تأليف بطرس البستاني
يوم طليطلة
تلك المملكة التي أسسها بنو أمية في الأندلس، وحقق عبد الرحمن الناصر وحدتها، وبسط بغزواته الظافر سلطانها - صار أمرها إلى الضعف والانحلال بعد أن سطا عليها الحاجب المنصور وأنشأ دولته العامرية في قلب دولتها، حاجرا على الخليفة هشام، مستقلا دونه بالنهي والأمر، فأسقط هيبة الأمويين من نفوس أهل الأندلس، ووطد فيهم هيبته بما أوتي من فتوح وانتصارات.
وانتقل الملك من بعده إلى ابنه عبد الملك، ثم إلى ابنه الآخر عبد الرحمن، وكلاهما جرى على سنن أبيه في الحجر على الخليفة، والاستبداد بالسلطة والنفوذ، غير أن عبد الرحمن طمحت عينه إلى الخلافة، فطلب من هشام أن يوليه عهده، فلباه هشام ونزل عند رغبته؛ لما هو عليه من الضعف والاستكانة، فنقم الأمويون والقرشيون على الخليفة، وخافوا أن يذهب الأمر من يدهم، فخلعوه وبايعوا محمد بن هشام - من حفدة عبد الرحمن الناصر - فتلقب بالمهدي.
وكان عبد الرحمن غائبا في غزوة، فلما بلغه الخبر قفل إلى قرطبة، فأرسل إليه المهدي من قبض عليه واحتز رأسه، فانقرضت بموته الدولة العامرية، ولكن محمد بن هشام لم يستقر ملكه على حال؛ لأنه جافى البرابرة لميلهم إلى العامريين، فأتمروا به وبايعوا المستعين بالله سليمان بن الحكم، فانشق البيت الأموي بعضه على بعض، ونشبت الفتنة بين الأميرين، فمرة كان ينتصر المهدي فيهزم المستعين، ومرة كان ينتصر المستعين؛ فيلجأ المهدي إلى الملك الإسباني فيمده ويعيده إلى عرشه، ثم تم الأمر للمستعين، فتغلب البربر على الأحكام وارتفع شأنهم.
وكان علي بن حمود الإدريسي قد جاء من المغرب، وأخذ يدعو البربر لمبايعته، معتمدا على نسبه الذي يرفعه إلى علي بن أبي طالب وفاطمة بنت النبي، فبايعه البرابرة، فقتل المستعين وتلقب بالناصر، فلبثت الخلافة مدة من الزمن تتنقل بين الأمويين والحموديين حتى صارت للمعتضد بالله هشام بن محمد الأموي، فملك برهة يسيرة، ثم خانه وزراؤه وحرسه فخلعوه فهرب من قرطبة، وانقطعت به الدولة الأموية، فصار الأمر بعده إلى الوزير أبي الحزم جهور، فدعا جماعة العظماء إلى مشاركته في الحكم ليأمن معارضتهم؛ فارتضوا بذلك، ونشأ في قرطبة نوع من النظام الجمهوري، ولكن من طبقة الأشراف.
وأما ولايات الأندلس، فإن رؤساء الطوائف فيها من بربر وعرب وموال اقتسموا خططها، حتى كاد يكون على كل مدينة أمير مستقل فعرفوا بملوك الطوائف، ومثل هذا التفسخ العميم في جسم الدولة لا يدعو إلى التفاؤل بقيام نظام سياسي ثابت تهنأ به تلك الإمارات المستقلة، وبعضها يتفاوت عن بعض في قوته واتساع أرضه، فلا بد للقوي أن يطمع في ابتلاع الضعيف ليزداد به قوة، فيجد أمامه أميرا منافسا ينازعه التوسع، فيأخذ الضعيف تحت حمايته فيصبح تابعا له، وتقع الحروب بين هؤلاء الأمراء فيشل واحدهم قوى الآخر، وربما استنجد بعضهم على بعض الأمراء المسيحيين؛ فيغتنم أولئك الفرصة، فيهاجمون الأندلس يستولون على عواصمها، ويخضعون ملوكها، ويفرضون عليهم الجزية، أو يجعلونهم عمالا لهم، ولو لم يكن أمراء إسبانية هم أيضا على اختلاف مستمر وتنازع فيما بينهم، لما استطاع ملوك الطوائف أن يستقروا في الأندلس زمنا طويلا، مع ما هم عليه من تقسم وتخاذل.
وحاول ابن جهور صاحب قرطبة، أن يجمع شتيت الأمراء إلى دولته متوهما أن وجوده في عاصمة الأمويين كاف لأن يحمل سائر الولايات على الاعتراف بسلطانه؛ لأنها تعودت من عهد بعيد أن تخضع لحكام قرطبة، فكاتب الأمراء - كبارهم وصغارهم - يدعوهم إلى طاعته، فلم يحفلوا به، ولا تكلفوا مئونة الرد عليه، فاضطر أخيرا إلى أن يعترف باستقلالهم مكرها، وفي رأسه خطة يريد تحقيقها، وهي أن يوسع ملكه باغتصاب الإمارات الصغيرة التي لا قبل لها بمقاومته وحماية استقلالها.
ووجه حملة إلى هذيل بن رزين صاحب السهلة، فقهره واستولى على إمارته، فالتجأ هذيل إلى إلى إسماعيل بن ذي النون أمير طليطلة، فبادر هذا إلى إنجاده ليحول دون توسع ابن جهور، فطرد القرطبيين من السهلة وأعادها إلى صاحبها، ثم ناصب قرطبة العداء، فأصلاها حربا طويلة، تابعها من بعده ابنه المأمون.
وتوفي ابن جهور سنة 435ه/1043م، فانتقل الحكم من بعده إلى ابنه محمد، ولم يكن كأبيه صاحب قوة وعزم، وإنما عرف بالتعقل والعدالة، فأراد أن يصرف هذه الحرب عنه بالمصالحة فأباها عليه أمير طليطلة وصاحب السهلة واضطراه إلى القتال؛ لطمع المأمون في الاستيلاء على قرطبة، إلا أن غارات فردينان الأول على طليطلة وإثخانه فيها، كان يكره صاحبها على مهادنة ابن جهور حينا بعد آخر، فإن ملك جليقية (Galice)
صفحه نامشخص