تشرب في ذراها
فإن الله غير ملوم فعل
إذا أورى الوقود على وراها
فازداد التميمي تعجبا؛ إذ سمع المعلم يتحدث عن الله، في البيت الأخير، كأنه يتحدث عن زميل له أو نظير فيحاول تبرئته إن فعل ما تمناه عليه.
وشرح الشيخ بعض كلمات مما أملاه، ودل على أنواع البديع، ثم عاد يملي فكتبوا:
أتت خنساء مكة كالثريا
وخلت في المواطن فرقديها
وتوقف هنيهة ليشرح ما يعني بقوله خنساء، وكيف ورى، ثم أتم:
ولو حلت بمنزلها وصامت
لألفت ما تحاوله لديها
ولكن جاءت الجمرات ترمي
وأبصار الغواة إلى يديها
وليس محمد فيما أتته
ولا الله القدير بمحمديها
وكان الطلاب يكتبون ويتغامزون متعجبين، أما التميمي فما صدق أنه يكتب ما كتب حتى نقلهم الشيخ إلى قضية من قضاياه الكبرى فقال:
اكتبوا يا أولادي:
لو كان جسمك مطروحا بهيئته
بعد التلاف طمعنا في تلافيه
كالدن عطل من راح تكون به
ولم يحطم فعادت مرة فيه
لكنه صار أجزاء مقسمة
ثم استمر هباء في سوافيه
وانتقل إلى موضوع آخر أقل خطرا فأملى:
ألا تفكر قبل النسل في زمن
به حللت فتدري أين تلقيه
ترجو له من نعيم الدهر ممتنعا
وما علمت بأن العيش يشقيه
شكا الأذى فسهرت الليل وابتكرت
به الفتاة إلى شمطاء ترقيه
وأمه تسأل العراف قاضية
عنه النذور لعل الله يبقيه
وأنت أرشد منها حين تحمله
إلى الطبيب يداويه ويشفيه
ولو رقى الطفل عيسى أو أعيد له
بقراط ما كان من موت يوقيه
دنست عرضك حتى ما ترى دنسا
لكن قميصك للأبصار تنقيه
ثم أملى أيضا:
وينشأ ناشئ الفتيان منا
على ما كان عوده أبوه
وما دان الفتى بحجى ولكن
يعلمه التدين أقربوه
وجاءتنا شرائع كل قوم
على آثار شيء رتبوه
وغير بعضهم أقوال بعض
وأبطلت النهى ما أوجبوه
وأراد التميمي أن يطرح سؤالا، فقال المعري: اكتبوا، ثم اسألوا ما شئتم:
أسهب الناس في المقال وما يظ
فر إلا بزلة مسهبوه
عجبا للمسيح عند النصارى
وإلى الله والد نسبوه
أسلمته إلى اليهود النصارى
وأقروا بأنهم صلبوه
يشفق الحازم اللبيب على الطف
ل إذا ما لداته ضربوه
وإذا كان ما يقولون في عي
سى صحيحا فأين كان أبوه؟
كيف خلى وليده للأعادي
أم يظنون أنهم غلبوه؟
وإذا ما سألت أصحاب دين
غيروا بالقياس ما رتبوه
لا يدينون «بالعقول» ولكن
بأباطيل زخرف كذبوه
ووجه الشيخ وجهه شطر صوت التميمي وقال: سل الآن ما بدا لك، فأجاب التميمي: أدركت يا شيخنا ما عنيت.
فقال أبو العلاء: اكتبوا إذن. وطفق يفسر كلمات الدرس ويشرح الأبيات ويعرب لتلاميذه ما أشكل عليهم، ويحل الرموز، وأذن العصر فانصرفوا.
وكان للشيخ تلميذ يؤثره، وكان هذا الشاب يعين شيخه، يقدم له حذاءه ويأخذ بيده ليقوم إلى حاجته. ومن عمله أيضا أن يكتب ما يمليه عليه ويحفظه في صندوقة موضوعة دائما بقرب الشيخ. وسأل الشيخ تلميذه عن الطالب الجديد؛ أي التميمي، ما سنه؟ وماذا أبدى في أثناء الدرس، استحسانا أم استهجانا؟ وهل استغرب شيئا مما أملي عليه، وأين يقيم، وهل اكترى بيتا؟ إلخ ...
فأجاب الطالب: فوق الثلاثين، فقال الشيخ: أف! وأتم الفتى: أما الدرس فقد دهشه. وظل الشيخ ساكتا فقال الشاب: ما عودتني مثل هذه السؤالات، أتخشى منه بأسا؟ فأومأ الشيخ أن لا، ثم قال: إنه آت من مصر، وسوء الظن من حسن الفطن. وتنهد أبو العلاء تنهدة يعرفها تلميذه أنها علامة الانصراف، فقبل يده وخرج.
وشرع أبو العلاء، على عادته، يعد الأمالي للدرس الآتي. ومع الشمس جاء تلاميذه فجلسوا حوله في السماطين حتى إذا وفد المتأخرون صاروا حلقة. وكان التميمي قد بكر وقعد من الشيخ مقعد الطالب المدلل لا يفصل بينهما أحد. وتحركت شفتا الشيخ للإملاء حركات بطيئة فسريعة، وقد رفع رأسه كأنه ينظر إلى أعلى الجدار، فتهيأ الطلاب لاقتبال البذور التي يلقيها الزارع الخالد، فأملى ولكن من «سقط الزند»:
أرى العنقاء تكبر أن تصادا
فعاند من تطيق له عنادا
وظن بسائر الإخوان شرا
ولا تأمن على سر فؤادا
وعض على كلمة سر كأنما هو يعني شيئا، ثم قال:
ولو خبرتهم الجوزاء خبري
لما طلعت مخافة أن تكادا
فأي الناس أجعله صديقا
وأي الأرض أسلكه ارتيادا
ولو أن النجوم لدي مال
نفت كفاي أكثرها اتقادا
كأني في لسان الدهر لفظ
تضمن منه أغراضا بعادا
يكررني ليفهمني رجال
كما كررت معنى مستعادا
ولو أني حبيت الخلد فردا
لما أحببت بالدنيا انفرادا
فلا هطلت علي ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا
وكان التميمي يكتب وعليه أمارات التعجب، منكب على دفتره وقلمه بيده، راصد كأنه الهر على باب الجحر . أما الطالب الأثير فكان له بالمرصاد يحصي عليه أنفاسه. وهم الشيخ بالكلام فسمعت تكتكة الأقلام في البواقيل وحفيف الدفاتر فقال:
أصبحت منحوسا كأني ابن مس
عود وما أطغى بأن أهزلا
لي أمل فرقانه محكم
أقراه غضا كما أنزلا
شيخا أراني كطفيل غدا
يركض في غاراته قرزلا
لا يكذب الناس على ربهم
ما حرك العرش ولا زلزلا
فليت من يفري أحاديثه
مات فصيلا قبل أن يبزلا
يا جدثي حسبك من رتبة
أنك من أجداثهم معزلا
أملني الدهر بأحداثه
فاشتقت في بطن الثرى منزلا
إن نشأت بنتك في نعمة
فألزمنها البيت والمغزلا
ذلك خير من شوار لها
ومن عطايا والد أجزلا
وتوقف الشيخ هنيهة عن الإملاء كعادته عند كل نهاية، فأخذ التميمي يفكر في العلاقة بين الأبيات الأولى والأخيرة، ولكنه ألف أسلوب الشيخ فيما بعد، فأدرك أنها طريقته الخاصة، وخطته أن يكر ويفر إلى حصن آخر بعد كل حجر يرميه من منجنيقه. يفعل ذلك تقية ليشغل قارئه بالجديد عما سبق. وتنحنح الشيخ، فاستعدوا، فأملى:
دعاكم إلى خير الأمور محمد
وليس العوالي في القنا كالسوافل
حداكم إلى تعظيم من خلق الضحى
وشهب الدجى من طالعات وآفل
وألزمكم ما ليس يعجز حمله
أخا الضعف من فرض له ونوافل
وحث على تطهير جسم وملبس
وعاقب في قذف النساء القوافل
وحرم خمرا خلت ألباب شربها
من الطيش ألباب النعام الجوافل
يجرون ذيل الملك جر أوانس
لدى البدو أذيال الغواني الروافل
فصلى عليه الله ما ذر شارق
وما فت مسكا ذكره في المحافل
فصلوا جميعا وسلموا، وزفر الشيخ زفرة حرى وأملى:
لعل أناسا في المحاريب خوفوا
بآي، كناس في المشارب أطربوا
إذا رام كيدا بالصلاة مقيمها
فتاركها عمدا إلى الله أقرب
فلا يمس فخارا إلى الفخر عائد
إلى عنصر الفخار للنفع يضرب
لعل إناء منه يصنع مرة
فيأكل فيه من أراد ويشرب
ويحمل من أرض لأخرى وما درى
فواها له بعد البلى يتغرب
وما الأرض إلا مثلنا الرزق تبتغي
فتأكل من هذا الأنام وتشرب
لقد كذبوا حتى على الشمس أنها
تهان إذا حان الشروق وتضرب
فكان استحسان من سواد الطلبة، فمضى الشيخ في الإملاء:
ألا فانعموا واحذروا في الحياة
ملما يسمى مزيل النعم
أرى قدرا بث أحداثه
فخص بهن أناسا وعم
وأن القنا حملتها الأكف
لطعن الكماة وشل النعم
فلا تأمنوا الشر من صاحب
وإن كان خالا لكم وابن عم
أتوكم بأقيالهم والحسا
م فشد بهم زاعم ما زعم
تلوا باطلا وجلوا صارما
وقالوا صدقنا فقلتم نعم
أفيقوا فإن أحاديثهم
ضعاف القواعد والمدعم
زخارف ما ثبتت في العقو
ل عمى عليكم بهن المعم
يدول الزمان لغير الكرام
وتضحي ممالك قوم طعم
وما تشعر الإبل أن الركاب
أعمت إلى الرمل أم لم تعم
وأدرك التميمي الآن كيف يطمر الشيخ أغراضه، وينصب فخاخه ويسويها بالأرض ويذري عليها ما يغطيها، فلا يدرى أين هي. وانتقل الشيخ دونما استراحة إلى لزومية أخرى فأملى:
إذا مدحوا آدميا مدحت
مولي الموالي ورب الأمم
وذاك الغني عن المادحين
ولكن لنفسي عقدت الذمم
ومغفرة الله مرجوة
إذا حبست أعظمي في الرمم
فيا ليتني هامدا لا أقوم
إذا نهضوا ينفضون اللمم
ونادى المنادي على غفلة
فلم يبق في أذن من صمم
وجاءت صحائف قد ضمنت
كبائر آثامهم واللمم
رأيت بني الدهر في غفلة
وليست جهالتهم بالأمم
فنسك أناس لضعف العقول
ونسك أناس لبعد الهمم
وكان شرح فاستراحة قليلة، ثم عاد الشيخ إلى الإملاء:
قد ندمنا على القبيح فأمسي
نا على غير قهوة نتنادم
خالق، لا يشك فيه، قديم
وزمان على الأنام تقادم
جائز أن يكون آدم هذا
قبله آدم على إثر آدم
خدم الله غيرنا وأرانا
أهل غي لربنا نتخادم
لست أنفي عن قدرة الله أشبا
ح ضياء بغير لحم ولا دم
وبصير الأقوام مثلي أعمى
فهلموا في حندس نتصادم
وأبدى التميمي حركة أشعرت الشيخ أن تلميذه أعرف من رفاقه، ولم يعز ذلك إلى سنه، بل ظن أنه من «المستجيبين» فابتسم وأملى:
أصحاب ليكة أهلكوا بظهيرة
حميت، وعاد أهلكت بالصرصر
كسرى أصاب الكسر جابر ملكه
والقصر كر على تطاول قيصر
فأبدى التلاميذ استحسانا عظيما لهذا الجناس البارع ولكن الشيخ لم يبال وأتم:
لا تحمدن ولا تذمن امرءا
فينا؛ فغير مقصر كمقصر
آليت لا ينفك جسمي في أذى
حتى يعود إلى كريم العنصر
وإذا رجعت إليه صارت أعظمي
تربا تهافت في طوال الأعصر
والله خالقنا اللطيف مكون
ما لا يبين لسامع أو مبصر
أيام لم تك في المواطن كوفة
لمكوف أو بصرة لمبصر
وبدت حركة استحسان فلم يعرها الشيخ اهتماما وظل يملي:
والعقل يعجب للشروع تمجس
وتحنف وتهود وتنصر
فاحذر ولا تدع الأمور مضاعة
وانظر بقلب مفكر متبصر
فالنفس إن هي أطلقت من سجنها
فكأنها في شخصها لم تحصر
والطول في وسط البنان لعلة
كالنقص في إبهامها والخنصر
فضحك التميمي ضحكة بلغ رنينها أذن الشيخ، واستغرب الآخرون ما بدا منه. أما الشيخ فعرف صاحبه كل المعرفة وأملى قصيدة أخرى من وزنها وقافيتها ختمها بهذا البيت:
وإذا أردتم للبنين كرامة
فالحزم أجمع تركهم في الأظهر
وسئل الشيخ لماذا، فقال اكتبوا:
جنى ابن ستين على نفسه
بالولد الحادث ما لا يحب
تقول عرس الشيخ في نفسها
لا كنت يا شر خليل صحب
أنفع منه عندها برجد
أذهب قرا أو سقاء سحب
وقال:
تفرقوا كي يقل شركم
فإنما الناس كلهم وسخ
قد نسخ الشرع في عصورهم
فليتهم مثل شرعهم نسخوا
ثم قال:
من وسخ صاغ الفتى ربه
فلا يقولن توسخت
وقال:
لو أن كل نفوس القوم رائية
كرأي نفسي تناءت عن خزاياها
وعطلوا هذه الدنيا فما ولدوا
ولا اقتنوا واستراحوا من رزاياها
ثم وقف والتفت نحوهم وقال: اسألوا الآن لماذا؟ لنستأنف حياة جديدة خيرا من هذه الحياة، وكأنه أدرك أنه تورط فقال اكتبوا:
ما أقدر الله أن يدعو بريته
من تربهم فيعودوا كالذي كانوا!
إن كان رضوى وقدس غير دائمة
فهل تدوم لهذا الشخص أركان؟
ما أحسن الأرض لو كانت بغير أذى
ونحن فيها لذكر الله سكان!
فتهلل التميمي حتى أبدى نواجذه وقال بصوت مسموع: القضية ثابتة. وعبس الشيخ فقط التميمي ضحكته قطا، وأملى الشيخ:
ولو طار جبريل بقية عمره
من الدهر ما اسطاع الخروج من الدهر
وقد زعموا الأفلاك يدركها البلى
فإن كان حقا فالنجاسة كالطهر
وأما الذي لا ريب فيه لعاقل
فغدر الليالي بالظلامية الزهر
وإن صح أن النيرات محسة
فماذا نكرتم من وداد ومن صهر؟
لعل سهيلا وهو فحل كواكب
تزوج بنتا للسماك على مهر
وعم الضحك حلقة الشيخ، وارتاح هو إلى ارتياح تلاميذه وفهمهم منطقه وما يريد وما يعني، وصرفهم لاستراحة قليلة، واستدنى التميمي قائلا له: اكشف لي عن صفحتك؛ فما خطبك؟ عرفت أنك منا، فماذا تبتغي في حلقتي؟
فصرح له التميمي بأنه موفد من لدن الحاكم بأمر الله، ومهمته أن يتلقى بعض الدروس، ثم يتوجه بالشيخ إلى القاهرة ليلقي الدروس على «الدعاة» في «دار الحكمة».
فابتسم أبو العلاء وقال له: كان ذلك قبل النذر، خذ عني ما تشاء، واكتب ما تشاء، وخبر «الإمام» بما رأيت وسمعت، أما ذهابي إلى القاهرة فهيهات. هيهات أن يحمل عني مولانا الحاكم وزر يميني. نحن قوم، وأنت من العارفين، ندين بالصدق، ومن يكذب على نفسه يكذب على الإمام والإخوان، والعياذ بالله.
وكان أخذ ورد، وتمادى التميمي حتى استولى على أمد الحديث. ودخل التلاميذ وقعدوا فأملى الشيخ:
عمى العين يتلوه عمى الدين والهدى
فليلتي القصوى ثلاث ليال
لحى الله غارات السنين فإنها
مبدلة ظلماتها بزيال
وهون أرزاء الحوادث أنني
وحيدا أعانيها بغير عيال
فدعني وأهوالا أمارس ضنكها
وإياك عني لا تقف بحيالي
فظن التميمي أنه يعنيه ولكنه كتب ما أملى:
جاء القران وأمر الله أرسله
وكان ستر على الأديان فانخرقا
ما أبرم الملك إلا عاد منتقضا
ولا تآلف إلا شت وافترقا
مذاهب جعلوها من معايشهم
من أعمل الفكر فيها تعطه الأرقا
احذر سليلك فالنار التي خرجت
من زندها إن أصابت عوده احترقا
فردد تلميذ مرح بيتا آخر أخذوه عن الشيخ منذ مدة:
عروسك أفعى فهب قربها
وخف من سليلك فهو الحنش
فضحك بعض وتضاحك بعض، أما الشيخ فأتم:
وكلنا قوم سوء لا أخص به
بعض الأنام ولكن أجمع الفرقا
إذا كشفت عن الرهبان حالهم
فكلهم يتوخى التبر والورقا
واستراح قليلا ليوضح ما خفي على تلاميذه، وينشر ما طوي، ثم أنشد:
مساجدكم ومواخيركم
سواء فبعدا لكم من بشر
وما أنتم بالنبات الحميد
ولا بالنخيل ولا بالعشر
ولكن قتاد عديم الجناة
كثير الأذاة أبى غير شر
فيا ليتني في الثرى لا أقوم
إن الله ناداكم أو حشر
وما سرني أنني في الحياة
وإن بان لي شرف وانتشر
أرى أربعا آزرت سبعة
وتلك نوازل في اثني عشر
وختم درس ذلك اليوم بما يلي:
يقول لك العقل الذي بين الهدى
إذا أنت لم تدرأ عدوا فداره
وقبل يد الجاني التي لست واصلا
إلى قطعها، وارقب سقوط جداره
وهكذا انقضت شهور والتميمي يدور حول الشيخ ويداوره ويأخذ عنه، ويزين له الإقامة في القصر ودار الحكمة، والشيخ ثابت لا يتحول ولا يتزعزع. وأدرك التميمي أن ما يأخذه من علم الشيخ وما ينقله عنه إلى مولاه خير وأبقى، فكتب دفاتر كثيرة أملاها عليه الشيخ. وأكب على الدفاتر التي لم تمل فأخذ منها ما شاء ولسان حاله يقول: أنا على سفر فلا بد من زاد ...
واتصلت حلقة الشيخ في غرة رمضان سنة 411 هجرية فأملى على تلاميذه:
أنا صائم طول الحياة وإنما
فطري الحمام ويوم ذاك أعيد
لونان من ليل وصبح لونا
شعري وأضعفني الزمان الأيد
والناس كالأشعار ينطق دهرهم
بهم فمطلق معشر ومقيد
قالوا فلان جيد لصديقه
لا يكذبوا. ما في البرية جيد
فأميرهم نال الإمارة بالخنا
وتقيهم بصلاته متصيد
كن ما تشاء مهجنا أو خالصا
وإذا رزقت غنى فأنت السيد
واصمت فما كثر الكلام على امرئ
إلا وظن بأنه متزيد
ثم رجع إلى موضوعه الذي لا يبرح من فكره فكأنه الفكرة الثابتة:
دين وكفر وأنباء تقص، وقر
آن ينص، وتوراة وإنجيل
في كل جيل أباطيل يدان بها
فهل تفرد يوما بالنهى جيل؟
ومن أتاه سجل السعد عن قدر
عال فليس له بالخلد تسجيل
وما تزال لأهل الفضل منقصة
وللأصاغر تعظيم وتبجيل
وانتقل إلى الكلام عن قدرة الله فأملى:
إني ونفسي أبدا في جذاب
أكذبها وهي تحب الكذاب
إن أدخل النار فلي خالق
يحمل عني مثقلات العذاب
يقدر أن يسكنني روضة
فيها ترامي بالمياه العذاب
لا أطعم الغسلين في قعرها
ولا أغادى بالحميم المذاب
وقال:
بإذن الله ينفذ كل أمر
فنهنه فيض أدمعك السجوم
يجوز بحكمه موت البرايا
وأن تبقى السماء بلا نجوم
وجاء حديث الخير، فأحكم الشيخ قعدته وأملى:
إن إناء الخير من عسجد
لو خر هضب فوقه ما انثلم
إن زجر الله حديدا نبا
أو أمر الله حريرا كلم
وأملى أيضا:
أأخشى عذاب الله والله عادل
وقد عشت عيش المستضام المعذب
وانتقل إلى عروض أخرى فأملى:
لك الملك إن تنعم فذاك تفضل
علي وإن عاقبتني فبواجب
يقوم الفتى من قبره إن دعوته
وما جر مخطوط له في الرواجب
عصا النسك أحمى، ثم، من رمح عامر
وأشرف عند الفجر من قوس حاجب
ومد يده نحو السماء وأنشد:
وما عذري وعند الله علمي
إذا كذبت قوائل مسندات
فهل علمت بغيب من أمور
نجوم للمغيب معردات
وليست بالقدائم في ضميري
لعمرك بل حوادث موجدات
ولو أمر الذي خلق البرايا
تهاوت للدجى متسردات
وقد زعموا بأن لها عقولا
وأقضية المليك مؤكدات
وأن لبعضها لفظا، وفيها
حواسد مثلنا ومحسدات
ثم أملى هذين البيتين:
يكر موتانا إلى الحشر إن
قال لهم بارئهم كروا
يخلف منا آخر أولا
كأننا السنبل والبر
وشاء شيخنا أن يرمي آخر سهم في جعبته ويعظم الله أعظم تعظيم فقال اكتبوا نثرا: «يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه، ويسمع الأصوات بيده، وتكون بنانه مجاري دمعه، ويجد الطعم بأذنه، ويشم الروائح بمنكبه، ويمشي إلى الغرض على هامته، وأن يقرن النير وسنير حتى يريا كفرسي رهان، وينزل الوعل من النيق، ومجاوره السودنيق، حتى يشد فيه الغرض، وتكرب عليه الأرض، وذلك من القدرة يسير، سبحانك ملك الملوك وعظيم العظماء.»
واعتقد الشيخ أنه أدى أكبر تسبحة لله فدمعت عينه ورجف صوته.
من يدري ماذا كان يجول في خاطر الشيخ في تلك الساعة الخطيرة من عمره؟
قد يكون هذا - ولست أجزم فيما أزعم - وما زالت هذه قدرة الله فلماذا لا ينظر إلى عبده الناسك فيقول له أبصر، فيبصر؟
وتجلد الشيخ وأملى:
دموعي لا تجيب على الرزايا
ولولا ذاك ما فتئت سجوما
رضا بقضاء ربك فهو حتم
ولا تظهر لحادثة وجوما
ولم زحلا أو المريخ فيها
ولا تلم الذي خلق النجوما
ولست أقول إن الشهب يوما
لبعث محمد جعلت رجوما
فأمسك غرب فيك ولا تعود
على القول الجراءة والهجوما
وشاء أن يأتي على آخر الفكرة ويجلوها فقال:
زعم الناس أن قوما من الأب
رار عولوا بالجو في الطيران
ومشوا فوق صفحة الماء، هذا
الإفك ما جرى العصران
وقال الشيخ: رمضان ضيق يا أولادي، فلنختم درس هذا النهار، اكتبوا:
قلدتني الفتيا فتوجني غدا
تاجا بإعفائي من التقليد
ومن الرزية أن يكون فؤادك ال
وقاد في جسد عليه بليد
وحوادث الأيام تولد جلة
وتعود تصغر ضد كل وليد
امضوا، سلمكم الله.
