واعتمد ألفنس - على الأخص - منظمات الفروسية المسيحية كفرسان الداوية،
3
وفرسان قلعة رباح، وغيرهم من جماعات الفروسية في مملكته، بيد أنه استعظم الخطب حين انتهى إليه خبر تعبية الموحدين، فخشي سوء العاقبة إذا لقيهم بجيشه دون غيره؛ فكتب إلى نسيبيه ملك لاون وملك النافار يدعوهما لترك الأحقاد، والمبادرة إلى مساعدته، فأجاباه إلى طلبه نزولا عند رغبة الشعب المتحمس.
وحشدا العساكر وسارا بها إليه، إلا أنهما كانا يزحفان بطيئا ليصلا بعد فوات الأوان، حتى يئس ألفنس من مجيئهما، ولم يبق له سبيل غير مباشرة القتال، وأبى أن يتحصن بالقلاع التي بين يديه، فتمنعه ما طاب للمسلمين الحصار، وكأنه عد ذلك عارا ومذمة، فاختار الهجوم مستبسلا متكلا على حمية فرسانه، فابتدأت موقعة الأرك في 19 تموز 1195م/9 شعبان 591ه.
وكان الموحدون يحمون القلب بقواتهم النظامية، والأندلسيون في الميمنة يقودهم عبد الله بن صناديد، وقبائل العرب والبربر في الميسرة، والخليفة المنصور بحرسه وراء التلال، وعسكر الجيش الإسباني في مرتفع تحميه قلعة الأرك من جانب، وبعض التلال من جانب آخر.
فزحفت إليه مقدمة المسلمين من المتطوعة تمهد للمعركة بسهامها، فما تدانوا من التل الذي عليه ألفنس حتى تجارى إليهم نحو ثمانية آلاف من كل فارس غارق في الحديد، فالتقتهم المطوعة يساندها القلب والجناح الأيسر؛ فتعالى الصياح، واستكت آذان الفضاء من وقع سنابك الخيل، وتجاوب أصوات الأبواق والطبول، ثم استطال المسلمون فكسروا من حدة القشتاليين وردوهم على أعقابهم.
غير أنهم ما عتموا أن جمعوا شملهم، وجددوا الحملة عليهم، فردوهم ثانية، ولكنهم كانوا عندا صلابا، فلم تهن عزائمهم بعد الردتين بل ضاعفوا قواهم، واندفعوا ثالثة كالعاصف الجارف وقد أحنقتهم الخيبة، وزادتهم حماسة وإقداما، فاخترقوا صفوف العدو وتوغلوا في الجناح الأيسر فمزقوه، وشتتوا جمعه فهلك ألوف من قبائل العرب والبربر، غير الجنود النظامية، ولم تتم خطة عبد الله بن صناديد إذ أشار بأن يتركوا الميسرة للاحتياط والإمداد.
ثم عطف القشتاليون على القلب وهو مرتعش مذعور لانكسار حائطه الشمالي، فصدعوا جانبه ناشبين في أحشاء الموحدين، يقلبون بعضها على بعض، ويشطرونها أجزاء، فتساقطت جثث القتلى أكداسا، وغصت حناجر الأرض من ابتلاع الدماء، ولشد ما عظمت فجيعة الموحدين بالقائد الأعلى أبي يحيى بن أبي حفص، تلقفته سيوف الإسبان بعد أن بلوا من سيفه أمر البلاء، وعندئذ علا التكبير من الجناح الأيمن، وحملت العساكر الأندلسية وبعض بطون زناتة يتقدمهم القائد المجرب عبد الله بن صناديد؛ فاقتحموا قلب الجيش القشتالي، وحجزوا بينه وبين فرسانه الطاعنين في قلب الموحدين.
وكان الملك ألفنس يتولى قيادته بنفسه، ومعه عشرة آلاف فارس، فيهم الداوية وفرسان قلعة رباح، فتلقاهم ثابت الجنان يصابرهم على قلة عدد، ويدفع تيارات أمواجهم المتهايجة، وفيما الأندلسيون يواثبون سفح التل، وألفنس يدافعهم عنه، ووراءهم فرسان قشتالة يزعزعون قلب الموحدين بعدما شردوا الميسرة.
وفيما النصر يراوح بين الجانبين لا يدري له مستقرا، إذا بالطبول تقرع من وراء الآكام، والخليفة المنصور يطلع بحرسه المختار، أمامه العلم الأبيض منقوشا عليه: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لا غالب إلا الله»، فينقض على فوارس قشتالة وهم يمعنون في القلب إرهاقا، فيلأم صدعه الدامي، ويردهم عنه مندحرين، فعاود الأمل جنود الموحدين، واشتدت سواعدهم بعد ارتخاء، فساوروا أعداءهم كالليوث مستبشرين بالنصر، لا يبالون ما يكلفهم من الضحايا هجومهم المجنون، فما زالوا بهم حتى حطموا شوكتهم، فانهزموا شماطيط إلى سفح التل يلوذون بألفنس.
صفحه نامشخص