وما انتهى تنظيم الجيوش حتى تجاوبت أصوات الطبول والأبواق من الجانبين، فارتجت لها الربى والسهول، وإذا الخليفة الناصر يخرج من قبته وعليه عباءة سوداء، فرفع المصحف بيد والسيف بالأخرى، إشارة الهجوم؛ فحملت المطوعة خفيفة عنيفة تلطم القلب، فالتقاها الجبليون وجماعات الفرسان بحملة معاكسة ألانت من حدتها.
ثم لم يلبثوا أن استطالوا عليها وأكثروا من الفتك بها فاضطروها إلى الفرار؛ فانهزمت أمامهم وهم يطاردونها بالحراب في أقفائها، فلما اقتربوا من القلب يبغونه، صدمتهم قوى الموحدين النظامية، فرأوا أمامهم جنودا باسلة، مجربة في الحروب، مدربة أحسن تدريب، وما طال الأمر حتى تمزقت جموعهم؛ فتشتتوا عنها منهزمين.
فرجحت كفة المسلمين ولاح لهم وامض النصر، فهللوا مستبشرين، ولم يكن ملك قشتالة يتوقع هذا الفشل من القلب وفيه صيانة الفروسية الإسبانية؛ فطار رشده، واشتهت نفسه الموت، فمشى إلى المعركة يريد أن يخوضها بفرقته الاحتياطية، فمنعه المطران ردريق والقوامس أن يغرر بحياته، والتمسوا منه أن يكتفي بإنعاش القلب المتدهور، فأمده بنجدة مختارة يتقدمها الأساقفة، يحملون الرايات عليها صور الطفل الإلهي وأمه البتول، فاستثاروا بها حماسة الفرسان المنهزمين؛ فعاد إليهم نشاطهم، وأتاح لهم هذا المدد أن يلموا شعثهم المنتشر، ويكروا ثانية على جيش الموحدين ينقرون حبة قلبه، ويرمقون دائرة السلاسل حيث الخليفة الناصر، والقبة الحمراء.
ومن دون الدائرة أهوال تختطف عليها الأعمار، فليس صدع القلب بالهين السهل وفيه نخبة الجيش النظامي، ووراء السلاسل عدد كثير من الحراس الأشاوس يحرسون القبة بغابة من عوامل الرماح، ولكن قد تجري الأقدار بما لا يتوقع الإنسان، فبينا فوارس قشتالة يصكون القلب، والقلب ثابت لا يتحلحل، إذا الجناح الأيمن يلتوي فجأة وينهزم الأندلسيون تاركين رفاقهم! وكانوا - كما علمنا - ناقمين على الموحدين يضمرون لهم الشر، فلم يقاتلوا قتالهم المعهود في المعارك التي يصطلونها متحمسين، وهم كعادتهم متهورون في أعمالهم لا يفكرون تفكيرا صحيحا في نتيجة ما يصنعون.
وما كادت الميمنة تتعطل حتى مشت الميسرة على أثرها فتقصف جناح البربر، وبقي القلب عاريا من الجانبين يدافع الإسبانيين ويصابرهم، وهؤلاء قد ازدادوا حمية وإقداما بعد تحطيم الجناحين، فصدعوا القلب الجريء وأوغلوا في أوساطه يقرعون دائرة السلاسل، فجرت أمامها أنهار من الدماء، وتكدست حولها جثث القتلى تلالا، الموحدون في القلب مخرقة صفوفهم، يستميتون مقاومة ودفاعا.
والمغاربة في المؤخرة يقدمون لسد الثلمات غصابا، والأحراس البيض والسود يطاعنون الخيل عن حرم القبة وحرم الخلافة؛ مشهد رائع تجلت فيه البطولة الإسلامية بأجمل معانيها، تغالب اليأس، واليأس غالبها، وترتجي الظفر وقد أشاح بوجهه عنها، أقبل الحظ على الإسبانيين، وما كانوا دون أعدائهم جراءة وعنادا، فشدوا عليهم ملحين، يستعجلون النصر قبل هزيمة النهار، لا يبالون في كسبه خسارة الأرواح، فهم يشقون الصفوف ويتقدمون، وهم يحيطون بدائرة السلاسل فيقتحمها الكونت ذو لارا واثبا بجماعات الفرسان، ويقتحمها شانجه ملك النافار وبدرو ملك أرغون من اليمين والشمال؛ فانهارت قوى الدفاع من كل جانب، واستمات الحراس على غير جدوى وفي القبة الحمراء سيد الموحدين، قاعد على درقته، يتلقى الأنباء شيئا بعد شيء متجلدا مكفهرا، حتى جاءه النبأ الأسوأ: قتل ابنه واعتصم الجيش بالفرار! فوقف الناصر حينئذ وقال: «صدق الرحمن وكذب الشيطان!»، ثم ركب حصانه المسرج ونجا بجماعة من أصحابه.
وكأن المسيحيين - وقد أخذتهم نشوة القلب - أبوا إلا أن يعيدوا الطعن في أثر الهاربين، فتعقبوهم تشفيا وانتقاما؛ فقتلوا منهم في أثناء الهزيمة أكثر مما قتلوا في أثناء المعركة.
وتقول الرواية العربية: إن خسارة المسلمين كانت جسيمة جدا؛ إذ لم ينج منهم سوى مائة ألف من ستمائة ألف مقاتل! في حين أن الرواية الإسبانية أكثر اعتدالا في حسابها، فلا ترفع خسارة العدو إلى أعظم من مائتي ألف، ولكنها تجمع في الوقت نفسه على أن خسارة المسيحيين ليست بذات شأن.
وهذا صعب التصديق؛ لأن الحرب في مرحلتها الأولى كانت دائرة على الإسبانيين، ثم إن اقتحام السلاسل ما تم لهم إلا بعد تضحيات جليلة وبلاء كبير؛ فغير معقول أن تكون خسارتهم لا تستحق الذكر كما يزعم الرواة الإسبانيون.
بيد أنها تبدو ضئيلة إذا قيست بخسائر أعدائهم؛ لأن فشل العساكر الإسلامية لم يقع على صورة عادية مألوفة؛ فقد تراجعت صفوفهم وتمزقت أشتاتا قبل أن تمنى بالانكسار، فنالها من التقتيل في ذعرها وتبددها شيء عظيم، وحقت عليها الهزيمة مع أن قواتها تبلغ ضعفي قوات المسيحيين، وجيش الموحدين النظامي لا يفوقه جيش في بسالته وتدريبه!
صفحه نامشخص