وبعد إفطار غرة رمضان سنة 411، دخل الداعي إسماعيل التميمي على أبي العلاء فقال: قد تكون بلغت سيدي وشيخي أخبار مصر. إنها سوداء تستوكف العبرات، تحريق وقتل، ونهب وسلب، واضطراب وفزع، ثار العوام «بالدعاة» فقتلوا بعضهم وعقب ذلك حرق مصر. وقد يكون مولانا الحاكم استطال بقائي في المعرة ولكن عذري معي؛ فما أحمله إلى الحضرة من علم الشيخ يشفع بي عنده، ويعزيه في كربته. لست أشك في أنه سيعنفني أشد التعنيف، وإن أدركته في ساعة شؤم فالويل لي. - علام يعنفك؟ - لأني لم أقم بمهمتي. استسفرني إليك، وها أنا أعود وحدي. والله، يا سيدي، أحلف لك أنني أخشى لقاءه. - تخاف مقابلته؟ - لست وحدي أخاف ذلك. صوت قوي مرعب كصوت الرعد القاصف يحمل الروع إلى سامعيه، بنية قوية متينة كأنه من الجبابرة والعمالقة، مبسوط الجسم، مهيب الطلعة، عينان كبيرتان سوداوان تمازجهما زرقة، نظرات حادة مروعة كنظرات الأسد، لا يستطيع الإنسان صبرا عليها. كثيرون سقطوا على الأرض وجلا منه وأخرسهم خطابه.
كان أبو العلاء يسمع كلام إسماعيل وكأنه في غيبوبة.
وسكت التميمي هنيهة فقال أبو العلاء: خلق عجيب. - نعم يا مولاي، وخلقه أعجب من خلقه، يشمئز من الدنايا، عفيف طاهر، صادق جواد، تارة يتسع صدره فيحمل الأهرام والمقطم، وأحيانا يخف حلمه فيقبل عزرائيل بخيله ورجله، وهو في الحالين لا يحيد قيد أنملة عن طريق الصدق والخير. - رغبتني فيه يا إسماعيل، وزينت لي لقاءه، لولا أني في قيدين، وقيد واحد منهما كاف: العمى واليمين. العمى يا تميمي مصيبة إذا رافقه طبع سوداوي كطبعي. ما أنا أول أعمى، ولكني أول رجل من العميان في هذه الغريزة. آنف أن أقاد كالكبش، ولا أغتفر لنفسي زلة أو تقصيرا، ولا أحمل منة. الله الله في. العلم يريد أن يظهر، ولكن العمى يهيب بي: الزم مكانك فخير دواء لدائك هذه الخلوة فلا تبرحها.
ليته يستوي لي جناحان فأطير بهما إلى القاهرة، ولكن الله لا يريد، ولتكن إرادته يا أخي.
العمى محنة، ولست أحمد الله عليه، كما ادعى بشار؛ فمن لي أن أبصر ساعة واحدة لأرى عجائب خالقي التي أتخيلها ولا أدركها تمام الإدراك.
تتوهم أني أدرك الأشياء، ولكني أقول لك إنني أدرك المرئيات إدراكا ناقصا. أتخيلها من كلام العارفين بها، ولكن الكلمة، يا إسماعيل، لا تؤدي المعنى تاما غير منقوص.
أعانني الله على محنتي، وجعل خاتمة طريقي خيرا؛ فهل بعد الشقاء بقاء؟ الله أعلم، ولكنني مؤمن بالخير، ولا يكون المصير إلا خيرا، إن شاء الله.
وبعد يا تميمي، أفما تقول لي ما حاجة مولانا الإمام، حرسه الله، بهذا الجسد النحيل؟ إن هواي معه وفكري عنده، والهدف واحد ... أما علمي فما حجبته عنك؛ فأنت حامله إليه وهذا كل ما في جعبة الشيخ، ما لي وللحواضر يا إسماعيل، سيان عندي الليل والنهار، والقصر والكوخ. أتظن أن رحلتي إلى الحاكم تزيدني معرفة به؟ لقد وصفته لي فتخيلته جسمانيا، وما يبلغني عنه من النزاهة والزهد ومقاومة الشر يربطني به.
أنا معجب بأبيه من قبله وبه أيضا، وكلنا نسعى لنطهر أنفسنا وننقيها، ناهيك بأنني أعلم ما علمت، فارو له خبر ما رأيت وسمعت. اقرأ عليه ما نسخت من دفاتري.
لقد سئمت الأسفار التي يعجز عنها المستطيع بنفسه، فكيف المستطيع بغيره مثلي؟ أما قال الشاعر:
وماذا تبتغي الشعراء مني
وقد جاوزت حد الأربعين
فأنا، يا أخي، أحبو إلى الخمسين، فالأجدر بي أن أتأهب للرحلة الكبرى.
وأطرق أبو العلاء وسكت.
وكان التميمي ينظر إلى شيخه والحزن يكسو وجهه ذبولا وفتورا، ثم نهض إسماعيل وأخذ يد الشيخ وصافحه مودعا، فأمسك المعري بيده طويلا وقال: وفقك الله يا إسماعيل، ولا رأيت مشقة رحلتك. حقا إن السفر قطعة من العذاب. وإذا ما بلغت الحضرة فسلم على المولى الإمام وقل له: إن خادمه شيخ وشاب، وكبر على السفر، وإذ كان العذر من شيم الكرام، فأجدر به أن يكون إحدى خصال الإمام؛ فبصلاح الأيمة صلاح الأمة، لا زال مولانا منار الملة ومستودع علوم الأيمة.
وانحنى إسماعيل ليقبل يد الشيخ، فانتفض أبو العلاء وهو يردد: معاذ الله.
وخرج إسماعيل متعثرا بأذيال الخيبة، وعاد أبو العلاء يدمدم ويهمهم ...
ودخل الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله بن أبي هاشم وشرع يكتب، والشيخ يملي.
معتقده
خالط أبو العلاء الناس، فلقي بينهم عناء وكدا. وارتحل من المعرة إلى اللاذقية وأنطاكية وطرابلس طالبا «علم الأوائل»، فانفتح له كهف المعرفة، فمنى النفس برحلة إلى العراق، ولم يثنه عن ذلك عماه ولا عجزه ولا بكاء أمه، فلقي في تلك الهجرة ما لقي. لم تشف نفسه، ولا أبرأت سقمها تلك المجامع العلمية ولا الجمعيات السرية، كما كان يترجى، فانقلب راجعا إلى المعرة بعد سنة وبضعة أشهر، و«مرض العصر» قد تمكن منه كل التمكن، فحاول الاستشفاء منه في وحدة قاسية فرضها على نفسه ولم يحد عن صراطها المستقيم قيد شعرة إلا مرة واحدة، حين خرج إلى «صالح» يشفع بالمعرة بلده، فأسمعه «سجع الحمام» وسمع منه «زئير الأسد» ...
كان شيخنا نحيل الجسم غريب الأطوار، حاد الذكاء والطبع. كان عجيب الذاكرة، قفلة، فجنى عليه ذكاؤه، وحصرته ذاكرته في «نقطة البيكار » فعاش في بؤرة فكرة ثابتة. والفكرة الثابتة تكون في الحب كما تكون في الحرب، وتكون في العفة كما تكون في الغلمة والشبق، وتكون في العلم كما تكون في الجهالة، وتكون في الغزل كما تكون في الفلسفة؛ فعمر بن أبي ربيعة وبشار كالمتنبي والمعري. لكل من هؤلاء فكرة ثابتة لا محيص عنها وإن يختلف الاتجاه والهدف.
رأى أبو العلاء عطف الناس عليه صدقة وإحسانا ومنا فآثر العزلة في بيته القاتم الأعماق الخاوي المخترق، ورفع عقيرته متغزلا بتفرده المبدع فقال:
وما للفتى إلا انفراد ووحدة
إذا هو لم يرزق بلوغ المآرب
ثم طفق ينعى على الناس مساوئ أخلاقهم ويعيرهم مكرهم ورياءهم؛ فهم طغاة يعدو بعضهم على بعض، كالذئب يأكل عند الغرة الذيبا، وهم:
كلاب تغاوت أو تعاوت لجيفة
وأحسبني قد صرت ألأمها كلبا
إننا نجل قدر الشيخ إن يكون كما تواضع وقال، ولكنه، رحمه الله، يجود بما جاد عن طبع، وقد يكون مصيبا إذ يقول:
إن مازت الناس أخلاق يعاش بها
فإنهم عند سوء الطبع أسواء
أو كان كل بني حواء يشبهني
فبئس ما ولدت للناس حواء
بعدي عن الناس برء من سقامهم
وقربهم للحجى والدين أدواء
ثم تفور قدر سويدائه فيشتمنا كصاحبنا الآخر - المتنبي - بلا حساب فيقول:
وجوهكم كلف وأفواهكم عدى
وأكبادكم سود وأعينكم زرق
وما بي طرق للمسير ولا السرى
لأني ضرير لا تضيء لي الطرق
وتوغل في إساءة الظن بالإنسانية ففضل على بنيها الحطب اليابس، وهو فيما يقول كما قال النابغة في مدح صاحبه: ولا أحاشي من الأقوام من أحد.
النابغة استثنى واحدا، وهو سليمان، أما ابن سليمان هذا فقال:
عصا في يد الأعمى يروم بها الهدى
أبر به من كل خدن وصاحب
خير لعمري وأهدى من «إمامهم»
عكاز أعمى هدته إذ غدا السبلا
وتذكر الأعمى «الحبيس» أن ليس كل ضرير يستطيع أن يحكم على نفسه بالحبس المؤبد فتذكر الرحمة، وهي من طبعه وطبع كل عاجز غير مستطيع مثله، فألان جانبه وقال يخاطبهم:
إذا مر أعمى فارحموه ، وأيقنوا،
وإن لم تكفوا، أن كلكم أعمى
ثم ذكر أن الناس يقولون: «اطرد الأعمى واكسر عصاه، ما أنت أدرى من ربه الذي أعماه.» فكيف يطلب منهم الحسنة بالدبوس فيقول لهم: «أنتم عميان مثلي، فلا تغركم عيونكم المفتحة!» ففتش عن تؤدة ورفق فقال:
تصدق على الأعمى بأخذ يمينه
لتهديه، وامنن بإفهامك الصما
حسب المعري أنه يستريح من تكاليف الحياة إذا اعتزل الناس؛ فما انقضت سنة على تلك الرسالة التي وجهها إلى «الجماعة» في المعرة معلنا خطته الجديدة، حتى طار له صيت في الأقطار، والناس يعجبهم كل غريب، فتهافتوا عليه يطلبون عنده العلم في عصر الخفاء والأسرار، يحدوهم إليه قوله الذي ملأ الآفاق:
بني زمني، هل تعلمون سرائرا
علمت ولكني بها غير بائح
والشيخ، كما نبأنا، عنده ما عند جميع الناس من شعور وإحساس، فما ضاق ذرعا بهؤلاء الذئاب، نزلوا عنده أو جاوروه، وشرع يملي عليهم فلسفته وآراءه، ثم ما تمالك أن قال:
وماذا يبتغي الجلساء عندي؟
أرادوا منطقي وأردت صمتي
وبما أن الكثيرين يفلسفون حول أقوال هذا الضرير فما علينا لو ألقينا دلونا بين الدلاء وتحذلقنا هنيهة، فنتساءل مثلهم: هل يريد أبو العلاء من كلمة نطق وصمت شيئا أبعد؟ هل خطر على باله شيء مما سمعوه في عصره الباطني «ناطقا وصامتا»؟
إنني لأرى الشيخ يمد جذوره في القلوب، وينشر فروعه في العقول، وهو يجري لغاية في كل ما يكتب. إنه يقف بيكاره عند نقطة ويبسط ساعده الآخر ليجعل كل شيء وسط الدائرة.
الأشبه عندي أن شيخنا يهدم ويبني، يسرد كل ما عنده من أفكار في أحوال مختلفة، وينظمها شعرا لتحفظ وترسخ في أذهان تلاميذه، فجاء ما نسميه «اللزوميات» صورة حقيقية للتفكير الإنساني الذي يختلف بين ليلة وضحاها، ولكن هذا الاختلاف الذي نرى لا يواري عنا وجه الرجل؛ فله أساليب خاصة يصطنعها في بث ما يعتقد. فإذا رأيته يهاجم بعنف وعتو وطغيان فاعلم أنه ينفي ويهدم ويقوض وينسف ويدك دكا. وإذا رأيته يواري ويوارب، ويلقي تبعة الكلام على غيره، فاعلم أنه كالرجال السياسيين الذين يشيعون الشائعات عما ينوون عمله وينتظرون بوادر تأثيره. فإذا قال الشيخ: «قال قوم، أو زعموا، أو يقال.» فاعلم أنه يرائيك ويداورك ليرى ما تبدي، وكن واثقا أن هذه ال «يقال» وقال قوم ستصبح في مقام آخر عقيدة يدافع عنها الشيخ بسيف برهانه وترس منطقه.
أسمعت بالمخلوطة، تلك الأكلة المعمولة من جميع الحبوب التي تؤكل؟
إن هذه الحبوب متى اعتلجت في القدر تؤلف طعاما خاصا. وأبو العلاء هو تلك المخلوطة الفاطمية الطعم.
وإذا قلنا فاطمي، فكأننا نقول فيثاغوري أفلاطوني فيه من الأرسططالية بمقدار البهارات والأبازير.
يضحكني ذاك الذي يتساءل: أين عرف أبو العلاء أبيقور؟
وما شأن أبيقور هذا مع أبي العلاء، وعند أبي العلاء الدعوة الفاطمية وعلومها السرية المستقاة من رأس نبع الفلسفة؟ ما حاجة شيخنا إلى الجداول، إلى ترجمة جالينوس لأبيقور؟ ففلسفة اليونان، في عهده، قد تغلغلت في العقائد المشرقية وهضمها علماء المسلمين والشباب المفكر، وكانت تغلي بها الصدور والضمائر، في عصر أبي العلاء، غليان القدر على النار الدائمة، لا فوق نار الحباحب، كما عبر أبو العلاء في الفصول والغايات عن حياته.
العنزة مقتولة والذئب حدها، فما لنا نفتش عن الغريم.
تلك شنشنة نعرفها من أخزم ... يريد أن يزعم أنه اخترع البارود ...
إن فلسفة أبي العلاء، لا بل آراءه كلها نوعان: نوع مستمد، كما قلت سابقا، من الاختبار الإنساني، وهو ما يطلق عليه اسم الفلسفة العامة، وبالاختبار يهتدي كل من في رأسه عقل. ونوع يتجه اتجاها معلوما، ويعبر أو يترجم عن مذهب بعينه هو مذهب الفاطميين؛ فمن نوع الفلسفة العامة قوله:
وأعط أباك النصف حيا وميتا
وفضل عليه في كرامتها الأما
أقلك خفا إذ أقلتك مثقلا
وأرضعت الحولين واحتملت تما
وألقتك عن جهد، وألقاك لذة
وضمت وشمت مثلما ضم أو شما
يذكرني قول المعري هذا خلفا وقع بين خالي وجدي لأمي. من جدي على خالي بتخليفه إياه بما يشبه فلسفة الحبيس، وهنا أقول كما قال صاحبنا هذاك، عن المعري وأبيقور ولوكريس: لا أدري أهذا توارد خواطر بين المرحوم الخال طنوس والمعري، ترى أين قرأ الخال لزوميات المعري حتى سرق فلسفته هذه؟ إنه لم يكن يقرأ ويكتب. أتظن أن خالي أخذ هذه الفلسفة العلائية عن الأطباء الدجالين، عن جالينوس، عن أبيقور؟ ...
ألا يشبه قول المعري هذا قول صاحب «الميجانا»: أمي وبيي كيفوا تا جيت أنا؟
فهل نعد هذا فلسفة؟ لا ورحمة خالي الفيلسوف، إن شيخنا أبا العلاء داعي طريقة وشاعر مذهب معروف لا صاحب فلسفة، وهذا واضح في أقوال عديدة تنطق بما يعني نطقا صريحا.
وأعجب من هذا زعم صاحبنا أن «الفصول والغايات» هي أصل اللزوميات مع أن رائحة الهرم تنبعث من الفصول والغايات، وهي تدل دلالة صارخة على أنها أعدت زادا للرحلة الكبرى ... ففيها رائحة الزبور الداودية، رائحة التوبة النصوح.
إن جميع رسائل المعري وفصوله مضمونها واحد ونواتها اللزوميات، وكأنما كتبها كلها ليقرر طريقته ويؤيد مذهبه.
ويتعجب بعضهم مما يرون عند الشيخ من متناقضات ويفتشون عن «سره» تحت الألفاظ، وأسخفهم تفتيشا ذاك الذي قال بالتشابه بين المعري ولوكريس الشاعر اللاتيني؛ إذ قرأ هذين البيتين:
تشابهت الخلائق والبرايا
وإن مازتهم صور ركسنه
وجرم في الحقيقة مثل جرم
ولكن الحروف به عكسنه
إني أراهم يتقعرون جدا حتى يبعدوا بأبي العلاء إلى آفاق وأجواء غريبة عجيبة.
لا أدري إذا كان المعري يعني هؤلاء بقوله في «سقط الزند»:
يكررني ليفهمني أناس
كما كررت معنى مستعادا
ولا عجب؛ فلهؤلاء أضراب؛ أعني أولئك الملوفكين الذين يغربون في استيحاء نبوءة دانيال ورؤيا يوحنا وأخبار نوستراداميس ...
والأعجب من هذا وذاك أن يقول هذا الرجل: «إن تكلف أبي العلاء قافيتين في اللزوميات والفصول نتيجة عبث وتسلية ونتيجة فراغ ولعب.» كأنه يجهل أن المعري عاش في عصر الصنعة، وأنه معلم مدرسة لو كانت في زماننا لسميت جامعة، وكان عميدها سبعة دكاترة مثل تنين الرؤيا ... فهو في تآليفه نثرا وشعرا يمد يده إلى كل دوحة، وخصوصا إلى تلك التي أورفت في أعلى عليين، وإلى تلك التي نجمت في قعر الجحيم.
فكر جبار يعنيه كل ما يعني طلابه الآتين إليه من كل فج عميق يطلبون العلم عنده، وهو يخاطبهم:
وكم شاهدت من عجب وخطب
ومر الدهر بالإنسان يسلي
تغير دولة وظهور أخرى
ونسخ شرائع وقيام رسل
كان شيخهم يعالج جميع قضاياهم ويهذب نفوسهم وأجسادهم وأخلاقهم؛ فهو يعلمهم عمليا ونظريا، ومصدر نظرياته عقله الجبار، ومختبر عملياته جسده النحيل الذي قسا عليه إذ صيره حقل اختبار، فكان لمريديه وقاصدي فضله واعظا باللسان والمثل، يطبق علمه على عمله.
وأي حرج على الشيخ إن ترك قضايا معلقة؟ فكم ترك الفلاسفة قبله من قضايا وقفوا حيالها حيارى. وإن ناقض نفسه فليس هو بأعظم من أرسطو وأفلاطون، فكم من تناقض عندهما.
ولكن أبا العلاء لم يناقض نفسه قط؛ فما يعده بعضهم تناقضا ليس إلا تقية في عصر كانت فيه كلمة «علم الأوائل» تقضي على الرجل. وكم قضت على رجال جاءوا بعد المعري بقرن وقرنين.
إن ما يعدونه تناقضا ليس إلا سخرية، فاقرأ بتأمل وتجرد تتبين صحة زعمي.
يظن بعضهم أن أبا العلاء يبتعد عن الفاطمية حين يقول نافيا ظهور الإمام:
يرتجي الناس أن يقوم «إمام
ناطق» في الكتيبة الخرساء
كذب الظن لا إمام سوى العق
ل مشيرا في صبحه والمساء
فإذا ما أطعته جلب الرح
مة عند المسير والإرساء
فانفرد ما استطعت فالقائل الصا
دق يضحي ثقلا على الجلساء
وهذا الظن منتهى الشطط لأن «الإمام» يتوارى في قمة الدعوة الفاطمية - الدعوة التاسعة - ويحل محله العقل. يصير الإمام رمزا لمعنى ليس أكثر، وإليك النص: «الفلاسفة أنبياء حكمة الخاصة. وإن الإمام إنما وجوده في العالم الروحاني إذا صرنا إليه بالرياضة في المعارف، وظهوره الآن إنما هو ظهور أمره ونهيه على لسان أوليائه.»
وفي هذا المعتقد أن الإنسان ينتقل من حال إلى حال إذا صفى نفسه ونقاها، وهذه هي غايتهم من الزهد والتقشف، أي بلوغ التسامي إلى أعلى حد يستطيع بشري بلوغه.
أما «العقل» العلائي فهو العقل اليوناني الفيثاغوري بعينه، وكذلك العقل الفاطمي، والنفس والجسد العلائيان فيثاغوريان أيضا؛ فهو يرى، كما يرى الفيثاغوريون، أن الطهارة في خلاص النفس من البدن؛ لأن الجسد قبر للنفس وهو عدوها اللدود، وفي هذا قال المعري:
أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري، ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسم الخبيث
ومذهب الفيثاغوريين أن وسيلة النجاة هي التطهير والزهد وتغليب العقل على الحواس؛ فإن الحواس كثرة وشقاق تخدعنا بأمور زائلة، والعقل وحدة ومحبة، والغاية القصوى العودة إلى المحبة والوحدة، وإلى هذا ذهب أفلاطون بعدهم فقال: «إن حياة النفس لا تتحقق تماما إلا بخلاصها من المادة في عالم روحي مثلها.» و«العقيدة الثابتة» يدافع عنها بشدة.
والفيثاغورية كالمنظمات الدينية اليوم، عاش أعضاؤها في عفة وبساطة لبس ومأكل، وقد حرمت أكل لحم الحيوان وبعض النبات - كما حرم الحاكم أكل الملوخية مثلا.
لسنا نقول إن أبا العلاء حذا حذو هؤلاء، كما أننا لا نتساءل إن كان المعري عرف ذلك ومن أين عرفه؛ فهو من لدات «إخوان الصفاء» وقد حضر مجلسهم، وقد يكون ناقشهم وجادلهم، حين استشارهم قبل أن يختط خطته التي سار عليها طول حياته.
