ثم عاد إلى ابن هود، وطفق يبالغ له في وصف قوة العدو، وحسن سلاحه، والخطر الذي ينتظره إذا حدثته النفس بلقائه، وأراه بعينه اتساع نيران الحراسة وامتداد لظاها، فاستطير المتوكل، وداخله الذعر، فخام ولم يجسر على الإقدام، ونسي أنه مسئول عن مصير أم المدائن.
وفيما هو على هذا الحال من الاضطراب جاءه رسول من أبي جميل زيان أمير بلنسية، يستغيثه على جايم ملك أرغون، وكان قد أناخ عليه بقواته، فآثر ابن هود أن يدلف إلى غوث بلنسية لعله ينقذها من الأرغونيين، فيضمها إلى مملكته ويتقوى بها، ثم يرتد إلى قرطبة، فيخرج منها القشتاليين.
ولكن التقادير جرت بغير ما في الحسبان؛ فإنه ما كاد يبلغ ألمرية حتى اغتيل فمات خنقا، ولم تنج بلنسية من يد ملك أرغون، وتركت قرطبة وحيدة تدافع بشهامة هجمات الأعداء، وتلقى الهلاك باسلة لا تسلم إباءها للخنوع، إلى أن خاب أملها من المتوكل، وانقطع عنها رجاء كل نجدة، فعلمت أن المقاومة أصبحت لا تجدي فتيلا، وإنما هي انتحار ليس غير؛ فأفضل أن تفاوض العدو، فعساها تنال منه شروطا شريفة مقبولة.
بيد أن العدو كان شديد التعنت والاستكبار، خصوصا بعد أن صار النصر ملك يديه، وزال خطر المتوكل عنه، فأبى إلا أن يسوم الأندلسيين ظلامة، فأعطاهم الأمان على نفوسهم دون أملاكهم وأموالهم، فاضطر أهل قرطبة إلى القبول مكرهين، وفتحت المدينة الكبرى أبوابها للظافرين، فدخلها فردينان الثالث - ملك قشتالة ولاون - بفوارسه على أصوات الأبواق والطبول في 29 حزيران سنة 1236م/23 شوال 633ه، بعد أن كابدت حصار ستة أشهر متواليات؛ فسقطت بها أعظم قاعدة أندلسية في أيدي المسيحيين، وخرج المسلمون منها منكسي الرءوس، متخلين عن أموالهم، هاربين إلى البقية الباقية من المدن الإسلامية في الأندلس.
ومشى الفاتحون إلى المسجد الكبير يرتلون أناشيد الشكر؛ فحولوه كنيسة، ورفعوا الصليب عليه، وأقاموا فيه الصلوات والقداديس، وجيء بأجراس شنت ياقب إلى فردينان، وكانت لم تزل محفوظة من عهد الحاجب المنصور حين غزا مدينة القديس 997م
1
ودمرها، وانتزع أجراس كنيستها الشهيرة، وأجبر الأسرى المسيحيين أن يحملوها على عواتقهم إلى قرطبة.
فأمر فردينان أن تعاد هذه الأجراس إلى كنيسة شنت ياقب، محمولة على أكتاف الأسرى المسلمين، فنقلت إلى مواطنها بعد غربة طويلة، وحررت بعد أسر امتد نحو ثلاثين ومائتين من السنين؛ فخرجت شنت ياقب للقاء أجراسها تحيط بحامليها مهللة مبتهجة؛ كما خرجت قرطبة بالأمس البعيد تستقبل هذه الأجراس على أكتاف أصحابها، وهي نشوى من خمرة الظفر العابق؛ فأعاد التاريخ نفسه، ولكن بصورة معكوسة، فسبحان مغير الأحوال!
فاجعة غرناطة
لم يبق في أيدي المسلمين من الأندلس العربية - بعد انهيار دولة الموحدين، ومقتل محمد بن هود، وسقوط قرطبة وبلنسية وإشبيلية وسواها من المدن والقلاع - إلا مملكة غرناطة، ويشمل حكمها كورة إلبيرة (Elvira)
صفحه نامشخص