أليس يقول كما مر بك في رسالته إلى «الجماعة» في المعرة: «فأجمعت على ذلك واستخرت الله فيه، بعد جلائه على نفر يوثق بخصالهم؛ فكلهم رآه حزما وعده، إذا تم، رشدا»؟
لا يليق باللبيب أن يتساءل عن كل هذا لأن عصر المعري أنضج عصور الفلسفة العربية، وأبناؤه عرفوا مثلنا فلسفة اليونان وتأثروا به، كانوا عصبا عصبا وجماعات جماعات يطعمون الأديان بهذه البراعم الجديدة القديمة، والحكومة تطاردهم وتقتلهم فرادى وثنى، صبرا ونقدا، تصلب وتغرق وتشرد وتنفي، والفلسفة تزداد نموا وانتشارا.
كانوا يسمون هؤلاء زنادقة، وأبو العلاء يحددهم لابن القارح بقوله: «أما غيظه - أي ابن القارح - على الزنادقة فآجره الله عليه كما آجره على الظمأ في طريق مكة، واصطلاء الشمس بعرفة، ومبيته بالمزدلفة.» «ولا ريب أنه ابتهل إلى الله، سبحانه، في الأيام المعدودات والمعلومات أن يثبت هضاب الإسلام، ولكن الزندقة داء قديم ... وقد كانت ملوك الفرس تقتل على الزندقة. والزنادقة هم الذين يسمون «الدهرية» ولا يقولون بنبوة ولا كتاب.» ويقول له في مقام آخر إذ يحدثه عن الحلوليين: «ولم تكن العرب الجاهلية تقدم على هذه العظائم، بل كانت عقولهم تجنح إلى رأي الحكماء، وما سلف من كتب القدماء؛ إذ كان أكثر الفلاسفة لا يقولون بنبي.»
وبعد، فما هو الدين عند المعري؟ أليس كالذي عند سقراط؟ تكريم الضمير النقي للعدالة الإلهية؟ لا تقديم القرابين وتلاوة الصلوات من أيد وأفواه ملطخة بالإثم. وإن النفس متمايزة من البدن؛ فلا تفسد بفساده، بل تخلص بالموت من سجنها وتعود إلى الصفاء طبيعتها؟
القوانين العادلة صادرة عن العقل ومطابقة للطبيعة الحق؛ فمن يحترم القوانين العادلة يحترم العقل والنظام الإلهي. والإنسان يريد الخير دائما ويهرب من الشر، فمتى تبين ماهيته وعرف خيره بما هو إنسان، أراده حتما، أما الشهواني فرجل جهل نفسه وخيره، ولا يعقل أن يرتكب الشر عمدا؛ وعلى ذلك فالفضيلة علم والرذيلة جهل. وقد جاء في كتب الفاطميين (الدروز): «الناس مولودون جهالا.»
هذا إيمان سقراط بالعقل وحبه للخير، وما رأيت أبا العلاء يدعي أكثر من هذا، ولا يدعو إلى أبعد من ذلك.
وأبو العلاء لم يخف على معاصريه، فعرفوه واكتشفوه قبل أن نكتشفه نحن كما ادعى بعضنا. لقد عرفوه كما عرف ابن الزيات الجاحظ فقال: «أثق بظرفه ولا أثق بدينه.»
وبعد، أليس كل ما تحدثنا عنه مدموجا في الدعوات والعلوم الفاطمية؟ فلا حاجة إذن أن يفتش عنه أبو العلاء هنا وهناك، كما أنه ليس لنا أن نتساءل إن كان قرأ سقراط وأفلاطون وأبيقور ولوكريس وموكريس ... فكل هذا كان معروفا من القوم، ناهيك بأن العقل في كل زمان ومكان يدل على هذا، وأبو العلاء لم يؤمن بغير العقل الذي قدسه فلاسفة اليونان جميعا وبه استعانت الدعوة الفاطمية وعليه بنت أسسها، حتى اليوم.
أما «الخير» فهو عندهم بمثابة الله، بل هو الله، وهذا ما دعا إليه الفاطميون، وأذنوا به، وذكروه مع الله، «حي على خير العمل.» وفي الخير يقول أفلاطون: «الخير شيء أسمى من الماهية بما لا يقاس كرامة وقدرا، وهو رباط كل شيء وأساسه، والخير غاية العقل القصوى.» والمحرك الأول يصير عند أرسطو «هو الخير بالذات؛ فهو مبدأ الحركة، هو المبدأ المتعلقة به السماء والطبيعة.»
ويقول أرسطو أيضا: «كل فن وكل فحص عقلي، وكل فعل وكل اختيار مروى فهو يرمي إلى خير ما؛ لذلك رسم الخير بحق إنه ما إليه يقصد البشر وعلى معرفة الخير يتوقف توجيه الحياة.»
أما اللذة التي عافها المعري فهي عند المعلم الإلهي «غاية العبيد والبهائم، وهي حياة العوام الأجلاف»، والسعادة تتحقق «بتأمل الخير الأعظم والاتحاد به»، والميول تصير خيرة باتباع العقل، وشريرة بعصيانه. «ومن يتوهم أن المثابرة غير لازمة للحصول على الكمال مثله مثل المريض الذي يريد الشفاء ولا يستعمل وسائله.»
ويقول أرسطو: «الخير يسمى بأسماء كثيرة فيقال له الله، أو العناية أو العقل.»
أما أبو العلاء فدعا إلى الخير، وفهمه كما فهم النصارى «الندامة الكاملة»؛ أي لا خوفا من الجحيم ولا طمعا بالنعيم، وهي عندهم توصل إلى ملكوت الله توا وبلا واسطة. أما الكهنة فيقولون إنها صعبة جدا فلا يخاطر المؤمن بنفسه ما زال الكاهن موجودا. وشاعرنا يقول في هذا:
ولتفعل النفس الجميل لأنه
خير وأحسن لا لأجل ثوابها •••
حالي حال اليائس الراجي
وإنما أرجع أدراجي
إذا رأيت الخير في رقدتي
عددتها ليلة معراجي •••
فإن قدرت فلا تفعل سوى حسن
بين الأنام وجانب كل ما قبحا •••
ما الخير صوم يذوب الصائمون به
ولا صلاة ولا صوف على الجسد
وإنما هو ترك الشر مطرحا
ونفضك الصدر من غل ومن حسد •••
عش مجبرا أو غير مجبر
فالخلق مربوب مدبر
الخير يهمس بينهم
ويقام للسوآت منبر •••
سأفعل خيرا ما استطعت فلا تقم
علي صلاة يوم أصبح هالكا
وينفر عقلي مغضبا إن تركته
سدى واتبعت الشافعي ومالكا •••
كن صاحب الخير تنويه وتفعله
مع الأنام على ألا يدينوكا •••
ولا تكن لسبيل الشر مبتكرا
اصرف إلى الخير من نهج الهدى سبلك •••
والخير محبوب ولكنه
يعجز عنه الحي أو يكسل
والأرض للطوفان مشتاقة
لعلها من درن تغسل
قد كثر الشر على ظهرها
واتهم المرسل والمرسل •••
سأتبع من يدعو إلى الخير جاهدا
وأرحل عنها ما إمامي سوى عقلي •••
إذا ما فعلت الخير فاجعله خالصا
لربك وازجر عن مديحك ألسنا
فكونك في هذي الحياة مصيبة
يعزيك عنها أن تبر وتحسنا
وأخيرا يصرح:
والخير أفضل ما اعتقدت، فلا تكن
هملا، وصل بقبلة، أو زمزم
لقد مرت بك كلمة «طوفان» فاعلم أن أبا العلاء لا يعني الطوفان المعلوم، وإنما يعني معنى فاطميا أبعد وهو قوة الخير التي تطغى على كل شيء في المنتهى فتغسل أدران الكون، ويسود «أهل الخير».
أخالنا شبعنا كلاما عن «العقل» والخير العلائيين، فلننتقل إلى حياة شاعر العقل العملية.
بعد وفاة سقراط أسرف تلميذه انتسانتس في محاكاته معيشة وحرية قول، وكذلك فعل تلامذة انتستانس؛ فأوجبوا على «المريد» أن يعدل عن خيرات الدنيا وملاذها، وأن يتنزل عن مكانته الاجتماعية، ويرسل شعر الرأس واللحية، وسمي هؤلاء «بالكلبية» لاجتماعهم في مكان اسمه «الكلب السريع» فكانوا يجابهون الحضور بنقائصهم في قول جريء، مدعين أنهم يؤدون مهمة كلفهم بها الإله «تزوس»، وما مهمتهم تلك غير ملاحظة عيوب الناس والتشهير بها، متخذين من اسمهم - الكلبية - تشبيها، فيقولون إنهم حراس الفضيلة ينبحون على الرذيلة.
وفي الإنجيل الطاهر شيء من هذا: «ملعون كل كلب لا ينبح.» فهل نقدر أن نقول كغيرنا إن شيخنا تشبه بهؤلاء وأولئك بالقول والعمل والزهد وشظف العيش؟
وإذا التفتنا إلى «مولانا» الحاكم؛ الإمام الفاطمي، رأينا أنه نزع في آخر حياته، قبل «الغيبة»، إلى مثل هذا الزهد، كما سترى. ناهيك بأننا لا نطلب شيئا عند فلاسفة اليونان إلا وجدناه عند «الفاطمية» وتعاليمها السرية والعلنية، قولا وعملا.
وفي استقصائي الأخير عن فلاسفة اليونان عامة، والكلبيين خاصة، رأيت أنهم أقل أهل بلادهم شعورا بالوطنية الضيقة؛ فهم لا يحرصون عليها، أولا يبالون بها، بل يميلون إلى الإنسانية الجامعة: الدولية. وهذا ما وجدته عند شيخنا أبي العلاء؛ فهو تنوخي عربي قح، ولا يذكر القومية ولا العروبة، إن لم يقل بالعكس، كأنه ليس يعنيه من الدنيا إلا المعرة والذين يسميهم «الجماعة». وفيما خلا فهو يخاطب الناس أجمعين.
فهل هذا اتفاق أو تشبه بالفلاسفة؟ لست أدري، والذي أدريه أن هذا هو الواقع، ولكن الذي يبدو لي هو أن الفاطمية لا تقوم على العروبة وإن كان أيمتها أحفاد النبي
صلى الله عليه وسلم .
لم أر للعرب والعروبة ذكرا عند الشيخ، بل رأيته يتعدى ذلك إلى التبرؤ من شعار قومه فيقول:
فشعاري «قاطع» وكان شعارا
لتنوخ في سالف الدهر «واصل»
وإذا فتشنا عن سبب ترك المعري الزواج، فإننا نجده عند فلاسفة اليونان أيضا؛ فأبيقور يقول: «الصداقة نافعة لذيذة، والحكيم يتعهدها كوسيلة للسعادة، ولكنه يتجنب الحب لأنه مصدر اضطراب للنفس، كذلك لا يتزوج الحكيم في الأكثر لما يجره الزواج من شواغل متعددة. وللسبب عينه ينبذ الحكيم المناصب الحكومية وينفض يده من الشئون العامية.»
ولا أخالك نسيت ما مر بنا من قول المعز الفاطمي - جد الحاكم - لجماعته: «واحدة تكفيكم.»
أما الجسم في رأي أبي العلاء ورأيهم فثوب يخلق وبيت يتهدم، وما أجساد الصبيان الذين قضوا صغارا إلا ثياب غير محكمة النسج:
وأعمار الذين قضوا صغارا
كأثواب بلين وما لبسنه
وفي المذهب الفاطمي أن النفس لا تستطيع حياة بلا جسم؛ ولذلك عبر عنها المعري بالقرون في رسالته إلى الجماعة. أما كيف نسج هذا القميص - ومنها جاء التقمص عندهم - فإليك رأي الشيخ:
الخلق من أربع مجمعة
نار وماء وتربة وهوا
إن السهى والسماك ما غفلا
عن ذكر مولاهما ولا سهوا
والنيران المواصلان سنا
إن نله في أرضنا فما لهوا
والشمس والغيث طاهيان له
يطعم أهل البلاد ما طهوا
رحم الله الشيخ! الجسم طبخة طيبة يدب إليها الفساد متى بردت، فبالله نعوذ من البرد، ومن النومة الطويلة في عب الأرض.
أما «الرجعة» أو «العودة»، يراد بها عودة الإنسان إلى الحياة بنفسه وجسده، فأبو العلاء يجحدها. وهذا أيضا مذهب يوناني فيثاغوري، وفيه يقول أوديموس تلميذ أرسطو لتلاميذه: «إذا صدقنا الفيثاغوريين فسيجيء يوم نجتمع به ثانية في هذا المكان، فتجلسون كما أنتم لتسمعوا إلي وأتحدث أنا إليكم كما أفعل الآن.»
وهذا ما يعبر عنه إخوان الصفاء بالكور والدور، ويسمونه «السنة الكبرى »، ومقدارها ست وثلاثون ألف سنة.
إن أبا العلاء لا يؤمن بها، ولكن لا تنس أن العودة والتناسخ غير التقمص الذي يؤمن به أبو العلاء كما سترى؛ ولهذا يهاجم البعث بكل ما فيه من قوى وسخر وهزء فيقول:
زعموا أنني سأرجع شرخا
كيف لي كيف لي وذاك التماسي؟
وأزور الجنان أحبر فيها
بعد طول المقام في الأرماس
وتزول العيون عني إذا ح
م بعين الحياة ثم انغماسي
أيما طارق أصابك يا طا
رق حتى مساك للغي ماسي؟
ضاع دين «الداعي» فرحت تروم الد
ين عند القسيس والشماس
وقد كتب في هذا كتابا - «رسالة الغفران» - سخر به أيما سخر، كما أنه نفى «العودة» نفيا باتا لا لبس فيه فقال:
أترجون أن «أعود» إليكم
لا ترجوا فإنني لا أعود
وقال في موضع آخر:
أسير وما أعود، وما رجوعي
وقد كان الرحيل رحيل قال
أمور يلتبسن على البرايا
كأن العقل منها في عقال
أما التناسخ فالشيخ ينفيه نفيا ويشجبه شجبا، وذلك ظاهر خصوصا في رسالة الغفران حيث يسخر بالنصيرية - جيرانه - أصحاب هذا المعتقد - كما يقال - فيقول بلسان أحدهم:
وا عجبي آمنا لصرف الليالي
جعلت أختنا سكينة فاره
فاطردي هذه السنانير عنها
واتركيها وما تضم الغراره
وكقوله في اللزوميات:
يا آكل التفاح لا تبعدن
ولا يقم يوم ردى ثاكلك
قال النصيري، وما قلته
فاسمع وشجع في الوغى ناكلك
قد كنت في دهرك تفاحة
وكان تفاحك ذا آكلك
فهل لي أن أظن كما ظن ذاك أنه أخذها من قول أكسانوفان حين مر ذات يوم برجل يضرب كلبا، فأخذته الشفقة فصاح وهو ينتحب: لا تضربه يا هذا. إنها نفس صديق لي قد عرفته من صوته.
وللشيخ المعري خبران يشبهان ما حكي عن أكسانوفان؛ فقال في رسالة الغفران: «وحدثت عن رجل من رؤساء المنجمين من أهل حران، أقام في بلدنا - المعرة - زمانا، فخرج مع قوم يتنزهون فمر والثور يكرب، فقال لأصحابه: لا شك في أن هذا الثور رجل كان يعرف بخلف ب «حران»، وجعل يصيح به : يا خلف ، فيتفق أن يخور ذلك الثور فيقول لأصحابه: ألا ترون صحة ما خبرتكم به؟» «وحكي لي عن رجل ممن يقول بالتناسخ أنه قال: رأيت في النوم أبي، وهو يقول: ابني، إن روحي قد نقلت إلى جمل أعور في قطار فلان، وإني قد اشتهيت بطيخة، فأخذت بطيخة وسألت عن ذلك القطار، فوجدت فيه جملا أعور، فدنوت منه بالبطيخة فأخذها أخذ مريد مشته.»
أرأيت كيف يسخر؟ إن أبا العلاء يساور ما يجحده مساورة؛ فهو يعتقد نوعا من التناسخ، وهو ما يعبر عنه بالمذهب الفاطمي - الدرزي - بالتقمص، فاسمع كيف يحدثنا الشيخ عن التناسخ.
وجدنا اتباع الشرع حزما لذي النهى
ومن جرب الأيام لم ينكر النسخا
فما بال هذا العصر ما فيه آية
من المسخ إن كانت يهود رأت مسخا
وقال بإحكام التناسخ معشر
غلوا فأجازوا الفسخ في ذاك والرسخا
أليس تدلك كلمة «غلوا» على أن الشيخ يرى النسخ؟ وإن كابرت وقلت لا، فسأدلك دلالة قاطعة مانعة ... أما الآن فاسمع ما هذا النسخ والمسخ والفسخ والرسخ: فالنسخ هو نقل الروح من جسم إلى جسم أرفع منه وهذا ما يعتقده الشيخ ويترجاه، ولا إكراه في الدين. أما المسخ فنقل الأرواح إلى أجسام البهائم ذوات الأربع، والفسخ نقلها إلى الحشرات، والرسخ هو أن تنقل إلى النبات والجماد كالحجارة والحديد، وهذه الثلاثة الأخيرة ينكرها شيخنا كل الإنكار. أما النسخ، وهو ما يسمونه التقمص، فسنحدثك عنه قريبا جدا.
وقد علمنا مما قرأنا في أحد كتب المذهب الفاطمي، أن إخواننا بني معروف يشجبون التناسخ ويلعنون النصيري الذي يقول بذلك؛ إذ لا يعقل أن الله يعاقب رجلا عاقلا يدرك بمسخه خنزيرا أو بتحويله حديدا؛ فالحكمة أن يكون عاقلا ليعرف العذاب ويتوب.
وعند أفلاطون يكون التناسخ بتحول بعض الأحياء إلى بعض بحسب ما يكسبون أو يخسرون من العقل، وفي هذا يقول أبو العلاء:
يقولون إن الجسم ينقل روحه
إلى غيره حتى يهذبها النقل
فلا تقبلن ما يخبرونك ضلة
إذا لم يؤيد ما أتوك به العقل
فعش وادعا وارفق بنفسك طالبا
فإن حسام الهند ينهكه الصقل
أما التقمص الذي قلت لك إن الشيخ يعتقده فنحن لا نفتري ذلك افتراء.
ويعتقد أبو العلاء أن هذا الجسم غير مسئول عما جنى لأنه لباس يبلى، أو بيت يتداعى؛ فيقول في هذا أبياتا عديدة أذكر لك منها:
وجسمي شمعة والنفس نار
إذا حان الردى خمدت بأف •••
تعود إلى الأرض أجسادنا
ونلحق بالعنصر الطاهر
ويقضي بنا فرضه ناسك
يمر اليدين على الظاهر •••
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة
وحق لسكان البرية أن يبكوا
تحطمنا الأيام حتى كأننا
زجاج ولكن لا يعاد له سبك
مضى الأنام ولولا علم حالهم
لقلت قول زهير: أية سلكوا؟
في الملك لم يخرجوا عنه ولا انتقلوا
منه فكيف اعتقادي أنهم هلكوا •••
وردت إلى دار المصائب مجبرا
وأصبحت فيها ليس يعجبني النقل •••
والجسم للروح دار طالما لقيت
هدما وحق لرب الدار تحويل •••
رأيتك في لج من البحر سابحا
تلوم بني الدنيا وأنت سليم
يقول الحجى هل لي إذا مت راحة
فإن عذابي في الحياة أليم
وأجسامنا مثل الديار لأنفس
جوائر منها «جاهل» وحليم
فإما انهدام قبل رحلة ظاعن
وإما رحيل والمحل سليم •••
وقد زعموا هذي النفوس بواقيا
تشكل في أجسامها وتهذب
وتنقل منها فالسعيد مكرم
بما هو لاق والشقي مشذب •••
حرق الهند من يموت فما زا
روه في روحة ولا تبكير
واستراحوا من ضغطة القبر ميتا
وسؤال لمنكر ونكير •••
ويبكم إن رأيتموني يوما
حبة في الثرى فلا تلقطوني
وإليك الآن، بعدما رأيت ما رأيت، موافقته للمذهب الفاطمي القائم اليوم بكل وضوح:
تقادم شخص مضى
فأحدث منه البدل •••
وتقدم الأرض نفوس أتت
مخلوقة من أنفس ثاويه
وإذا رأيت ما يناقض هذا عند الشيخ فاعلم أنه تقية، ولا تحاول أن تفتش عن سره الذي يلهيك به.
وقبل أن نقفل باب هذا البحث، لا بد من كلمة: خلط بعضهم في فهم أبي العلاء إذ رأوا في اللزوميات وغيرها حملة على الشيعة؛ فهو لا يعني بذلك الشيعة المعروفة، بل يعني جيرانه النصيريين الذين - يقال - إنهم يحللون أخذ بناتهم وأخواتهم، فيقول فيهم:
أقروا بالإله وأثبتوه
وقالوا لا نبي ولا كتاب
ووطء بناتنا حل مباح
رويدكم فقد بطل العتاب
تمادوا في العتاب فلم يتوبوا
ولو سمعوا صليل السيف تابوا
وظن بعضهم أن أبا العلاء يسخر ويهزأ في البيت الأخير، فليس هنا شيء من هذا، إنه يعني النصيري الذي استجاب للدعوة الفاطمية ثم ارتد عنها وقال بمذهب خاص أجاز به نكح البنات والأخوات. ولا أتعجب أنا إن رأيت أبا العلاء وكتاب المذهب الدرزي يشجبان هذا الرجل ويلعنانه؛ فكلاهما يصدر عن نبع واحد هو «الفاطمية».
وإذا أردت أن أطابق بين أقوال الشيخ والمذهب الفاطمي فالأدلة صارخة، وهذا هو سر أبي العلاء المكتوم الذي يقول فيه:
آه لأسرار الفؤاد غواليا
في الصدر أكتم دونها وأجمجم
ولكنك سترى، إن شاء الله، أن سره لم يدفن معه، بل باح به حين اطمأن إلى رأسه ودمه.
أبو العلاء والحاكم
الليلة الأولى
كانوا يصلون على أمير المؤمنين الفاطمي كما يصلى على النبي، فأبطلها الإمام أبو علي؛ أي الحاكم بأمر الله، وحرم تقبيل الأرض بين يديه ولثم يده وركابه إذ لا يجوز الانحناء إلى الأرض لمخلوق. ومنع ضرب الطبول والأبواق حول القصر، وركب يوم عيد الفطر إلى المصلى بلا زينة ولا موكب فخم، ثم أخذ يرتدي ثيابا بسيطة، أو دراعة صوف بيضاء، ويتعمم بفوطة، وينتعل حذاء عربيا ساذجا - مداسا - وغدا يطوف في القاهرة دون موكب ولا ضجة.
وبعد مرضه، سنة 407 هجرية، جنح إلى تصوف غريب، فلم يقلم أظافره، وأطلق شعره حتى تدلى على كتفيه، وبدل الثياب البيضاء الساذجة بثياب سود، فكان يلبس جبة من الصوف الأسود العادي ربما لا يخلعها حتى يعلوها العرق والرثاثة، وكثيرا ما تكون مرقعة من سائر الألوان.
وفي الليلة الخامسة والعشرين من شهر شوال 411 كان الحاكم مختليا فخطرت على باله عبارة الزعيم الباطني: «وإذا ظفرت بالفلسفي فاحتفظ به ... فعلى الفلاسفة معولنا» فطفق يكررها.
وبينا هو نائم في جو تفكيره المعكر، ينتظر ساعة الطواف ليرقب النجم الذي يخشى ظهوره، إذا بالحاجب يستأذن للداعي إسماعيل التميمي ، فدخل منكس الطرف، وابتدر الحاكم الكلام بلهجة العاتب المؤنب: عدت يا إسماعيل! حال الحول على غيبتك. وأين الرجل؟
فخر إسماعيل على ذقنه ليقبل الأرض، فانتهره الحاكم: اتق الله، أنسيت أننا نسخناها؟ قل، أين الشيخ؟
فرفع إسماعيل طرفه إلى مولانا، فرآه منسدل الشعر طويل الأظافر، وعليه مرقعة تتحدث كل رقعة منها بلسان غريب عن أفكار الفيلسوف الهائم.
ارتاع الداعي وانحنى، وهو يقول بصوت كأنه يصدر من خلف الزجاج: رخص لي الكلام يا مولانا.
فأجاب الحاكم: تكلم، ومتى كنا نحظر القول على دعاتنا؟
فقال الداعي: رأيتني، يا مولاي، أمامك كالواقف أمام أسد الله، فتذكرت قول الشاعر: لدى أسد ... فجرى لسان الحاكم غير مختار فأتم هو والداعي بيت زهير: ... شاك السلاح مقذف
له لبد أظفاره لم تقلم
ولم ندر ما جال في خاطر مولانا حتى تبسم، وكأنه أدرك أنه زهي وتكبر، فوبخ نفسه أمام الداعي بقوله لها: «رويدك لا تغتري، ما صفوت ولا نقيت بعد.» ثم تغير وجهه فالتفت إلى إسماعيل التفاتة أرعبته، وقال له: قل، أين الرجل؟
فحنى إسماعيل رأسه وقال: لم يجئ يا مولانا. - عجيب؟ أيؤثر المعرة على القاهرة؟ وبيته على دار الحكمة؟ - نعم يا مولانا، قال لي لن أبرح محبسي، على هذا عاهدت القرون.
فصاح الحاكم: القرون؟ أهكذا عبر عن النفس؟ - نعم يا مولانا، إنه لفاهم، وقد أوضح هذا شعرا فقال:
والجسم كالثوب على روحه
ينزع إن يخلق أو يتسخ
فأطرق الحاكم وقال: كأنه يسمع كل ما يقال في «دار الحكمة». ثم حدق إلى الداعي وقال: كيف لا يأتي إلينا والمجد ينتظره؟
إنه يزدري كل مجد يا مولانا، يرى جلوسه على اللبد شتاء وعلى الحصير صيفا خيرا من ألف عرش. - عجيب! أدعوته باسم؟ أدرى أني أريده سميرا ورفيقا وجليسا ومناظرا؟ - نعم درى واحتج بيمينه، فما لنا وله؟
وهاج الحاكم تطاول إسماعيل فقال له: لولا حرمة الدعوة لأخمدت أنفاسك.
فصاح إسماعيل مرعوبا: عفوك مولانا، وغفرانك. - تكلم. - قد أطلعني الرجل على جميع ما يكتب وينظم ويملي على تلاميذه، قد تتلمذت له كل مدة غيبتي عن الحضرة. إنه يعمل «للدعوة» ما لا يعمله جميع الدعاة؛ فبيته يعج بالوفود، وفيه تلقى دروس لا تلقيها «دار الحكمة». نحن ندعو سرا وهو يعلم جهرا. وكتابه الذي يمليه على طلابه مرتب على نسق الدعوات، إنه يرقيهم فيها درجة درجة.
فأطرق الحاكم قليلا وسكت الداعي، وكان صمت وجيز قال الحاكم على أثره: وماذا قال حين ذكرتني؟ - قال إنك سراج مستنير، وهو يقتفي أثرك وآثار آبائك، صلوات الله عليهم، ليدرك، عن طريق النسك والزهد، صفاء النفس ونقاءها ...
فسكت الحاكم هنيهة وأطرق، ثم رفع رأسه وقال: لا بد من مجيئه. - ماذا تريد منه يا مولانا وهو القائل:
توحد فإن الله ربك واحد
ولا ترغبن في عشرة الرؤساء
فمط الحاكم شفتيه حتى برز شارباه بروزا عنيفا، فقال الداعي: وهو يعلم اللاجئين إليه:
أفيقوا أفيقوا يا غواة، فإنما
ديانتكم مكر من القدماء
أرادوا بها جمع الحطام فأدركوا
وبادوا، وماتت سنة اللؤماء
يقولون هذا الدهر قد حان موته
ولم يبق في الأيام غير ذماء
وقد كذبوا ما يعرفون انقضاءه
فلا تسمعوا من كاذب الزعماء
فكاد الحاكم لا يصدق ما يسمع، فقال الداعي: واسمع، مولانا، غير مأمور، ما يقول أيضا:
هفت الحنيفة، والنصارى ما اهتدت
ويهود حارت، والمجوس مضلله
اثنان أهل الأرض ذو «عقل» بلا
دين، وآخر دين لا عقل له
ورأى إسماعيل الحاكم مقبلا عليه بوجهه فأفرغ ما جعبته حول هذا الموضوع:
وإخوان الفطانة في اختيال
كأنهم لقوم أنبياء
فأما هؤلاء فأهل مكر
وأما الأولون فأغبياء
إذا كان التقى بلها وعيا
فأعيار المذلة أتقياء •••
لو كنت يعقوب طير كنت أرشد في
مسعاك من أمم تنمى ليعقوبا
ضلوا بعجل مصوغ من شنوفهم
فاستنكروا مسمعا للشنف مثقوبا
ولن يقوم مسيح يجمعون له
وخلت واعدهم م الخلف عرقوبا
ويقول:
وموه الناس حتى ظن جاهلهم
أن النبوة تمويه وتدليس
جاءت من الفلك العلوي حادثة
فيها استوى جبناء القوم والليس
ويقول:
و«العقل» يعجب والشرائع كلها
خبر يقلد لم يقسه قائس
متمجسون ومسلمون ومعشر
متنصرون وهائدون رسائس
وبيوت نيران تزار تعبدا
ومساجد معمورة وكنائس
والصابئون ينظمون كواكبا
وطباع كل في الشرور حبائس
أنى ينال أخو الديانة سؤددا
ومآرب الرجل الشريف خسائس
وإذا الرئاسة لم تصن بسياسة «عقلية» خطئ الصواب السائس
فهز الحاكم رأسه استحسانا للبيت الأخير فقال الداعي:
قالت معاشر لم يبعث إلهكم
إلى البرية عيساها ولا موسى
وإنما جعلوا للقوم مأكلة
وصيروا لجميع الناس ناموسا
ولو قدرت لعاقبت الذين طغوا
حتى يعود حليف الغي مرموسا
فتمتم الحاكم: ونحن لم نقدر، فقال الداعي:
بنت النصارى للمسيح كنائسا
كانت تعيب الفعل من منتابها
ومتى ذكرت محمدا وكتابه
جاءت يهود بجحدها وكتابها
أفعلة الإسلام ينكر منكر
والله ربك صاغها وأتى بها
أين الهدى فنرومه بمشقة
في البيد ساطية على منتابها؟
فقال الحاكم: ما هذا اللسان يا إسماعيل؟! فقال الداعي: لم أفرغ بعد، وأنشد:
إن الشرائع ألقت بيننا إحنا
وأورثتنا أفانين العداوات
وهل أبيحت نساء الروم عن عرض
للعرب إلا بأحكام النبوات
فقال الحاكم: ما أضعفنا غيرهن.
فقال إسماعيل:
مسيحية من قبلها موسوية
حكت لك أخبارا بعيدا ثبوتها
وفارس قد شبت لها النار وادعت
لنيرانها أن لا يجوز خبوتها
فما هذه الأيام غير نظائر
تساوت بها آحادها وسبوتها
وقال في التقليد:
ضلت يهود وإنما توراتها
كذب من العلماء والأحبار
قد أسندوا عن مثلهم ثم اعتلوا
فنموا بإسناد إلى الجبار
وإذا غلبت مناضلا عن دينه
ألقى مقالده إلى الأخبار
ثم يقول:
وكم من فقيه خابط في ضلالة
وحجته فيها الكتاب المنزل
وقارئكم يرجو بتطريبه الغنى
فآض كما غنى ليكسب زلزل
فما لعذاب فوقكم لا يعمكم
وما بال أرض تحتكم لا تزلزل؟
وقال:
توافقت اليهود مع النصارى
على قتل المسيح بلا خلاف
وما اصطلحوا على ترك الدنايا
بل اصطلحوا على شرب السلاف
وقال:
أمور تستخف بها حلوم
وما يدري الفتى لمن الثبور
كتاب محمد وكتاب موسى
وإنجيل ابن مريم والزبور
نهت أمما فما قبلت وبارت
نصيحتها فكل القوم بور
ويقول في هذا أخيرا، وله أقوال كثيرة في هذا الباب غير هذه لا متسع لذكرها:
ناديت حتى بدا في المنطق الصحل
تخالف الناس والأغراض والملل
رجوا إماما بحق أن يقوم لهم
هيهات لا بل حلول ثم مرتحل
وأجرؤ، يا مولانا، وقد رأيت الرضا في وجهك الرباني، أن أسمعك قوله في الحكام:
مل المقام فكم أعاشر أمة
أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستباحوا كيدها
وعدوا مصالحها وهم أجراؤها
فهتف الحاكم: لقد صدق؛ ولهذا نقتل بعضهم ونحبس بعضا.
فقال الداعي: ويقول فينا، نحن الدعاة، ويزعم أنه لا يخفى عليك ذلك، وسجد وقال: ومعاذ الله أن يخفى على نوركم شيء:
علم «الإمام» ولا أقول بظنة
أن «الدعاة» بسعيها تتكسب
فقال الحاكم: لا فض فوه.
فقال الداعي: وسوف تقول يا مولانا، هذا نفيرنا في الشام يؤلب الناس تحت لواء دعوتنا متى سمعت قوله:
أرى عالما يرجون عفو مليكهم
بتقبيل ركن واتخاذ صليب
فغفرانك اللهم، هل أنا طارح
بمكة في وفد ثياب سليبي؟
ويقول:
ما الركن في قول ناس لست أذكرهم
إلا بقية أوثان وأنصاب
أما الصلاة فاسمع قوله فيها:
يقولون هلا تشهد «الجمع» التي
رجونا بها عفوا من الله أو قربا
وهل لي خير في الحضور وإنما
أزاحم من أخيارهم إبلا جربا
فاضطرب الحاكم إذ تذكر أنه ألغى الصلاة ومنع الحج.
ونفخ في البوق إيذانا بالطواف، فخرج الحاكم وهو يقول للداعي إسماعيل: تعود إلي في مثل هذه الساعة غدا، وأما شيخك فيزور القاهرة إما راغبا وإما راهبا.
الليلة الثانية
وجاء الداعي إسماعيل في الموعد المضروب فألفى الحاكم متهيئا للسماع فقال:
ويقول في الدين والنفس:
يا ظالما عقد اليدين مصليا
من دون ظلمك يعقد الزنار
أتظن أنك للمحاسن كاسب
وخبيء أمرك شرة وشنار
ومع الفتى من نفسه نمية
ما زال يحلف أنها دينار •••
توهمت يا مغرور، أنك دين
علي يمين الله ما لك دين
تسير إلى البيت الحرام تنسكا
ويشكوك جار بائس وخدين
ويقول:
سبح وصل وطف بمكة زائرا
سبعين لا سبعا فلست بناسك
جهل الديانة من إذا عرضت له
أطماعه لم يلف بالمتماسك
ويقول:
الدين إنصافك الأقوام كلهم
وأي دين لآبي الحق إن وجبا؟
والمرء يعييه قود النفس مصحبة
للخير، وهو يقود العسكر اللجبا
ففارق الحاكم شيء من أبهته ووقاره وهتف: ويلي عليك، وويلي منك، نفسي! وماذا يقول في الجسم؟
وإنما الجسم ترب خير حالته
سقيا الغنائم فاستسقوا له السحبا •••
جسمي أودى مر السنين به
فلتطلب النفس منزلا بدله •••
قلمت ظفري تارات وما جسدي
إلا كذاك متى ما فارق الروحا •••
ويصبح الجسم بعد الروح منتبذا
صفرا كنبذك مكسور البواقيل •••
يا نفس جسمك سربال له خطر
وما يبدل في حال بسربال
قد أخلقته الليالي فاتركيه لقى
فما يزينك لبس المخلق البالي
فإن خرجت إلى بؤسي فوا حرجي
وإن نقلت إلى نعمى فطوبى لي
وكان الحاكم يسمع وهو محتار، فقال إسماعيل:
وسيسمع مولانا أوضح:
وإن صدئت أرواحنا في جسومنا
فيوشك يوما أن يعاودها الصقل •••
والله ينقل من شا
ء رتبة بعد رتبه
وقد أملى عليه قصيدة طويلة على التاء في المرأة كأنه استمدها من «السجل المكرم» فألتمس من مولانا أن يشرفها بالمطالعة في خلوته، وقد قال لي: مولانا الحاكم، سلمه الله، عرف جرثومة الشر فسد على الحية باب الجحر، أطال الله مدته.
وأخذ الحاكم القصيدة وكأنه غير منتبه، وتحركت شفتاه ولم يعلم أحد ماذا قال ... ثم التفت إلى الداعي وقال: - ألم يقل غير هذه القصيدة؟ - بلى يا مولانا، هو عدو المرأة الألد.
فطابت نفس الحاكم للحديث فقال: أسمعنا.
فقال إسماعيل:
لا تتبعن الغانيات مماشيا
إن الغواني جمة تبعاتها
واحذر مقال الناس إنك بينها
سرحان ضأن حين غاب رعاتها
ودع القراءة إن ظننت جهيرها
ذكرت به الحاجات مستمعاتها
فالصوت هدر الفحل تؤنس ركزه
آلافه فتجيب ممتنعاتها •••
إذا بلغ الوليد لديك عشرا
فلا يدخل على الحرم الوليد
فإن خالفتني وعصيت أمري
فأنت وإن رزقت حجى بليد
ومن جمع الضرات يطلب لذة
فقد بات في الأضرار غير سديد
وإن يلتمس أخرى جديدا لحاجة
فلا يأمنن منها ابتغاء جديد
ويقول، يا مولانا، في المرأة والحمام:
نصحتك أجسام البرية أجناس
وخير من الأعراس برس وعرناس
ولا تلجي الحمام قد جاء ناصح
بتحريمه من قبل أن يفسد الناس
فكيف به لما اغتدى في طريقه
رجيب وحواش وتنج وأشناش
تخافين شيطانا من الجن ماردا
وعندك شيطان من الأنس خناس
ووافقت الأبيات هوى الحاكم لأنه منع كل هذا، ولحظ ذلك إسماعيل فقال:
تزوج بعد واحدة ثلاثا
وقال لزوجه يكفيك ربعي
فيرضيها إذا قنعت بقوت
ويرجمها إذا مالت لتبع
ومن جمع اثنتين فما توخى
سبيل الحق في خمس وربع
وعقلك يا أخا السبعين واه
كأنك في ملاعبك ابن سبع
ظلمت وكلنا جان ظلوم
وطبعك في الخيانة مثل طبعي
فتذكر الحاكم كلمة جده «واحدة تكفيكم» وقال: يا سبحان الله! فقال إسماعيل:
لا تجلسن حرة موفقة
مع ابن زوج لها ولا ختن
فذاك خير لها وأسلم لل
إنسان إن الفتى مع الفتن
ويقول:
هل قبلت من ناصح أمة
تغدو إلى الفصح بصلبانها
كنائس يجمعها وصلة
بين غوانيها وشبانها
ما بالها عذراء أو ثيبا
كوردة الجاني بأبانها
راحت إلى القس بتقريبها
وبيتها أولى بقربانها
قد جربت من فعله سيئا
والطيب جار بجربانها
وربها تسخط بل زوجها ال
سائس في طاعة ربانها
وزارت الدير وأثوابها
ضامنة فتنة رهبانها
وقال الداعي: أما الخمرة يا مولانا، فهو ألد أعدائها وعلى دين مولانا في كرهها وتحريمها، هو على دينك في كل مذاهبه، هو حواريك.
فابتسم مولانا هذه المرة ولم يمتعض بل قال للداعي: كذا تقول؟
فأجابه الداعي: نعم يا مولانا، نعم، وإذا شئت فأسمعك ما يقول فيها:
البابلية باب كل بلية
فتوقين هجوم ذاك الباب
وإذا تأملت الحوادث ألفيت
صهب الدنان أعادي الألباب •••
قل للمدامة وهي ضد للنهى
تنضو لها أبدا سيوف محارب
لو كان لم يحظرك غير أذية
شيء لبت مباحة للشارب
لكن حماك العقل وهو مؤمر
فانأي وراءك في التراب التارب
ويقول:
هي الراح أهل لطول الهجاء
وإن خصها معشر بالمدح
قبيح بمن عد بعض البحار
تغريقه نفسه في قدح
ويقول:
أيأتي نبي يجعل الخمر طلقة
فتحمل ثقلا من همومي وأحزاني؟
فقطب الحاكم عند سماعه هذا البيت، أما إسماعيل فأتم:
وهيهات لو حلت لما كنت شاربا
مخففة في الحلم كفة ميزاني
ونفخ في البوق إيذانا بالطواف، فانصرف الحاكم مسرورا جدا، وقال لإسماعيل: تعود غدا أيضا، فانصرف إسماعيل من الحضرة وهو ظان أنه صرف الحاكم عن استدعاء أبي العلاء.
الليلة الأخيرة
وفي الليلة السابعة والعشرين من شوال سنة 411 كان الداعي إسماعيل منتصبا لدن الحاكم بأمر الله، ومولانا الحاكم مضطرب كئيب. وكان سكوت وكان كلام فقال الداعي: ويقول في البعث والحساب:
قالوا جهنم قلت إن شرارها
ولهيبها يصلاهما المتشرر
لا تخبرن بكنه دينك معشرا
شطرا وإن تفعل فأنت مغرر
ويقول في البعث أقوالا ذات باطن وظاهر وهذا أسلوبه في بث أفكاره:
لو هب هجاد قوم في الثرى سكنوا
لضاقت المدن والبيد الأماليس
ويقول:
لو صح ما قال رسطاليس من قدم
وهب من مات لم يجمعهم الفلك
ويقول:
لو قام أموات «العواصم» وحدها
أعيا المحل على المقيم الساكن
لغدوا وقد ملأ البسيطة بعضهم
ورأيت أكثرهم بغير أماكن
ويقول:
وأعجب ما تخشاه دعوة هاتف
أتيتم فهبوا يا نيام إلى الحشر
فيا ليتنا عشنا حياة بلا ردى
يد الدهر أو متنا مماتا بلا نشر
ويقول:
وقيل لا بعث يرجى للثواب وما
سمعت من ذاك دعوى مبطل هزلا
وكيف للجسم أن يدعى إلى رغد
من بعد ما رم في الغبراء أو أزلا؟
وهل يقوم لحمل العبء من جدث
ظهر وأيسر ما لاقاه أن جزلا؟
ويقول:
إذا حان يومي فلأوسد بموضع
من الأرض لم يحفر به أحد قبرا
فيا ليتني لا أشهد الحشر فيهم
إذا بعثوا شعثا رءوسهم غبرا
ويقول:
قال المنجم والطبيب كلاهما
لا تبعث الأموات قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر
أو صح قولي فالخسار عليكما
ويقول في هذا أخيرا، وألفت نظر مولانا إلى ما فيه:
إن كنت صاحب جنة في ربوة
فتوق أن ينتابها إعصار
لم أسمعك يا مولانا، إلا نتفا من قصائد، ولو أردت أن أتلو على مسامعك العلوية كل ما نقلت عن الشيخ لانقضى الليل، ولكن لا بد من إطلاعك على بعض ما يقول في التحول:
أتيت لي خالقا حكيما
ولست من معشر نفاة
خبطت في حندس مقيم
وأعجزت علتي شفاتي
فمن تراب إلى تراب
ومن سفاة إلى سفاة
ويقول:
الغيب مجهول يحار دليله
واللب يأمر أهله أن يتقوا
لا تظلموا الموتى وإن طال المدى
إني أخاف عليكم أن تلتقوا
أما مذهبنا فاسمع ماذا يقول فيه، وكيف يدعو إليه:
و«الخير» أفضل ما اعتقدت فلا تكن
هملا، وصل بقبلة أو زمزم
فصاح الحاكم: حي على خير العمل، بارك الله فيه. هو منا، هو من «أهل الخير».
فقال الداعي: ويقول أيضا ملمحا إلى دعوتنا:
بني زمني هل تعلمون سرائرا
علمت ولكني بها غير بائح
متى ما كشفتم عن حقائق دينكم
تكشفتم عن مخزيات الفضائح
فهتف الحاكم: صانه الله، ولا كشف له سترا.
فقال إسماعيل: وإليك قولا لا التباس فيه:
دعا موسى فزال، وقام عيسى
وجاء محمد بصلاة خمس
وقيل يجيء دين غير هذا
وأودى الناس بين غد وأمس
فمن لي أن يعود الدين غضا
فينقع من تنسك بعد خمس؟
فأبرقت عينا الحاكم حين سمع البيت الأخير. وأدرك إسماعيل في تلك اللحظة شيئا لم يدركه من قبل، فصاح الحاكم: هيه يا إسماعيل! فتماسك الداعي بعد تزعزع وقال:
ومهما كان في دنياك هذي
فما تخليك من قمر وشمس
إذا قلت المحال رفعت صوتي
وإن قلت الصحيح أطلت همسي
فهتف الحاكم: لا بد من مجيئه إلينا رضي أم أبى.
فانحنى إسماعيل متضرعا: رحماك مولانا، دعه في وحدته ينشر تعاليمكم؛ فهو هناك أنفع لنا منه هنا، ماذا يستفيد شيخ مثله من «دار الحكمة» وهو الذي يقول في العقل:
فشاور العقل واترك غيره هدرا
فالعقل خير مشير ضمه النادي •••
عليك العقل وافعل ما رآه
فإن العقل مشتار الشوار
ولا تقبل من التوراة حكما
فإن الحق عنها في توار •••
الناس مختلفون، قيل المرء لا
يجزى على عمل وقيل يجازى
والله حق في تدبر أمره
عرف اليقين وآنس الإعجازا
فاسأل حجاك إذا أردت هداية
واحبس لسانك أن يقول مجازا •••
سأتبع من يدعو إلى الخير جاهدا
وأرحل عنها ما أمامي سوى عقلي
وأشعر أن العقل يصحب تارة
وينفر أخرى وهو غير مليم
وقال أناس ليس عيسى مقربا
فقيل ولا موساكم بكليم
ويقول:
تستروا بأمور في ديانتهم
وإنما دينهم دين الزناديق
نكذب العقل في تصديق كاذبهم
والعقل أولى بإكرام وتصديق
وأخيرا ينضو كل لبس ويقف على قمة «الدعوة» ويهتف بالناس:
أيها الغر إن خصصت بعقل
فاسألنه فكل عقل نبي
وظن إسماعيل أنه أوتي فصل الخطاب فالتفت إلى الحاكم ولسان حاله كأنه يقول: وبعد هذا ماذا؟ فإذا بالحاكم يقول: لا بد من حضوره، ارجع إليه يا إسماعيل، وقل له: الحاكم بأمر الله يريد أن يفضي إليك بسر الأسرار، فبدار بدار ... «المهلة» تكاد تنتهي. آه من «النجم المشئوم» إذا طلع!
لم يدرك إسماعيل ماذا عنى الحاكم ب «النجم المشئوم» فقال: تسمح لي يا مولانا أن أتلو عليك ثلاثة أبيات تثبت لك أن الرجل منا وفينا، وأنه يعرف أسرار «دار الحكمة» جميعها؟ اسمع كيف يخاطبنا وبأي رفق، بينا هو ينازل غيرنا بحججه وبراهينه.
فوضع الحاكم يده خلف أذنه، فقال إسماعيل:
نبذتم الأديان من خلفكم
وليس في «الحكمة» أن تنبذا
لا قاضي المصر أطعتم ولا ال
حبر ولا القس ولا الموبذا
إن ذكرت ملتكم عندهم
قال جميع القوم لا حبذا
فقال الحاكم: قد أمرت بإعداد بريد خاص يحملك غدا إلى معرة النعمان، فاستعد.
فمشى الداعي إسماعيل التميمي القهقرى حتى خرج من الحضرة، نوى في تلك اللحظة أن يتوارى في بلاد الشام إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
ونفخ في البوق فركب الحاكم حماره «القمر» وخرج كعادته، وانتهى به الطواف إلى خلوته في المقطم فطلع «النجم المشئوم» ولم يعد الحاكم.
بعد العاصفة
الحصن الذي لم يسكت
«غاب» الحاكم ولم يعد فكثر الإرجاف، وكل ما عرف من أمر «غيبته» حتى الساعة: أنه قام بطوافه الليلي ليلة الاثنين في 27 شوال سنة 411 هجرية، بعد أن ذكر لوالدته أنه يتوقع في الغد قطعا في طالعه ينذر به ظهور نجم معين وأنه يتوجس خيفة من ظهوره، ويخشى أن يصيبها شر ولا سيما من أخته - ست الملك، وأعطى أمه مفاتيح خزانة مليئة بالمال لتحولها إلى قصرها، فجزعت أمه، وتضرعت إليه ألا يخرج، فوعدها بذلك، ولبث أرقا والضجر يكاد يقتله حتى مضى من الليل ثلثاه، وعندئذ قال لأمه: لا بد من ركوبي الليلة وإلا خرجت روحي، ثم ركب وخرج.
وخرج القضاة والأشراف والقواد في اليوم التالي إلى الجبل فبحثوا عنه حتى آخر النهار ولم يعثروا له على أثر، وظلوا يخرجون كل يوم حتى كان يوم «الخميس» آخر شوال فعثروا على حمار الحاكم الأشهب، المسمى القمر، وقد قطعت ساقاه الأماميتان، وعليه سرجه ولجامه، وإذا أثر رجل خلف الحمار وأثر رجل أمامه، فاقتفوا الأثر فعثروا على ثياب الحاكم وهي سبع جبب لم تحل أزرارها.
وكثر اللغو إذ طالت الغيبة، فجلس الظاهر لإعزاز دين الله على كرسي الخلافة يوم عيد الأضحى سنة 411؛ أي بعد غياب أبيه بستة أسابيع.
وشاعت شائعات تترى عن ظهور الحاكم هنا وهناك، وعاش الناس حقبة يرجفون ويلغون منتظرين الرجعة حتى ظهر رجل يشبهه في عهد المستنصر سنة 434 فادعى أنه هو الحاكم وأنه بعث بعد موته، فأوقع الجند بالمدعي وشتتوا أنصاره، وفي هذا قال أبو العلاء:
مضى قيل مصر إلى ربه
وخلى السياسة للخائل
وقالوا «يعود» فقلنا يجوز
بقدرة خالقنا الآئل
إذا هب زيد إلى طيئ
وقام كليب إلى وائل
واضطهد الظاهر لإعزاز دين الله دعاة أبيه أشد الاضطهاد، فقتل منهم وصلب وسجن حتى رووا أنهم كانوا يقطعون رأس أحد هؤلاء الدعاة ويعلقونه على صدر أخته أو زوجته، فتفرق الدعاة تحت كل كوكب ولم يرتد منهم إلا القليل، ظلوا يناضلون سرا ولجأ أكثرهم إلى لبنان وسوريا الشمالية، فتواروا عن العيون، وبثوا دعوتهم ثم أقفل الباب.
وفي سنة 414 أذاع الظاهر لإعزاز دين الله وثيقة رسمية هاك ما جاء فيها نقلا عن كتاب الحاكم بأمر الله لعنان:
وذهبت طائفة من النصيرية إلى الغلو في أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضوان الله عليه، غلت وادعت فيه ما ادعت النصارى في المسيح، ونجمت عن هؤلاء الكفرة فرقة سخيفة العقول، ضالة بجهلها عن سواء السبيل، فغلوا فينا غلوا كبيرا، وقالوا في آبائنا وأجدادنا منكرا من القول وزورا، ونسبونا بغلوهم الأشنع، وجهلهم المستفظع، إلى ما لا يليق بنا ذكره. وإنا لنبرأ إلى الله تعالى من هؤلاء الجهلة الكفرة الضلال، ونسأل الله أن يحسن معونتنا على إعزاز دينه، وتوطيد قواعده وتمكينه، والعمل بما أمرنا به جدنا المصطفى وأبونا علي المرتضى، وأسلافنا البررة أعلام الهدى. وقد علمتم يا معاشر أوليائنا ودعاتنا ما حكمنا به من قطع دابر هؤلاء الكفرة الفساق والفجرة المراق وتفريقنا لهم في البلاد كل مفرق، فظعنوا في الآفاق هاربين، وشردوا مطرودين خائفين.
ثم اعترف الظاهر إلى الله «بأنه وأسلافه الماضين وأخلافه الباقين مخلوقون اقتدارا، ومربوبون اقتسارا لا يملكون لأنفسهم موتا ولا حياة، ولا يخرجون عن قبضة الله تعالى، وأن جميع من خرج منهم عن حد العبودية والأمانة لله عز وجل، فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وأنه قد قدم إنذاره لهم بالتوبة إلى الله تعالى من كفرهم، فمن أصر فسيف الحق يستأصله.»
أسكتت قلعة الظاهر لإعزاز دين الله جميع حصون الدعوة لأبيه الحاكم بأمر الله، فاستحالت الصيحة الصاخبة همسا ونجوى فأصبح حديثها وشوشة في الخلوات.
إن القوة لا تعجز عن شيء مثل عجزها عن خنق العقائد؛ فإنها تكمن كمون النار تحت الرماد. وهذا الذي كان؛ فقد هرب جميع الدعاة من القاهرة وانتشروا في الأقطار يسرون النجوى، يكتمون سرهم حتى عن الآذان المشنفة كما يقول أبو العلاء:
ولا حل سري قط في أذن سامع
وشنفاه أو قرطاه يستمعان
كل الحصون سكنت إلا حصن المعرة الجبار فإنه ظل يعمل ويعلم، ويهاجم النصيرية متابعا الظاهر لإعزاز دين الله، يؤيد الدعوة الفاطمية الأصيلة ولا يؤمن إلا بنبيه «العقل» ولا يعتقد إلا بالخير، ولا يحرص إلا على النفس.
هذا هو الثالوث الذي يعني أبا العلاء؛ فهو يترك كل ما عداه هدرا. وظل أبو العلاء يملي ، بل تطور إملاؤه فأمسى كأنه يقرر مذهبا بعينه، بعدما كان يعلم طلابه آراء عامة.
كان فيما مضى هداما، وها هو يمسي بناء، يشيد صرح مذهبه علنا، ولا سيما بعدما سمعت كلمته ووهبه صالح بن مرداس المعرة، وأدى إلى «إخوانه» الذين يسميهم تارة المعاشر وحينا الجماعة وطورا القوم كما يقتضي الوزن، أصدق خدمة وأجلها، فأنقذهم من براثن أسد الدولة صالح بن مرداس، فعاشوا في ظل شيخهم المعري آمنين، وله عليهم إمرة مطاعة، إمرة لا يؤيدها سيف ولا يدعمها رمح، ولا تحوطها قوة، إمرة قائمة على أسس الدعوة القائمة على العقل والخير والصدق.
كانت إمرة أبي العلاء على المعرة كالإمارات المثالية التي صبا إليها الفلاسفة فنعم بال الإمام وقال في ذلك:
نجى المعاشر من براثن صالح
رب يفرج كل أمر معضل
ما كان لي فيه جناح بعوضة
الله ألبسهم جناح تفضل
ولكن الصيت الذي انتشر، وهذا الجاه الطويل العريض، وهذا الخير الذي نتج عن خروج أبي العلاء إلى صالح لم يرض أبا العلاء.
لقي الإمام من صالح احتفاء عظيما؛ فالتاريخ يروي أنه قيل لصالح وهو محاصر المعرة: إن باب المدينة قد فتح، وخرج منه أعمى يقوده إنسان.
فقال صالح: هو أبو العلاء، فدعوا القتال لننظر ماذا يريد.
وكان لأبي العلاء ما أراد، سلام واطمئنان للمعرة، وسيادة للإمام، ولكنه لم يزه ولم يبطر.
الرجل الذي افتدت كلمته نفوسا بريئة وحمى وطنه من القتل والدمار لم يرض عن نفسه فيما بعد. لم يغفر لنفسه خطيئة عرضية لا يتحرج منها الصالحون الأبرار، وهي كذبة المديح، فقال مكفرا موبخا نفسه التي آلى أن يطهرها وينقيها بنسكه:
تغيبت في منزلي برهة
ستير العيوب فقيد الحسد
فلما مضى العمر إلا الأقل
وحم لروحي فراق الجسد
بعثت شفيعا إلى صالح
وذاك من القوم رأي فسد
فيسمع مني سجع الحمام
وأسمع منه زئير الأسد
فلا يعجبني هذا النفاق
فكم نفقت محنة ما كسد!
وكأن الشيخ وبخه ضميره لأنه دان صالحا، ولأنه لم ير الصلاح الذي ينشده فيمن وهبه إياهم صالح فقال:
ما لمت في أفعاله صالحا
بل خلته أحسن مني ضمير
يا قوم لو كنت أميرا لكم
ذممتم في الغيب ذاك الأمير
وإنما سائسكم دائب
يرعى المطايا ويسوق الحمير
وردتم «الآجن» من دينكم
وما ظفرتم بالصريح النمير
عالمكم يضرب في غمرة
كالعلج بالقفر يلس الغمير
فعرفوني بفتى منكم
لا يمتري الناس ولكن يمير
إن صاحبنا صالح بن مرداس يسميه إخواننا الفاطميون - الدروز - حتى اليوم: «لا صالح»؛ لأنه اضطهد الإخوان وجنف عليهم.
ثم انقضى عهد الظاهر لإعزاز دين الله العصيب، وفي هذا العهد لم يسكت حصن المعرة كما قلنا، وجاء عهد المستنصر فرأى هذا الخليفة أن الدعوة الفاطمية في تقهقر، فحول وجهه شطر المعرة، صوب أبي العلاء، فوهب له ما في خزائن المعرة من مال حلال، فرفضه الإمام، ونزل له عن خراجها فلم يقبل مال الظلم، ثم التفت المستنصر ناحية أخرى فوجه أبياتا مروية إلى داعي الدعاة الملقب بالمؤيد في الدين يستنصره:
يا حجة مشهورة في الورى
وطود علم أعجز المرتقي
شيعتنا قد عدموا رشدهم
في الغرب يا صاح، وفي المشرق
فانشر لهم ما شئت من علمنا
وكن لهم كالوالد المشفق
إن كنت في «دعوتنا» آخرا
فقد تجاوزت مدى السبق
مثلك لا يوجد فيمن مضى
من سائر الناس ولا من بقي
وإن تعجب الناس كيف لم يقتل أبو العلاء على الزندقة فلأنهم لا يعلمون، أو لا يريدون أن يعلموا، أنه فاطمي المذهب، وأن للفاطمية النفوذ والسيطرة على وطنه - سياسيا ودينيا - وإن ضعفت أحيانا سيطرة الفاطميين السياسية فلم يضعف نفوذهم الديني؛ فقد كان إقليم حلب على مذهب «الإمامية».
أما داعي الدعاة الذي مررنا به مرور الكرام فسنعرج عليه، والموعد قريب.
مذهب أبي العلاء
الفاطمية مذهب فلسفي، كما علمت، وقد أصبح أبو العلاء فيما أثبت وقرر في «اللزوميات» شيخها الأعظم وإمامها الباقي؛ فهو لم يدع شيئا يعني «المستجيب» إلى هذه الدعوة إلا ذكره له وفنده، وهو لا يقرر القضية مرة ومرتين بل يعالجها في كل أبواب كتابه الذي سميناه، فيما سبق ، كتاب المذهب .
ولما كانت الغريزة الجنسية أقوى ما في الإنسان، بل المخلوقات، من غرائز؛ لأنها مستودع بقاء النوع، فقد أكثر أبو العلاء الكلام على المرأة والنسل.
ومن طالع سيرة المعز والعزيز والحاكم الفاطميين رأى أبا العلاء لا يخرج، في حدود تعاليمه، عن تخوم آراء هؤلاء الأيمة الثلاثة. ومن أسعده الحظ وقرأ رسالة النساء الكبيرة في كتب الدروز يرى أن النبع واحد. كلهم يريد أن يقصي المرأة وينحيها خوفا من الفتنة، وغيرة على العرض.
ظن بعضهم، وأنا كنت من هذا البعض، أن المعري لم يرد أن يتزوج لأنه لا يريد أن يجني على أحد كما جنى أبوه عليه، ولكن ليس السبب هناك، إنما هناك سبب آخر وهو مذهب يؤثر العفة، ويحدد النسل عند الاضطرار، ولا يسمح بتعدد الزوجات، يثور للعرض المهصور ثورته للدم المهدور، ناهيك بأن تقليل النسل تقريب للساعة التي يسود فيها الخير هذه الدنيا.
قال أبو العلاء يتذكر شبابه:
سقيا لأيام الشبا
ب وما حسرت مطيتيا
أيام آمل أن أمس ال
فرقدين براحتيا
وأفيض إحساني على
جاري ثم وجارتيا
والآن تعجز همتي
عما ينال بخطوتيا
أما تركه الزواج فيقول فيه:
أنا للضرورة في الحياة مقارن
ما زلت أسبح في البحار الموج
وضرورة من شيمتين لأنني
مذ كنت لم أحجج ولم أتزوج
من مذهبي ألا أشد بفضة
قدحي ولا أصغي لشرب معوج
لكن أقضي «مدتي» بتقنع
يغني وأفرح باليسير الأروج
وعلى المرأة، في مذهبه، أن تلزم بيتها. وقد أشرنا إلى كثير من أقواله في ذلك، وتائيته الطويلة توضح منهجه؛ فكأنه في تلك القصيدة يكتب سورة النساء ويحدد مواقفها من الحياة، وهو في مواضع كثيرة من كتابه يوضح أشياء يرى أن يراعيها الإخوان كقوله في زواج ابن الأربعين مثلا:
إذا ما تقضى الأربعون فلا ترد
سوى امرأة في الأربعين لها قسم
فإن الذي وفى الثلاثين وارتقى
عليهن عشرا للفناء به وسم
زمان الغواني، عصر جسمك، زائد
وهن عناء بعد أن يقف الجسم
أما تعدد الزوجات فيعارضه ولا يراه صوابا:
إذا كنت ذا ثنتين فاعدل أو اتحد
بنفسك فالتوحيد أولى من العدل
وعند إخواننا الدروز كلمة مذهبية هذا نصها: إن المتعفف يحسب في عداد الملائكة الأطهار. وسيأتي التفصيل.
ويرى أن تصان المرأة وتقصى، وإن تفعل غير ذلك فأنت المجرم لا هي:
إذا أمنت على مال أخا ثقة
فاحذر أخاك ولا تأمن على الحرم
فالطبع في كل جيل طبع ملأمة
وليس في الطبع مجبول على الكرم
ويقول أيضا فيصيب عصفورين بحجر واحد:
شر على المرأة في حمامها
إرسالك الفاضل في زمامها
ومشيها تضرب في أكمامها
يفوح ريا الطيب من أمامها
زائرة المسجد في إلمامها
تأتم والخيبة في ائتمامها
ويتعجب أبو العلاء من رجل يكون عيالا على زوجته، فيقول:
عجبت لكهل قاعد بين نسوة
يقات بما ردت عليه المرادن
يعال على ذم ويزجر عن قلى
كما زجرت بين الجياد الكوادن
ويقول في المنجمين والمرأة:
أما لأمير هذا العصر عقل
يقيم عن الطريق ذوي النجوم؟
فكم قطعوا الطريق على ضعيف
ولم يعفوا النساء من الهجوم
وحيث عرض ذكر المنجمين فلا بأس من جلاء رأيه فيهم:
سألت منجمها عن الطفل الذي
في المهد كم هو عائش من دهره
فأجابها مئة ليربح درهما
وأتى الحمام وليدها في شهره
يعني: يأكل حلاوته وأمه تقبره، كما قال المثل العامي.
ويوصي الرجل الرشيد بالاحتفاظ بزوجته حتى آخر العمر، وهذا ما أراه عند إخواننا الدروز:
إذا كان لك امرأة عجوز
فلا تأخذ بها أبدا كعابا
وإن كانت أقل بهاء وجه
فأجدر أن تكون أقل عابا
وأعرف منهم من لم يرزق عقبا ولم يطلق، وإن كان ذلك جائزا له.
وأبو العلاء قليل الثقة بالمرأة، كثير الشك بحصانتها حتى يمنع دخول الوليد عليها كما مر، وإن كان لا بد من تعليمها فليكن معلمها شيخا فانيا. ويغالي فيحذر من القراءة المجودة بحضرتها؛ فالصوت هدر الفحل كما سبق. أما ميله إلى ترك الزواج وتحديد النسل فهذا يعرفه جميع الناس حتى العوام ويتمثلون به عند الغضب والحرد على المرأة والولد، وإليك ما زعم:
إذا شئت يوما وصلة بقرينة
فخير نساء العالمين عقيمها
ويقول:
قد بكرت لا يعوقها سبل
كمهرة الروض في بنات سبل
إلى طبيب على الطريق لكي
تأخذ من عنده دواء حبل
كم قذفت عرس بانس بحصى
كل حصاة منها نظير جبل
وأكره ما يكره زواج الشيخ العاجز المتصابي:
وعرسه في تعب دائم
لا تخضب الكف ولا تكتحل
ملت وإن أحسن أيامه
تقول في النفس متى يرتحل
أما النسل فينصح بالإقلال إن كان لا بد منه:
إذا كنت تهدي لي وأجزيك مثله
فإن الهدايا بيننا تعب الرسل
فدونك شغلا غير هذا لعله
يعود بنفع لا كشغلك بالنسل
ولا أخالك نسيت رأي الفيلسوف اليوناني في زواج الحكيم. أما رأيه الأخير في النسل فهو هذا:
دنياك جار كل ساكنها
متوقع سببا من النقل
والنسل أفضل ما فعلت بها
وإذا سعيت له فعن عقل
أما إباحة النساء فلا يوافق أفلاطون عليها بل يسفهها ويشجبها:
شر النساء مشاعات غدون سدى
كالأرض يحملن أولادا مشاعينا •••
برئت إلى الخلاق من أهل مذهب
يرون من الحق الإباحة للنسل
وقد تكون جرائم أولياء العهد في التاريخ، وجعل الحاكم ولي عهده عبد الحمن بن إلياس بدلا من ابنه، كرهت الشيخ بالنسل، ولا سيما بعدما رأى الظاهر يفعل ما فعل، فقال:
أعدى عدو لابن آدم نفسه
ثم ابنه وافاه يهدم ما بنى
ويلتفت إلى المرأة فيقول لها:
أحاضنة الغلام ذممت منه
أذاك فأرضعي حنشا وضمي
أما النفس والجسم فقد أقرأتك ما قال فيهما، وقد أعجبني هذان البيتان فأحب أن تشاركني فيها:
النفس عند فراقها جسمانها
محزونة لدروس ربع عامر
كحمامة صيدت فثنت جيدها
أسفا لتنظر حال وكر دامر
أما الخير فهو أساس المذهب الفاطمي، وقد أشرنا إليه كثيرا، وأبو العلاء يدفعه حب الخير حتى يتناول به الحيوان، فاسمع كيف يحث على الخير:
قبيح مقال الناس جئناه مرة
فكان قليلا خيره لم يعاون
إذا أنت لم تعط الفقير فلا يبن
له منك وجه المعرض المتهاون
وكأن يعرف ما يقوله المثل عندنا: قللها ولا تقطعها، الحسنة القليلة تدفع بلايا كثيرة، فيقول:
إذا طرق المسكين بابك فاحبه
قليلا ولو مقدار حبة خردل
ولا تحتقر شيئا تساعفه به
فكم من حصاة أيدت ظهر مجدل
ومثلنا يقول أيضا «بحصة تسند خابية.»
ويوصي الإمام بعيادة المرضى والإحسان إلى الفقراء منهم:
إذا عدت في مرض مكثرا
فخفف وخف أن تمل العليلا
وإن كان ذا فاقة مقترا
فأسعف وإن كان نيلا قليلا
ويتناول الإنسان والحيوان معا، فيقول:
أسأت بعبدك في عسفه
وحملت غيرك ما لم يطق
ولا يفوتنك أن تقسيم الثروة في موطن أبي العلاء لا يرضى عنه حتى الساعة، ويقول في الحيوان:
تسريح كفي برغوثا ظفرت به
أبر من درهم تعطيه محتاجا
لا فرق بين الأسك الجون أطلقه
وجون كندة أمسى يعقد التاجا
كلاهما يتوقى والحياة له
حبيبة ويروم العيش مهتاجا
ويوغل فيقول:
فاجعل حذائي خشبا إنني
أريد إبقاء على الدارش
وقصيدته الحائية مشهورة وفيها يحرم كل ما الحياة فيه حاضرة أو كائنة. ويسخط على أمير يبيع جواريه وله في بطونهن ودائع، فيقول:
أزال الله خيرا عن أمير
له ولد على علم يباع
جوار كالنياق يسقن عنه
وفي أحشائهن له رباع
أما الصلاة والزكاة فشأنهما عظيم عنده، وكذلك هما عند إخواننا الدروز؛ فالصلاة هي صلة المخلوق بالخالق، والزكاة عمل الخير فعلا، ثم إعطاء المال، وهاك قول الإمام:
إذا صلوا فصل وعف وابذل
زكاتك واجتنب قالا وقيلا
ولا ترهف مدى لعبيط نحض
ولا تشهر على قرن صقيلا
ثم يوصي بالصمت لأن الكلمة كثيرا ما تكون شعلة شر فيقول:
أوجز الدهر بالمقال إلى أن
جعل الصمت غاية الإيجاز •••
أصمت الشهور فهلا صمت
ولا صوم حتى تطيل الصموتا
وما أجمل قوله هذا:
بالصمت يدرك طامر ما ناله
وتخيب منه بعوضة مهذار
أما السلوك في الحياة فقوامه ترك الشر والاعتداء، ولكنه يوصي بالدفاع الشريف فيقول:
ادفع الشر إذا جاء بشر
وتواضع فإنما أنت بشر
هذه الأجسام ترب هامد
فمن الجهل افتخار وأشر
ويقول في الكذب، ودعامة المذهب الصدق:
إن عذب المين بأفواهكم
فإن صدقي بفمي أعذب •••
أهوى الحياة وحسبي من معايبها
أني أعيش بتمويه وتدليس
فاكتم حديثك لا يشعر به أحد
من رهط جبريل أو من حزب إبليس
وأخيرا يقول:
اصدق إلى أن تظن الصدق مهلكة
وعند ذلك فاقعد كاذبا وقم
وما أخاله إلا يعني قولهم: «الضرورات تبيح المحظورات.» وإذا جاز للإنسان أن يدافع عن نفسه، إذا تعرضت للهلاك، بالنار والحديد أفلا يصونها بكذبة؟ ...
ولكن الشيخ ما كذب قط حتى في أعصب الساعات، وما أكثرها في تاريخ حياة الأحرار! وكأنه قد أعيته مداواة البشر فآيس منهم، وقال مع أشعيا:
أيكون رفع للشرور فينتهي
غاو ويقنع بالنبات الضيغم؟
أما الحلال والحرام فللشيخ فيهما رأي لا يحيد عنه متنزهة الدروز أبدا، ولو جر إلى الهلاك، قال الشيخ:
لا تأنفن من احترافك طالبا
حلا وعد مكاسب الفجار
ويقول في مال الظالمين، وهذا سنقول فيه كلاما:
متى ما تصب يوما طعاما لظالم
فقم عنه، وافغر بعده فم قالس
ويرى أن كل ما في الكون يسبح لله ولا يمن، أو لا يطلب أجرا، إلا الإنسان فيخاطبه قائلا:
كل يسبح فافهم التقديس في
صوت الغراب وفي صياح الجدجد
ثم يقول في الإنسان، هذا المخلوق المتغطرس المتكبر الذي يظن أن الكون خلق لخدمته، كما قال النبي داود في المزمور الثامن: «بالمجد والكرامة كللته، وعلى أعمال يديك سلطته.» أما أبو العلاء فيرى غير ذلك ويقول:
فلك يدور بحكمة
وله، بلا ريب، مدير
إن من مالكنا بما
نهوى فمالكنا قدير
أو لا فعالم آدم
بإهانة المولى جدير
ثم يشتد غضب الشيخ في مكان آخر فينكر «الغائية» التي يزعمها البشر فيقول:
تورعوا يا بني حواء عن كذب
فما لكم عند رب صاغكم خطر
لم تجدبوا لقبيح من فعالكم
ولم يجئكم لحسن التوبة المطر
ويقول في الخمرة التي يناهضها «عقال» الدروز في زماننا، بل ذهبوا أبعد مما ذهب إليه المعري فتورعوا عن التدخين وما يشبهه:
لو كانت الخمر حلا ما سمحت بها
يوما لنفسي لا سرا ولا علنا
فليغفر الله كم تطغى مآربنا
وربنا قد أحل الطيبات لنا
ومن مذهبه طرد كل خرافة من أذهان الإخوان، فيقول في الجن وأشباه الجن:
قد عشت عمرا طويلا ما علمت به
حسا يحس لجني ولا ملك
ويقول:
فاخش المليك ولا توجد على رهب
إن أنت بالجن في الظلماء خشيتا
فإنما تلك أخبار ملفقة
لخدعة الغافل الحوشي حوشيتا
أما اليمين فينهى عنها في كل حال:
لا تحلفن على صدق ولا كذب
فما يفيدك إلا المأثم الحلف
وهو يرى أن الناس لا يتدينون إلا خوفا، فيقول:
والناس يطغون في دنياهم أشرا
لولا المخافة ما زكوا وما سجدوا
حتى يخاطب السيف بسخره المعهود، فيقول:
خير وشر وليل بعده وضحى
والناس في الدهر مثل الدهر قسمان
واللب حارب تركيبا يجاهده
فالعقل والطبع حتى الموت خصمان
هل ألحد السيف أو قلت ديانته
أو كان صاحب توحيد وإيمان؟
ورابني منه ترك الجاحدين سدى
لم يفجعوا برءوس منذ أزمان
أما نحن فنشكر إلحاد السيف في زمن الشيخ فسلم لنا ... أما الدين عنده وقد سبق الكلام عنه فهو:
الدين هجر الفتى اللذات عن يسر
في صحة واقتدار منه ما عمرا
ورحم الله عمي الذي كان يقول: توبة المرض مريضة.
أما أخلاق الإمام الخاصة فيعرفنا بها بقوله:
وتؤثر حالة الزميت نفسي
وأكره شيمة الرجل المفن
ثم يرد على الذين يزعمون أن النجوم عاقلة، وقد سبقت كلمة حول هذه الفكرة، فيتهكم ويتساءل إن كانت أديانهم مختلفة مثل أدياننا، حتى ينتهي إلى رأيه في النسل فيقول:
إن شئت أن تكفى الحمام فلا تعش
هذي الحياة إلى المنية سلم
أما كرهه الدنيا فمعروف مشهور، ومع كل ذلك يصدق فيعلن أنه راحل عنها كارها، استطاب البقاء على علاته، وحسبه أنه يتزود منها ما يلي:
خاب الذي سار عن دنياه مرتحلا
وليس في كفه من دينه طرف
لا خير للمرء إلا خير آخرة
يبقى عليه فذاك العز والشرف
ثم يرى كما رأى ابن سينا: «وكل الشك في أمر الخروج.» ولكنه يجعل هذا الشك حقيقة ملموسة فيقول:
أما الحقيقة فهي أني ذاهب
والله يعلم بالذي أنا باق
وأظنني من بعد لست بذاكر
ما كان من يسر ومن إملاق
يا مرحبا بالموت من متنظر
إن كان ثم تعارف وتلاق
ولذلك فخير ما يعمل الإنسان هو تطهير نفسه ليكون أحسن حالا، فيقول:
ومن يطهر بخوف الله مهجته
فذاك إنسان قوم يشبه الملكا
ويضحك ممن يوصي عند الموت فيقول بلهجته المعهودة:
يوصي الفتى عند الحمام كأنه
يمر فيقضي حاجة ويعود
ومادامت الحياة شقاء، فالشيخ يتمنى قصر العمر:
وددت أن إلهي كان غادرني
و«مدتي» في يديه أقصر المدد
وهذه «المدة» من كلام الإخوان اليوم، وكذلك المهلة وقد سمعت قولهم، إن كنت ممن عاشرهم: «دامت مهلتك.» أما الملوك فشعاره أخيرا فيهم كما قال السيد المسيح: «أعطوا ما لقيصر لقيصر»:
واخش الملوك وياسرها بطاعتها
فالملك للأرض مثل الماطر الثاني
إن يظلموا فلهم نفع يعاش به
وكم حموك برجل أو بفرسان
أما الصلاة فليس لها عنده مكان خاص، بل يقول فيها:
متى يقوم إمام يستفيد لنا
فتعرف العدل أجبال وغيطان؟
صلوا بحيث أردتم فالبلاد إذن
كأنما كلها للإبل أعطان
ويقول:
القدس لم يفرض عليك مزاره
فاسجد لربك في الحياة مقدسا •••
متى يخلص التقوى إلى الله لا تغض
عطاياه من صلى وقبلته الشرق
والاتكال على الله هو كل شيء في نظر الشيخ؛ فالله كريم يعطي بلا حساب:
لا تخبأن لغد رزقا وبعد غد
فكل يوم يوافي رزقه معه
واذخر جميلا لأدنى القوت تدركه
وللقيامة تعرف ذاك أجمعه
فرق تلادك فيما شئت محتقرا
فليس يذرف، خلف النعش، أدمعه
وافعل بغيرك ما تهواه يفعله
وأسمع الناس ما تختار مسمعه
ويقول أيضا قولا جميلا، وقد أحسن الأداء:
واطلب الرزق بالمرور من الشج
راء لا من أسنة ومناصل
وتشبه بالطير تغدو خماصا
وتعد اليسار ملء الحواصل
وأراني لست في حاجة إلى لفت نظرك إن كنت ممن قرءوا الإنجيل.
ويقول في أساليب الحياة:
ويعجبني دأب الذين ترهبوا
سوى أكلهم كد النفوس الشحائح
وأطيب منهم مطمعا في حياتهم
سعاة حلال بين غاد ورائح
فما حبس النفس المسيح تعبدا
ولكن مشى في الأرض مشية سائح
ويقول في صلاة المعيول:
صلاة الأمير الكاسمي بمسجد
أبر وأوفى من صلاة البطارق
أما النواميس التي تعقد القضايا وتخلق المشاكل، فيقول فيها:
تنمس منا للديانة معشر
وقد بطلت عند اللبيب النوامس
ويقول في الفقهاء شراح النوامس:
أجاز الشافعي فعال شيء
وقال أبو حنيفة لا يجوز
فضل الشيب والشبان منا
وما اهتدت الفتاة ولا العجوز
ولم آمن على الفقهاء حبسا
إذا ما قيل للفقهاء جوزوا
ثم ينسب هذا التفريق إلى طباع البشر فيقول:
لولا عداوة أصل في طباعهم
كانت مساجد مقرونا بها البيع
وأخيرا يعدي عن كل هذا فيقول:
إذا الإنسان كف الشر عني
فسقيا في البلاد له ورعيا
ويدرس إن أراد كتاب موسى
ويضمر إن أحب ولاء شعيا
والشيخ لا يترك شيئا إلا ويحدث الإخوان عنه؛ فها هو يحرم البكاء على الميت؛ لأن الموت انتقال وراحة وتغير منزل و«القضية ثابتة» كما يقول أفلاطون، فيقول، وسترى أيضا قولا مثل هذا قبل أن يفارق:
بكى جزعا لميته كفور
فجاء بمنتهى الرأي الأفين
مصيبة دينه لو كان يدري
أجل من المصيبة بالدفين
وهو يزعم أنه لا يخشى الموت، مع أني رأيته خائفا جدا مع إيمانه بعقيدته الثابتة:
ولست كموسى أهاب الحمام
ولكن أود لقاء الملك
ويعرض له الشك في الله، ولكن شكه هذا ابن عم الإيمان، فيقول:
أما الإله فأمر لست مدركه
فاحذر لجيلك فوق الأرض إسخاطا
هبه أغوسطينوس أو توما الأكويني، فقد اعتورهما مثل هذا كما يعتور أكبر النساك والحبساء.
ها هو الشيخ يقترب من هوة الأبدية، فاسمع ما يقول وكيف يعلن إمامته، ويبوح بالسر الذي أتعبه وأتعب الناس به، وحمل داعي الدعاة على تحبير تلك الرسائل:
لو اتبعوني ويحهم لهديتهم
إلى الحق أو نهج لذاك مقارب
فما للفتى إلا انفراد ووحدة
إذا هو لم يرزق بلوغ المآرب
وكأن الإمام قد شعر بدنو الرحيل فقال:
أنافق في الحياة كفعل غيري
وكل الناس شأنهم النفاق
أعلل مهجتي ويصيح دهري
ألا تغدو فقد ذهب الرفاق؟
ثم يوصينا بقراءة كتابه هذا، وقد فعلنا ذلك مرات:
اقرأ كتابي إذا ضم الثرى جسدي
فإنه لك ممن قاله خلف
صدقت أيها الإمام.
ويوصي الإخوان باتباع خطته، وقد فعلوا أيضا:
إن مات صاحبكم فجدوا بعده
في النسك واتخذوا الخشوع جليسا
وأشهد، وشهادتي حق هي، لأني أعيش وعشت بينهم قرابة ربع قرن، إن «أجاويدهم» لا يقصرون عن شيخهم أبي العلاء، إن لم يكن بعض «المتنزهة» منهم قد تجاوزه. وها هو الشيخ يعلن مذهبه الذي كتمه عنا طول العمر فيقول أولا:
وإن تسألوا عن مذهبي فهو خشية
من الله لا طوعا أبث ولا جبرا
ويقول أيضا:
إذا قومنا لم يعبدوا الله وحده
بنصح فإنا منهم لبراء
وهو لم يخف هذا التوحيد المجرد عن كل شيء في منتصف العمر فقال:
بوحدانية العلام «دنا»
فدعني أقطع الأيام وحدي
وها هو يعلن ذلك السر المكتوم فيقول:
طوى عنك سرا صاحب قبل شيبه
فلما انجلى عنه المشيب جلاه
ولا ملك إلا للذي عز وجهه
ودامت على مر الزمان علاه
ويقول أيضا:
إذا سألوا عن مذهبي فهو بين
فهل أنا إلا مثل غيري أبله
خلقت من الدنيا وعشت كأهلها
أجد كما جدوا وألهو كما لهوا
وأشهد أني بالقضاء حللتها
وأرحل عنها خائفا أتأله
ويدنو الموت منه فيحس به الشيخ فيصف لنا حاله:
قد خف جرمي وصار جرمي
أثقل من هضبة عليا
نفسي أولى بمن عناها
من هؤلاء وهؤليا
ويخشى أن يناح عليه، ومن له لينوح عليه، فيقول معلما الإخوان:
قبيح أن يحس نحيب باك
إذا حان الردى فقضيت نحبي
فأوصيكم بدنيانا هوانا
فإني تابع آثار صحبي
ثم يختم كتاب حياته ومذهبه بهذين البيتين:
أزول وليس في الخلاق شك
فلا تبكوا علي ولا تبكوا
خذوا سيري فهن لكم صلاح
وصلوا في حياتكم وزكوا
لا أدري أيها القارئ، وقد فرغت من الكلام على رأيي في مذهب أبي العلاء، إن كنت صرت لي حزبا. فإن كنت لا توافقني فأنا مستعد أن أتبعك إن جئت برأي يستظهر على زعمي، وسوف أنتقل إلى المواطن التي يتفق فيها أبو العلاء مع فاطميي اليوم وسيكون سبيلنا إلى ذلك إثبات وقائع لا استشهاد في الشعر؛ فقد فرغنا من هذا. وما ذكرنا ما ذكرناه لك إلا لنطبق أعمال الجماعة على أقوال الإمام، فترى أنهم إخوان يتبعون منهجا واحدا، لا يختلف إلا في قضية واحدة لا مجال لذكرها. وإن كان هناك بعض اختلاف، وأعتقد أنه غير موجود، فعند الدروز كلمة تشير إلى التطور الذي لا بد منه، وليس يجري عصرنا كسائر الأعصار.
خلال ألف سنة
أراجيف وأساطير
أما منافسة الشيخين أبي العلاء وداعي الدعاة فإن دلتني على شيء فتدلني على أن الرجلين فرسا رهان، يجريان لغاية واحدة. كلاهما باطني ينتهي إلى قمة الدعوة، ويعتصم بالعقل وحده، ولم يكتب داعي الدعاة إلى أبي العلاء إلا رغبة منه في إدراك سره؛ لأن الباطنيين مولعون بالأسرار ... وليس فيما كتب داعي الدعاة إلى أبي العلاء ما يدل على أنه يناهضه، ولا على أنه يبحث عن حقيقة دينه؛ فالمقصود هو إدراك السر الذي ذاع أمره وأوهم أبو العلاء أنه عنده ولا يبوح به.
وما رأيت أبا نصر بن أبي عمران - داعي الدعاة - إلا مبجلا ومعظما لأبي العلاء، عارفا سره كما يجب؛ فهو يقول: «والدليل على كونه - أي أبي العلاء - ناظرا لمعاده، بدقيق النظر الذي لا يكاد يجري معه جار في ميدانه، سلوكه في المسلك الذي سلكه في الزهد، وقصده شظف العيش وتعوضه عن لذيذ الطعام بالكريه، وعن لين اللباس بالخشن، وتعففه عن أن يجعل جوفه للحيوان مدفنا، أو أن يتذوق من درها لبنا، وأن يستطعم من طعام استكدت عليه في حرثه وإنشائه. وليست هذه الطريقة إلا طريقة من يعتقد أنه إذا آلمها، ونال نيلا منها، استوفى جزاء فعله بها. ومن كانت هذه نصبته في سلامة البهيمة العجماء منه، فكيف في إيثار سلامة الإنسان الناطق العاقل من يده ولسانه؟»
ثم تجري الرسالة الأولى جري الند في مخاطبة الند، بل سؤال «من يتوكأ على عصا العقل».
هذا ما ورد في رسالة داعي الدعاة الأولى. أما رسالته الثانية، وهي الأخيرة، فلم يجب عليها أبو العلاء؛ لأنه كما ذكر لداعي الدعاة في رسالته الأخيرة: «وإني لأعجز إذا اضطجعت عن القعود، فربما استعنت بإنسان فإذا هم بإعانتي وبسط يديه لينهضني، اضطربت عظامي؛ لأنهن عاريات من كسوة كانت عليهن، فعرتهن منها الأوقات المتمادية، وإنما عنيت ما كان عليهن من لحم.»
لم يجب عنها أبو العلاء لأنه مات، وإليك ما يعنينا مما جاء فيها: «ما فاتحت الشيخ، أحسن الله توفيقه، بالقول إلا مفاتحة متناكر، مؤثر لأن يخفي من أين جاءه السؤال، فيكون الجواب باسترسال ورفض حشمة، وحذف تكلف الخطاب بسيدنا، والرئيس وما يجري هذا المجرى؛ إذ كان حكم ما نتجارى فيه موجبا ألا يتخلله شيء من زخارف الدنيا، ولأنني أعتقد أن سيدي، بالحقيقة، من تستقل دون يده يدي أخذا منه للدنيا، أو تمتار نفسي من نفسه استفادة من معالم الأخرى.
فلا أدري كيف انعكست الحال، حتى صار الشيخ، أدام الله تأييده، يخاطبني بسيدنا، والرئيس، ولست مفضلا عنه في دنيا ولا دين، بل شاد إليه راحلتي لاستفادة، إن وردت موردها، أو صادفت نهلا أو علا منها، قابلتها بالشكر لنعمته، والإسجال على نفسي بسيادته.
وبعد فإني أعلمه، أدام الله سلامته، أنني شققت الأرض بطنها وظهرها من أقصى دياري إلى مصر، وشاهدت الناس بين رجلين: إما منتحلا لشريعة صبا إليها، ولهج بها إلى الحد الذي إن قيل له من أخبار شرعه، أن فيلا طار، أو جملا باض، لما قابله إلا بالقبول والتصديق، ولكان يكفر من يرى غير رأيه فيه، ويسفهه ويلعنه.
فالعقل عند من هذه سبيله في مهواة ومضيعة؛ فليس يكاد ينبعث لأن يعلم أن هذه الشريعة التي ينتحلها لم يطوق طوقها، ولم يسور أسوارها إلا بعد لموع نور العقل منه.
أو منتحلا للعقل يقول: «إنه حجة الله تعالى على عباده.» مبطلا لجميع ما الناس فيه، مستخفا بأوضاع الشرائع معترفا مع ذلك بوجوب المساعدة عليها، وعظم المنفعة بمكانها؛ لكونها مقمعة للجاهلين، ولجاما على رءوس المجرمين المجازفين، لا على أنها ذخيرة العقبى، أو منجاة في الديار الأخرى .
فلما رمت بي المرامي إلى ديار الشام بمصر، سمعت عن الشيخ، وفقه الله، بفضل في الأدب والعلم، قد اتفقت عليه الأقاويل، ووضح به البرهان والدليل، ورأيت الناس فيما يتعلق بدينه مختلفين، وفي أمره متبلبلين؛ فكل يذهب فيه مذهبا، ويتبعه في تقاسيم الظنون سببا.
وحضرت مجلسا جليلا أجري فيه ذكره، فقال الحاضرون فيه غثا وسمينا، فحفظته بالغيب وقلت: إن المعلوم من صلابته في زهده يحميه من الظنة والريب. وقام في نفسي أن عنده من حقائق دين الله سرا، قد أسبل عليه من التقية سترا، وأمرا تميز به من قوم يكفر بعضهم بعضا. ولما سمعت البيت:
غدوت مريض العقل والدين فالقني
لتعلم أنباء الأمور الصحائح
وثقت من خلدي فيما حدست عهوده وقلت: إن لسانا يستطيع بمثل هذه الدعوى نطقا ... للسان «صامت» عنده كل «ناطق» ... فقصدته قصد موسى للطور اقتبس نارا ... فأدليت دلوي بالمسألة «الخفية» التي سألت ...»
ثم يعتذر الداعي عن كل ما سلف في رسائله ويختم هذه الرسالة بقوله: «وقبل وبعد، فأنا أعتذر عن سر له أدام الله سلامته، أديته، وزمان منه بالقراءة والإجابة شغلته، لأنني، من حيث ما نفعته، ضررته، والله تعالى يعلم أني ما قصدت به غير الاستفادة من علمه والاغتراف من بحره والسلام.»
ولست أدري كيف يحسب مثل هذا الكلام تهجما على قدس الشيخ، وأن يقال إن داعي الدعاة أمر بإحضاره إلى حلب، ولما علم أبو العلاء أنه يحمل للقتل أو الإسلام، سم نفسه فمات؟
هذه أولى الأراجيف؛ فداعي الدعاة كما تلمح من مخاطبته أبا العلاء يعلم أنه يخاطب أستاذا أو زميلا على الأقل، وقد خاطبه بالمصطلحات والتعابير الفاطمية، واعتذر له عن إزعاجه إياه بالرد عليه. أما قول داعي الدعاة إن الناس مختلفون في دين أبي العلاء فهو يقول حقا ولهذا كتب إليه، ولما علم أنه من «الجماعة» تركه وبالغ في تعظيمه والاعتذار إليه. أما الآخرون فاسمع كيف يخاطبونه:
كلب عوى بمعرة النعمان
لما خلا من ربقة الإيمان
أمعرة النعمان ما أنجبت إذ
أخرجت منك معرة العميان
ومن إرجافهم حول ذكائه حكوا أن اثنين تكلما أمامه شيئا كثيرا بلسان أذربيجان، فأعاد أبو العلاء على اللفظ بعينه من غير أن يخرم منه حرفا، ولم ينقص ولم يزد. وروى بعض طلبة أبي العلاء أن جارا له أعجميا غاب عن المعرة، وحضر رجل من بلده يبحث عنه، فوجده غائبا، ولم يمكنه المقام فأشار عليه أبو العلاء أن يذكر حاجته، فجعل الرجل يتكلم بالفارسية وأبو العلاء مصغ إليه، ولم يكن يعرفها، إلى أن فرغ من كلامه ومضى الرجل. وقدم جاره الفارسي الغائب فجعل يردد عليه ما سمعه بلفظه، والرجل يستغيث ويلطم، إلى أن فرغ من الحديث. وسئل عن حاله، فأخبر بموت أبيه وإخوته، وجماعة من أهله.
قلت: ولو كان مات جميع من في بلده لكان الخبر أضخم وأروع. وقد رووا أخبارا كثيرة مثل هذه لا حاجة إلى إثباتها.
ومن الأساطير المعزوة إليه واحدة رويت عن الغزالي عن يوسف بن علي بأرض الهركار أنه قال: «دخلت معرة النعمان، وقد وشى وزير محمود بن صالح إليه بأن المعري زنديق لا يرى إفساد الصور، ويزعم أن الرسالة - أي النبوة - تحصل بصفاء العقل، فأمر محمود بحمله إليه من المعرة، وبعث خمسين فارسا ليحملوه، فأنزلهم أبو العلاء دار الضيافة، فدخل عليه عمه مسلم بن سليمان وقال: يا ابن أخي، قد نزلت بنا هذه الحادثة، والملك محمود يطلبك، فإن منعناك عجزنا، وإن أسلمناك كان عارا علينا عند ذوي الذمام، ويركب تنوخ الذل والعار.
فقال أبو العلاء: هون عليك يا عم، ولا بأس عليك؛ فلي سلطان يذب عني، ثم قام فاغتسل، وصلى إلى نصف الليل ثم قال لغلامه: انظر إلى المريخ: أين هو؟
فقال الغلام: في منزلة كذا، فقال: زنه، واضرب تحته وتدا، وشد في رجلي خيطا واربطه إلى الوتد، ففعل غلامه ذلك، فسمعناه وهو يقول: يا قديم الأزل، يا علة العلل، يا صانع المخلوقات، وموجد الموجودات، أنا في عزك الذي لا يرام، وكنفك الذي لا يضام، الضيوف الضيوف، الوزير الوزير، ثم ذكر كلمات لا تفهم، وإذا بهدة عظيمة، فسأل عنها فقيل: وقعت الدار على الضيوف الذين كانوا بها فقتلت الخمسين، وعند طلوع الشمس وقعت بطاقة من حلب على جناح طائر: لا تزعجوا الشيخ؛ فقد وقع الحمام على الوزير.
قال يوسف بن علي: فلما شاهدت ذلك دخلت على المعري فقال: زعموا أنني زنديق، ثم قال: اكتب. وأملى علي أبياتا من قصيدة أولها:
أستغفر الله في أمني وأوجالي
من غفلتي وتوالي سوء أعمالي
ومن عناكب الأساطير المنسوجة أيضا حول الشيخ هذان الحلمان:
الأول:
روى القفطي عن القاضي أبي عمرو بن عبد الله الكرجي، أنه كان وهو طالب يقع في دين أبي العلاء، فرأى فيما يرى النائم كأنه في مسجد، وكأن على صفة فيه رجلا شيخا ضريرا بادنا، وإلى جانبه غلام يشبه أن يكون قائده. قال القاضي: وكنت واقفا تحت الصفة في نفر من الناس، وهذا الشيخ يتكلم كلاما لم أفهمه، ثم التفت إلي وقال: ما حملك على الوقيعة في ديني، وما يدريك لعل الله غفر لي؟ قال: فاستحييت منه وسألت عنه فقيل: هو أبو العلاء. فلما أصبحت أقلعت عن النيل منه، واستغفرت الله لي وله.
الثاني:
رواه غرس النعمة عن غلام سماه أباه غالب، قال: وهو من أهل الخير والصلاح، وله فقه ودين، فلما ورد إلينا الخبر بموت أبي العلاء تذاكرنا ما كان له من كفر وإلحاد، فأتينا من ذلك على شيء كثير، والغلام يسمع، فلما كان الغد أقبل إلينا يحدثنا: أنه رأى فيما رأى النائم شيخا مكفوفا على عاتقيه حيتان، رأساهما إلى فخذيه، فهما ترفعان رأسيهما إلى وجهه، فتقطعان منه قطعا تزدردانها، والشيخ يصيح ويستغيث، فسأل عنه، فقيل: هو أبو العلاء المعري الملحد.
وحكاية أخرى سمعناها ونحن صبيان لا أدري إلى من تسند، قال الراوي: صعد أبو العلاء إلى جبل قرب المعرة يعرف اليوم بجبل «الزاوية»، وأخذ يصيح: هو ذا جبل أعلى من الطور، ورجل أعظم من موسى، فكلمني يا من كلمت موسى، وفعل ذلك ثلاثا، ولما يجبه أحد، فانحدر عن الجبل وهو يردد:
لقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي
وحكاية أخرى رواها المرحوم أحمد تيمور باشا في كتابه «أبو العلاء المعري» ص13 قال:
وقبره معروف إلى اليوم؛ أي سنة 1327، بالمعرة ولأهلها اعتقاد كبير فيه، ويزعمون أن الماء إذا بيت في قارورة عند قبره، وشربه في الغد صبي به حبسة في اللسان، أو بلادة في الذهن، زال ذلك عنه ببركة أبي العلاء.
أقول: أما أنا فحين زرت المعرة وسئلت عن سبب مجيئي إليها فأجبت: زيارة قبر أبي العلاء، سأل أحد المعريين رجلا آخر منها وكلاهما من عوامها: منو أبو العلاء؟ فأجابه: واحد كان مثل عنتر والزناتي خليفة ...
رحم الله الشيخ الإمام؛ فما يرجف الناس ولا يحوكون الأساطير إلا حول شخوص النوابغ.
شاعر العقل الفاطمي
طلق أبو العلاء الدنيا الثلاث فكان عمله بدعة في الإسلام، مسح يده من جميع ملذاتها فعاش عيشة الحبساء المنفردين في الصوامع، معديا عما استثناه منها حين أطراها بقوله:
ويعجبني عيش الذين ترهبوا
سوى أكلهم كد النفوس الشحائح
وعلى هذا نساك الفاطميين اليوم؛ فمال الوقف لا يأكله فاطمي زميت؛ فهو في نظرهم مثل مال الحكام، وعندهم: حلالك تعبك، بعرق جبينك تأكل خبزك. هم يحصرون الحلال في ثلاثة: أجر الفاعل والزارع والفلاح؛ فأحد مشايخهم الأتقياء - الشيخ محمد صالح، من جرمانا، غوطة الشام - كان يوزع غلة أراضيه على فقراء الملة، ويعيش من ثمن السلال والخوص التي كان يصنعها هو ويبيعها في دمشق، فلم يمد يده إلى حاصلاته لأنه لم يتعب في استثمارها.
وقد رأيت في الفصل المعقود تحت عنوان: «مذهب أبي العلاء»، أن الشيخ ينصح «الأخ» أن يتقيأ ما أكل إذا عرف أنه مال ظالم. وهذا ما يفعلونه اليوم، فيتجنبون الحكام ويبتعدون عنهم، ويرفضون عطاياهم - كما فعل أبو العلاء قبلهم. إن «الأجاويد» منهم يستنكرون استئجار أوقاف الحكومات، ولا يأكلون عند حاكم، أو من اعتقدوا أنه مغتصب مال الآخرين، وامتناعهم عن أكل حاصلات الأراضي المغتصبة يعرفه أقل الناس اختبارا لهم؛ فهم لا يأكلون من غلة تلك الأراضي ولو بالثمن.
وما لنا نبعد إلى الغوطة لنحدثك عن الشيخ محمد صالح، ولندع ذكر «المتنزهة» إخوان المعري في خلوات البياضة، فضالتنا التي ننشدها قريبة من عاليه في ضيعة «معصريته» رجال يلقبونهم في الشوف بالجويدين الزرق؛ فهؤلاء الرجال لا يأخذون إعاشة من الحكومة في وقتنا الحاضر
1
ولا يشربون ماء من إحدى القرى المجاورة لهم لأن أهلها لا جويدين منهم.
وفي عاصمة الشوف - بعقلين - سيدة فاضلة لم تكن تستحل الأكل من مال ولدها لأنه موظف؛ فكانت تستبدل المال بمال آخر من عند رجل تثق بدينه لتستحل الأكل. ولم تأكل من ثمار أرض شراها ولدها، بل تختار ذلك من ثمار العقارات الموروثة لأنها حلال. وكانت تعيش مع بنيها وأحفادها وهي منقطعة عنهم فيما يمس المذهب.
وهذا أبو العلاء يقول لابن القارح في رسالة الغفران عن دنانيره التي سرقت: «وهذه، ولا ريب، من دنانير مصر، لم تجئ من عند السوقة، ولكن من عند الملوك.»
لسنا نقول هذا لنزعم لك أن أبا العلاء درزي، أو لنقول إنه كالطبقة السامية من عقلاء هذه الطائفة الذين بلغوا ما يسمونه ختام الدين؛ فمن قال إن أبا العلاء مثل هؤلاء هو كالقائل مثلا: نابليون بونابرت والبابا لاون الثالث كانا يستعطان مثل مارون عبود.
إن طلائع هذا الزهد العلائي قد بدت مع المعز جد الحاكم فتخلى عن الكرسي مدة سنة لابنه العزيز بالله، ثم نما هذا الزهد واستفحل أمره مع الحاكم قبل «الغيبة» بقليل. أما أبو العلاء فتنسك وسأل الإخوان أن يكونوا له شيعة في طريقة، فوضع لهم في اللزوميات الأصول والمبادئ الزهدية، ولما قربت ساعته خاطبهم بقوله:
أزول وليس في الخلاق شك
فلا تبكوا علي ولا تبكوا
خذوا سيري فهن لكم صلاح
وصلوا في حياتكم وزكوا
إذا قابلنا بين قول أبي العلاء هذا وبين ما يفعله أجاويد الدروز اليوم رأينا أنهم يجملون جزعا ولا ينتحبون على فقيد مهما عز وغلا، كما فعل الأمير السيد حين فقد ابنه، وسيأتيك خبر هذا.
ومن كلام الدروز في هذا الصدد «إذا أصبتم بعزيز فعليكم أن تصبروا لئلا تفقدوا الأجر؛ فمن جزع من قضاء الله عبر به القضاء ولزم الإثم. ومن صبر على القضاء فالأولى أن نصبر، ابتغاء للثواب وحذر غضب الله».
ومن كلماتهم المأثورة: «من يبك على رأس ميت فكأنه يحارب الله.»
وإني لأرى أبا العلاء يلمح بقوله: «فلا تبكوا علي ولا تبكوا»، إلى النبي الكريم لأنه بكى واستبكى، ومن قرأ رسالتي المعري إلى داعي الدعاة يرى ترجيحا لظننا هذا.
إن أبا العلاء يحث على الزهد ويحرص على كتمان «السر» وعلى كل ما أراه بارزا في المذهب الفاطمي اليوم. وأراه يتكلم كمن له سلطان، فلا يستند إلى تقليد ولا إلى إسناد لأنه لا يتجاوز تخوم منطقة العقل. والعقل في المذهب هو «الإمام» المعصوم. والعقل الفاطمي هو العلة الأولى وضابط الكون. ولئن كان لا بد للعقل من شيخ فأبو العلاء هو شيخ مشايخ العقل، وأول من جهر معلنا إمامته المطلقة وأمر باتباع وحيه وهداه.
من عادة المؤمنين أن يكونوا عمل فبركة؛ أي نمطا واحدا. وأبو العلاء مؤمن ولكنه ليس من نمط إخوانه تماما؛ ففي كتبه زاد للإخوان والذرية، ووصيته لهم تنحصر باتقاء الله وعمل الخير، وتطهير النفس من المعاصي، والابتعاد عن اللذات التي ينبذها طلاب الكمال.
ليست الفضيلة عند أرسطو طبيعة؛ فالطبيعة قوى واستعدادات، والفضيلة تكتسب بمعاونة الطبيعة؛ أي أن تطبع النفس على حالات معينة. الفضيلة عنده تتعلم كما يتعلم كل فن، بإتيان أفعال مطابقة لكمال ذلك الفن. ومن توهم أن المثابرة غير لازمة للحصول على الكمال فمثله كمثل المريض الذي يريد الشفاء ولا يستعمل وسائله. وهذا ما قصده أبو العلاء من سيرته ونسكه.
لا استغراب أن يظهر الجزع والخوف إذا تصور نفسه ذاهبة بذهاب جسده. وحقه أن يهتف «وا شجبا» وأن يحزنه قول ذلك الزائر له: وعلام حسدوك وقد تركت لهم الدنيا والآخرة؟
كان أبو العلاء خائفا على نفسه، حريصا على تنقيتها، ويحزنه وجودها في الجسم الذي هو ألد أعدائها. كان يظن دائما أنه مقصر فيذم نفسه ويقول إنه أبو النزول لا أبو العلاء. وفاطميو اليوم يقولون: من يظن بنفسه الخير فهو معدوم الخير. ويحكون عن «الشيخ الفاضل» أحد كبار عقال وادي التيم، وهو من ذوي العمامة المكورة، أنه ظل خائفا على نفسه، ولم يثق بخلاصها ونجاتها من أحابيل الجسد، إلا قبل موته ببضع دقائق فقال يخاطبها: «روحي يا مباركة، الآن أمنت عليك.»
ويقول الفاطميون بضرورة التوبة قبل العجز، ويسمون توبة الشيخ توبة فزع، وكذلك قال أبو العلاء: «فليتني أبهت لشأني قبل شيب المسائح.»
طرق أبو العلاء هذا الموضوع كثيرا وحث على طاعة الله وترك المعاصي والانصراف عن الدنيا قبل أن تنصرف هي عنا. أما «الرحمة» عندهم فلا تعطى إلا مستحقيها، وليست دينونة كما يتوهم بعضنا ولكنها شهادة تؤدى ومعاذ الله أن تكون زورا. والقصد منها حث الأحياء على طلب الكمال والتجمل بمكارم الأخلاق. والسكوت عنها رفض لها. وقد لا يرحم الأخ أخاه إن شك بفضله.
إنهم لا يؤمنون بالاستسقاء وغير ذلك من طلبات البشر، وعندهم كلمة مأثورة: «لا تنقص من ملكه تعالى معصية عاص، ولا تزيد في ملكه طاعة مطيع، وإنما هي أعمالكم ترد إليكم.» وأبو العلاء، كما مر بنا، يهزأ ممن يتصورون أن المطر لم ينزل لأنهم عصوا الله فيستسقونه بتضرعاتهم وصلواتهم.
يقول أبو العلاء، كما مر بك: «لا طوعا أبث ولا جبرا.» والإنسان عند الفاطميين مسير ومخير: مخير فيما يحده العقل، ومسير في الأمور التي لا قبل له بها. وهذا كله محصور بكلمتهم المأثورة: «أمر تبين رشده فاتبعوه، وأمر تبين غيه فاجتنبوه، وأمر أشكل عليكم قال الله ردوه.»
ومرتكب الكبائر عندهم، كالقاتل والزاني، لا يسلم «الحكمة»، وإن تاب توبة نصوحا يسلم شرحها فقط.
إذا رأيت عند أبي العلاء تناقضا فاعلم أن ذلك تقية واستتار؛ فهو لا يريد، كما قال، أن يسخط جيله كل الإسخاط، فترك لهم ما يتلهون به عنه، ولكنه في كل حال لا يجحد مذهبه ولا يعترف بغيره صراحة. ومن الجنون المطبق أن نخال أبا العلاء معتقدا بالفناء، ثم يتنسك هذا النسك الصارم.
أجهل أن عقله لا يسلم بما صارت إليه حمدونة ورفيقتها توفيق السوداء ولكنه يعتقد بخلود غير خلودنا؛ ولهذا روى لنا ما خلقته مخيلته من خبر هاتين المرأتين، وإليكه كما ورد في رسالة الغفران:
ويخلو - أي ابن القارح - بحوريتين من الحور العين، فإذا بهره ما يراه من الجمال قال: اعزز علي بهلاك الكندي، إني لأذكر بكما قوله:
كدأبك من أم الحويرث نبلها
وجارتها أم الرباب بمأسل
إذا قامتا تضوع المسك منهما
نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
وأين صاحبتاه منكما؟ لا كرامة لهما ولا نعمة، لجلسة معكما بمقدار دقيقة من دقائق الدنيا خير من ملك بني آكل المرار وبني النضر بالحيرة وآل جفنة ملوك الشام.
ويقبل على كل واحدة منهما يترشف رضابها، ويقول: إن امرأ القيس لمسكين مسكين، تحترق عظامه في السعير، وأنا أتمثل بقوله:
كأن المدام وصوب الغمام
وريح الخزامى ونشر القطر
يعل به برد أنيابها
إذا غرد الطائر المستحر
فتستغرب إحداهما ضحكا فيقول: مم تضحكين؟ فتقول: فرحا بتفضل الله. أتدري من أنا يا علي بن منصور؟ فيقول: أنت من حور الجنان اللواتي خلقهن الله جزاء للمتقين، وقال فيكن كأنهن الياقوت والمرجان، فتقول: أنا كذلك بإنعام الله العظيم، على أني كنت في الدار العاجلة أعرف بحمدونة، وأسكن في باب العراق بحلب، وأبي صاحب رحى، وتزوجني رجل يبيع السقط فطلقني لرائحة كرهها من في. وكنت من أقبح نساء حلب، فلما عرفت ذلك زهدت في الدنيا، وتوفرت على العبادة، وأكلت من مغزلي ومردني فصيرني ذلك إلى ما ترى.
وتقول الأخرى: أتدري من أنا يا علي بن منصور؟ أنا توفيق السوداء التي كانت تخدم في دار العلم ببغداد، على زمان أبي منصور محمد بن علي الخازن، وكنت أخرج الكتب إلى النساخ، فيقول: لا إله إلا الله! لقد كنت سوداء فصرت أنصع من الكافور، فتقول: أتعجب من هذا، والشاعر يقول لبعض المخلوقين:
لو أن من نوره مثقال خردلة
في السود كلهم لابيضت السود!
أيتوحد ويتنسك هذا النسك الصارم من لا يرجو حسن العقبى؟
يقول أرسطو: «المنفرد إما بهيمة وإما إله.» ويأبى أدبنا وأدب كل ذي عقل حتى من ألد أعداء أبي العلاء أن نعده بهيمة. ويأبى توحيد المعري المنزه أن نسميه إلها ولو بالمعنى اليوناني؛ فشيخنا يرى تطهير النفس بالنسك ويعتقد بخلودها.
كان الشيخ مهتاجا قبل أن يبلغ ذروة الحلم و«الجودة» فعنف الناس فظن دارسوه أنه متشائم، لا تشاؤم لا تفاؤل، ما هناك إلا توبيخ وتبكيت التماسا للصلاح، أراد الإصلاح فصك الإنسانية صكة أعمى ...
تعرض أبو العلاء لجميع الشئون الاجتماعية حتى تقسيم الثروة فسخط على أهل عصره. وقد كان توزيع الثروة ولا يزال، حيث عاش أبو العلاء، غير عادل. أما الخمرة، مشكلة المشاكل، فهو أبغض الناس لها، والفاطميون اليوم من مذهبه هذا. إنهم يتحوبون من عصرها وبيعها وقبض أثمانها، وقد ذهبوا إلى أبعد من ذلك فحرموا التدخين والتسعط، ولكنهم أباحوا القهوة ويؤثرون التعفف عنها.
أما العقل الفاطمي فهو: «الله هو معل العلة الأولى التي هي العقل، والعقل هو مبدع الكون ومدبره، فالخالق منزه مستريح.»
والعقل الإنساني عندهم نوعان: جسماني وروحاني؛ فالجسماني هو العقل المعلوم، والروحاني هو عقل أرسطو. الجسماني فعال ومنفعل، يتأثر ويؤثر، وهو يمثل العقل الروحاني في فضائله وأعماله الحسنى.
و«الصدق» رأس الإيمان، وهو يمثل العقل، أما الشيطان فيمثل الكذب.
ويغلو الفاطميون في الصدق غلوا كبيرا، فإذا قال «جويد» منهم كلمة فعليه أن يقوم بها، وإذا نوى فلا بد من التنفيذ، وكلمة «طلع قول» مشهورة عنهم.
حكي أن أحدهم قال لأهله إنه ذاهب لزيارة أحد الإخوان في إحدى القرى المجاورة - بيصور - فما خرج من باب بيته حتى رآه أخاه الذي يقصد زيارته قدام الباب. دعاه إلى بيته وذهب هو إلى زيارته كما زعم، ثم رجع إليه وقص عليه الخبر. ومثل هذه حكايات كثيرة تروى ينفذ بها «القول» تنفيذا لا هوادة فيه ولا رفق.
أما الصوم عندهم فصومان: جسدي، ويكون في التعفف عن المآكل والمشارب، ونفسي، وهو ترك المعاصي والمآثم، والصوم الأخير أجل وأسمى عند أبي العلاء وعندهم.
إن الجسد قميص يبلى. ينزع ثم يؤخذ غيره. والنفوس هي هي لا تزيد ولا تنقص. أما «الحساب » فيدان الشخص باعتباره كائنا خالدا، ويحاسب على جميع ما مر به من أطوار. أما الثواب فيكون بالملذات الروحية لا الجسدية؛ ففي الملكوت الفاطمي تتنقى النفوس وتتطهر بدورانها. وفي تنقلها من قميص - أي من جسد إلى جسد - قد تلاقي عناء وجهدا، وفي هذا يقول أبو العلاء، ولا بأس من إعادته هنا:
يقولون إن الجسم تنقل روحه
إلى غيره حتى يهذبها النقل
فعش وادعا وارفق بنفسك طالبا
فإن حسام الهند ينهكه الصقل
وتمر النفس في دورانها بحالات مختلفة، وتظل كذلك حتى تتطهر - إن كانت صالحة - وبعد هذا التطهير يكون «الدهر» وهو عالم لا قوي فيه ولا ضعيف، يسود فيه العدل، ونظمه كلها واحدة وحكومته كذلك، ولا عذاب ولا شقاء. وقد أشار أبو العلاء إلى هذا بقوله:
ما أحسن الأرض لو كانت بغير أذى
ونحن فيها لذكر الله سكان
أما النفوس الشريرة فتظل معذبة بجميع أنواع العذابات المعروفة، والعذاب الأكبر هو عذاب الضمير، وعذاب الندم على ما فات؛ لأنها لم تنتفع من أدوارها الماضية. أما النفوس الصالحة فتكتسب الجمال، والعمر التام وراحة الضمير، والابتعاد عن الأمراض والمصائب؛ فما هنالك إلا غبطة روحية في «دهر» لا نهاية له، يتغير النظام الأرضي ويحل محله نظام إلهي ويحكمه «الإمام» الممثل بالعقل.
فمن أقوالهم: «الفكرة الإلهية ابتدأت مع إبراهيم كالحبة، وفي عهد المسيح أزهرت، وفي عهد محمد نضجت، ونحن قطفناها.»
ليس للخلود عندهم محل معين، البقاء هنا كما قلنا، وما الجسد إلا وسيلة لإظهار القوى الروحية. الخير يمثل العقل، وبعمل الخير تنفذ إرادة العقل الذي هو «الإمام» وبهذا يكتسب الأجر. وقد قال في هذا أبو العلاء قولا لا التباس فيه:
سأتبع من يدعو إلى «الخير» جاهدا
وأرحل عنها ما «إمامي» سوى عقلي
والشجاعة عندهم رأس الفضائل؛ فالعاقل يكون شجاعا صادقا متعففا لا يهاب أحدا ولا يخاف غير الخالق. وليس بعاقل من لم يتصف بالحلم وسعة الصدر والترفع عن بذيء الكلام. وهم يتحوبون من ذكر القرد ولا يعتقدون بالجن والشياطين، وقد أشار إلى هذا شاعر العقل كما رأيت . أما الزواج فهم في سنته كما وصى أبو العلاء. ليس للفقير أن يتزوج، وإن تزوج فليقلل من المحروسين ما استطاع، والزواج للنسل فقط. ولا يجمع الفاطمي بين ثنتين، وإذا طلقها فلا تعود. والطلاق من حقوق الاثنين، ولا يكون إلا لعلة عظيمة، وإن طلقها ظالما فلها نصف ما يملك حتى الذي على جلده. ومن يتعفف يكن من الملائكة المقربين. أما ملائكتهم فغير مجنحة، وثالوثهم مؤلف من العقل والنفس والكلمة.
إن للعقال الفاطميين خطة ضيقة جدا، وما خطة هؤلاء إلا خطة المعري نفسها: انزواء وانفراد وترويض للنفس، وتذليل لها بالتقشف والحرمان من الملذات، حتى روى لي منهم شيخ موقر أن أحدهم عاش مع زوجته أربعين سنة كان يعاملها في أثنائها كأخت، ولا يكون هذا إلا بعد التراضي؛ فالنساء في المذهب الفاطمي كالرجال سواء بسواء، وتعففهم ونسكهم وزهدهم عملا بالآية: «ادخلوا من الباب الضيق.»
إن المذهب يجيز هذا الزهد للإخوان؛ فللعاقل أن يختار أسلوبا معينا لحياته، بشرط ألا يتنافى مع المبدأ العام، وهو ألا يقاطع حيث يقتضي أن يواصل؛ فحفظ الإخوان واجب، وللأخ على أخيه حق بكل ما هو حلال. وتنحصر صفات العاقل عندهم في عفة اليد والقلب واللسان.
وللعلم عندهم أجل شأن؛ فهم يتبرءون من الجهال؛ فكأنهم يعملون بالكلمة اليونانية: «اطلب المعرفة لأجل المعرفة وهي تجلب لك السعادة.»
إن كل «أسرار» أبي العلاء التي قال إنه «يستر دونها ويجمجم» هي هنا. و«السر» محتوم به على الإخوان الفاطميين الموحدين؛ فهم كما قال الشاعر في العشاق، وأظنه السهروردي: «بالسر» إن باحوا تباح دماؤهم
وكذا دماء البائحين تباح
ما شبهت بعض دارسي أبي العلاء إلا بالجرذان التي في قبو الخمر عندي. يقرطون الفلين والشمع الأحمر، ومتى هرقت الخمرة المعتقة هربوا مولين الأدبار ...
بعد أربعمائة سنة
وما أعود إلى الدنيا وقد زعموا
أن الزمان بمثلي سوف يحكيني
وا رحمتا لشبيهي في حوادثه
ينكيه ما كان في الأيام ينكيني
المعري
إذا شبهنا المذهب الفاطمي بالكرة كان المعري قطبها الشمالي والسيد عبد الله قطبها الجنوبي. وإذا تكلمنا بلغة الباطنيين كان المعري جناحها الأيمن والسيد عبد الله جناحها الأيسر. والأمير السيد صاحب المقام الشهير - في عبيه، لبنان - هو ابن عم المعري الحكيم الخالد.
جاء التنوخيون لبنان من معرة النعمان، والدروز يسمونها معرة الإخوان، جاءوا الشوف يحملون معهم المذهب فحلوا بين إخوان لهم، وساهموا في محاربة الحملة الصليبية وصدها عن الثغور، فنالوا حظوة عند السلاطين وحكموا إقليما خطيرا من لبنان. كانوا باطنيين نحلة فصاروا فاطميين مذهبا. وقد عززوا هذا المذهب في الشوف حيث لا تزال لهم آثار خالدة وذكريات طيبة.
والأمير السيد عبد الله هو أكبر أيمة الطائفة الدرزية، ومصلح «المذهب»، ومنظم أصوله وقواعده.
أنجبت الأسرة التنوخية رجالا عظاما في عصرهم، وكان لها في كل ميدان أبطال؛ فكان هذا البيت العريق بيت علم وأدب وشعر وسياسة وفضيلة وزهد وتقوى وإحسان وحلم ورحمة وفروسية. واشتهر منه رجال في الفنون كالموسيقى والصياغة والخط وعلم النجوم والطب والشرع والفقه والحديث والفرائض. أما واسطة هذا العقد الثمين فالأمير السيد عبد الله الدالة عليه آثاره القائمة في عبيه؛ فهي مزار للناس من فاطميين مؤمنين بفضل السيد، ومن معجبين بتلك الشخصية التي لعبت أسمى الأدوار في العصور الاستبدادية المظلمة، كما يتضح من ترجمته هذه المكتوبة بقلم فاطمي أديب، من «مستلمي الحكمة»:
الأمير جمال الدين عبد الله بن سليمان ... بن تنوخ بن قحطان بن عوف بن النعمان بن المنذر المعروف بابن ماء السماء. ولد في عبيه لبنان، ونشأ كما نشأ أترابه الأمراء في ذلك الزمن محبا للفروسية والصيد والقنص. ولما بلغ أشده مال إلى الدين، ولم يتصل بأسراره حتى هجر سلوكه السابق وتحلى بحلية المتقين واتسم بسمة أهل الدين، من تمسك بالتقوى والصدق والوفاء وترفع عن الشهوات والشبهات وهجر الخمرة وسائر المنكرات.
وعكف على علومه فدرسها وتبحر في علمي الشرع واللسان وتضلع من مذهب «التوحيد» تضلعا بذ فيه السابق واللاحق، وشرحه شرحا وافيا محللا مشكلاته وغوامضه، ثم عن له إصلاح النظام الاجتماعي الإقطاعي المخالف للمذهب فنادى بالمساواة المطلقة بين الناس وأن لا ميزة إلا بالعلم والعمل ، فثار به العامة ونقم عليه الخاصة، فهاجر إلى دمشق كعبة العلم ومحج العلماء في عصره. وهنالك تفرغ بكليته للعلم والتعليم، وناظر الأيمة والعلماء فغلبهم وبهرهم بسعة علمه وتقواه وفضله حتى لقب بالسيد وعرف بذلك. مكث في دمشق بضع سنوات نبه فيها ذكره، وأصبحت داره محجة للعلماء والكبراء، وتجاوزت شهرته دمشق إلى لبنان، فعقد أمراء البلاد وكبراؤها وشيوخها اجتماعا أقروا فيه إيفاد نخبة منهم إلى دمشق ليتوسلوا إلى أميرهم المصلح بالعودة إليهم خاضعين لما يفرضه عليهم من إصلاح، فعاد الأمير السيد إلى بلاده المحتاجة إلى علمه وفضله فاحتفل بمقدمه السكان أيما احتفال، وتقاطرت الوفود من سائر الطبقات إلى داره في عبيه، ولازمه الكثيرون طلبا للعلم، فزهد في الدنيا على بسطة عيشه وسعة يده وتقشف تقشفا عظيما. كان يقضي نهاره صائما معلما وليله مصليا مجتهدا. كان جوادا كريما على زائريه ومريديه، تحفل موائده بطيبات المآكل ولكنه حرمها على نفسه الطاهرة.
وأوجب على أتباعه معاملة الناس حسب أعمالهم الخيرية؛ فأهل التقوى والعلم مقدمون على سواهم، ضاربا عرض الحائط بالأنساب والميزات الاجتماعية.
فرض العلم على الجنسين الذكور والإناث، وحدد النسل، وأباح الزواج للنسل المحدد فقط. وما خرج عنه يحسب ضربا من الزنى. وحرم على الفقير المعدم الزواج رحمة بالأولاد ورفعا للمستوى. وأوجب على الآباء حين يوصون بتراثهم لأبنائهم أن يفضلوا الخيرين من الأبناء على سواهم وأن يحرموا الأشرار منها. وأجاز للأب الوصية لمن شاء من إخوانه الأتقياء إذا لم يسعد بأبناء خيرين، ثم فرض الصدقات وكان كل عام يملأ خرجا من المال يطوف به القرى موزعا على المحتاجين والمعدمين آخذا من الأغنياء مبالغ معينة لأجل الصدقة فيعود إلى عبيه وخرجه مملوء كما كان.
كان يقول للناس: «من كان محتاجا فليأخذ، ومن كان مستطيعا فليضع.» ويدير ظهره لكيلا يرى من أخذ ومن أعطى. ومن كلامه المأثور في هذا الصدد: «لو أن الغني بذل، والفقير قنع، لم يكن في البلاد فقير.»
فجع الأمير السيد بولده الوحيد الأمير عبد الخالق ليلة عرسه؛ رفسته فرسه فقضت عليه. ولما استبطأ الوالد عودة ولده نزل إلى الإسطبل فرأى وحيده ميتا فعاد وأمر بنصب الموائد للمدعوين، فبسطت وأكلوا وقاموا بواجب التهنئة والتبريك بالزفاف، فأجابهم السيد قائلا: «آجركم الله بالعريس.» وحظر عليهم الندب والبكاء والنواح لأنه مخالف للدين؛ فما الأبناء إلا ودائع عند الآباء وكمستودع أمين؛ فمتى شاء الله استرد وديعته، وعلينا تسليمها بطيبة نفس وسرور. إن أرواحنا مودعة في هذه الأجساد المنحلة، يأخذها الله متى شاء.
أيها الناس، لا فوت من الموت فلكم عند الله من الخير ما تكسبون ومن الشر ما تفعلون، ونحن وإياكم في قبضة ملك الممالك، فطوبى لمن قبل أوامر الله وأطاعه، وجعل مدته من الدهر ساعة.
أيها الناظرون إلي، أتظنون أن صبري على فقد ولدي جهالة، أو ترك تعرضي للقضاء ضلالة، أو أني نسيت علمه وفضله، وطاعته وصبره؟،
1
ودفن وحيده ولم يذرف عليه عبرة واحدة.
كان الأمير السيد غنيا واسع الإقطاعات يملك قرى عديدة وقفها جميعها على أعمال البر. وعم إحسانه جميع مواطنيه من سائر الطوائف فجعل لعائلة سركيس المسيحية في عبيه غلالا معينة كل عام، لهم ولذريتهم من بعدهم ما دامت أوقافه. ووصيته المشهورة تنص على ذلك نصا صريحا.
ولهذا قال فيه المؤرخ ابن سباط: إنه كان محبوبا من جميع الأسباط، كما ورد في تاريخ أعيان لبنان للشدياق.
أوجب السيد على إخوانه الترفع عن أكل الحرام والشبهات والرياء ومال الظلمة وأوقافهم وغلالهم، وحرم أكل غلال الأراضي المغتصبة ونهى عن قبول أموال الحكام ومن يتصل بهم.
تآليفه: شرح الأمير المذهبي، وكتاب لغوي مسمى سفينة اللغة العربية. انتهى.
أما وفاة الأمير السيد فكانت - كما روى الأمير حيدر في تاريخه المشهور - في اليوم السابع عشر من شهر جمادى الآخرة سنة 884 هجرية، فأقام تلاميذه رئيسا يرشدهم بعده ويشير عليهم ابن عمه الأمير سيف الدين زنكي. وكان لفقد الأمير رجة عظيمة في البلاد، واجتمع يوم مأتمه أمم لا تحصى من جميع البلدان.
بين شيخين
كان شيخي الأول الذي نشأت في حجره كالذي ذكره داعي الدعاة في رسالته الثالثة إلى أبي العلاء : «إن قيل له في أخبار شرعه إن فيلا طار أو جملا باض، لما قابله إلا بالقبول والتصديق.»
كان، رحمه الله، كثيرا ما يقرئني في كتاب «ميزان الزمان» تأليف الأنبا نيرامبرك اليسوعي، وخصوصا في الفصول التي تتحدث عن جهنم، والأيام التي تسبق القيامة فالدينونة العامة، فأقلق وأضطرب ويركبني في الليل كابوس يتمطى بصلبه ويردف أعجازا، وينوء بكلكلي ... فأستيقظ مرتجفا كالورقة، وأحيانا باكيا.
كثيرا ما كانت تتوسل المرحومة والدتي إلى عمها شيخي ليكف عن إقرائي في هذا الكتاب الذي تفزع لقراءته الكبار، كما سمعتها تقول. أما جدي فلم يكن يرعوي، وكان يجيبها: العلم في الصغر كالنقش في الحجر؛ فهو يريد أن يوطد بنيان الدين ومخافة الله في صدر خليفته العتيد ...
قرأنا مرة: أنه في سنة ألف وخمسمائة وسبع وثلاثين أمطر الله على مدينة بولونيا حجارة ثقل كل واحد منها ينيف على أربعة أرطال ونصف، ويؤيد صاحب ميزان الزمان هذا الزعم بقوله: فلم يأت حزقيال النبي بأخبار واهية بقوله: إنه في انتهاء العالم تقع حجارة ثقيلة جدا. ويقول صاحب الجليان إن ثقل كل حجر يوازي قناطير كثيرة، ثم يقول: خبرونا أنه في بلاد سيتيا سمعت رعود مفزعة مات من صوتها خلق كثير، فماذا يكون ضجيج العواصف الأخيرة وشدة إرهابها حينما يريد الله أن يلاشي هذا العالم؟
فسألته وعيناي مغرورقتان: متى تكون نهاية العالم؟ فأجابني: تؤلف ولا تؤلفان، ومعنى ذلك لا تبلغ الألفين بعد المسيح حتى يكون الكتاب قد تم.
فقلت: إذن تكون النهاية على أيامنا؟ فنظر إلي بعينين تفيضان حنانا وحبا وقال: لا تخف. إن تلك الساعة لا يعلمها أحد ولا الابن إلا الآب. هكذا يقول الرب يسوع في إنجيله الطاهر.
وانصرفت إلى اللعب ولكن تصور تلك الحجارة لم يبرح مخيلتي، كنت أنتظر تساقطها بين ساعة وأخرى، وأخاف أن أنهض في الصباح على خبر القيامة ...
وكنا نقرأ مرة عن عذاب الهالكين فبلغنا هذه العبارة: ولهذا قال القديس نيقولاوس نيصص: إنه لو لم يضطرم كل الحطب الذي في العالم، ويصير جميعه نارا واحدة متقدة لم تكن قوتها توازي شرارة واحدة من نار جهنم.
فقلت له بسذاجة الأطفال: الاذاوا خلص اتلحطب تنطفي نار جهنم.
فأجابني: قال المخلص: إن دودهم لا يموت ونارهم لا تطفأ.
وبلغنا مرة خبرا مزعجا جدا إليك نصه: ذكر الأنبا كانتبراني أنه كان في نواحي مملكة النمسا جندي باسل، كان محبا ركوب الخيل وسباقها، ومتمرغا في حياة اللذات الدنسة، فمات موتا شقيا، وكانت له امرأة تقية عابدة سالكة في طريق القداسة فاختطفت بالروح، فرأت زوجها كأنه عائش بعد في جسده. وبهذه الرؤيا عرفت شقاء حاله؛ لأنها أبصرت حوله جما غفيرا من الشياطين، وقد أمرهم أركونهم بأن يلبسوا ضيفهم الجديد ثوبا من حديد داخله أشواك حديدية مسنونة وحسك حاد، ثم أمرهم بعد ذلك أن يضعوا على رأسه خوذة حديدية، وأن يسمروها بمسمار طويل ينفذ من رأسه إلى رجليه.
فقلت: أوف!
فقال: اقرأ قدامك، فأذعنت وقرأت خوفا من العصا: «ثم يعلقوا على عنقه ترسا حديديا ثقيلا يرضض عظامه، فتمم الشياطين أوامر أركونهم بتدقيق وإسراع، فحينئذ قال لهم الأركون هكذا:
إن هذا الرجل كان يحب لهو الركض على الخيل، والحمام، واستنشاق الروايح الزكية، والرقاد على الفرش الناعمة، والتنعم في اللذات اللحمية، فقدموا له قليلا مما يناسب ذلك من اللذات المستعملة ها هنا، فأمسكته حينئذ الشياطين وأدخلوه في وسط لهيب متقد، ثم بعدما احترق هناك مدة أضجعوه على فراش من حديد محمى، عليه ضفدعة طول الفراش، بأعين مرعبة جدا، فامتدت عليه تلك الضفدعة واعتنقته اعتناقا شديدا.
فهذا ما رأته امرأته الفاضلة، فلنرهبن إذن العدل الإلهي ولنتحققن غاية التحقيق أن الذي أخطأنا به هنا بأعظم استلذاذ نعاقب عليه هناك بأشد تعذيب.»
وكنت أتنهد بعد كل قراءة وأصعد الزفرات كمن تسلق عقبة عمودية دون أقل استراحة. كان جدي يتلذذ بهذه الأخبار ثم ينصرف بعدها إلى صلاته، فيصلي صلاة حارة، وكثيرا ما كانت تدمع عيناه، وتارة يسمع المارة بكاءه.
وقرأنا مرة عن أنواع العذاب الجهنمي: إن العقل يتعذب بأفكار مؤلمة محزنة جدا، فلا يجد حينئذ أرسطو لذة في حكمته ، ولا سنيكا في فلسفته، ولا جالينوس في طبه، ولا غيرهم من العلماء في علومهم ومعارفهم.
وقد جاء في الأخبار أنه ظهر، لأسقف من أساقفة باريس، معلم ما، كان قد هلك في جهنم، فسأله الأسقف: هل بقي لك شيء من العلوم في جهنم؟
فأجابه المعلم الشقي: إني لست أعرف الآن سوى ثلاثة أشياء: أولها أنه قد حتم علي بالهلاك الأبدي، ثانيها أنه لا رجوع بهذا الحكم، ثالثها أني خسرت مشاهدة الله إلى الأبد لأجل ملذات الجسد.
وقرأنا مرة عن الدينونة العامة وهو رأي للقديس توما اللاهوتي: ما أكثر ما كان مجد إسكندر الكبير ويوليوس قيصر في هذه الحياة! ولكن كيف حصلا على هذا الشرف؟ أليس بالجور والظلم، وسفك دماء أناس أبرياء؟ فهذه الأفعال التي مدحت في دهور كثيرة سوف تهان وتشنع في اليوم الأخير، قصاصا من امتداحها الماضي. وهكذا يصير بالآباء الذين يولدون ثانية ويحيون بأشخاص أولادهم، فيدانون ويشجبون ثانية بمقدار أمثالهم الرديئة التي قدموها لأولادهم.
وقد قال أيضا القديس المتقدم ذكره: «إنه من أجل أن الجسد يبقى في الأرض بعد الموت فيجب أن يدان كل إنسان ثانية في الدينونة العامة؛ لأن أجسادا كثيرة من أجساد الأبرار دفنت في بطون الوحوش الضارية، وقد حرم الدفن كثير منها. وبخلاف ذلك أجساد كثيرة من أجساد الأشرار دفنت بإكرام جزيل في قبور مفخمة؛ فهذا الانعكاس يصلحه الله في ذلك اليوم - يوم الدينونة العامة؛ فالخاطئ الذي وضع جسده في قبر مزخرف يشاهده حينئذ في حال الإهانة والشقاء والعذاب. أما البار الذي لم يدفن بعد موته لكن قبر في جوف الغربان أو بطون الوحوش فإنه يشاهد جسده مكللا بالنور.»
1
فقلت لجدي: وكيف يرجع الجسد بعدما أكلته الغربان والوحوش، فأجابني بكل ما فيه من قوى الإيمان والرجاء والمحبة: الذي قال لها كوني فكانت قادر على كل شيء.
قال هذا وفتح شحيمته يصلي، وأخذت أنا شحيمتي. كنا نصلي معا جوقين: بيت مني وبيت منه، وكل ذلك باللغة السريانية، ولا فرق بيننا إلا أن صوته رخيم جهوري كأنه الأرغن . وكان بعد كل صلاة يعرب لي ما اعتقد أنني لم أفهمه من شعر مار أفرام ومار يعقوب، ثم نختم النهار بالتسبيح والتهليل والتلبية وكل ذلك باللغة السريانية:
شوبحو وهودرو وقولوسو
لابوهه إيتيوا غنيزو
وتدور الأيام، وما أسرع دورانها! فإذا بي وأنا أحبو إلى الستين، يستوقفني في طريق الحياة شيخ آخر غير شيخ عين كفاع، هو شيخ المعرة المناوح لشيخ عين كفاع. الشيخان توءمان، والتوءمان لا يلتقيان، كما قال شاعر الإنكليز كبلنغ.
إن شيخي هذا بضد ذاك، لا يصدق شيئا مما يصدقه جدي، «ينتحل العقل، كما قال داعي الدعاة أيضا، ويزعم أنه حجة الله تعالى على عباده، مبطلا لجميع ما الناس فيه، مستخفا بأوضاع الشرائع.» وهو القائل:
اثنان أهل الأرض، ذو عقل بلا
دين، وآخر دين لا «عقل» له
إنه لا يعني أن الدين لا عقل له، ولكنه يريد أن يقول، وهذا الذي يفهم من كلامه في رسالة الغفران: إن الدين يهمل عقله ولا يحكمه في دينه ومعتقده فيمضي على آثار السلف.
لست أحدثك عن آراء شيخي الجديد فقد مرت بك كلها، ولا يجوز أن نقلل من قدرك فندلك على الفرق ما بين شيخي. إنه لواضح، ولكني أريد أن تفهم عني أن شيخي مختلفان متفقان؛ متفقان سيرة وسريرة ونسكا، ومختلفان كل الاختلاف في الطريق التي تؤدي إلى الطاحون؛ فجدي لا يعرف إلا أن المسيح قال: أنا هو الطريق والحق والحياة. وأبو العلاء يعتقد ما عرفت.
كلا الشيخين ناسك متقشف يخاف ربه، وكلاهما علمني أن أسمى ما يسعى إليه المرء هو أن يتقي الله ويعمل الخير، لا طمعا بالنعيم ولا خوفا من الجحيم.
أحسن الله جزاء شيخي، وعسى أن يجمعني بهما - إن صح للأموات وشك التقاء - كما قال شيخي اليوم، وأن يجملني في آخر العمر بما جملها به من خير وصدق ومحبة.
كان شيخي الأول لاهوتيا قديرا في عصره، لا يحيد قيد شعرة عن الأنطوين وألفونس ليكوري، وتوما الأكويني، وعما أقرته وأثبتته وتقره وتثبته روما العظمى من تعاليم، ولا يصغي إلا إلى دعوة القلب.
وكان شيخي الثاني لاحقا بأبناء الأكروبول لا يسمع إلا صوت عقله. أما أنا فواقف على مفرق الطرق أنتظر ساعة النعمة، وأرقب فكاك المشاكل ...
عنزة ولو طارت
هذا ما سيقوله أولو العناد الذين تأبى عليهم غطرستهم أن يذعنوا للحجج والبراهين والأدلة. سوف يتمسكون، كما تمسكوا بالأمس، بأبيات قالها المعري تقية - والتقية موصى بها في المذهب الفاطمي.
فيا أصدقائي!
إذا لم تشاءوا أن يكون المعري فاطميا قلنا لكم إن الفاطميين علائيون؛ فشيخ المعرة لم يقل الشعر حبا بالنظم، كما ظننتم، ولكنه يؤيد مذهبا، ويضع أصول طريقة في شعره، وهو أبعد أثرا في الحكمة والدين منه في الشعر والأدب.
وقبل وبعد فلست أزعم، أيها القارئ، إلا أنني سلمتك مصباحا يضيء سبيلك إلى دهاليز هذا الأعمى البصير.
غفر الله لنا وله.
عاليه، عين كفاع، 1944م
صفحه نامشخص